أرشيف التصنيف: قراءات

اللاعنف: أربع نعم – وليد صليبي

اللاعنف: أربعُ نَعَم*

وليد صليبي

وليد صلَيْبي**

 

الوجه الآخر للحق ليس الباطل، بل العنف.
إريك ڤايل، منطق الفلسفة

فيما قد يُستعمَلُ كلٌّ من اللاعنف والعنف في مواجهة طغيان
الآخرين، وحده اللاعنف يستطيع مواجهة طغيان الذات.
وليد صليبي

 

اللاعنف لاءان: لا لعنف الذات، ولا لعنف الآخرين.

الـ”لا” الأولى – لا لعنف الذات – قد تبدو طوباوية إذا ما نظرنا إليها وكأنها تسعى في لَجْم عنفٍ مفترَض مغروس في صُلْب الطبيعة البشرية – عنفٍ حتميٍّ بالتالي؛ ومن هذا المنظار بعينه، تبدو هذه الـ”لا” مناقضةً لطبيعة الإنسان. لكن الأمر غير ذلك قطعًا: فهي “لا” واقعية، بل متجانسة حتى مع ما يُسمَّى “الغرائز”، وفقًا لما توصَّل إليه عدد كبير من كبار المحلِّلين النفسيين وعلماء سلوك الحيوان وعلماء التطور وعلماء الوراثة وعلماء الأعصاب إلخ.

Continue reading

هرمن هسِّه، دميان – ديمتري أڤييرينوس

دِمْـيـان
هرمن هسِّه والتكامل الداخلي

 

ديمتري أڤييرينوس

 

ولد هِرْمَن هِسِّه سنة 1877 في بلدة كالڤ الألمانية على حواشي الغابة السوداء. عاش في شبابه صراعات نفسية مريرة باحثًا عن معنى للحياة بالأعم وعن معنى لحياته بالأخص. كتب في البداية ونشر مجموعة قصائد وخواطر ومقالات حول الموسيقى والأدب والفن، إلى أن نشر روايته الأولى پيتر كامِنْتسِنْد (1904)، مصورًا فيها شابًّا يرحل عن قريته الجبلية السويسرية ليصبح شاعرًا؛ ثم أتبعها برواية تحت العجلة (1906)، وهي حكاية تلميذ لم يكن يتواصل على الإطلاق مع معاصريه وأبناء جيله، فغادر مدرسته هاربًا عبر مدن مختلفة. تعكس هاتان الروايتان بصدق الصراع الذي كان يعتمل في أعماق الكاتب آنذاك.

Continue reading

أنتوني دو ملو، أغنية الطائر – ديمتري أڤييرينوس

أغـنـيَّـة الطَّــائـر

 

ديمتري أڤييرينوس

 

يُعَدُّ أنتوني دو مِلُّو، المتوفى سنة 1987 عن عمر يناهز الخامسة والخمسين، واحدًا من “أهل التمكين” في الخبرة الروحية. ومؤلَّفاته المنشورة بلغات عديدة، ولاسيما كتابه الأشهر سادهانا: طريق إلى الله، باتت تحظى بإقبال متعاظم عليها في العالم بأسره – لا لأن صاحبها من القلوب الفسيحة التي استطاعت أن تحطِّم الحواجز القومية والدينية والمذهبية كافة وتعانق الإنسانية جمعاء وحسب، بل ولأنه عقل عميق الأصالة أيضًا، أفلح في التأليف الباطني بين أغصان شجرة التراث الروحي الإنساني كما لم تفلح فيه غير قلة سواه، وإنْ يكن قد سلك إلى ذلك أبسط الطرق وأقربها إلى القلب والوجدان.

أنتوني دو ملو

Continue reading

المبدأ الكلي (ندره اليازجي) – ديمتري أڤييرينوس

المبدأ الكلِّي

لقاء الحكمة القديمة والعلم الحديث

المحور النفساني

ديمتري أڤييرينوس

لا ريب أن القرن العشرين هو قرن الثورة في عالم الفيزياء بامتياز. والفصل الثالث من كتاب المبدأ الكلي* بعنوان "الفيزياء الحديثة، مضامينها وتطبيقاتها في علم النفس" هو الذي ينبري فيه المؤلف لتحليل الأسباب العميقة الكامنة خلف سعي الطرائق العلمية والاجتماعية الحديثة في توسيع منظورها الإپستمولوجي والفلسفي فيما يمكن التمثيل له بتجاوز الفيزياء الحديثة للنظرة النيوتُنية-الديكارتية إلى العالم – تلك النظرة القائمة على ثنوية dualism الروح والمادة، الذات والوجود، التي تتصور هندسة الكون وفق نموذج إقليدس: مكان مطلق يسيل فيه زمان مطلق، مستقل عنه، وتحكم حركةَ الأجسام السابحة فيه (التي يمكن ردُّها جميعًا إلى لبنات بناء أساسية) قوانينُ الجذب الثقالي gravity، بما يجعلها تنصاع لسببية حتمية deterministic causality لا حياد عنها. فقد كان الكون، تبعًا لذاك التصور، أشبه بآلة ضخمة منفصلة الأجزاء، تدور من تلقاء ذاتها، مما أوجد مسوغًا كافيًا لفكرة توصيف للعالم "موضوعي"، أي مستقل عن وعي الإنسان.

holism

لقد كان لآراء ديكارت في الفصل بين العقل والعالم أثرٌ حاسم على تطور العلوم بعده، ولاسيما الطب وعلم النفس والطبابة النفسية؛ فظل الاتجاه السائد في علم النفس، وقد استمد طريقته من الفيزياء النيوتُنية، يرسي قواعده على المذهب التجريبي empiricism الذي يتنكر لكل معرفة غير متحصَّل عليها من طريق التجربة. فقد قام علم النفس القديم، ممثَّلاً بالمذهب السلوكي behaviorism، على اعتماد مقترَب تجريبي صارم، يفترض وجود راصد معزول وأداة رصد محايدة، غير متفاعلة مع الظاهرة المرصودة، نجم عنه إرجاع الإنسان ككل إلى بنية زمكانية، "موضوعية" هي الأخرى، تنتظمها سببيةٌ حتميةٌ لا سبيل إلى الإفلات منها، فنظر بالتالي إلى البنى الحية، بما في ذلك بُعدها النفسي، نظرته إلى مجرد آلات تستجيب للمنبِّهات الخارجية استجابة آلية؛ بينما كان من نتائج النظرية التحليلية psychoanalytical theory الفرويدية اختزالُ المنظومة النفسية psyche إلى كتل بنائية من تصوُّر فرويد (الأنا، الأنا الأعلى، الهو)، وإرجاع الپاثولوجيا النفسية psychopathology إلى أسباب في غاية المحدودية (اختلال الدافع الجنسي حصرًا)، واعتبار المحلِّل منفصلاً عن المحلَّل، شأنه شأن الراصد الفيزيائي في رصده للظواهر الخارجية.

بيد أن طبيعة النفس العصية على التعيين والتحديد، وعجز النموذج الاتِّباعي السائد عن تفسير العديد من الخبرات الإنسانية العميقة وحشره إياها في زمرة الاضطرابات الفصامانية schizoid، ما كان لهما أن يسمحا لعلماء النفس بالمضي في هذا المنحى؛ فبدأت صيحات الاحتجاج تعلو، يطلقها مَن أبوا على الإنسان أن يكون مرتَهنًا لسلوك خارجي "لائق" ليس، في الأعم الأغلب، إلا محاكاة لنمطية اجتماعية ضيقة تسلبه كل أصالة وإبداع وتبتليه بالعُصاب neurosis، وبدأ علماء النفس الظواهريون-الوجوديون phenomeno-existentialists والعبرشخصيون transpersonal، على غرار كارل يونگ وعلم نفسه المركب complex psychology، يستلهمون الحِكَم المشرقية، من حيث إنها قد سبرتْ عالَم النفس منذ القديم وعرفتْ مداخله ومخارجه – حيث إن الحكمة ذاتها هي صفة مَن عرف نفسه – وقدمتْ تصورًا متكاملاً محكمًا عن ماهية الوعي الإنساني ومنزلة الإنسان من الطبيعة والكون.

ولقد أمدتنا الفيزياء الحديثة، من جهتها، بهيكل تصوُّري كلاني holistic عن بنية كلية شاملة يلتقي ووجهةَ نظر الحِكَم المذكورة في العصور والمذاهب كافة، ويتفهم الخبرات النفسية والروحية التي يكابدها أفراد يتجاوزون بها أبعاد شخصيتهم المحدودة. وهكذا انصرف عدد من الباحثين إلى إبراز نتائج الثورة التي أحدثتْها الفيزياء الحديثة بنظريتيها الكبريين – نظرية النسبية relativity والميكانيكا الكوانتية quantum mechanics – في مفاهيمنا وتصوراتنا عن العالم (وثوق الارتباط بين الزمان والمكان، الطبيعة المزدوجة، الجسيمية والموجية، لظواهر العالم الأصغر، مبدأ هايزنبرغ في اللاتعيٌّن indetermination واللاحتمية)، مؤكدين على ضرورة إعادة نظر جذرية فيها، بما أمكن له أن ينعكس على علم النفس انعكاسًا مباشرًا.

