أرشيف التصنيف: دراسات

مدخل إلى نظرية پروقلس في الخيال – فارس جلون

الدِّين والفلسفة في حياة پروقلس ومذهبه
مدخل إلى نظريَّته في الخيال*

فارس جلون 

فارس جلون**

 

تأثرت الفلسفة الأفلاطونية المُحدَثة بعد القرن الرابع بمذهب الفيلسوف يمبليخوس (يمليخا) الأفامي الذي أبدى من الاهتمام بالوثنية ما جعل الأفلاطونيين المُحدَثين بعده تُقاةً لا يتعبَّدون للآلهة فلسفيًّا وحسب، بل على غرار الديِّنين الروحانيين أيضًا، فاستعملوا الفلسفة لتأويل القَصص المأثور عن هوميروس والخبرات الروحية والرموز والشعائر السرَّانية لعلم الباطن. والغرض من هذا البحث هو تعليل انعطاف الأفلاطونية المُحدَثة المتأخرة نحو الدِّين بدوافع فلسفية.

قبل الدخول في صلب المواضيع العقلية، لا مناص لي من التذكير بضرورة التزام حياة الفيلسوف وأخلاقياته وبأهمية الدين “الوثني” في حياة پروقلس ومذهبه الفلسفي. فلقد بيَّن پيار هادو، في كتابه عن “الفلسفة القديمة”[1]، أن تلك الفلسفة لم تكتفِ بالخطاب الفلسفي المجرَّد، إنما أصرَّت كذلك على ضرورة انسجام سلوك الفيلسوف مع فكره، فوضع كلُّ مذهب فلسفي قواعد في المناقب والسلوك؛ إذ لم يفصل الفلاسفة آنذاك بين النظر theoria والعمل praxis. ومنه، كان پروقلس يؤالف في حياته بين النظر العقلي العميق وبين التعبد للآلهة.

Continue reading

معاني التاريخ عند أصحاب الكيمياء المسلمين – پيار لوري

تاريخ المعرفة ومعرفة التاريخ

عند جابر بن حيان

lory

پيار لوري*

أورثتنا الكيمياء، ناطقةً باللسان العربي، أدبيات غزيرة، غنية، تتقاطع فيها حضارات عدة. وهي تنتسب صراحة إلى ماض إغريقي ويوناني-مصري، كما تكثر فيها المقبوسات عن أصحاب الكيمياء (= الحكماء) القدماء؛ لا بل إن حواشي كاملة من العقائد الفلسفية (= الكيميائية) باللسان العربي تحيل إلى أقداء من العصور القديمة، المبكرة والمتأخرة. ولقد نهض باحثون ألمعيون لاقتفاء أثر هذه المصادر وخصصوا لها أعمالاً باهرة، نخص بالذكر منها دراسات پاول كراوس. ومع ذلك، فإن العمل المتبقي لا يزال كثيرًا.

لكن السؤال المطروح هنا هو، بالحري، حول معرفة المغزى من هذه المقبوسات عن مصنفات قديمة، مغلوطة النسبة غالبًا: لماذا استشعر مؤلفون، لا مراء في إسلامهم ولا لبس فيه، حاجة الاقتباس عن فيثاغورث أو أفلاطون أو هرمس؟ ألأن الكيمياء انتقلت إليهم بواسطة الإغريق؟ أغلب الظن أنْ نعم؛ لكن هذا الإثبات نصف صحيح: فالغالبية العظمى من جملة المصنفات في الكيمياء الموضوعة بالعربية والمنسوبة إلى مؤلفين إغريق لا تقابل أي نصٍّ أصلي معروف؛ كما يبدو أن جزءًا لا يُستهان به من هذه الكتب المنحولة وُضعت بالعربية رأسًا في العهد الإسلامي – إلا إذا كنا بصدد كتب منقحة تنقيحًا جذريًّا. لقد كان بوسع واضعيها أن يستغنوا فعلاً عن كل ذكر للأصل المقتبَس عنه، كما هو شائع الحدوث في المناخ الثقافي للعصر الوسيط، حيث كان مفهوما الاقتباس والانتحال غير ساريين بتاتًا، فكان بوسعهم خصوصًا أن ينسبوا جميع مصنفاتهم في الفلسفة إلى الإمام علي، صهر النبي محمد، أو إلى جعفر الصادق، سادس أئمة الشيعة، أو إلى الأمير الأموي خالد بن يزيد، أو إلى غيرهم من المؤلفين المسلمين الذين عُزيت إليهم صنعةُ الكيمياء. بيد أننا نشهد ظاهرة غريبة: لقد نسب مؤلفون مسلمون، كتبوا في القرنين الثاني والثالث للهجرة أو حتى بعدهما، رسائلهم الفلسفية إلى هرمس[1] أو إلى أفلاطون إلخ. فإذا كانوا قد ابتنوا ماضيًا قديمًا، يونانيًّا على وجه التحديد، فلأن ذلك لا ينطوي على رؤية معينة للعلم وحسب، لكنْ على تصور لتسلسل التاريخ أيضًا.

جابر في مختبره بين آلاته ناظرًا إلى الأعلى كما تخيله نقاش أوروبي.

حول هذه النقطة بالذات أود أن أتفكر معكم اليوم. وسأستند للقيام بذلك إلى رسائل جابر، أي إلى جملة من المصنفات في الكيمياء تتضمن بضع مئات من الرسائل المنسوبة إلى امرئ يدعى جابر بن حيان، تلميذ الإمام الشيعي جعفر الصادق (ت 765). فالواقع هو أننا لا نعلم يقينًا إنْ كان جابر هو واضع هذه الرسائل الفلسفية كلها، ولا حتى إنْ كان الرجل قد وُجد أصلاً؛ إذ إن المصنفات الجابرية دُونت، في معظمها، بين النصف الثاني من القرن التاسع والنصف الأول من القرن العاشر[2]. غير أننا سنستمر في الكلام على "جابر" بصيغة المفرد تسهيلاً، ولأن هذا المذهب "الغيبي" تتخلله وحدة فكرية حقيقية.

المراجع القديمة للكيمياء العربية

كان الفلاسفة العرب يرجعون إلى عدد معين من الحكماء الأقدمين الذين عينوا لهم مواقع في الماضي قبل الإسلام. ولا حاجة إلى البحث عن اتساق منطقي أو تسلسل تأريخي في رؤيتهم لهذا الماضي؛ فالأسماء كثيرًا ما تورَد من غير أن يكون بالوسع تخمين القصد الدقيق من وراء ذلك تمامًا. لكن فكرة ثابتة تتخلل هذه الرؤية، ومفادها أن التعليم الفلسفي قد مرَّ بأطوار ومراحل. وإننا لنصادف ثلاثة تصورات لهذا التطور.

أحد هذه التصورات يعزو بداية تدبير صنعة الكيمياء إلى حكيم أول يدعى أريوس. وبذا فإن أريوس هو "أبو الكيمياء"؛ لكننا لا نعرف الشخص الذي يرتبط به هذا الاسم[3]. ويشير جابر أنه في الواقع ليس مخترع الكيمياء، بل "أستاذها" الأول فيمن وصله خبرُهم من الحكماء؛ وهذا بدوره نقل علمه، على حدِّ قول جابر، إلى عدد من التلاميذ. وقد وضع له تدابير مطولة، باستعمال العديد من الآلات، وافتتح بذلك شوطًا أولاً، مدبرًا الحجر بالتدبير الأول[4]. أما ألمع أخلافه فهما فيثاغورث[5] (الذي تُنسَب إليه خصوصًا مبادئ علم العدد) وبالأخص سقراط، حيث يسمي جابر هذا الأخير "أبو الفلاسفة وسيدها كلها"[6] ويعدُّه أعظم بني قومه. وقد جمع جابر عددًا من الأقوال المنسوبة إليه في مصححات سقراط، وهو ينسب إليه مذهبًا في التوليد أو التكوين بالصناعة[7]، كما يشير إلى وجود تعليم "سقراطي" في علم العدد.

وبعد سقراط، جاء عدد من الفلاسفة بسَّطوا تدبير الصنعة[8]؛ وهؤلاء يمثلون شوطًا ثانيًا: لقد كُسِرَ التدبيرُ الأول، واختُصرت مدتُه كثيرًا، وذلك من غير انتقاص للحاصل النهائي. والمؤلف الرئيس لذلك العهد (بعد أغاذيمون[9]) هو أفلاطون؛ وهذا أسرَّ إلى تلميذه طيماوس (كذا) بتعليم سرَّاني في مصححات أفلاطون. وقد فاق معلِّمه سقراط، مضيفًا إلى البُعد العملي للفلسفة صياغة نظرية عقلية. وهذه النقطة أساسية هنا، بما أنها تشدد على مفهوم التدرج أو التطور في السياق التاريخي لهذا العلم. وهذه النظرية "الأفلاطونية" تقوم على معرفة الأسطقسات (العناصر) الأربعة، وكذلك على فكرة أن الإنسان – العالم الصغير – يستطيع معرفة هذه العناصر وطبائعها ويسخِّرها بواسطة الكيمياء:

وجعل – تعالى – الإنسان وحده أميرًا على كل شيء دونه بما وهبه له – تعالى – من العقل النفيس والجوهر الرئيس. فمن ذلك أنه جعله مميزًا للعالم الأعلى – وهو الغاية التي ليس وراءها مطلب ولا لأحد عنها مرغب – وأقدره على تميُّز العالم الأوسط الذي هو عالم الكون والفساد، الذي هو من عند فلك القمر إلى مركز الأرض، من الطبائع الأربعة التي هي النار والهواء والأرض والماء. وجعل – تعالى – الإنسان بجسمه عالَمًا صغيرًا كائنًا من مزاج هذه الطبائع الأربعة، وجعله بعقله عالَمًا كبيرًا: إذ كان قد يدرك كنه الطبائع التي هو منها كائن، ويدرك علل العقل بما فيه منه؛ فصار لذلك قادرًا على فصل ما فيه من طبائعه وجواهره وأعراضه وأجناسه وأنواعه، وفرَّق ما بينهما من المخالفات ووصل <ما> بينهما من المماثلات، واستنبط ما فيهما من لطيف رموزها وباطن أسرارها وبديع آثارها – فكان الإنسان هو الحكيم بالحقيقة والوالي بتدبير الخليقة.[10]

والعمليات التي يذكرها أفلاطون والآلات التي يصفها تنحو أساسًا نحو محاكاة الطبيعة. كما أن أنباذقليس (أمپذوقليس) وغيره من الفلاسفة القدماء كثيرًا ما يرد ذكرُهم في المقاطع من مصنفات جابر التي يسرد فيها أقوال غيره من الحكماء وآراءهم.