تتلخص النظرة الجديدة في اعتبار الكون جملة سيرورات عضوية متناسقة، عصية على التقسيم من حيث الجوهر (اللهم إلا على نحو محض تصوُّري وتصنيفي)، تؤلف فيما بينها منظومات ذاتية التوازن self-regulating systems على مستويين اثنين: مستوى العلائق الداخلية السارية فيها، ومستوى ارتباطها بالمنظومات الأخرى جميعًا. وتعلِّمنا الفيزياء الكوانتية "احتمالية" العالم الأصغر وانتظامه في "أحوال" لا تخضع للسببية الحتمية، إنما تحكمها قوانين إحصائية تحدد الاحتمالات الممكنة لوقوع أحداث تتعلق بدينامية الجملة الفيزيائية ككل. وهذا يعني، في جملة ما يعنيه، أن فهم الجزء متعذر بمعزل عن الكل.

لقد قوَّضت الفيزياء الحديثة التصور القديم للذرة السائد أيام ديموقريطس، بوصفها مادة صلبة صماء، فاستعيض عنه بنماذج دينامية متحولة تحولاً موصولاً، وأصبحت المادة بعامة ذات طبيعتين (موجية وجسيمية)، وتوحَّد الزمان والمكان في متَّصل continuum واحد لا ينفصل عن المادة السابحة فيه؛ كذلك، أصبح الراصد observer في الفيزياء الكوانتية مشاركًا في إيجاد الظاهرة التي يرصدها، بما يجعل فهم العالم بمعزل عن الوعي الإنساني المدرك له أمرًا متعذرًا.

ينسحب المنظور السابق على علم نفس جديد، يتعاون فيه الكون والإنسان على بناء المنظومة النفسية للفرد، ويصبح الإنسان، إذا جازت الاستعارة، "جسيميًّا" corpuscular، خاضعًا للسببية الحتمية في سلوكه الظاهر (البدني والفكري)، لكنه "موجي" wave-like في الوقت نفسه، غير خاضع لها في إرادته الحرة ومواهبه الوجدانية والعقلية والحدسية. وفي هذا السياق، تصبح الإرادة الحرة هي الوجهة أو السيَّالة الطاقية التي يتخذها الوعي نحو غاية تنسجم مع القصد الباطن.

يتقاطع هذا التصور مع حكمة الڤيدنتا اللاثنوي advaita vēdanta الهندية التي ترى في الإنسان توليفًا بين صورة مادية وحقل قوة للطاقة الفاعلة. فمذهب الڤيدنتا، في منهاجه التأملي، يعتمد الاستغراق في النفس سبيلاً إلى تنمية التركيز وتوجيه الذهن إراديًّا نحو ما يتخطاه في الإنسان والكون. وبذلك يسقط التناقض المزعوم بين القائلين بالإرادة الحرة (التخيير) والآخذين بالجبرية المطلقة (التسيير)، ويجتمع المفهومان في تصوُّر كلاني واحد، بحيث يحتِّم الذهن المشتت على الإنسان أن يسلك سلوكًا "جسيميًّا"، بينما يفسح له الذهن الحاضر، المستغرق في موضوع تأمُّله، المجال حرًّا للإفصاح عن طبيعته العقلية "الموجية".

وهكذا نجد، على الصعيد النفسي، عين الوضع الذي وصفه هايزنبرغ بمبدأ اللاتعيُّن الذي يتعذر وفقًا له تحديد وجود القُسيم الأولي elementary particle في موقع معين إذا عُرفت سرعتُه بدقة، فيصير الحديث بخصوصه عن احتمال أو "ميل إلى الوجود". كذلك شأن السلوك الإنساني الذي يتعذر ضبطُه وفق حتمية خطِّية نظرًا لاتصافه بخاصية "موجية" هي أبعد ما تكون عن السببية الحتمية، ويصبح فيه اللقاء الخلاق بين إنسان وآخر ضربًا من "التفاعل الداخلي" كلما وجَّه أحدهما (أو كلاهما) إرادته الحرة نحو صاحبه. ويعبِّر المؤلف عما سبق بقوله:

هكذا نجد أنفسنا نواجه علم نفس اجتماعي-كوني متنوع يشتمل موضوعُ مادته بالضرورة على الأنماط الديناميكية للتفاعل البشري والعمليات العضوية الوظيفية المتضمنة في تكوين هذه الأنماط. (ص 67)

ويعقد المؤلف مقارنة بين فرويد ويونگ، باعتبار الأول ممثلاً للنظرة النيوتُنية الخطية-الميكانيكية والثاني ممثلاً للنظرة اللاخطية-الدينامية (التي لا تتنكر للنظرة الأولى بل تحتويها)، حيث يقدم يونگ، بفكرته عن لاوعي جمعي (أو "خافية جمعية" collective unconscious)، إلماعًا إلى الحلقة التي تشد الإنسان إلى الإنسانية جمعاء، فتصله عن طريق هذه بالكون بأسره. وبذا تصبح النظرة إلى النفس نظرةً إلى

[…] منظومة ديناميكية […] هي عضو مندرج في منظومات أوسع […] تُعرَّف بأبعادها المادية والاجتماعية والحضارية والثقافية. (ص 87)

والواقع أن الفيزياء الحديثة، بفضل الثورة التي أحدثتْها في مفهوم الزمن، قد تتيح تطوير مفهومها الجديد ليشمل علم النفس الذي لا بدَّ أن تتجسد فيه، من الآن فصاعدًا، فكرتا الزمن الخطية linear واللاخطية nonlinear، ممثَّلتين بزمن الواعية (= الوعي أو الشعور) وزمن الخافية (= اللاوعي أو اللاشعور)، بما يؤلف بين وجهتَي النظر السببية causal واللاسببية acausal في تفسير بعض الظواهر النفسية (كظاهرة التزامن synchronicity التي درسها يونگ بالتعاون مع عالم الفيزياء ڤولفگنگ پاولي[1]، على سبيل المثال لا الحصر).

جدير بالذكر أن من السبل المتاحة لتطوير علم النفس استلهام ما تقول به الفيزياء الكوانتية بخصوص العلاقة بين المراقِب (= الراصد) والمراقَب (= المرصود)، بحيث يصبح اللقاء الشخصي الودي بين المعالج والمتعالج، في تفاعل يشمل كلِّية المنظومة النفسية عند كليهما، أساسًا مكينًا للعلاج النفسي؛ وبذلك يتحقق التوازي بين وجهة النظر هذه وبين وجهة نظر الحكمة المشرقية في العلاقة الدينامية بين الحكيم ومريده[2].

الحق أن النتائج المترتبة عن مثل هذا التصور للنفس البشرية هائلة وبعيدة المدى؛ لكنْ لا بدَّ لها، كيما تؤتي ثمارها، من أن تؤلف بين الفلسفة والأخلاق وعلم النفس والدين والمباحث الميثولوجية من منظور عبرمناهجي transdisciplinary، بما يؤسس لمنهاج نفساني علمي، نظري وتطبيقي، يشتمل أيضًا على الأبعاد العليا للطبيعة الإنسانية والحياة إجمالاً، فلا يأخذ بالحسبان فقط ما هو متحول وزائل في الإنسان، بل وما يضرب فيه بجذوره عميقًا في الأبدية[3].


* ندره اليازجي، المبدأ الكلي: لقاء الحكمة القديمة والعلم الحديث، منشورات اتحاد الكتاب العرب، دمشق، طب 2: 1989.

[1] راجع: ألان كومبس ومارك هولند، التزامن: العلم والأسطورة والألعبان، بترجمة ثائر ديب، دار مكتبة إيزيس (آفاق 1)، دمشق، 2000. (المحرِّر)

[2] راجع: ديمتري أڤييرينوس، "الشيخ والمريد"، سماوات: http://samawat.org/articles/guru_chela_dna. (المحرِّر)

[3] نشير هنا، استكمالاً للموضوع، إلى ضرورة اطلاع القارئ المهتم على فصول "معالم الشخصية المتكاملة" و"فلسفة القلق" و"المعرفة سبيل إلى التكامل النفسي" من كتاب ندره اليازجي تأملات في الحياة والإنسان وعلى فصلَي "الشعور بالنقص" و"النزعة الإنسانية والشمولية في الفلسفة" من كتابه وحدة الفكر الإنساني. (المحرِّر)

البحث عن التاريخ والمعنى في الدين (ميرتشيا إلياده) – أحمد تموز

البحث عن التاريخ والمعنى

في الدين

فينومينولوجيا الظاهرة الدينية بحسب ميرتشيا إليادِه

أحمد تموز*

صدر عن "المنظمة العربية للترجمة" – التي لم يعوِّدنا الطاهر لبيب، مديرها العام، إلا على ترجمات ممتازة لكتب ممتازة من التراث الفكري العالمي، الكلاسيكي والمعاصر، – كتابُ ميرتشيا إليادِه البحث عن التاريخ والمعنى في الدين، بترجمة وتقديم سعود المولى[1].

histoire_sens_religion

وميرتشيا إليادِه (1907-1986) هو عالم أديان روماني عصامي كبير، ابتدأ روائيًّا[2]، ثم عزف عن كتابة الرواية لينصرف بكليته إلى دراسة الظاهرة الدينية، في بُعديها الجمعي والفردي، فصرف مدة في الهند دارسًا طُرُق اليوگا عن كثب[3]، ثم غادر فرنسا (التي حصل على جنسيتها وطور فيها نظرياته وتمكن من منهجيته البحثية) إلى الولايات المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية، باحثًا وأستاذًا في جامعة شيكاگو، حيث قدَّم إسهاماته الحاسمة في تطور علوم الأديان وتاريخها. وقد دعا إليادِه، عبر مؤلفاته الكثيرة، إلى "مذهب إنساني جديد" وإلى "نهضة جديدة" في تاريخ الأديان تأخذ في الحسبان ثقافة الإنسان الشاملة التي هي ثقافة الإنسان العالمي.

ويرى المترجم أنه بقدر ما كانت ممتعة ومثيرة، علميًّا وثقافيًّا، ترجمةُ هذا الكتاب فهي ممتعة ومثيرة، علميًّا وثقافيًّا، قراءتُه وكذلك النقاشُ معه وحوله. فنصوص إليادِه هي مما يغري بهذا وتلك، وهي من "السهل الممتنع" الذي يتطلب جهدًا وتدقيقًا وتركيزًا؛ إذ يقدم فيها المؤلف مادة غزيرة تفتح شهية القارئ المهتم للظاهرة الدينية، بل ونَهَمه أيضًا. وعلى الباحث والمهتم كليهما ركوب مركب البحث والتقصي طلبًا للاستزادة والتعمق إن أمكن. فالقراءة هنا، كما الترجمة، هي كدح وجهد. ذلك أن متابعة أفكار إليادِه ونظرياته وموضوعاته ودراساته الكثيرة والغنية تستوجب إحاطة موسوعية بالأديان – حاضرها وغابرها – وتستلزم معرفة صحيحة بمحاولات الدراسات المقارنة في تاريخ الأديان وفروعها وفي الفلسفات والمذاهب، كما وفي الفينومينولوجيا والأنثروپولوجيا وعلم النفس وفقه اللغة. وهذه المعرفة هي مما سوف يسعى إلى اكتسابه قارئ هذا الكتاب إذا ما استجاب لدعوة المؤلف إياه إلى عدم التوقف عند أفكاره وإلى استكمال البحث والكدح لتحصيل المزيد من المعرفة والفهم.

ميرتشيا إليادِه

لقد ترجم مترجمون (سوريون) عدة لميرتشيا إليادِه[4]، حتى "صار اسمُه علمًا في بلادنا"، كما يقول المترجم، يستشهد به علماء الاجتماع والأنثروپولوجيون؛ إلا أنه لم يصل بعدُ إلى فئة الطلاب والدارسين والمتعلمين من العصاميين الذين كان إليادِه أنموذجًا فذًّا لهم في حياته وأعماله التي تركها لنا. لذا يحاول المترجم إيصال "رسالة" إليادِه إلى مَن يهمه أمر الأديان في العالم العربي اليوم من خلال تقديمه للكتاب، متبعًا في ذلك أساليب القدماء (من نحو عبد الرحمن بدوي) في التقديم والتصدير، حيث يبدأ بالتعريف بالكاتب وأعماله، ثم يعرض لعلوم الأديان المقارنة ومنزلة ميرتشيا إليادِه منها، متناولاً أهم ما جاء به من أفكار وثيمات في علم الأديان وتاريخها، لكي ينتهي بكلمة حول هذه الترجمة والترجمات التي نُشِرتْ له حتى الآن.

أما المقارنات التي يعقدها د. المولى والاستنتاجات والإسقاطات التي يسوقها حول الإسلام والمسيحية في شرقنا العربي فهي، في رأينا، مما لا يحتمله تصدير كتاب مترجَم، بل يفضَّل أن يكون بحثًا مفردًا مستقلاً يتحمل صاحبه المسؤولية عنه فيما يرتئيه في دراسته الشخصية للأديان الحية.

يستعمل إليادِه مصطلح "تاريخ الأديان المقارن" للتعريف بفرعه المعرفي الجديد وبمنهجيته في العمل؛ وهو تعريف يشمل الميدان الذي كان يغطيه ما كان يُعرف بالألمانية باسم "الدراسة الشاملة للعلم العام بالأديان" أو ما بات يُعرَف اليوم، بحسب الجامعات، بـ"الدراسة العامة للأديان" أو "علم الأديان" أو "تاريخ الأديان" وما إلى ذلك. وقد وقف الكثيرون من مؤرخي الأديان موقفًا معارضًا مما يُسمَّى "التاريخ المقارن للأديان"، معتبرين أنه ليس "تأريخًا" historiography بالمعنى الدقيق للكلمة، بل ينتمي إلى مجال اللاهوت والفلسفة أكثر منه إلى العلم الصحيح. أما إليادِه فقد استنكر من جانبه ما أسماه بـ"الاختزالية التاريخاوية" historicist reductionism لدى المؤرخين الذين ينكرون على الظواهر الدينية معناها وغاياتها الأصلية ومقاصدها. وقد اعتبر إليادِه أن "تاريخ الأديان"، بالمعنى العلمي المعاصر، ابتدأ مع العالم الألماني ماكس موللر الذي كانت له الريادة في هذا الحقل، خصوصًا أنه كان أول مَن شدَّد على ضرورة أن يكون الفرع المعرفي الجديد وصفيًّا وموضوعيًّا وعلميًّا ومجردًا من أي اعتبار معياري أو قيمي ذي صلة بلاهوت الأديان وفلسفتها.

من جهة أخرى، اهتم إليادِه بزاوية النظر الجديدة التي قدَّمها "علم نفس الأعماق" depth psychology لفهم الظاهرة الدينية. وقد قارن في مؤلَّفه بين إسهامات كلٍّ من فرويد (التحليل النفسي) ويونگ (علم النفس التحليلي) في فهم الدين، مفضلاً الثاني ومعتبرًا الأول "شخصية انتقالية" لا يزال فكرُها عالقًا بالقرن التاسع عشر، بكل ما به وله من منهجيات ونزعات وضعية positivist وعلموية scientistic وعقلانية rationalistic مفرطة وإسقاطات سلبية حول تطور الأديان، ومن اختزالية reductionism تقدِّم في تفسير الرمزية الدينية تفسيرات بدائية وسطحية (جنسية بحتة في حالة فرويد).

ميرتشيا إلياده في حديث مع كارل يونگ في أثناء أحد لقاءات إيرانوس السنوية التي كانت تجمع خيرة العلماء للتباحث في الظاهرة الدينية

ينطلق إليادِه، كغيره من مؤرخي الأديان، من مبدأ ينظر إلى الدين باعتباره يقوم على افتراض وجود تجربة دينية أو "اختبار روحي" يخوضه ويعيشه "الإنسان الديني" Homo religiosus. وسواء كانت التجربة اختبارًا للمقدس/الحرام أم للقوة القاهرة العلية القادرة، فإنها تشكل القوام الذي تتكون منه كل ظاهرة دينية. وبحسب تعبير إليادِه، فإن أفضل أنواع الامتياز والفخر التي ينالها مؤرخ الأديان هو بالضبط الجهد الذي يبذله في فك شيفرة لغز واقعة دينية مشروطة بلحظتها التاريخية وبالنمط الثقافي المميِّز لعصرها وفي فهم الوضع الوجودي الذي جعلها ممكنة الوقوع.

ولقد دافع إليادِه عن النظرية القائلة بأن الفكر الديني يرتكز عمومًا على ذلك التمييز القاطع بين "مقدس/حرام" sacred وبين "دنيوي/دهري" profane. ذلك أن المقدس عنده هو تجلِّي الإله، الذي هو مناط الحقيقة والقيمة والمعنى، في حين أن الأشياء الأخرى كلها لا تكون حقيقية أو ذات قيمة إلا من خلال مشاركتها "في" المقدس أو "معه". بذا يتمحور فهم إليادِه للدين حول مفهومه عن "تجلِّي المقدس" وظهوراته الكشفية التي يرى أنها هي التي تضفي على العالم الدنيوي قصدًا ومعنًى ومبنًى (بنية)، وذلك بإقامتها لـ"نظام مقدس" sacred order ينتظم نشاطات الحياة الإنسانية كافة.

ويشير المترجم إلى أن من الثيمات التي تتكرر عند إليادِه في دراسته للأسطورة مقولة "محور العالم" axis mundi أو "المركز الكوني" cosmic center؛ وهي مقولة ملازمة بالضرورة للتقسيم إلى مقدس ودنيوي. فالمقدس يتصف بالقيمة كلها، ولا يتوصل العالم إلى أن يكون ذا معنى وقصد إلا من خلال اختبار تجليات المقدس أو ظهوراته الكشفية، الجمعية والفردية. غير أن "الإله الأكبر" المحتجب، فيما يتعدى هذه التجليات والظهورات، هو ثيمة أساسية عنده أيضًا[5].

ويقول المترجم إنه حاول في هذه الترجمة أن يستفيد من تراث علم الأديان المقارن وتاريخ الأديان وظاهراته، كما تبلور على يد إليادِه، دون أن يغفل ما له علاقة بالتراث الإسلامي، أكان لجهة دقة المصطلح والتعبير وانطباقه على ما هو مألوف في ثقافتنا أم لجهة إعادة فتح الباب أمام تطوير علم الأديان المقارن الذي كان قد استهله العلماء المسلمون الأوائل، من أمثال الشهرستاني في كتابه الشهير الملل والنحل. وقد استفاد أيضًا من أعمال وكتابات زملاء له كانوا سباقين إلى مقاربات عربية مستقلة ونقدية.

من أعمال إليادِه أيضًا، بالإضافة إلى عمله الشامل تاريخ الأفكار والمعتقدات الدينية (في ثلاثة مجلدات)، المترجَم ترجمة رديئة إلى العربية، دراسته المرجعية البديعة عن الشمنية وتقنيات الوجد الصوفي القديمة (1951)، وكذلك دراسته عن الأساطير والأحلام والأسرار (1957)، اللتين نأمل أن يترجمهما د. المولى قريبًا. أما آخر أعماله فهو إشرافه على تحرير موسوعة الدين الضخمة الصادرة عن جامعة شيكاگو، فضلاً عن قاموس الأديان (1990)، وهو درة صغيرة وضعها بالاشتراك مع تلميذه المرموق يُوان پ. كوليانو ونُشِرتْ بعد وفاته.