يتسم الشوط الثالث من هذا التطور بظهور علم الموازين. ولا يورد جابر اسم المصنِّف الذي بدأ معه هذا العلم؛ فقد يكون بَليناس[11] أو حتى جابر بالذات هو المقصود. وهذه "الموازين" عبارة عن جملة من العلاقات الرياضية تتيح حساب نسب الأسطقسات في مختلف تحولات الطبيعة؛ وهذا يتيح فهم تطورات المعادن وغيرها من الجواهر والتسلط على مجاريها باختصار أقصى ما يمكن من الوقت والجهد[12]. وبذا فإن تعليم الفلسفة لم يعدَّل، لكن بيانه توضَّح وتنفيذه تيسَّر ومنفعته عمَّت.

لكننا نجد، في أماكن أخرى، أنسابًا أكثر أسطورية: كأنْ يُنسب فنُّ الكيمياء إلى هرمس. والعديد من المؤلفين المسلمين يميزون في الواقع بين ثلاثة هرامسة (ومنه اسم "المثلث بالحكمة" Trismégistos). ويبدو أن أول هؤلاء الهرامسة عاش قبل الطوفان وأنه يتطابق مع شخصية أخنوخ التوراتية، وهو الذي علَّم البشر علوم الكتابة والمعمار والفلك والرياضيات (= علوم العالم الكبير)؛ وثاني الهرامسة جاء بعد الطوفان، وعلَّمهم الطب وصناعة الأدوية (= معرفة العالم الصغير)؛ وثالثهم استعاد العلوم السابقة وأضاف إليها ولقَّن البشر أصول علوم الغيب والكيمياء (التوافقات؛ العالم الأوسط)[13]. ولنتذكر بأن بَليناس الطُواني قد وضع، في أعقاب لقاء مع هرمس، كتابه سر الخليقة، الذي يحوي أول نص معروف لكتاب اللوح الزمردي الذي ذكره جابر أيضًا:

وقد أتى بذلك بليناس الحكيم، حيث ذكر نقش اللوح الذي في يد هرمس؛ وهو قال حقًّا يقينًا لا شك فيه: "إذا كان الأعلى من الأسفل والأسفل من الأعلى، عمل العجائب من واحد، كما كانت الأشياء كلها من واحد. وأبوه الشمس وأمه القمر، حملته الأرض في بطنها وغذته الريح في بطنها نارًا صارت أرضًا. أغذوا الأرض من اللطيف بقوة القوى، يصعد من الأرض إلى السماء، فيكون مسلطًا على الأعلى والأسفل."[14]

وهذه النسبة إلى هرمس تجيز إقامة جسر بين المنقول الإغريقي-الإسكندري والقصة المقدسة القرآنية-التوراتية. وبالفعل، يقال إن هرمس (الأول أو الثالث أو من دون تحديد) هو إدريس، الصدِّيق النبي المجهول الذي يذكره القرآن تلميحًا (سورة مريم 56-57؛ سورة الأنبياء 85) وتشي السير النبوية بأنه قد رُفع إلى السماوات حيًّا. وبذلك فإن الكيمياء تندرج في التاريخ القدسي الإسلامي؛ وهذا ما يجيز ظهور رؤية ثالثة إلى تاريخ الكيمياء تعزو تعاليم فلسفية إلى الأنبياء الكبار المذكورين في التوراة والقرآن:

وأما طائفة قد ذكرت أن هذا الأمر [علم الحجر] لم يزل يرد على الأنبياء – عليهم السلام – تفضلاً من الله – تعالى – لئلا يكون بهم حاجة إلى ما في أيدي الناس بوحي يوحي به الله – تعالى – إليهم. ونفد ما كان من ولد آدم وخلافهم وتفرُّقهم في البلاد وانقطع، فلم يظهر إلى أن ظهر موسى بن عمران – عليه السلام – وأنه كان يعمله [الحجر] من ثمانية أدوية وأن قارون سرقه منه، على ما قصصنا خبره في أثناء كتبنا هذه وفصولها […].[15]

وفي كتاب أسطقس الأس الثاني تشديد على أن الأنبياء حتى يتلقون علم الكيمياء وحيًا:

قال قوم: ليس يحتاج العلم إلى تدبير، وإن الإكسير في العالم موجود في حكمة ما خلقه الله – عز وجل –، وإن موسى وسائر مَن أومأنا إليه من الأنبياء والأئمة الصالحين ما عملوا قط شيئًا، وإنما أوحى الله – تبارك وتعالى – إليهم بعلم ذلك الحجر فقط، فعملوا منه ما يقال إنه يُعمل بالتدابير.[16]

وهناك أقوال فلسفية منسوبة إلى إبراهيم، من نحو: "إن العمل في البيضة وليست ببيضة"[17]؛ كما لعب موسى دورًا، كما يشير إلى ذلك اثنان من المقبوسات السابقة. وعيسى المسيح، "روح الله وكلمته"، مذكور هو الآخر، بوصفه القائل على سبيل المثال: "إن الأب هو روح القدس، ومنه الابن"، وكذلك: "مَن لم يكن له سيف فليشتر سيفًا"[18]. ويؤكد جابر أنه وضع تفسيرًا (كيميائيًّا) للتوراة والإنجيل والزبور والمزامير بعد قراءتها بمعونة معين[19]. مذكورون أيضًا مؤلفون أحدث، مثل زوسيموس الرومي[20] أو حتى مارية القبطية[21].

نحن، إذن، بصدد ثلاث رؤى لتاريخ الكيمياء، ذات ثلاثة أنساب مختلفة، متباينة. ولا تهم التناقضات هنا، لأن نصوصنا العربية لا تشكل كلاً متجانسًا، وإنْ كانت تشترك جميعًا في فكرة انتقال علم إلهي. إلى ذلك، فإن جابرًا يربط صراحة بين النسبَين الفلسفي والنبوي:

وإنما ذكرنا أمر الشرع في حواشي كتبنا لأن الشرع الأول إنما هو للفلاسفة فقط؛ إذ كان أكثر الفلاسفة أنبياء، كنوح وإدريس وفوثاغورس وثاليس القديم، وعلى مثل ذلك إلى الإسكندر.[22]

وهذا العلم، كما يشدد جابر، لم ينقطع منذ العصور القديمة عبر فضائل العقل[23]. ثمة إذن تطابُق بين النسبَين الفلسفي والنبوي: يتكلم جابر على سقراط بوصفه "سيد" الفلاسفة، مثلما كان جعفر "سيده" هو. فما معنى هذا كله؟ معناه أنه يوجد منذ الأصول نقل باطني للعلم؛ والمقصود عمقيًّا توضيع تصورات إسلامية على المنقول الفلسفي: النقل عبر الأئمة (الوصايا) عند الشيعة، وعبر مُسارَرة الشيخ للمريد (البيعة) التي نقع عليها لدى الصوفية. لكنْ لا بدَّ هنا من التذكير بفارق: العلم الفلسفي يتطور من حيث الإتقان منذ الأصول، أو بالأدق، يمر من حال مختصرة للغاية وباطنية إلى جهر به أكثر فأكثر انفتاحًا.

الآفاق الأخروية للكيمياء

يجيز لنا النظر في الآفاق الأخروية للكيمياء العربية، فيما أظن، أن نحيط إحاطة أفضل بعلة استحضار جميع هؤلاء المؤلفين القدماء. وهذه الآفاق ولدت بالدرجة الأولى في التيار الشيعي، على ما يبدو؛ وفيه أيضًا ظهرت للملأ على أكثر ما يكون من الوضوح. والمرجعية الرئيسة هنا لا تزال هي المصنفات المنسوبة إلى جابر بن حيان، بالإضافة إلى أعمال أخرى، كمصنفات عز الدين الجلدكي (القرن الرابع عشر). وهؤلاء المصنفون يندرجون، بخصوص الفترة التي يعاصرونها، في منظور إسلامي قطعًا:

وقالت طائفة إن العلم الذي نحن في ذكره إنما يكون للنبي فقط، وهو الأسطقس، وإن النبي يعلِّمه للوصي[24]، وهو الأس نفسه. وتنازع الناس في ذلك منازعات كثيرة لا يمكن إيراد جميعها <…> لأن كتبنا تضيق عنها، إما لطولها وإما لكثرة ما خلط الناس بها المحالات.[25]

والواقع أن غلو جابر في تشيُّعه يجعله يضع الإمام في مقام أعلى من مقام النبي، من حيث إن علم الباطن أسمى من عقائد أهل الظاهر وأحكامهم التي هي بمثابة أساسه الشرعي. وهذا العلم الفلسفي، حسب جابر، هو وقف على كبار الأئمة:

فإن كنت إنسانًا فستعلم ما فائدة ذلك، وتحرص على جمع كتبنا هذه، وتأخذ منها علم النبي وعلي وسيدي [جعفر] وما بينهم من الأولاد، منقولاً نقلاً مما كان وهو كائن وما يكون من بعدُ إلى أن تقوم الساعة.[26]

فبالفعل، لا تصادَف تعاليم في الكيمياء صريحة منسوبة إلى النبي محمد نفسه؛ وهذا لا ينطبق على الإمام علي الذي كان، حسب الشيعة، وارثه، خليفته الوصي على التعليم الباطني بالأخص:

قالت طائفة إن نبينا محمد بن عبد الله – عليه الصلاة والسلام – قد ذكر ذلك وأبان عن صحته؛ وكذلك علي بن أبي طالب – عليه السلام – بما ذكرناه في كتابنا في الإمامة، الذي هو سبع عشرة مقالة، حيث سئل وهو يخطب خطبة البيان وقد قيل له: "هل الكيمياء لها كون؟" قال: "إن لها كونًا، وقد كان وهو كائن وسيكون." فقيل له: "وما هو، يا أمير المؤمنين؟" فقال: "إن في الزئبق الرجراج والأسرب [= الرصاص] والزاج والحديد المزعفر وزنجار النحاس الأخضر لَكنوز الأرض، لا يوقَف على غابرهن." فقيل له: "يا أمير المؤمنين، لم نفهم!" فقال: "اجعل بعضه أرضًا وبعضه ماءً، فافلح الأرض بالماء، وقد تم العمل." فقيل له: "يا أمير المؤمنين، لم نفهم!" فقال: "لا زيادة على هذا، وإن الفلاسفة القدماء ما زادت لئلا يتلاعب به الناس."[27]

إن خطبة البيان[28] هذه، ذات المرمى الباطني والمنسوبة إلى الإمام علي، تتضمن مقطعًا كيميائيًّا استعاده الجلدكي وشرحه[29]. كذلك فإن جعفر الصادق، سادس الأئمة، يُنسب إليه تعليم فلسفي لا يُستهان به، كما تُنسب إليه نصوص من الواضح أنها منحولة. لكن المهم في الأمر أن جابرًا يرى فيه مسلِّكه في علم صناعته بامتياز: فقد كان ملهمها، الآمر بتأليفها ومرتِّبها، ولعله، إذا جاز القول، أملى عليه مقاطع كاملة منها[30]؛ فهو، إذ "كرَّمه [الله] بالإمامة ومنزلة النبوة والعلم بالغيوب"[31]، كان علمه "محيطًا بكل شيء"[32] ويتخطى بذلك مجرد المنقول عن أسلافه.

الكيمياء هنا مثال بليغ على العلم السرَّاني الذي يسوقه الأئمة إلى صفوة من الرجال فحسب. والباحث قد يكون مقربًا من الإمام، وقد يكون أيضًا متوحدًا. وإن شخصية اليتيم هذه هي المذكورة في رسالة صغيرة مدهشة عنوانها كتاب الماجد[33]. والعمل الكيميائي يقع عند نقطة الاتصال بين الكدح الفردي وبين التلقي الذي لا غنى عنه لتعليم سرَّاني يتم بالصحبة والمجاورة. إذ إن التلميذ يصير واحدًا مع معلمه، كما تشي بذلك مقاطع عديدة[34]؛ فالغاية، بالفعل، هي بلوغ تعليم الإمام. ولكن، ما المقصود بذلك في العمق؟ وكيف يمكن للعمل الكيميائي أن يلتحق بالتحقق الروحي حسب التشيع؟ الإمام هو الإنسان الكامل؛ واكتساب علم الإمام ليس استيعاب علم بعينه وحسب، بل هو فهم سر الفطرة الإنسانية أيضًا؛ وسر الفطرة الإنسانية هو سر الكون. وإننا لنجد في اللب من الفلسفة (= الكيمياء) الإسلامية فكرة الإنسان بوصفه عالَمًا صغيرًا، انعكاسًا، مختصَرًا للعالم الكبير وحافزًا له؛ ونجد، كذلك، فكرة صنعة الكيمياء بوصفها العالم الأوسط. وهناك مقاطع عدة من المصنفات الجابرية تشي بأن اكتشاف سر الحجر، "إكسير الأكاسير كلها وخميرة الخمائر"، إنما هو رؤية الإمام بالذات عيانًا[35].

غلاف كتاب پيار لوري "الكيمياء والعرفان في أرض الإسلام" مترجمًا إلى الفارسية.

إن تسلسل التاريخ القدسي يوافق تطور هذه المعرفة. لقد كان الفلاسفة في العصور القديمة قد علَّموا هذا السر بطريقتهم؛ لكن العهد الإسلامي هو آخر عهود التاريخ البشري وتمامها، وسيكون العهد الذي تؤول فيه جميع الأسرار إلى الانكشاف – وهذا الكشف هو سمة هذا التمام نفسها؛ وبهذا المعنى، فإن الفلسفة عامل فعال من عوامل تاريخ الإنسانية. فمن هذا المنظور يجب فهم هذه الرؤيا التكليفية التي رواها جابر في مصنفه كتاب الرحمة الصغير:

ثم إني نمت ليلتي تلك، فرأيت في نومي كأني قائم وسط بساتين ورياض وأزهار وأنهار، وأنا أمد يدي إلى تلك الفواكه وأقطف منها وأطعم جماعة حولي؛ وعن يميني نهر من عسل ممزوج بلبن، وعن يساري نهر من خمر، وقائل ينادي في سري: "يا جابر، نادِ أصحابك إلى هذا النهر الذي عن يمينك ليشربوا منه، وامنعْهم من هذا الذي عن يسارك وحرِّمْ عليهم شربَه." فقلت له: "مَن المخاطِب لي؟" فقال: "نور قلبك الصافي المضيء." فانتبهت لوقتي وفكري يجول في وضع الكتاب. فلما أصبحت، مضيت إلى سيدي [جعفر] وأنا مسرور بالمنام، وأعلمته بذلك. فقال: "احمد الله واشكرْه الذي نوَّر قلبك وندبك إلى الخير. اخرجْ من عندي في ساعتك هذه، واقصدْ ما نُدبت إليه، واستعنْ بالله في ذلك."[36]

ولنذكِّر أيضًا بأن المصنفات الجابرية يتخللها مذهب في التناسخ[37]: فمن دور إلى آخر، يترقى العارفون إلى منازل أعلى فأعلى في العرفان. إذ إن هناك مراتب باطنية من النفوس السماوية، مؤلفة من خمس وخمسين من "الأشخاص" أو "الأعلام" الذين تجتمع فيهم علوم الذات الواحدة، التي هي ذات الإمام[38]. والعارف مدعو إلى الارتقاء من منزلة إلى المنزلة التي فوقها، فيما هو يحتفظ بصورة إنسانية أرضية، حتى يبلغ مقام الإمام. فما هو الثقل، "الكدر" الذي يحط من صورة الإنسان الأولى التي رسبت في "المزاج"، وما هي "الرحمة" التي ترتفع به؟ الكدر هو الجهل (بفطرته الحق)، والرحمة هي العرفان. والحكمة عرفان منجٍّ، يخلِّص العارف من كدره ويصفو به؛ وهي، بهذا المعنى، "أخت النبوة"، على ما جاء في خطبة البيان. العارف يصير ما يعرف؛ والحكمة تعينه على معرفة سر الإمام، سر الفطرة الإنسانية. وهذا يجب الربط بينه وبين التأكيد المركزي للتشيع الجابري: الإمام هو المخلص؛ فمَن عرف الإمام حق معرفته لم يعد محتاجًا إلى تكرير وكف عن التناسخ[39]. وحين تبلغ جميع النفوس المصطفاة غايتها وتقترب من مرتبة الإمام القائم يكتمل التاريخ وتقوم الساعة[40].

فكيف نضع ذلك في سياق تاريخ الأحداث؟ لا ننسَ أن تأريخ المصنفات الجابرية إجمالاً سابق لتاريخ وضعها الحقيقي؛ فأغلب الظن أنها دُوِّنت في معظمها في القرنين التاسع والعاشر. ففي ذلك العصر، تكاثرت التيارات الشيعية الألفية[41] التي لم يكن الإسماعيليون القرامطة والفاطميون إلا أشهرها من جراء نجاحهم السياسي والعسكري وتأسيسهم لدول قوية مرهوبة الجانب. وكان انتظار ظهور الإمام شديدًا، بحيث كان على القادة الشيعة أن يجدوا مسوغات لتعليل تأخُّره: من ذلك التعديلات الحاصلة على الإمامية عند الإسماعيليين الفاطميين، ومنه إعلان الغيبة الكبرى عند الشيعة الاثني عشرية. وبوسعنا أن نعتبر أن تدوين المصنفات الجابرية يوافق بحدِّ ذاته محاولة لتبرير هذا التأخير: سيحين قيام الساعة عندما يُكشَف عن غوامض أسرار العلوم الفلسفية وتذاع إلى أهلها – وبوجيز القول، حين يُعرَف عمل جابر ويُعترَف به[42].

هذه اللحظة الرؤيوية النشورية هي المذكورة في رسالة موجزة بعنوان كتاب البيان[43]: ففيه يبين جابر التماثل بين دور اللغة (البيان) – حيث الصورة البيانية تنقل من القول إلى المعنى، من المحسوس إلى المعقول – وبين دور الظواهر الأرضية التي تدرسها الفلسفة (= الكيمياء) والتي تكشف عن معنى التاريخ بالذات. فما هو معنى التاريخ؟ إنه اكتمال الحضور المحوِّل لشخص الإمام عند الكل، هذا الإمام الذي ليس غير حجر الفلاسفة. وتُختتم الرسالة بالنبوءة التالية:

وهذا الشخص، يا أخي، لن يظهر إلا في القرانات المقتضية للانتقالات. إذا هُجرت العلوم وفسدت الأديان وعمَّ الفساد، فإنه يظهر إصلاح بأسره، فيكون أول إصلاح يبدو منه فيه تصنيف الكتب في العلوم الباطنة المهجورة وإيضاح براهينها. ثم يقوم بعد ذلك بالسيف، فيصلح به مَن لا يصلح بالعلوم من النفوس المحتاجة إلى التكرير في غير أشخاص العظَمة، لأن هذه النفوس تجري مجرى الجرب المعدي لفساده ومجرى الخبيثة في الأعضاء وأشباه ذلك. ولهذا الشخص الكريم أعِدَّت الدفائنُ والكنوزُ القديمة، ويظهر فيما يلينا في قران القوس – فاعلم ذلك.[44]

اختصارًا لكل ما سبق، إلامَ يتقاطر دفق التاريخ الإنساني؟ المصنفات الجابرية، على ما نرى، لا تعلن وقوع مبشرات أخروية من نمط سياسي بحت. هناك إيضاح لذلك وارد في مقطع من كتاب إخراج ما في القوة إلى الفعل:

وإذ قد أتينا على ذلك فلنقل: اعتقاد الصنعويين في الصنعة أنهم يعتقدون أن العالم إنسان كبير، والصنعة إنسان أوسط، والإنسان [الأرضي] إنسان صغير […] وأنه إنما صار إنسانًا كبيرًا باقيًا لهذه العلة، يُحسن معرفتَه بالسياسة ويُظهر التدبيرَ في البقاء؛ فكان إنسانًا كبيرًا لا نهاية له، كما ترى الأشياء تنشأ ضعيفة أولاً، ثم تقوى مرتبةً مرتبةً على ذلك، إلى أن تنتهي إلى آخرها حتى تكون لها غاية.[45]

التاريخ، حسب الفلسفة (= الكيمياء) العربية، ليس إذن إلا ذاك: إنه الزمان الضروري للبشر قاطبة حتى يتمكنوا، تدريجيًّا، من الصيرورة إنسانًا كاملاً. وبهذا المعنى، حين يلتقي اليتيم الإمامَ ويتماثل معه فهو يحقق معنى التاريخ. فكما كتب هنري كوربان:

إن معنى صنعة الكيمياء بالذات هو استيلاد الجسد الممجد Corpus Glorificationis، هذا الكائن الجديد الذي تشير إليه مئات الأسماء والصور المختلفة. وهذا العمل لا ينفصل عن المواد المحسوسة التي يعالجها […]؛ فالكيمياء شكل من أشكال الكدح يلقي بقصده في الأجسام الطبيعية، وذلك لاستبطانه عندئذ وإذابة جسد القيامة الصوفي، الخالي من كل خَبَث، وقولبته في الآن نفسه في باطن المريد.[46]

المترجم عن الفرنسية: ديمتري أڤييرينوس

المراجع العربية

جابر بن حيان، تدبير الإكسير الأعظم: 14 رسالة في صنعة الكيمياء، بتحقيق وتقديم پيير لوري، طب 2 (مع مقدمة خاصة)، دار ومكتبة بيبليون، جبيل، 2009.

جابر بن حيان، مجموعة مصنفات في الخيمياء والإكسير الأعظم (رسائل مهمة في العلوم الكيمياوية والصنعية لجابر بن حيان وغيره من الحكماء والفلاسفة، بإشراف م. برطلو وتحقيق أ. هوداس، صورة عن طبعة 1893 + مصنفات في علم الكيمياء للحكيم جابر بن حيان الصوفي، بتحقيق إ.ي. هولميارد، صورة عن طبعة 1928)، بدراسة وتقديم پيير لوري، طب 2، دار ومكتبة بيبليون، جبيل، 2008.

جابر بن حيان، مجموعة من رسائل جابر بن حيان (مختار رسائل جابر بن حيان، باختيار وتحقيق پول كراوس، صورة عن طبعة 1935)، بتقديم عبد الرحمن بدوي، طب 2، دار بيبليون، باريس، 2009.

المراجع الأجنبية

– CORBIN, Henry (1986), L’alchimie comme art hiératique, Paris, L’Herne.

– KRAUS, Paul (1942), Jābir ibn Hayyān – Contribution à l’histoire des idées scientifiques dans l’Islam – Jābir et la science grecque, Le Caire, IFAO ; rééd. Paris, Les Belles Lettres, 1986.

– KRAUS, Paul (1943), Le Corpus des écrits jābiriens, Le Caire, IFAO.

– LORY, Pierre (1989), Alchimie et mystique en terre d’Islam, Lagrasse, Verdier.

– LORY, Pierre (2000), « Eschatologie alchimique chez Jābir ibn Hayyān », dans Mahdisme et millénarisme en Islam, REMMM, Aix-en-Provence.

– PLESSNER, Martin (1990), article « Hirmis » dans l’Encyclopédie de l’Islam, t. III, Leiden, E.J. Brill.

– VERENO, Ingolf (1992), Studien zum ältesten alchemistischen SchrifttumAuf der Grundlage zweier erstmals edierter arabischer Hermetica, Berlin, Klaus Schwarz Verlag.


* دكتور في الدراسات العربية والإسلامية، اختصاصي في التصوف. مدير دراسات في "المدرسة التطبيقية للدراسات العليا"، القسم الخامس (علوم الدين). نشر مؤلفات ومقالات عديدة في التفسير الصوفي للقرآن ولصنعة الكيمياء ولعلم الحروف وفي تعبير الرؤيا في التراث الإسلامي. يشغل حاليًّا منصب المدير العلمي للمعهد الفرنسي للشرق الأدنى (دمشق).

[1] راجع: إ. ڤيرينو، دراسات لأقدم النصوص الكيميائية على أساس رسائل هرمسية عربية محققة للمرة الأولى (بالعربية والألمانية)، برلين، 1992.

[2] راجع: پ. كراوس، ترتيب مصنفات جابر، القاهرة، 1943، ص 57-65 من المقدمة الفرنسية.

[3] هل هو الإله آرس/مارس، "سيد المعادن"؟ راجع: پ. كراوس، جابر بن حيان، مساهمة في تاريخ الأفكار العلمية في الإسلام: جابر والعلم اليوناني (بالفرنسية)، القاهرة، 1942، ص 54-55؛ كتاب السبعين، في مجموعة من رسائل جابر بن حيان، ص 257.

[4] راجع: كراوس، جابر والعلم اليوناني، ص 56-57؛ كتاب السبعين، المصدر نفسه، ص 257.

[5] فوثاغورس أو فيثاغورس، كما يرد اسمه في رسائل جابر. (المحرِّر)

[6] كتاب التجميع، في مجموعة من رسائل…، ص 538.

[7] "التكوين"، كما يسميه جابر، علم يجيز بالصناعة محاكاة "موازين" الطبيعة في تكوينها الكائنات، ولاسيما من النبات أو الحيوان. (المحرِّر)

[8] راجع: كراوس، المصدر السابق نفسه، ص 56؛ كتاب السبعين، المصدر السابق نفسه، ص 257-258.

[9] هو أغاثوذَيمون (ت حوالى 300 م): فيلسوف يوناني عاش في مصر الرومانية المتأخرة؛ يستند أكثر ما وصلنا عنه من معلومات إلى مقاطع من رسائل في الكيمياء من العصر الوسيط، أهمها كتاب أنپيغرافوس Anepigraphos الذي يذكر مصنفات تُنسب إليه وتعود إلى القرن الثالث. معروف أساسًا بوصفه للعناصر والمعادن، وبالأخص وصفه للتحصُّل على الفضة وعلى مركَّب أطلق عليه اسم "السم الناري"، لعله ثالث أكسيد الزرنيخ. (المحرِّر)

[10] كتاب أسطقس الأس الأول، في مجموعة مصنفات في الخيمياء والإكسير الأعظم، ص 350-351.

[11] هو أپولونيوس التياني (ت حوالى 97 م)، المعروف ببَليناس (أو بَلَنْياس) الطُواني في التراث الفلسفي العربي: فيلسوف يوناني على المذهب الفيثاغورثي المُحدَث. (المحرِّر)

[12] راجع مثلاً: كتاب الموازين الصغير، في مجموعة مصنفات…، ص 187-213؛ نخب من كتاب الميزان الصغير، في مجموعة من رسائل…، ص 167-201.

[13] راجع: م. پلسنر، مادة "هرمس" في الموسوعة الإسلامية.

[14] كتاب أسطقس الأس الثاني، في مجموعة مصنفات…، ص 378.

[15] كتاب أسطقس الأس الثاني، المصدر نفسه، ص 374.

[16] المصدر نفسه، ص 379؛ راجع أيضًا ص 376-377.

[17] المصدر نفسه، ص 378.

[18] كتاب الحجر، في مجموعة مصنفات…، ص 308؛ كتاب أسطقس الأس الثاني، المصدر نفسه، ص 378. [قارن أيضًا: إنجيل يوحنا 14: 26؛ إنجيل لوقا 22: 36. (المحرِّر)]

[19] كتاب الموازين الصغير، المصدر السابق نفسه، ص 197-198.

[20] هو زوسيموس الپانوپولسي (ت حوالى 250 م): فيلسوف يوناني مصري المولد، ذهب إلى أن جميع الجواهر مؤلفة من عناصر الطبيعة الأربعة: النار والماء والهواء والتراب. جمع علوم الـخيميا khêmia، كما كانت تُسمى في عصره، في موسوعة من 28 مجلدًا، ويعود إليه الفضلُ في معرفتنا بالكيمياء المصرية-اليونانية. لكن معظم هذه المعرفة دمِّر على أيدي الإمبراطور ديوقلتيانُس والمسيحيين الذين أحرقوا مكتبة الإسكندرية في العام 391. (المحرِّر)

[21] راجع مثلاً: كتاب الحبيب، في مجموعة مصنفات…، ص 140؛ كتاب الحجر، المصدر السابق نفسه، ص 306؛ كتاب أسطقس الأس الثاني، المصدر السابق نفسه، ص 379. ولنتذكر بخصوص مارية، التي كثيرًا ما تنطق عن المبدأ المؤنث، أنها سَمية سرية النبي محمد التي وحدها ولدت له ابنًا ذكرًا: إبراهيم.

[22] كتاب البحث، في مجموعة من رسائل…، ص 210-211.

[23] راجع: كتاب الموازين الصغير، المصدر السابق نفسه، ص 188.

[24] هو الإمام، المكلف تعليم الباطن بعد النبي.

[25] كتاب أسطقس الأس الثاني، المصدر السابق نفسه، ص 370.

[26] كتاب الخواص الكبير، في مجموعة من رسائل…، ص 361.

[27] كتاب أسطقس الأس الثاني، المصدر السابق نفسه، ص 377-378؛ راجع أيضًا: كتاب الحجر، المصدر السابق نفسه، ص 310.

[28] راجع نصها، مثلاً، في: الإنسان الكامل في الإسلام، دراسات ونصوص غير منشورة ألف بينها وترجمها وحققها عبد الرحمن بدوي، طب 2: الكويت، 1976، ص 139-143. (المحرِّر)

[29] راجع: هـ. كوربان، الكيمياء علمًا قدسيًّا، باريس، 1986، الجزء الأول.

[30] راجع: كتاب الماجد، في مجموعة من رسائل…، ص 20؛ كتاب الراهب، في مجموعة من رسائل…، ص 49.

[31] كتاب المنفعة، في تدبير الإكسير الأعظم، ص 177.