* كاتب سوري مهتم بفلسفة الدين والتصوف؛ يكتب في مجلة معابر: www.maaber.org.

[1] ميرتشيا إليادِه، البحث عن التاريخ والمعنى في الدين، بترجمة وتقديم سعود المولى، المنظمة العربية للترجمة، بيروت، 2007، 410 ص.

[2] رواياته ثلاث: الليلة البنگالية – مايتريي (1933)، الهوليگان (1935)، منتصف الليل في سرامپور (1939).

[3] نشر إليادِه حصيلة بحثه أولاً في كتابين: اليوگا: مقالة في أصول التصوف الهندي (1936) وتقنيات اليوگا (1948)، جمع بينهما لاحقًا في كتاب شامل صار مرجعًا للباحثين في الموضوع: اليوگا: خلود وحرية (1954).

[4] أول مَن اهتم لنقل ميرتشيا إليادِه إلى العربية هو الأستاذ نهاد خياطة: أسطورة العود الأبدي (1949)، دار طلاس، دمشق، طب 1: 1987؛ المقدس والدنيوي: رمزية الطقس والأسطورة (1956)، دار العربي، دمشق، طب 1: 1987؛ مظاهر الأسطورة (1963)، دار كنعان، دمشق، طب 1: 1991.

[5] من الثيمات الأساسية الأخرى في فكر إليادِه ثيمة "الزمن البدئي" الذي تهدف الأساطير والشعائر إلى "تحيينه" actualize في الزمن التاريخي. ستكون لنا عودة إلى الموضوع في قراءة مستقلة لكتابيه أسطورة العود الأبدي والمقدس والدنيوي.

الرحمن والشيطان (فراس السواح) – ديمتري أڤييرينوس

الرحمن والشيطان

الثنوية الكونية ولاهوت التاريخ في الديانات المشرقية

ديمتري أڤييرينوس

"يا عبدُ، إذا رأيتَني في الضدين رؤية
واحدة فقد اصطفيتُك لنفسي."
[1]
محمد بن عبد الجبار النِّفَّري

التوفر على دراسة مؤلفات فراس السواح – الأستاذ والصديق العزيز – عملية محفوفة بالمتعة وبشيء كثير من المشقة: بالمتعة، لأن الإبحار في عوالم الأديان والأساطير إبحار في عالم النفس الرحب اللامتناهي – إذ إن الدافع الديني، كما برهن فراس السواح بكل تماسُك في كتابه القيم دين الإنسان[2]، دافع أصيل في النفس الإنسانية التي تتمخض عن الأساطير والشعائر والعقائد، دافع لا يقل أصالة عن الجوع والعطش وسائر الدوافع الطبيعية، بل يفوقها بعد بلوغ مرحلة معينة من النضج الداخلي؛ وبالمشقة، لأن السواح لا يهوِّن على القارئ مهمته، بل إنه، باعتماده المقترَب الفينومينولوجي الذي يتوخى الموضوعية والحياد الإيجابي وينأى، قدر المستطاع، عن أحكام القيمة، يتخذ موقعًا أبعد ما يكون عن تقديم "وجبات فكرية" جاهزة للقارئ، بل يترك له حرية التفكر والاستنتاج ويتوقع منه أن يعيد إبداع المادة الفكرية في عقله ونفسه ليخرج من قراءته إنسانًا أغنى وأنضج.

* * *

البحث في الثنوية الكونية بحث مثلث: بحث في الخبرة الدينية بعامة، كانعكاس لعلاقة الإنسان الجوهرية مع الوجود – أولاً؛ وبحث في فهم الإنسان للدينامية المحرِّكة للتاريخ – ثانيًا؛ وبحث في أصل الخير والشر في النفس البشرية وفي كيفية تعامُل الإنسان مع جدلية الجبرية والتقدير المسبق، من جانب، والقدرية الحرة وطلب الكمال، من جانب آخر – ثالثًا. تلكم هي مدارات بحث فراس السواح في كتابه الأنيق الرحمن والشيطان[3]. والثنوية الكونية، كما يعرِّف بها المؤلف، هي

[…] المعتقد الذي يقول بقيام مبدأين أو أصلين متناقضين وراء مظاهر الوجود وصيرورة الزمن والتاريخ. […] شيمتهما الصراع من أجل أن يلغي أحدُهما الآخر. وصراعهما يدفع عجلة الزمن وتاريخ العالم […]. (ص 11)

ونجد في تضاعيف الكتاب استعراضًا لنماذج مختلفة من هذه الثنوية: فهناك الثنوية الكوسمولوجية، أو الكونية بحصر المعنى، وهي عبارة عن الاعتقاد بأن العالم محكوم بعلَّتين أصليتين، تتشاركان الهيمنة على العالم أو تتناوبان عليها (ثنوية "أفقية")؛ والثنوية الميتافيزيقية أو الإلهية التي تقول بوجود حقٍّ يتعالى عن الخلق (ثنوية "شاقولية")؛ والثنوية الأنثروپولوجية التي تعلل الأفعال البشرية إما بثنائية النفس والجسد وإما بوجود مبدأين أصليين يتصارعان في النفس البشرية (العقل والأهواء)، يترجَمان في سياق الحياة البشرية إلى حرية وجبرية (التخيير والتسيير)؛ والثنوية الأخلاقية التي تجعل طاعة القانون الإلهي أو الغيرية الأخلاقية على النقيض من المعصية أو الأنانية[4].

merciful_satan

ومن البديهي أن هذه الثنويات على علاقة، معقدة أحيانًا، بعضها ببعض: فالثنوية الأنثروپولوجية التي تضع النفس في مقابل الجسد هي، في الآن نفسه، ثنوية ميتافيزيقية تضع الحق في مقابل الخلق؛ ولها نتائج كوسمولوجية أيضًا: إذ إن التمييز بين مبدأين في النفس يُخلَعُ على الكون في تصور مبدأين إلهيين للخير والشر، ليعاد امتصاصُه في النفس من بعدُ، فينعكس أخلاقًا تنصاع لواحد من هذين المبدأين (ثنوية أخلاقية).

* * *

ينهض فراس السواح في الفصل الأول – مفتاح الكتاب – لتصنيف مُحْكم لأنماط الثنوية الكوسمولوجية إلى ثلاثة: مطلقة (مثالها المانوية)، وجذرية (الزرادشتية)، ومعتدلة (الغنوصية). وهو يَسِمُ المعتقدين الإسلامي والمسيحي بـ"الثنوية الأخلاقية"، حيث لا يطال سلطان الشيطان إلا نفس الإنسان وحدها (ص 12)؛ كما يعرِّج لمامًا على مفهوم القطبية الكوسمولوجية، كما تمثِّل له العقيدة التاوية الصينية، حيث لا صراع بين حدَّي الثنوية (ينْ/يَنْگ)، ولا دلالة "أخلاقية" لهما، ولا امتياز لأحدهما على الآخر، بل تداخُل بينهما وتكامُل وتعاضُد، بما يشبه قطبَي المغناطيس (ص 13).

* * *

في فصل "المفهوم الديني للتاريخ" (الفصل الثاني) يرى السواح أن

[…] معنى تاريخ الكون والإنسان [دينيًّا] يكمن خارج هذا التاريخ، لا في جدليته الداخلية الخاصة، لأن هذا التاريخ تسيِّره قدرة عُلوية توجِّهه وفق غايات خبيئة على الأفهام آنًا وبادية لها آنًا آخر. (ص 17)

وهو يميِّز في تاريخ الدين بين ثلاثة أشكال اعتقادية رئيسية، وهي: المعتقد الربوبي، أو التعالي الإلهي، الذي أساسه الفصل التام بين الإله وخلقه والذي يفضي إلى مفهوم مفتوح للتاريخ – ونموذجه ديانات بلاد الرافدين، حيث يفتقر معنى التاريخ إلى مفهوم واضح عن العدالة الإلهية وعن دور الإنسان في خطة الخلاص (ص 23-37)؛ والمعتقد الحلولي، أو التوحيدي الوجودي، الذي "يذيب الفوارق" بين الإله والإنسان من خلال "لامركزية" الألوهة، بكل ما ينجم عنه من تقديم للمعرفة الباطنية على العبادة وشعائرها – ويتخذ السواح مثالاً عليه الهندوسية التي يسير التاريخ، وفقًا لها، في حركة دورية مقايسة لدورات أو "حيوات" الذات الإنسانية الفردية (آتمن) في انعتاقها المتدرج من المركزية واتحادها أخيرًا بالمطلق (برهمن) (ص 37-51)؛ والمعتقد الألوهي، الذي يمثل حلاً وسطًا بين المعتقدين السابقين – ويمثِّل له بالزرادشتية التي يظهر فيها مفهوم دينامي للتاريخ يكون فيه للأخلاق والحرية والمسؤولية الإنسانية دور حاسم في تعيُّن الوجود وصيرورة الكون (ص 51-54).