[32] كتاب الراهب، المصدر السابق نفسه، ص 50.

[33] راجعه في: مجموعة من رسائل…، ص 20-30؛ راجع أيضًا: كوربان، المصدر السابق نفسه، ج 3؛ پ. لوري، الكيمياء والتصوف في أرض الإسلام (بالفرنسية)، لاگراس، 1989، ص 82 وما بعدها.

[34] راجع: لوري، المصدر نفسه، ص 78-82.

[35] راجع: كتاب الملك، في مجموعة مصنفات…، ص 174، 176-177؛ لوري، المصدر نفسه، ص 60 وما بعدها.

[36] كتاب الرحمة الصغير، في مجموعة مصنفات…، ص 438-439.

[37] راجع: لوري، المصدر السابق نفسه، ص 63 وما بعدها.

[38] راجع: كتاب الخمسين، في مجموعة من رسائل…، ص 229-230.

[39] راجع: كتاب البيان، في مجموعة مصنفات…، ص 299.

[40] راجع: كتاب الاشتمال، في مجموعة من رسائل…، ص 479.

[41] من المذهب الألفي: جملة المعتقدات بحلول ملكوت أرضي أخروي يحكمه مخلِّص مع أصفيائه، فـ"يملأ الأرض عدلاً بعد أن مُلئت جورًا"، ويُعتقد بأنه سوف يدوم ألف عام. (المحرِّر)

[42] راجع: لوري، المصدر السابق نفسه، ص 105، 109؛ كتاب الموازين الصغير، المصدر السابق نفسه، ص 207.

[43] راجع: كتاب البيان، المصدر السابق نفسه، ص 293-300.

[44] كتاب البيان، المصدر نفسه، ص 300؛ راجع شرحه في پ. لوري، "الأخرويات الكيميائية عند جابر بن حيان" (مقال بالفرنسية)، 2000.

[45] كتاب إخراج ما في القوة إلى الفعل، في مجموعة من رسائل…، ص 142-143؛ راجع أيضًا: لوري، الكيمياء والتصوف في أرض الإسلام، ص 111.

[46] كوربان، المصدر السابق نفسه، ص 151.

الطاوية والكونفوشية – رونيه گينون

الطاوية والكونفوشية*

رونيه گينون**

لم تُبْدِ الشعوب القديمة، في غالبيتها، أي اهتمام البتة بالتأريخ لأحداث ماضيها تأريخًا دقيقًا؛ وبعضها حتى لم يستعمل، للدلالة على العصور السحيقة القِدَم على الأقل، غير أعداد رمزية، لا يجوز أخذُها على محمل التواريخ بالمعنى العادي والحرفي للكلمة من غير ارتكاب غلط فادح. أما الصينيون فهُم، من هذا القبيل، استثناء لافت للنظر إلى حدٍّ ما: فلعلهم وحدهم الشعب الذي أوْلى التأريخ لحولياته عنايةً دائمةً منذ أصل منقوله نفسه، وذلك بواسطة أرصاد فلكية دقيقة تتضمن وصفًا لحالة السماء لحظة وقوع الأحداث التي احتفظ بذكراها. في الإمكان إذن الجزمُ فيما يخص الصين وتاريخها القديم أكثر مما يمكن في العديد من الحالات الأخرى؛ وبذا نعلم أن أصل المنقول tradition هذا الذي تصح تسميته "صينيًّا" حصرًا يعود إلى حوالى 3700 سنة قبل العصر المسيحي. وتلك الفترة نفسها، بمصادفة طريفة إلى حدٍّ ما، تتطابق أيضًا مع بداية العصر العبراني، وإنْ يكن من الصعب، فيما يخص هذا الأخير، تعيين الحدث الذي يتطابق في الواقع مع نقطة الانطلاق هذه.

إن أصلاً كهذا، مهما بدا قصيًّا حين يقارَن بأصل الحضارة الإغريقية-الرومانية وبتواريخ العصر القديم الموسوم بـ"الكلاسيكي"، هو مع ذلك – والحق يقال – أصل حديث بعدُ إلى حدٍّ ما. فماذا كانت عليه، قبل تلك الفترة، حال العرق الأصفر الذي كان يقطن آنذاك على الأرجح بعض مناطق آسية الوسطى؟ من المحال تدقيق ذلك في غياب معطيات صريحة بما يكفي؛ لكنْ يبدو أن هذا العرق قد مرَّ بطور من أطوار الخمول ذي مدة غير معينة وأنه انتُشِل من هذه الغفوة في لحظة اتسمت أيضًا بتغيرات هامة لدى أجزاء أخرى من البشرية. قد يكون إذن – ولعل هذا هو الأمر الوحيد الثابت ثبوتًا واضحًا إلى حدٍّ ما – أن ما يبدو وكأنه "بداية" لم يكن حقًّا غير استيقاظ لمنقول أسبق بكثير، لا بدَّ أنه جُعِلَ آنذاك يتخذ شكلاً آخر، وذلك لكي يتكيف مع شروط جديدة. مهما يكن من أمر، فإن تاريخ الصين، أو ما بات اليوم يسمَّى الصين، لا يبدأ بالضبط إلا مع فو-هي الذي يُعَد أول أباطرتها؛ وهنا لا بدَّ على الفور من إضافة أن اسم "فو-هي" هذا، الذي ترتبط به جملة المعارف التي تكوِّن عماد المنقول الصيني بالذات، يفيد في الواقع إشارةً إلى فترة بكاملها تنبسط على عدة قرون.

رسم للإمبراطور الأسطوري فو-هي يخط مثلثات الخطوط

استعمل فو-هي لتثبيت مبادئ المنقول رمزين خطِّيين من أبسط ما يمكن ومن أكثر ما يمكن اختصارًا في آن معًا: الخط المتصل والخط المنقطع، العلامتين الدالتين على الـيَنگ yang والـين yin على التوالي، أي على المبدأين الفاعل والمنفعل اللذين، بانبثاقهما من نوع من استقطاب الوحدة الميتافيزيقية العليا، يولِّدان التجلي الكلي manifestation universelle بأسره. ومن توليفات هاتين العلامتين الاثنتين، في كل الترتيبات الممكنة بينهما، تتشكل الـكوا koua أو "مثلثات الخطوط" trigrammes الثمانية التي مافتئت الرموز الأساسية للمنقول الشرقي الأقصى.

yin-yang

يقال إن فو-هي،

[…] قبل أن يخط مثلثات الخطوط، نظر إلى السماء، ثم خفض ناظريه نحو الأرض، فرصد خصائصها، وأمعن النظر في خواص الجسم البشري وسائر الأشياء الخارجية.[1]

هذا النص مثير للاهتمام بصفة خاصة، من حيث إنه يحوي التعبير القطعي عن الثالوث الأكبر: السماء والأرض، أو المبدأين المتكاملين اللذين تنتج منهما الكائنات كلها، والإنسان الذي، في تطبُّعه بكليهما من حيث طبيعتُه، هو الحد الأوسط للثالوث، الوسيط بين السماء والأرض. ويجدر التدقيق بأن المقصود هنا هو "الإنسان الحق" [تشِنْ-جِنْ tchen-jen]، أي الإنسان الذي، ببلوغه التحقُّق بملء مَلكاته العليا،

[…] يستطيع أن يعين السماء والأرض على رعاية الكائنات وتحويلها، فيكون بذلك حصرًا سلطانًا ثالثًا مع السماء والأرض.[2]

ويقال أيضًا إن فو-هي أبصر تنينًا يخرج من النهر، جامعًا في ذاته قدرات السماء والأرض وحاملاً مثلثات الخطوط على ظهره، – وليس هذا غير طريقة للتعبير رمزيًّا عن الأمر نفسه.

التوليفات الثمانية بين مثلثات الخطوط

بذا فإن المنقول في جملته كان متضمَّنًا من حيث ماهيته، كما لو كالبذرة، في مثلثات الخطوط، وهي رموز بديعة القدرة على أن تفيد حاملاً لممكنات غير محدودة: فلم يبقَ إلا استنباط كل الاشتقاقات الضرورية منها، إنْ في مجال المعرفة الميتافيزيقية الخالصة وإنْ في مجال مختلف تطبيقاتها على النظامين الكوني والبشري. ولهذا الغرض، وضع فو-هي ثلاثة كتب لم يصلنا منها إلا آخرها الموسوم بـيي-كِنگ Yi-king أو "سِفْر التحولات"؛ ونص هذا الكتاب من الاختصار المكثف أيضًا بحيث يمكن فهمُه وفقًا لمعانٍ عديدة، هي إلى ذلك متوافقة فيما بينها كل التوافق، بحسب ما إذا كان يُقتصَر على المبادئ حصرًا أو كان يراد تطبيقُها على هذا النظام بعينه أو ذاك. بذا هناك، فضلاً عن المعنى الميتافيزيقي، العديد من التطبيقات العَرَضية contingentes، المتفاوتة من حيث الأهمية، تكوِّن عددًا مساويًا من العلوم النقلية: تطبيق منطقي، تطبيق رياضي، تطبيق فلكي، تطبيق فسيولوجي، تطبيق اجتماعي، وهلم جرا؛ حتى إن هناك تطبيقًا تكهُّنيًّا، يُعَدُّ إلى ذلك واحدًا من أدنى تلك التطبيقات جميعًا وتُترَك مزاولتُه للمشعوذين الجوالين. إذ إن تلك، على كل حال، خاصية تشترك فيها جميع العقائد النقلية، ألا وهي أنها تتضمن أصلاً إمكانات جميع التشعبات القابلة للتصور، بما فيها طائفة غير محدودة من العلوم التي ليس لدى الغرب الحديث أدنى فكرة عنها، كما وجميع التكيُّفات التي قد يتفق للظروف اللاحقة أن تقتضيها. لذا لا داعي للعجب من أن التعاليم المستودَعة في الـيي-كِنگ، تلك التي صرح فو-هي نفسه أنه استمدها من ماض قديم جدًّا ويصعب تعيينُه جدًّا، قد صارت بدورها الأساس المشترك للمذهبين اللذين استمر المنقول الصيني من خلالهما حتى أيامنا هذه واللذان، مع ذلك، بسبب من اختلاف المجال الذي يعود إليه كل منهما اختلافًا تامًّا، قد يبدوان للوهلة الأولى وكأن ليست بينهما أية نقطة تماس – ألا وهما الطاوية والكونفوشية.