* * *

ربما كان من الممكن تقصِّي بذور الثنوية في الديانة المصرية القديمة (الفصل الثالث). فللإله رع في الديانة المصرية الشمسية، حيث الشمس مبدأ الحياة والحق، خصم مبين هو الثعبان الضخم أپوفيس الذي يمثِّل لمبدأ الظلمة. وفي أسطورة أوزيريس (ص 70-72)، يقوم إله الشر سِتْ بقتل أوزيريس ويكيد لكلٍّ من زوجه إيزيس وولدهما حورس ("الصقر"). غير أن بعض قدماء المصريين اعتبر رع (أو أي إله خيِّر عمومًا) بمثابة الإله الخالق الكوني، فيما اعتبر بعضهم الآخر سِتْ إلهًا عظيمًا لا يخلو من الخير من بعض الجوانب، فأقام له دور العبادة (ص 75). مهما يكن من أمر، فقد كان سِتْ أخا أوزيريس الشقيق، الأمر الذي يشير، ميثولوجيًّا، إلى وحدة أصلية انبثق عنها كلاهما.

بالمثل، تحفل أساطير الشرق القديم بمشاهد الصراع بين الآلهة، من ناحية، وبين المردة أو الوحوش أو الشياطين، من ناحية ثانية. فالميثولوجيا البابلية، على سبيل المثال، تصف الصراع الذي دار بين مردوخ وتعامة (ثنائية كون/عَماء)؛ ومَشاهد تلك الدراما الكونية كافة تشي بنوع من الثنوية، غير أنها ليست متبلورة تمامًا بعدُ، حيث القوى المتناوئة ينبثق بعضُها من بعض أو تربط فيما بينها صلة نَسَب، الأمر الذي يشير إلى صدورها جميعًا عن أصل واحد.

زبدة القول إن هذه الديانات القديمة، وإنْ كانت قد بلورت شكلاً من أشكال الثنوية، تمثَّل عمليًّا في الإعلاء من شأن الأخلاق الفردية في تعيين مصير الفرد والحساب الذي يلقاه في الآخرة، إلا أنها لم تصل به إلى نهاياته المنطقية: ثنوية جذرية وثنوية أخلاقية تامة (ص 75-76).

* * *

تختلف الثنوية الزرادشتية عن بقية التيارات السابقة بطابعها المنهجي الذي يتلازم فيه مفهوما الوحدانية والثنوية (ص 82). وفي هذه الديانة الراقية نشهد "ميلاد الشيطان" (الفصل الرابع): ففيها يدور كل ما هو خيِّر حول الإله الأعظم أهورا مزدا (أورمَزد)، مبدأ الحق، بينما يدور كل ما هو شرير حول أهرا منيو (أهريمن)، قوة الباطل؛ وفيها نرى قوى الخير وقوى الشر تصطف متقابلةً في تناظُر يكاد أن يكون تامًّا. والروح الخيِّر والروح الشرير كلاهما أصلي في الخلق، ولا يحقق "كسر التناظر" إلا اليقين بأن أورمَزد هو الأقوى وبأن أهريمن سوف يُهزَم في مآل تاريخ الكون والإنسان.

غير أن هذه الصورة هي التي يمكن استظهارها بالاستناد إلى أدبيات الأڤستا، المتأخرة نسبيًّا؛ أما أناشيد الگاتها، أقدم النصوص الزرادشتية التي وصلتنا، فالصورة فيها ليست على هذا القدر من الوضوح: التناظر فيها أقل كمالاً، وليس من المؤكد أن الروح الشرير مستقل عن أورمَزد ومساو له في الأبدية. ففي إحدى نصوص الگاتها، يَردُ ذكرُ الروح الخيِّر (سپينتا منيو) والروح الشرير (أهرا منيو) على أنهما "توأمان" يتنافسان منذ البداية، "يختار" أحدهما الحق فيما "يختار" الآخر الباطل؛ وهذا، بنظر السواح، دليل على أن الروحين صدرا عن مبدأ أصلي واحد وأن الشرير صار شريرًا بمحض اختياره، و"الاختيار هو جوهر الأخلاق" (ص 83). وعلى كل حال، فإن الروح الشرير ليس مناوئًا لأورمَزد مباشرة، بل للروح الخيِّر. فأغلب الظن أن أورمَزد كان في الأصل إلهًا مطلقًا، متعاليًا عن التضاد.

ولقد أتت الزرادشتية بعدد من المفاهيم الأصيلة في تاريخ الدين، أهمها (ص 98-101):

  1. المفهوم الدينامي التطوري للتاريخ
  2. الطبيعة الأخلاقية للوجود ودور الأخلاق في تطهير النفس
  3. الشراكة بين الألوهة والإنسان وتعاونهما على إصلاح العالم
  4. وحدانية الإله
  5. أصل الشر وفكرة الشيطان
  6. حرية الإنسان ومسؤوليته
  7. مفهوم "الإنسانية" كحركة جماعية في التاريخ
  8. مفهوم المخلِّص (المسيائية)
  9. مصير الروح
  10. نهاية الزمن وتجديد التاريخ

ولا تزال مفاعيل هذه المفاهيم سارية في حياة البشر الدينية إلى يوم الناس هذا.

* * *

تظهر التصوراتُ الثنوية في اليهودية (الفصل الخامس) في القلب من مفهوم الألوهة نفسه، الأمر الذي لم يؤدِّ إلى تمايُز مبدأ واضح يمثِّل للشر وإلى تبلوره، بل فتح الباب على إشكاليتَي "التوحيد" و"الأخلاق" اللتين لم يتوصل الفكر التوراتي إلى حلِّهما إبان تدوين أسفار العهد القديم القانونية، التي يُكثِر فراس السواح من إيراد نصوص مستقاة منها تأييدًا لوجهة نظره. فالتوحيد التوراتي، في أحسن الأحوال، "وحدانية عبادة"، على حدِّ اصطلاح السواح، أي

[…] شكل من أشكال التعددية […] يتميز بعبادة إله واحد والإخلاص له دون بقية الآلهة التي لا يُنكَر وجودُها، وإنما تُستبعَد من الحياة الدينية للجماعة لصالح ذلك الإله المعبود (ص 104)،

وليس تنزيهًا خالصًا لمفهوم الألوهة، بوصفها "العلَّة الأولى والمآل الأخير"، بما يؤسِّس لمنظومة أخلاقية مُحْكمة. ومن هنا "الإشكالية الأخلاقية" التي تتبدى في سِيَر حياة "المختارين" الذين أسند إليهم الربُّ أدوارًا مهمة في حياة الجماعة:

إن عدم توصُّل إله التوراة إلى موقف متسق من مسألة الأخلاق، سواء في ما يتعلق بسلوكه الخاص أم بمطلبه الأساسي من شعبه، قد جعل الشخصياتِ الرئيسيةَ في الرواية التوراتية تسلك بدوافع من محاكماتها الآنية، دون الاستناد إلى أية مرجعية أخلاقية. (ص 123)

غير أن هذا لم يَحُلْ دون ظهور الشيطان على حلبة دراما الشعب اليهودي، "رغم ضآلة دوره وقلة حيلته"، كشريك ليهوه، تارة، وكأداة منفذة لرغباته، طورًا (ص 128). وقل الشيء نفسه عن "لاهوت الملائكة" المتبلور في أسفار التوراة المتأخرة بفعل التأثيرات الرافدينية والفارسية:

[…] ما يميِّز مفهوم الملائكة في التوراة عن مفهوم الملائكة الفارسي هو أن الملائكة التوراتية ليست كائنات نورانية خيِّرة تقف في وجه الشياطين وتكافح الشر في العالم […]، بل هي البطانة الخاصة التي تحيط بيهوه الملك، وتحمل عرشه كلما زار الأرض، وتنفِّذ ما يوكل إليها من مهمات: فمنها للمهمات الخيِّرة ومنها للمهمات الشريرة، وغالبًا ما يختلط الفريقان حتى يصعب التمييز بين ملائكة النور وملائكة الظلام. (ص 134)

من هنا وصف السواح للمعتقد التوراتي بأنه "زرادشتية مقلوبة على رأسها" (ص 153)، تختص اليهودية وفقًا له بالإله الشمولي، وترسم تاريخ الكون، ليس كنهاية للزمن الدنيوي بانتصار قوى الخير، كما في الزرادشتية، بل كنهاية لتاريخ الشعب اليهودي حصرًا بتتويجه سيدًا على الأمم كافة وممثِّلاً ليهوه على الأرض. وبذلك يفقد الصراع الأخلاقي بين الخير والشر غائيَّته الميتافيزيقية، ويعدم صياغةَ تصورات أخروية ناضجة عن البعث والحساب (ص 150-152)، كالتي تجلَّت لاحقًا في كلٍّ من المسيحية والإسلام، اللذين يفصِّل المؤلف في عرضهما في الفصلين العاشر والحادي عشر (الأخير) في سبك أخاذ، بما يتسامى بالطبيعة البشرية للإنسان، فردًا وجماعة، من حالة السقوط من النعمة الإلهية إلى الحالة الفردوسية البدئية[5].

* * *

إذا كانت أسفار العهد القديم القانونية تمثِّل، بالمعنى الرمزي التأويلي، خلاصة لتطور البشرية الوئيد، منذ بداياتها البهيمية حتى بلوغها عتبة التوحيد والاهتداء إلى "فكرة الله" المنزَّه في أسفار الأنبياء (ص 104)، فإن احتكاك اليهود بالتراث الروحي للأمم الأخرى في العصر الهلنستي أدى إلى "ثورة دينية صامتة" أبدعت، من داخل الديانة اليهودية، فكرًا رؤيويًّا جديدًا استمر من حيث توقفتْ أسفار الأنبياء واستنفد إمكاناتها التأويلية، ممهدًا للطفرة المسيحية اللاحقة.