لوحة رمزية على هيئة جبل تمثل لمختلف المعارف التي نقلها فو-هي إلى الشعب الصيني، بدءًا من المبادئ الميتافيزيقية العليا، نزولاً حتى تطبيقاتها على سائر المجالات العرضية

ما هي الظروف التي اقتضت، بعد انقضاء حوالى ثلاثة آلاف سنة، ضرورة إعادة تكييف réadaptation العقيدة النقلية، أي ضرورة تغيير لا يتناول المضمون، الذي يبقى بدقة تامة هو هو دومًا، بل يتناول الأشكال التي "تتجسد" فيها هذه العقيدة إذا صح التعبير؟ تلكم أيضًا نقطة أغلب الظن أنه يصعب إيضاحها تمامًا لأن هذا الأمور، سواء في الصين أو في أي مكان آخر، من الأمور التي لا تترك أثرًا البتة في التاريخ المكتوب، حيث تكون النتائج الخارجية أظهر بكثير من الأسباب العميقة. ما يبدو مؤكدًا، على كل حال، أن العقيدة، كما صيغت أصلاً في عصر فو-هي، لم تعد آنذاك مفهومة على الإجمال في أكثر ما فيها جوهرية؛ وأغلب الظن أن التطبيقات التي اشتُقت منها قبلئذ، وبالأخص من وجهة النظر الاجتماعية، لم تعد توافق شروط حياة العرق التي يبدو أنها في أثناء ذلك قد تبدلت تبدلاً محسوسًا للغاية.

كان ذلك في القرن السادس قبل العصر المسيحي؛ ومن الجدير بالملاحظة أنه في ذلك القرن وقعت تغيرات لا يُستهان بها لدى غالبية الشعوب، بحيث يبدو أن ما جرى في الصين آنذاك مرتبط لا محالة بسبب ما، لعل من الصعب تحديده، لكن مفعوله أثَّر في الإنسانية الأرضية جمعاء. لكن الغريب في بابه هو أن هذا القرن السادس يمكن له أن يُعَدَّ، على نحو شديد العمومية، بداية العصور "التاريخية" بحصر المعنى: فحين يراد العودة بالتاريخ إلى ما قبله يصير من المحال وضع تسلسل تأريخي تقريبي حتى، اللهم إلا في بضع حالات استثنائية، كحالة الصين بالدقة؛ أما اعتبارًا من ذلك العهد، على العكس، فتصير تواريخ الأحداث معلومة في كل مكان بدقة كبيرة إلى حدٍّ ما – وقطعًا ثمة هاهنا ما يستحق شيئًا من التفكر. فالتغيرات التي وقعت آنذاك أبدت إلى ذلك خصائص مختلفة بحسب البلدان: فالهند، على سبيل المثال، شهدت ولادة البوذية، أي تمردًا على الذهنية النقلية، ذهب حتى نفي كل سلطة، بل حتى نفي حقيقي للرئاسة anarchie في النظام العقلي وفي النظام الاجتماعي[3]؛ أما في الصين، في المقابل، فقد تكوَّن في آن معًا، متقيدَين بخطِّ المنقول حصرًا، الشكلان المذهبيان الجديدان اللذان يُطلَق عليهما اسما الطاوية والكونفوشية.

بذا كان مؤسِّسا هذين المذهبين، لاو-تسُه وكُنگ-تسُه (الذي سمَّاه الغربيون كونفوشيوس)، متعاصرين؛ ويخبرنا التاريخ بأنهما التقيا ذات يوم. سأل لاو-تسُه صاحبه: "هل اكتشفت الـطاو؟" فأجابه كُنگ-تسُه: "بحثت عنه عشرين وسبع سنين ولم أجده." وعليه، اكتفى لاو-تسُه بإعطاء محدِّثه هذه النصائح القليلة التالية:

الحكيم يحب خمول الذِّكر، فلا يفصح عن ذاته لأيٍّ كان. إنه يدرس الأوقات والظروف؛ فإذا كانت اللحظة مواتية تكلَّم، وإلا سكت. مَن بحوزته كنزٌ لا يُره لجميع الناس؛ بذا فإن الحكيم حقًّا لا يكشف عن الحكمة للجمهور. هذا كل ما عندي لأقوله لك، فاستفدْ منه.

ولدى عودة كُنگ-تسُه من هذه المقابلة قال:

لقد رأيت لاو-تسُه؛ إنه أشبه بالتنين. أما التنين فلا أدري كيف يمكن للرياح والسحب أن تحمله فيعرج حتى أعالي السماء!

تحدِّد هذه النكتة التي رواها المؤرخ سِّهْ-مَتْسْين تحديدًا كاملاً موقع كلٍّ من المذهبين – والأصح منه قولنا: شعبتَي العقيدة الواحدة – اللذين اتفق للمنقول الشرقي الأقصى أن ينقسم إليهما: فالمذهب الأول تضمَّن أساسًا الميتافيزيقا الخالصة، التي التحقت بها سائر العلوم النقلية ذات المرمى النظري العقلي spéculative (أو "المعرفي" cognitive بالأدق)، بينما انحصر الثاني في المجال العملي، مختصًّا حصرًا بميدان التطبيقات الاجتماعية. لقد اعترف كُنگ-تسُه نفسه بأنه ليس "خليقًا بالمعرفة" البتة، أي بأنه لم يبلغ المعرفة المثلى، معرفة النظام الميتافيزيقي وما فوق العقلاني supra-rationnel؛ لقد كان مطَّلعًا على الرموز النقلية، لكنه لم ينفذ إلى معناها الأعمق. لذا كان لا بدَّ لعمله من أن يقتصر بالضرورة على مجال خاص وعَرَضي كان وحده من صلاحيته، لكنه كان على الأقل حريصًا كل الحرص على عدم إنكار ما يتخطاه. لكن التابعين وتابعي التابعين من مريديه لم يحذوا حذوه في موقفه هذا دومًا، حتى إن بعضهم، وقد وُصموا بعيب شديد الشيوع بين "أهل الاختصاص" من كل صنف، اتصفوا أحيانًا باستبداد بالرأي ضيق جلب عليهم، من جانب الشارحين الطاويين الكبار من القرن الرابع قبل الميلاد، مثل لِيه-تسُه وبالأخص تشوانگ-تسُه، بعض الردود اللاذعة السخرية. لكن النقاشات والخصومات التي وقعت من جراء ذلك في بعض الفترات يجب مع ذلك ألا تدعو إلى اعتبار الطاوية والكونفوشية بوصفهما مدرستين متزاحمتين، وهما لم تكونا قط ولا يمكن لهما أن تكونا كذلك، بما أن لكلٍّ منهما مجالها الخاص الذي تفرَّدت به تفردًا بينًا. فما ثَمَّ في تواجدهما معًا غير شيء سويٍّ ونظامي تمامًا، وتمايزُهما، من بعض الوجوه، يقابل إلى حدٍّ ما بالضبط، في حضارات أخرى، تمايُز السلطة الروحية والسلطان الزمني.

كنگ-تسه

سبق لنا أن قلنا، إلى ذلك، بأن للمذهبين جذرًا مشتركًا هو المنقول الأسبق؛ إذ إن كُنگ-تسُه، شأنه في ذلك شأن لاو-تسُه سواء بسواء، لم يكن في نيَّته قط أن يعرض لنظريات ليست غير نظرياته الخاصة، نظريات تؤول بذلك إلى التجرد من كل مرجعية ومن كل مرمى حقيقي. فقد كان من عادة كُنگ-تسُه أن يقول: "إنْ أنا إلا رجل أحبَّ الأقدمين وبذل قصارى جهده لاكتساب معارفهم"[4] – وهذا الموقف، الذي يعاكس موقف المذهب الفردي لأهل الغرب المُحدَثين وادعائهم "الابتداع" بأي ثمن، هو وحده الموقف الذي يتوافق مع تكوين حضارة نقلية. إن كلمة "إعادة تكييف" التي سبق لنا أن استعملناها هي فعلاً الكلمة المناسبة هنا إذن؛ والمؤسسات الاجتماعية التي نتجت من ذلك تتحلى باستقرار ملحوظ، بما أنها استمرت منذ خمسة وعشرين قرنًا ونجت من كل فترات القلقلة التي مرت بها الصين حتى يوم الناس هذا. ليس في نيتنا أن نتوسع في شرح هذه المؤسسات التي هي، إلى ذلك، معروفة نوعًا ما في خطوطها العريضة؛ لذا سنكتفي بالتذكير بأن سِمَتها الجوهرية أنها تتخذ الأسرة أساسًا، وتتوسع منها لتشمل العرق، الذي هو مجموع الأسَر المنتسبة إلى الذرية الأصلية نفسها. فمن الخواص التي تتفرد بها الحضارة الصينية أنها تقوم بالفعل على فكرة العرق وعلى التضامن الذي يجمع أفراده فيما بينهم، في حين أن الحضارات الأخرى، التي تضم عمومًا بشرًا ينتمون إلى عروق مختلفة أو غير محددة تحديدًا واضحًا، تقوم على مبادئ موحِّدة مختلفة تمامًا عن مبدأ العرق الصيني ذاك.

حين يجري الكلام على الصين ومذاهبها بين أهل الغرب فإن الكونفوشية هي غالبًا ما يخطر بالبال بصورة تكاد أن تكون حصرية، الأمر الذي لا يعني، إلى ذلك، أنها تؤوَّل دومًا تأويلاً صحيحًا؛ إذ يُجعَل منها أحيانًا، على حدِّ زعمهم، نوعًا من "المذهب الوضعي" positivisme الشرقي، بينما هي في الواقع أبعد ما تكون عن ذلك، أولاً بسبب خاصيتها النقلية traditionnel، ولأنها أيضًا، كما قلنا، تطبيق من تطبيقات مبادئ عليا، في حين أن الوضعية تنطوي بالعكس على إنكار مثل هذه المبادئ. أما الطاوية فيُسكَت عنها عمومًا، حتى ليبدو أن الكثيرين يجهلون وجودها، أو على الأقل يحسبون أنها اختفت منذ أمد طويل وأنها لم تعد تحظى إلا بأهمية تاريخية أو آثارية وحسب؛ وسوف نرى فيما يلي أسباب هذا الغلط.