ولقد صيغ هذا الفكر في النصوص التي عُرفتْ بالأسفار "المنحولة" (أي المنسوبة إلى غير كاتبها الحقيقي) أو الأسفار "غير القانونية"، التي يتوفر السواح على دراسة نماذج لها ويورد منها مقاطع مطولة في الفصل السادس من كتابه، مثل: سفر أخنوخ الأول وسفر عزرا الرابع وكتاب اليوبيليات ووصايا الأسباط الإثني عشر ونصوص قمران (مخطوطات البحر الميت) وسفر أسرار أخنوخ (أخنوخ الثاني) وكتاب حياة آدم والهاجاده (أسفار التلمود القصصية). وأهم الأفكار الجديدة التي أغنت هذه الأسفارُ بها الإيديولوجيا التوراتية (ص 156-157)، بما يتقاطع مع إضافات الزرادشتية إلى الفكر الديني العالمي، هي:

  1. مشكلة الشر ولاهوت الشيطان الكوني
  2. مشكلة الأخلاق والمسؤولية
  3. التوحيد (في مقابل "وحدانية العبادة")
  4. التاريخ الدينامي القائم على جدلية الخير والشر والارتقاء بالوجود
  5. الأخروية والمسيائية
  6. مفهوم "الإنسانية" (في مقابل مفهوم "الشعب المختار")

* * *

لقد أجمعتْ العقائد الغنوصية (الفصل السابع)، بالتساوق مع المسيحية الباطنية (ولاسيما في الإنجيل الرابع، حيث يصح الكلام على "ثنوية يوحناوية" تصف الشيطان بـ"أمير هذا العالم")، على نَسْخ "العهد القديم" بين يهوه وبني إسرائيل، جزئيًّا على الأقل، وعلى تعديل جذري لقصة التكوين التوراتية (هبوط صوفيا من عالم الأفلاك الروحانية – "الإيونات" – وإنجابها ملائكة المادة – "الأرخونات" – الذين خلقوا العالم)، فأسَّست لـ"عهد جديد" بين الإله الحق وبين بني الإنسان قاطبة (ص 208-211).

ويعود "اعتدال" الثنوية الغنوصية إلى أن الثنوية فيها طارئة على الوجود، وليست أصلية في الطبيعة الإلهية المحضة؛ إذ إنه، في المنظور الغنوصي، لا توجد صلة مباشرة بين الله (الآب الأعلى) وبين العالم: فالقدرات الدنيا والعمياء – ويهوه، "صانع العالم" أو "أميره"، في عِدادها – التي صنعت العالم مباشرة وتسلَّطت عليه (ص 204)، مع أنها من أصل إلهي، فإنها لا تعرف الله، بل "تقاومه" (= شيطان)، وتتسلط ظلمًا على النفوس، حتى مجيء نبيٍّ مخلِّص يأخذ على عاتقه التغلب عليها من أجل تخليص النفوس عن طريق الغنوص ("المعرفة") الذي هو

[…] فعالية روحانية تقود إلى معرفة الأسرار الإلهية عبر تجربة باطنية تقود إلى الكشف والاستنارة. […] هذه المعرفة هي وحدها الكفيلة بتحرير الروح الحبيسة في إطار الجسد المادي والعالم المادي الأوسع، لتعود إلى العالم النوراني الأسمى الذي صدرت عنه. (ص 204)

وهذا النوع من الثنوية، التي يتقابل فيها قطبا الله والعالم (ثنوية "شاقولية")، يختلف عن الثنوية الزرادشتية "الأفقية" (حيث العالم صنعة الله المباشرة وخيِّر إجمالاً، لكن مبدأ الشر يتسلل إليه ويدخل في صراع مع مبدأ الخير، حتى ينتصر الخير أخيرًا)، ويختلف كذلك عن الثنوية المانوية المطلقة (الفصل الثامن) التي ابتعدت عن الثنوية الغنوصية حصرًا، بحيث إن التضاد فيها لم يعد بين الله والعالم، بل بالحري بين الله والمادة (ص 230). فالعالم، بنظر ماني، الذي عدَّل الغنوص مستلهمًا الثنويتين الفلسفية (روح/مادة) والزرادشتية معًا، نظام وَضَعَه الإلهُ من أجل تمكين النفس الإنسانية من الخلاص عن طريق المعرفة حصرًا.

* * *

ملاحظتنا "الفنية" الطفيفة على كتاب السواح، بهذا الصدد، أنه خصَّ الثنوية الغنوصية بفصل من الكتاب صغير نسبيًّا بعنوان "يهوه: شيطان الغنوصية" مستقل عن فصل "الشيطان في اللاهوت المسيحي". فربما كان من الأجدى، على الصعيد المعرفي، إخراج دراسة الغنوص من مجال تاريخ الديانات العام وإدراجه في مبحث تاريخ اللاهوت المسيحي. ذلك أن النظرية القائلة بأن الغنوص عبارة عن جملة من الهرطقات (الزندقات) المسيحية وبأنه كان قبلها تيارًا دينيًّا مستقلاً لم تجد لها حتى الآن سندًا مقنعًا؛ إذ لم يعثر الباحثون حتى الآن على نصٍّ غنوصي واحد سابق للمسيحية، وأقدم الغنوصيين المعروفين كانوا جميعًا مسيحيين، ترعرعوا في الوعاء الثقافي والروحي للمسيحية، باعتبارها بوتقةً عامةً انصهر فيها سائر التياراتُ الدينية الشائعة في القرون الأولى بعد المسيح. وفي رأينا أن تعاليم يسوع الأصلية التي تشكِّل باطن المسيحية لا يصح تأويلُها وفهمُها إلا في ضوء الغنوص[6].

* * *

يبقى أن نقول إن فراس السواح مفكر سوري فذ يقف في طليعة المعرِّفين بأعماق الخبرة الدينية والروحية – الواحدة في الجوهر – في العالم العربي، إن لم نقل إنه من الثلة النادرة التي تجاهد في هذا الميدان وحدها[7]. وهذا التكريم الذي نشارك فيه اليوم لا يرقى إلى "تكريمه" الفعلي، المتمثل في إسهامه في التنشئة الفكرية لجيل جديد خال من أدواء الانغلاق الفكري والتعصب والتحزب والاعتقاد باحتكار الحقيقة المطلقة والنجاة إلخ.

فراس السواح، بلا ريب، رائد من رواد الانفتاح والمحبة في سورية ودنيا العرب.


[1] يكتفي السواح بهذه العبارة وحدها (كتاب المخاطبات، فقرة 26) ليختم على كتابه في "الثنوية" الكونية!

[2] راجع: فراس السواح، دين الإنسان: بحث في ماهية الدين ومنشأ الدافع الديني، دار علاء الدين، دمشق، طب 1: 1994.

[3] فراس السواح، الرحمن والشيطان: الثنوية الكونية ولاهوت التاريخ في الديانات المشرقية، دار علاء الدين، دمشق، طب 1: 2000. وقد ألقِيتْ المداخلة التي شكلت نواة هذه القراءة في ندوة تكريم فراس السواح في "رابطة الخريجين الجامعيين"، حمص (سورية)، 25/10/2003.

[4] تبقى الثنوية الإپستمولوجية (أو الخاصة بنظرية المعرفة) التي تحيل على المعرفة بوصفها تتوقف على مقولتين للوجود: الذات والموضوع؛ وهذه لم يتطرق إليها الكاتب مباشرة نظرًا لتناوُله الثنوية في نطاق الأديان المشرقية حصرًا.

[5] لن نتطرق في هذه القراءة إلى ما جاء في هذين الفصلين، تاركين للقارئ مفاجأة التذوق الماتع، مشيرين فقط إلى الجهد الكبير المبذول في تصنيفهما باعتماد المؤلف مقاييس فكرية راقية ومستقلة، خارجة عن نطاق كلٍّ من اللاهوت المسيحي والكلام الإسلامي التقليديين.

[6] في كتابه الوجه الآخر للمسيح: موقف يسوع من اليهود واليهودية وإله العهد القديم ومقدمة في المسيحية الغنوصية (دار علاء الدين، دمشق، طب 1: 2004)، عاد السواح وتبنى وجهة النظر هذه في قوة.

[7] من هذه الثلة نذكر المفكر اللبناني الكبير أديب صعب الذي يبحث أيضًا في النتائج الاجتماعية المترتبة عن هذه الرؤية الشاملة.

تأملات في الحياة والإنسان (ندره اليازجي) – سمير كوسا

تأمُّلات في الحياة والإنسان

سمير كوسا*

أجد نفسي، وأنا أستهل هذه الأسطر، في وضع حرج! فكيف يمكن لي الكلام بموضوعية على كتاب حرره كاتب ارتبطتُ به – ولا أزال – إبان سنوات طويلة؟ وكيف يمكن لي، إنْ كان عندي انتقاد، أن أوجِّهه إلى هذا الصديق المقرب؟ لا أجد حلاً لهذه المعضلة إلا بأن أقبل ما سيخط قلمي من آرائي ومشاعري.

حين أتذكر بداية السبعينيات ولقائي الأول مع ندره اليازجي يخالجني شعور بالحنين والشوق. كان اليازجي أيامئذٍ أستاذًا للغة الإنكليزية والفلسفة وعلم الاجتماع، لكنه قرر، منذ أواسط الستينيات، أن يدرِّس مادة التربية الدينية؛ وقد نبع قراره ذاك من شعوره العميق بأن التعليم الديني تحول، في أكثر الأحيان، إلى مجرد ترديد لكلمات أفرغَتْ من كلِّ معنى عقلي ومضمون وجودي. والحق أنه عندما يستمع المرء إليه – وخاصة الشباب الذين لم ينتهِ المجتمع بعدُ من "صقلهم" وإثقالهم بالأعراف والتقاليد – ينتابه شعور بأن ثمة أبعادًا وأعماقًا أخرى – أو على الأقل رؤى مختلفة – لحياتنا اليومية وللطروحات اللاهوتية، لم يسبق أن تنبَّهنا إلى وجودها من قبل. ويضيف اليازجي أن ولوج هذه الأبعاد الأخرى يتم عبر تجربة داخلية-صوفية تسقط من خلالها – بحسب درجة عمق التجربة ونضجها – الغشاوةُ التي حجبتْ عنا معاينة الواقع كما هو، في داخلنا وفي الخارج.

هناك، إذن، في نظر اليازجي، وعي كوني، هو الوجود الحقيقي الوحيد (وحدة الوجود). أما عالمنا فيمكن لنا تصوُّره – دون أن ننسى أن هذه الصورة مبسَّطة – على أنه آخر حلقة من سلسلة من الفيوض، انغلق فيها ذاك المبدأ الواحد تدريجيًّا على ذاته، حتى ظهر عالمنا أخيرًا في كثرته المتناقضة. يهدف وجودنا، إذن، إلى العودة، في حياتنا اليومية وعلى مستوانا، إلى وحدة الأعماق هذه التي لم ننفصل عنها لحظة واحدة!

ليس التصور السابق خاصًّا باليازجي وحده، بل نجده كذلك لدى مفكرين ومؤلفين عديدين، وفي التصوف بخاصة، على اختلاف مدارسه: الإسلامي، المسيحي، الهندوسي، البوذي، إلخ، وفي شتى البقاع والأزمنة، حيث عُبِّر عن هذه الوحدة الوجودية بحسب لغة العصر الموافق وروحه[1]. لكن ما يميِّز اليازجي هما حساسيته وتعبيره الخاص عن هذا المبدأ من خلال رؤيته لدور الفرد في هذا الكل الواحد، في ماضيه وحاضره ومستقبله.

ويستعمل اليازجي لغة اليوم ومعارفه الموسوعية التي استقاها من فروع المعرفة البشرية العديدة في بسطه لتصوراته هذه. وخلافًا للعديد من المفكرين الذين يتبنون هذا التصور، فهو لا يدعو إلى الانعزال عن المجتمع بحثًا عن خلاص فردي، بل إلى مشاركة وجودية حقيقية من خلال فنِّ حياة أشبه بتصوف عقلي. ويقدِّم اليازجي خمسة أسس لحياة متوازنة، لا يمكن في الحقيقة فصل بعضها عن بعض، كما قد يوحي تعدادها التالي:

1. اللقاء بالآخرين: فهُمْ يمثلون انعكاسًا لنا، كما أننا نمثل انعكاسًا لهم – شريطة أن يكون لقاؤنا بهم اجتماعًا، لا "تجمعًا".

2. التأمُّل بأنواعه: وهو يفتح الباب على مشاركة وجدانية في جوهر عالمنا، من شأنها أن تفتح حواسنا الباطنة على عوالم نفسية وروحية، تتخلل العالم المادي وتتعالى عنه في آن.

3. تذوُّق الفنون: كالاستماع إلى الموسيقى الراقية (الكلاسيكية خاصة) التي تزيد من إحساسنا بجمال الأشياء وبعمقها الخفي.

4. العمل الاجتماعي: المشاركة في الحياة اليومية والاقتصادية لمجتمعنا، لأن اجتماعية الإنسان لا تنفصل عن إنسانيته.

5. القراءة التي توسِّع من آفاقنا وتشحذ عقولنا وتهيؤها لتلقِّي المعرفة الحقيقية وللتعبير عنها.

أما أهم ما يميز اليازجي، بنظري، فهو واقعه المعيش. وأقصد أن عددًا كبيرًا من المؤلفين الذين يدعون إلى تجاوز الذات والعطاء إلخ هم أحوج من قرائهم إلى مثل هذه النصائح! أما مَن يلتقي باليازجي فإنه يجد فيه مثالاً حيًّا على الأفكار التي ينادي بها: ليس عنده أي انفصال بين المفكر وأفكاره.

هكذا عرفت ندره اليازجي، وهكذا أتصوره وأفهمه. ولست أدعي أني وفَّيت فكرَه – الذي سأعود إليه أدناه – شيئًا من حقِّه، أو حتى أني فهمته على الوجه الصحيح؛ ولست أقصد كذلك أني أتفق مع كل ما فهمت من هذا الفكر، على الرغم من تقاربي منه.

صدرتْ لليازجي كتب متعددة، استودعها تأملاتِه الخاصة في مسائل حياتية وفلسفية عديدة[2]. ويلمس القارئ في كلٍّ من هذه الكتب تلك الرؤية الواحدية للوجود. ولا أخفي هنا أنني أفضل كلمة اليازجي المحكية على كلمته المكتوبة التي لا تتصف، برأيي، بشحنة الشعور والحضور القويِّ الآسر ذاتها.

ولعل أشهر كتابات اليازجي هي تلك التي اختصت باللاهوت الديني، ككتابيه رد على اليهودية واليهودية المسيحية ورد على التوراة[3]. وقد بيَّن اليازجي فيهما كيف انحرف الدين اليهودي المنظم عن التجربة الروحية الحق، ليصير مشروعًا سياسيًّا جرف معه غالبية المذاهب المسيحية المُمأسَسة التي تخلت إلى حدٍّ كبير عن روحية تعاليم المسيح. ونحن، إنْ كنا نرى بوضوح آثار هذا المشروع الاجتماعية والسياسية، نتبين أن المؤلف مضى باستقصائه إلى أبعد من هذا أيضًا، ليكتشف كيف أنه، بهدف تحقيق هذا المشروع، تم الاندساس في الفكر العالمي والنشاط الاجتماعي، كما نجد في كثير من المذاهب الفكرية المعاصرة، من ماركسية وفرويدية إلخ.

nadra_CR_5

انجذب اليازجي كذلك، منذ أوائل السبعينيات، إلى الفكر العلمي الحديث وفلسفة العلوم، لعله يتلمس فيهما، من خلال دراسة المادة والحياة والنفس، دليلاً على وحدة الأعماق – وحدة الوجود؛ فكان أن ترجم، مثلاً، كتاب تِلار دُه شاردان ظاهرة الإنسان، الذي يصف تطور الحياة وبلوغها، في كلِّ مرحلة من مراحل التطور، عتبة وعي جديدة وبنية أكثر تعقيدًا؛ وترجم كذلك كتاب صديقه روبير لِنْسِن الطفرة الروحية للألفية الثالثة[4] الذي حاول فيه المؤلف، عبر العلوم الحديثة، وخاصة الفيزياء، تبيان وحدة الوجود، وقدَّم كذلك وصفًا لسيرورة الأنا processus du moi، من انغلاقها الضيق إلى انفتاحها على الكلِّي.

mutation_spirituelle

أصدر اليازجي كذلك كتاب المادة والروح: تأليف جديد[5] الذي جمع فيه دراسات اقتبسها عن مصادر ثيوصوفية مختلفة، تتحدث عن مستويات الوجود المختلفة، عن بنية الإنسان الباطنة وتطوره بحسب هذه المستويات، وعن التقارب بين بعض الطروح العلمية والأفكار الروحية.

وأخيرًا، صدر لليازجي كتاب المبدأ الكلِّي[6] الذي حاول فيه، عبر عدة دراسات، الاستفادة من أحدث الأفكار في الفيزياء، في علم النفس، إلخ، وتلقيحها بأفكاره الروحية، ليبيِّن كيف يمكن لنا أن نفهم الوحدة عبر التعدد والتنوع، وكيف يمكن للأفكار العلمية الحديثة أن تمثل نواة تطور اجتماعي حقيقي.

nadra_CR_3

والحق أن "المبدأ الكلِّي" اليوم، في المعرفة الحديثة، يضرب بجذوره في التفكير المنظوماتي systemic thinking (علم المنظومات) الذي ينظر إلى الأشياء والكائنات على أنها واحدات لا يمكن تقسيمها دون أن تفقد الوحدة خاصيتها؛ وبعبارة أخرى، لا يمكن اشتقاق خواص كلِّية ما من خواص عناصرها المركِّبة (أو الأصغر): فكأن الكون عبارة عن كلِّيات تندرج في كلِّيات أكبر، أكبرها الكون (المنظور وغير المنظور).

nadra_CR_2

وإذا كان الكتاب الذي نحن بصدده، كتاب تأملات في الحياة والإنسان[7]، يجمع بين دفتيه نصوص ستٍّ من المحاضرات التي ألقاها اليازجي في الثمانينيات، فإننا نجد فيه الأفكار السابقة ذاتها، يتطرق إليها المؤلف من زوايا مختلفة ليزيدها تدقيقًا ووضوحًا. أترك الحديث للمؤلف في مقدمته:

تعبِّر هذه التأملات عن فكرة واحدة تتخلل فصول الكتاب. إنها محاولة صادقة تهدف إلى إحداث "تعديل" في وجهات النظر العديدة السائدة التي بحثت واقع الإنسان والحياة؛ إنها "رؤيا" تُمِدُّ الإنسانَ بفاعلية تطوير ذاته، ليتم تساوقُه وانسجامُه مع نفسه، مع الحياة والطبيعة، ومع الكون. (ص 13)

وفصول الكتاب الستة[8] هي على التوالي:

1. معالم الشخصية المتكاملة

2. الرجل والمرأة

3. فلسفة الجنس

4. فلسفة القلق

5. المعرفة سبيل إلى التكامل النفسي

6. العلم والحكمة ومصير الإنسان

ويدرس المؤلف، في غالبية المرات، كلاً من هذه المواضيع على مستويات عدة، منطلقًا من الواقع الظاهر، ليرى من ورائه حقيقة أعمق تفسِّره وتبرر وجوده. وأحب هنا أن أفتح قوسًا أعتقد أنه على جانب كبير من الأهمية.

قد لا نتفق مع وجهة النظر التي انطلق منها المؤلف – وأقصد وحدة الوجود – وعلى أن هدف الحياة يتمثل في وعي هذه الوحدة – وهذا من حقِّنا؛ لكننا يجب أن نعي، في الوقت ذاته، أن أي منطلَق (أو مبدأ) آخر لا يمتلك، من وجهة النظر العلمية، قوة أو حجة أكبر. فمثلاً، لا شيء يبرهن على المبدأ المادي الذي يدعي أن الحياة ظهرت نتيجة مصادفة موفقة غير محتملة (في صورة ديالكتيكية أم لا)؛ فيبقى تبنِّي هذا المبدأ (أو غيره) مشروعًا من وجهة النظر العلمية، على أنْ لا يتناقض والتجربة. المسألة تكمن، إذن، في نوعية البرهان وسُبُله. ولندلل على ذلك ببعض الأمثلة.

ينطلق المنطق، مثلاً، من مسلَّمات يتعامل معها، ليصل إلى نتائج صحيحة. ويمثل هذا التعامل عملية برهان/اشتقاق النتيجة؛ ويُفترَض أن المسلَّمات السابقة لا يتناقص بعضها مع بعض[9]. ويستعمل العلم التجريبي، من طرفه، التجربة ليبني عليها رؤية أو استنتاجًا أعم، يبقى صالحًا إنْ لم تخالفه تجربة أخرى، أو ليتحقق من رؤية ما ومن مبلغ تَوافُقها مع الواقع. وبحسب اليازجي، يوجد، إضافة إلى أنواع البراهين السابقة، برهان ذاتي، يمكن لكلٍّ منا اختباره، ألا وهو التجربة الروحية الداخلية. ولا يتسع المجال في هذا المقام للحديث عن مشكلة البرهان[10].

وبالعودة إلى كتابنا، فلنُبرز كيف يعالج المؤلف موضوعاته، ولننظر، على سبيل المثال، إلى فصل "فلسفة الجنس" (ص 39-47). لقد بتنا نعرف مما سبق الفكرة المحورية-الأساسية التي يدور حولها تأمل اليازجي. هنا يبيِّن المؤلف أن الغريزة لدى الحيوان، في صورة عامة، ذات طابع بيولوجي بحت؛ أما في الإنسان، فلا شيء من هذا: إذ تتحول الغريزة إلى دافع يتجاوز البيولوجي الخام. الغذاء، مثلاً، يلعب في الإنسان دوره البيولوجي، لكنه يتحول كذلك إلى فكر. في الإنسان، إذن، درجات نمو لا توجد في الحيوان، كما أن في الحيوان – في صورة عامة – درجات نمو لا توجد في النبات. كل خلل في هذا النمو، مهما كان سببه، يؤدي بنا، إذن، إلى مشكلات عديدة: بيولوجية، نفسية، روحية… وعلى هذا الأساس، يمثل الجنس في الإنسان لقاءً جسديًّا-نفسيًّا. لكن لنترك الحديث للمؤلف:

يأخذ الجنس، الذي تشترك فيه الروح والمادة، شكلاً جديدًا، يتحول فيه الحب إلى محبة. فهو مادي يعبِّر عن اندفاع لاواع، هو الجانب البيولوجي؛ وهو روحي يعبِّر عن غاية ويعمل فيه الفكر والإرادة. وعندما يتحول الحب إلى محبة يحافظ الجنس على قاعدته المادية، لكنه لا يعبِّر عن الانفعال والاندفاع التلقائي، بل عن عمل تقوم به المادة لكي تحقق الغاية من وجودها. (ص 44)

يمكن لنا، بناءً على درجات النمو آنفة الذكر، أن نفهم تحليل المؤلف لفلسفة القلق، للرجل والمرأة، لمعالم الشخصية المتكاملة، إلخ. فكأن مشكلات الإنسان، على أنواعها، تنجم عن خلل في النمو السابق، أو عن توقُّفه عند مرحلة ما، أو عن عدم الاعتراف (في العديد من الفلسفات ومدارس التربية) بوجود إمكانية نمو تتعدى حدود النمو البيولوجي-الفكري فينا. لا غرابة عندئذٍ أن نرى أن التطور التقني العارم في هذا العصر لم يحل مشكلات البشرية التي دفعت إليه؛ إذ إن ثمة انفصامًا للعقلي-المنطقي عن الحدسي-الأخلاقي فينا. يقول المؤلف في فصل "العلم والحكمة ومصير الإنسان":

إن تراجُع الإنسان الأول أمرٌ يشير إلى تراجُع روح الحكمة واستغراق العقل في العلم، وإلى تحوُّله عن صوفيا أو ثيوصوفيا – الحكمة أو الحكمة الكلِّية – إلى فيلوصوفيا، محبة الحكمة [الفلسفة]. إذن فالحكمة هي صوفيا، ثيوصوفيا، الوعي، المعرفة المباشرة، الحدس، وحدة الموضوع والفكر، الاتصالية دون الانفصالية؛ ومحبة الحكمة، فيلوصوفيا، هي العقل الباحث عن سرِّ الوجود، الباحث عن جوهره، العقل الذي يقدِّم ذاته على الموضوع؛ هي الانفصال دون الاتصال، هي الثنائية التي أدتْ إلى ازدواجية الفكر الإنساني وفصام الشخصية الإنسانية؛ هي العلم في صورته الفكرية. (ص 90)

لا يتسع لي المجال هنا للتعليق على الأفكار العديدة التي يوردها المؤلف. وأشير، مرة أخرى، إلى أني، في صراحة، أتفق معها عمومًا، مع اختلافي على بعض التفاصيل والمصطلحات المستعمَلة. وأعتقد جازمًا أنه قد آن الأوان لأن نكتشف تلك المدرسة الفكرية التي يتحدث اليازجي باسمها… آن الأوان كذلك لأن نوسِّع من أفقنا، ونفتح قلوبنا، كما يدعو المؤلف، بهدف بناء الإنسان الكلِّي/الكامل وتحقيق وحدة الأعماق في عالم الظاهر.


* مُجاز في الرياضيات واختصاصي في البرمجة المعلوماتية، راح، بعد تحصيل واسع في الفلسفة والعلوم والإپستمولوجيا، ينقب عن جوهر الخبرة الروحية المحرِّرة. كتب وترجم العديد من المقالات، وراجع الكثير من الكتب الفلسفية والعلمية والروحية، وأجرى حوارات متميزة مع العديد من الفلاسفة والعلماء والمفكرين المعاصرين لمجلتَي الصفر ومعابر (www.maaber.org) وغيرهما، وهو المراسل في كندا لمجلة الألفية الثالثة (www.revue3emillenaire.com) الفرنسية الفصلية التي تُعَد من خيرة الدوريات التي تتناول مختلف تجليات الخبرة اللاثنوية المحرِّرة في عالمنا اليوم.

[1] من أسُس فكر ندره اليازجي الإقرار الفعلي بالوحدة الجوهرية للخبرات الروحية كافة، كونها تعبيرات متنوعة عن الروح الإنساني الواحد؛ ومن هنا ترجمته، منذ الستينيات، للكتاب المرجعي الممتاز الفكر الفلسفي الهندي، من تأليف الفيلسوف الهندي الكبير س. رادهاكرشنان بالاشتراك مع تشارلز مور (مكتبة النهضة العربية، بيروت، 1968). (المحرِّر)

[2] نحيل القارئ الراغب في التعرف إلى فكر ندره اليازجي إلى الأعمال الكاملة للمؤلف التي صدر منها حتى الآن سبعة مجلدات. (المحرِّر)

[3] ندره اليازجي، الأعمال الكاملة، مج 5، دار أمواج، بيروت، 2001.

[4] روبير لنسن، التطور النفسي في الألف القادمة، دار الغربال، دمشق، 1982.

[5] ندره اليازجي، الأعمال الكاملة، مج 3، "دراسات في فلسفة المادة والروح"، دار الغربال، دمشق، 1999؛ ص 173-292.

[6] ندره اليازجي، الأعمال الكاملة، مج 3، ص 5-171.

[7] صدرت الطبعة الأولى من هذا الكتاب عن دار الغربال، دمشق، 1988؛ ثم صدرت الطبعة الثانية منه بعنوان "تأملات في الحياة النفسية" ضمن الأعمال الكاملة، مج 2، "دراسات في الحياة النفسية والاجتماعية"، دار الغربال، دمشق، 1998؛ ص 7-150. (المحرِّر)

[8] أضاف اليازجي إلى الطبعة الثانية ثلاثة فصول جديدة تحمل عناوين: "المرح والصحة النفسية"، "الشعور بالنقص والدافع إلى الكمال"، "سيكولوجية الحلم والنوم واليقظة". (المحرِّر)

[9] من أجل شرح مستفيض لمشكلة البرهان في المنطق والرياضيات، راجع: فايز فوق العادة، منعطف الرياضيات الكبير، وزارة الثقافة السورية، دمشق، 1987.

[10] للتوسع، أحيل المهتم إلى كتاب كِنْ ولبر الممتاز Ken Wilber, Eye to Eye الذي يدرس مفهومَي الحقيقة والبرهان، بأنواعهما ومستوياتهما، ويتكلم مطولاً على البرهان في نطاق التجربة الداخلية.