لم يكتب لاو-تسُه إلا رسالة واحدة فقط، هي إلى ذلك شديدة الاختصار: الـطاو-ته-كِنگ Tao-te-king أو "كتاب الطريق والاستقامة"؛ والنصوص الطاوية الأخرى كافة هي إما شروح على هذا الكتاب الأساسي وإما تدوينات متأخرة نسبيًّا لبعض التعاليم المتمِّمة التي كانت قبلئذ محض شفهية. والـطاو Tao، الذي يُترجَم حرفيًّا بـ"الطريق"، والذي أطلِقَ اسمُه على المذهب ككل، هو المبدأ الأعلى، منظورًا إليه من وجهة النظر الميتافيزيقية البحتة: إنه، في آن معًا، أصل الكائنات جميعًا وغايتها، كما يدل على ذلك دلالة واضحة الرمزُ الكتابي التصويري idéogramme الذي يمثِّله. أما الـته Te، الذي نفضل تأديته بـ"الاستقامة" بدلاً من "الفضيلة" كما جرت العادة أحيانًا، وذلك لكيلا يبدو علينا أننا نضفي عليه مدلولاً "خُلُقيًّا" ليس من روح الطاوية في شيء بتاتًا – الـته، نقول، هو ما يجوز لنا أن نسميه "تخصيصًا" spécification للـطاو بالنسبة إلى كائن بعينه، كالكائن البشري مثلاً: إنه المسلك الذي يجب على هذا الكائن أن يتبعه حتى تكون حياته، في الحالة التي هو عليها في الوقت الحاضر، بحسب "الطريق"، أو بعبارة أخرى، متوافقة مع المبدأ. ومنه فإن لاو-تسُه يتخذ موقفه أولاً في النظام الكلِّي، ثم ينزل إلى تطبيق بعينه؛ لكن هذا التطبيق، مع أنه يستهدف حالة الإنسان حصرًا، لا يجري من وجهة نظر اجتماعية أو أخلاقية بتاتًا؛ فالمنظور إليه هو دومًا وحصرًا الارتباط بالمبدأ الأعلى، وبذلك، في الواقع، لا نخرج من المجال الميتافيزيقي.

tao_ideogram

كذا فليس العمل الخارجي البتة ما توليه الطاوية اهتمامَها؛ فهي تعدُّه في الحاصل مما لا يُكترَث به بحدِّ ذاته، فتذهب صراحة مذهب "اللافعل" [وُو-ويْ wou-wei]، الذي يجد الغربيون بعامة شيئًا من الصعوبة في فهم مدلوله الحقيقي، مع أن بمقدورهم أن يستعينوا على هذا الفهم بنظرية "المحرك الساكن" moteur immobile الأرسطية التي تؤدي عمقيًّا المعنى ذاته، لكنهم على ما يبدو لم يتوفروا قط على استخلاص نتائجها. "اللافعل" non-agir ليس العطالة مطلقًا، بل هو بالعكس كامل الفاعلية، لكنها فاعلية مستعلية وداخلية تمامًا، غير متجلِّية، متحدة بالمبدأ، وتتعدى بالتالي سائر التمايزات وسائر المظاهر التي يحسبها العوامُ الحقَّ بعينه، في حين أنها ليست من الحق غير مجرد انعكاس متفاوت البُعد. لا بدَّ، إلى ذلك، من ملاحظة أن الكونفوشية نفسها، التي تتخذ على غير ذلك وجهة نظر العمل، لا يفوتها أن تتكلم على "الوسط الثابت" invariable milieu، أي على حال التوازن الكامل، الخالص من تقلبات العالم الخارجي المستديمة؛ لكن هذا الأمر لا يمكن له أن يكون بنظرها غير تعبير عن مثال نظري بحت، فلا تستطيع أن تدرك على الأكثر، في مجالها العَرَضي contingent، غير مجرد صورة عن "اللافعل" الحقيقي، بينما المقصود بنظر الطاوية أمر مختلف كل الاختلاف، هو عبارة عن تحقُّق فعلي تمامًا بهذا المقام المستعلي. فالحكيم الكامل، متخذًا مكانه في المركز من العجلة الكونية، يحرِّكها تحريكًا غير مرئي، بمحض حضوره، من غير أن يشارك في حركتها ومن غير أن يضطر إلى الانشغال بممارسة عمل ما؛ فتجرُّده المطلق يجعله سيدًا على الأشياء قاطبة، لأنه لم يعد قابلاً للانفعال بشيء:

لقد بلغ مقام عدم التأثر التام؛ ولما كان لا يبالي بالحياة ولا بالموت على حدٍّ سواء فإن انهيار الكون لا يسبب له أي اضطراب. فمن فرط ما أعمل بصيرته توصل إلى الحقيقة السرمدية، معرفة المبدأ الكلِّي الأحد. إنه يدع الكائنات تتطور بحسب مصائرها، فيما يقف هو في المركز الساكن من المصائر كلِّها. […] العلامة الخارجية على هذا المقام الداخلي هي ثبات الجنان: لا ثبات جنان المقدام الذي يحمل وحده، ولَعًا بالمجد، على جيش مرصوص الصفوف في المعركة، بل ثبات الروح الذي، مستعليًا عن السماء والأرض والكائنات كلها، يقيم في جسم لا يتمسك به، ولا يقيم أي وزن للصور التي تزوده بها حواسه، ويعرف الكل على الإجمال في وحدته الساكنة. هذا الروح، المستقل استقلالاً مطلقًا، هو سيد البشر قاطبة؛ فإذا حلا له أن يستدعيهم زُرافاتٍ للمثول في حضرته لهرعوا جميعًا إليه في اليوم المحدد؛ لكنه راغب عن الاستخدام.[5]

إذا اضطر حكيم متحقق، رغمًا عنه، أن يتولى المملكة برعايته لاستعمل، بلزومه مقام اللافعل، ما يتيسر له من عدم تدخُّله في إطلاق العنان لميوله الفطرية، ولاستقامت المملكة من تفويض أمرها إلى يدَي هذا المرء. فمن غير أن يُعمِلَ جوارحَه، ومن غير أن يستعمل حواسه الجسمانية، جالسًا من غير حراك، يبصر كل شيء بعينه المستعلية؛ مستغرقًا في المشاهدة، بوسعه أن يزعزع كل شيء كما يفعل الرعد؛ والسماء الطبيعية تتكيف مطواعةً مع حركات ذهنه؛ وجميع الكائنات تتبع دافع عدم تدخُّله مثلما يتبع الغبارُ الريح. فلماذا ينصرف هذا المرء إلى التحكم بالمملكة، بينما حسبه ترك الأمور تجري مجراها؟[6]

لقد أصررنا خصوصًا على مذهب "اللافعل" هذا؛ فبالإضافة إلى أنه فعليًّا واحد من جوانب الطاوية الأهم والأخص بها، ثَمَّ لهذا الإصرار أسباب أخص سيتيح ما يلي فهمَها فهمًا أفضل. لكن سؤالاً ينطرح هنا: كيف يمكن للمرء بلوغ المقام المذكور بصفته مقام الحكيم الكامل؟ الجواب هنا، كما هو في سائر العقائد المماثلة التي نقع عليها في حضارات أخرى، جواب بيِّن للغاية: يتم بلوغ هذا المقام بالمعرفة حصرًا؛ لكن هذه المعرفة، تلك بعينها التي أقر كُنگ-تسُه بأنه لم يحصل عليها البتة، هي من رتبة أخرى تمامًا غير رتبة المعرفة العادية أو "الدنيوية"، ولا تمت بصلة بتاتًا إلى معلومات "المثقفين" الخارجية ولا، بالأوْلى، إلى العلم كما يفهمه أهل الغرب المُحدَثون. لكن المقصود هنا ليس تنافرًا، على كون العلم العادي، بحُكم الحدود التي يضعها والعادات الذهنية التي يطبع ممارسيه بها، كثيرًا ما يكون عقبة في سبيل اكتساب المعرفة الحقيقية؛ لكن كل مَن يتحصل على هذه المعرفة لا بدَّ له أن يعدَّ مما لا يؤبه له التنظيرات النسبية والعَرَضية التي تطيب لغالبية القوم، والتحليلات والبحوث التفصيلية التي يتعثرون بها، والتباينات العديدة في الآراء التي تنجم عن ذلك لا محالة:

الفلاسفة يتوهون في تنظيراتهم، وأهل السفسطة في تمييزاتهم، والباحثون في استقصاءاتهم. جميع هؤلاء القوم واقعون أسرى محدودية المكان، تعمي أبصارهم الكائنات الخاصة.[7]

أما الحكيم، بالعكس، فقد تخطى جميع التمييزات الملازمة لوجهات النظر الخارجية؛ ففي النقطة المركزية حيث يقف، يختفي كل تناقض وينحل في توازن كامل:

في الحال القديمة، كانت هذه التناقضات معدومة. فكلُّها مشتق من تكثُّر الكائنات ومن ارتباطاتها الناتجة من الدوران الكلِّي؛ ومن شأنها أن تتوقف بتوقف الكثرة والحركة. وهي تكف من فورها عن التأثير في الكائن الذي اختزل أنيَّته المميزة وحركته الخاصة إلى لاشيء تقريبًا. هذا الكائن لا يعود ينازع أي كائن آخر لأنه راسخ في اللانهاية، ممحو في اللامنتهي. لقد بلغ نقطة انطلاق التحولات وهو واقف فيها، وهي نقطة محايدة لا نزاعات فيها. فبتركيزه طبيعتَه، وبتغذيته روحَه الحيوي، وباستجماعه قدراته كلها، اتحد بمبدأ التكونات كلها. وبما أن فطرته تامة وروحه الحيوي سليم، ليس بمقدور أي كائن أن يمسَّ به.[8]

لهذا بالضبط، وليس من جراء نوع من الارتياب الذي تستبعده بالطبع مرتبةُ المعرفة التي بلغها، يقف الحكيم بالكلِّية خارج جميع النقاشات التي تبلبل عوام الناس؛ فبالفعل، جميع الآراء المتناقضة بنظره لا قيمة لها على حدٍّ سواء لأنها جميعًا، بحُكم تناقُضها نفسه، نسبية على حدٍّ سواء:

نقطة نظره نقطة يبدو منها "هذا" و"ذاك"، "نعم" و"لا"، غير متمايزين بعدُ. هذه النقطة هي محور المعيار؛ إنها المركز الساكن من محيط دائرة تجري عليه الأعراض والتمييزات والفرديات جميعًا؛ لا تُرى منه سوى لانهاية ليست "هذا" ولا "ذاك"، ليست "نعم" ولا "لا". رؤية كل شيء في الوحدة الأصلية غير المتمايزة بعدُ، أو من مسافة تجعل كل شيء يغيب في الواحد – تلكم هي الفطنة الحق. […] فلا ننشغلنَّ بالتمييز، بل فلنرَ كل شيء في وحدة المعيار؛ ولا نناقشنَّ للفوز، بل فلنستعمل مع الآخرين طريقة مربي القرود. فهذا الرجل قال للقرود التي كان يربيها: "سأعطيكم ثلاث قلقاسات صباحًا وأربع مساءً." فكانت القرود جميعًا ساخطة. فقال عندئذ: "سأعطيكم إذن أربع قلقاسات صباحًا وثلاث مساءً." فكانت القرود جميعًا راضية. هذا الرجل، فضلاً عن مزية أنه أرضاها، لم يعطِها في الحاصل كل يوم إلا القلقاسات السبع التي خصصها لهم أصلاً. هكذا يفعل الحكيم: يقول "نعم" أو "لا" من أجل خير السلام، ويبقى هادئًا في مركز العجلة الكونية، غير مبال بجهة دورانها.[9]

يكاد يكون من النافل قولنا إن مقام الحكيم الكامل، بكلِّ ما ينطوي عليه مما لا يسعنا هنا أن نتوسع فيه، لا يمكن بلوغه دفعة واحدة، وإن المراتب الأدنى منه حتى – وهي بمثابة عدد مساو من الأشواط التمهيدية – غير متاحة إلا لقاء جهود ليست في مقدور إلا قلة قليلة من البشر. والمناهج التي تستعملها الطاوية لهذا القصد مناهج اتباعها عسير بصفة خاصة، والمعونة التي تقدِّمها أقل بكثير من المعونة التي يمكن الوقوع عليها في التعليم النقلي لحضارات أخرى، كحضارة الهند مثلاً؛ إنها، على كل حال، تكاد أن تكون غير قابلة للممارسة لدى أناس ينتمون إلى عروق غير العرق الذي تكيفت معه بالأخص. إلى ذلك، فإن الطاوية، حتى في الصين، لم تحظَ قط بانتشار واسع جدًّا، وهي لم تستهدف ذلك أصلاً، ممتنعةً دومًا عن كل ترويج؛ وهذا التحفظ مفروض عليها بمقتضى طبيعتها نفسها: إذ إنها مذهب مستغلق جدًّا و"مُسارَري" initiatique أساسًا، تختص به، بما هو كذلك، النخبةُ وحدها، ولا يجوز بالتالي أن يتاح لجميع الناس من غير تمييز، لأن جميعهم ليسوا حقيقين بفهمه ولا بالأخص بـ"تحقيقه". يقال إن لاو-تسُه لم يستودع تعليمه إلا مريدين اثنين، أهَّلا بدورهما عشرة مريدين آخرين؛ وبعد أن كتب الـطاو-ته-كِنگ مضى إلى الغرب وتوارى عن الأنظار؛ وأغلب الظن أنه لجأ إلى معتزَل ما في التيبت أو الهماليا يتعذر الوصول إليه، و"لا يُعرَف أين ولا كيف صرف ما تبقى من عمره"، على حدِّ قول المؤرخ سِّه-مَتْسْين.

لاو-تسه

أما المذهب المتاح لجميع الناس، ذلك الذي ينبغي لهم جميعًا، بقدر مستطاعهم، أن يدرسوه ويضعوه موضع التطبيق، فهو الكونفوشية التي، إذ تشتمل على كل ما يخص الروابط الاجتماعية، هي كافية تمامًا لتلبية حاجات الحياة العادية. ومع ذلك، بما أن الطاوية تمثل المعرفة المبدئية التي يتفرع عنها الباقي كله، فإن الكونفوشية ليست في الواقع غير تطبيق للطاوية، إذا صح القول، على نظام عَرَضي، وهي تابعة لها بالضرورة بحُكم طبيعتها نفسها؛ لكن هذا أمر ليس لجمهور الناس أن ينشغل به، وقد يتفق له ألا يشتبه في وجوده حتى، بما أن التطبيق العملي وحده داخل في أفقه العقلي؛ و"الجمهور" الذي نتكلم عليه لا مناص من أن يشمل الغالبية العظمى من "المثقفين" الكونفوشيين أنفسهم. هذا الفصل الفعلي بين الطاوية والكونفوشية، بين مذهب الباطن ومذهب الظاهر، بصرف النظر عن مسألة الشكل، عبارة عن واحد من الفوارق المرموقة بين حضارة الصين وحضارة الهند؛ ففي هذه الأخيرة، ما ثَمَّ إلا بنية عقيدية واحدة، هي البرهمنية، المشتملة في آن معًا على المبدأ وعلى تطبيقاته كافة؛ ومن المراتب الأدنى إلى المراتب الأعلى، ليس هناك، إذا جاز القول، أي انقطاع في الصلة. هذا الفارق يعود، في جانب كبير منه، إلى الفارق بين الشروط الذهنية لكلٍّ من الشعبين؛ بيد أن من المرجح أن الاستمرار الذي حوفظ عليه في الهند – وأغلب الظن في الهند وحدها – كان قائمًا في قديم الزمان في الصين أيضًا، منذ عهد فو-هي حتى عهد لاو-تسُه وكُنگ-تسُه.

يتبين لنا الآن سبب قلة معرفة أهل الغرب بالطاوية: فهي لا تظهر في الخارج مثل الكونفوشية، التي يتجلى مفعولها تجليًا مرئيًّا في ظروف الحياة الاجتماعية كافة؛ إنها وقف حصري على نخبة، لعلها اليوم أقل عددًا مما كانت في أي يوم مضى، ولا تسعى بتاتًا إلى تبليغ العقيدة المستودَعة لديها إلى الخارج؛ أخيرًا، فإن وجهة نظرها نفسها وكيفية تعبيرها ومناهجها التعليمية هي من أغرب ما يكون عن الذهنية الغربية الحديثة. غير أن بعضهم، مع علمه بوجود الطاوية، ومع انتباهه إلى أن هذا المنقول لا يزال حيًّا، يتخيل أن تأثيرها على الحضارة الصينية جملةً، بسبب من خاصيتها المغلقة، تأثير مهمَل عمليًّا، إنْ لم يكن معدومًا تمامًا، – وذلك أيضًا غلط فادح. يبقى علينا الآن أن نفسر حقيقة الأمر بهذا الخصوص بمقدار ما يتيح المقام.

بالرجوع إلى النصوص القليلة التي أوردناها أعلاه بخصوص "اللافعل" non-agir، يصير في الإمكان، من غير كثير عناء، – من حيث المبدأ على الأقل، إنْ لم يكن من حيث كيفيات التطبيق، – فهمُ ماهية دور الطاوية، وهو دور التوجيه الخفي الذي يهيمن على الأحداث بدلاً من أن يشارك فيها مشاركة مباشرة والذي لا يحول عدمُ ظهوره واضحًا في الحركات الخارجية دون عمق فاعليته أشد العمق. فالطاوية تؤدي، كما قلنا، دور "المحرك الساكن": إنها لا تسعى البتة إلى التدخل في العمل، لا بل تزهد فيه زهدًا تامًّا، على اعتبار أنها لا ترى في العمل غير مجرد تعديل مؤقت وعابر، عنصر ضئيل من عناصر "تيار الأشكال" courant des formes، نقطة على محيط "العجلة الكونية"؛ لكنها، من ناحية أخرى، أشبه ما تكون بالمحور الذي تدور عليه هذه العجلة، المعيار الذي تنضبط عليه حركتُها، وهذا بالدقة لأنها لا تشارك في هذه الحركة، وحتى من غير أن تتدخل فيها تدخلاً صريحًا. فكل ما يُجتذَب في دورات العجلة يتغير ويدول؛ وحده يبقى ما يقف، باعتباره متحدًا بالمبدأ، ثابتًا عند المركز، سرمديَّته من سرمدية المبدأ نفسه؛ والمركز، الذي لا ينفعل بشيء في وحدته غير المتمايزة، هو نقطة انطلاق كثرة غير محددة من التعديلات التي تكوِّن التجلي الكلي.

لا بدَّ لنا من أن نضيف على الفور بأن ما قلناه لتوِّنا، فيما يخص أساسًا مقام الحكيم الكامل ودوره، بما أن هذا وحده مَن بلغ المركز فعليًّا، لا ينطبق انطباقًا صارمًا إلا على المرتبة العليا من المراتب الطاوية؛ فالمراتب الأخرى أشبه ما تكون بالوسائط بين المركز والعالم الخارجي، ومثلما تنطلق برامق العجلة من قبِّها وتصل بينه وبين المحيط، يؤمِّن هؤلاء، من غير انقطاع البتة، نقل التأثير الصادر من النقطة الثابتة حيث يقيم "الفعل غير الفاعل". إن مصطلح "تأثير" influence، وليس عمل، هو الأنسب هنا فعلاً؛ ويمكن لك أن تقول أيضًا، إذا شئت، إن الأمر عبارة عن "فعل حضور" action de présence؛ وحتى المراتب الدنيا، على كونها بعيدة للغاية عن كمال "اللافعل"، تظل تتطبع به على نحو ما. إلى ذلك، فإن كيفيات توصيل هذا التأثير خافية بالضرورة عمَّن لا يرون إلا ظاهر الأشياء؛ وهي لا تقل إبهامًا بنظر الذهنية الغربية – وللأسباب ذاتها – عن المناهج التي تتيح ارتقاء المراتب. لذا فمن غير المجدي مطلقًا التوسع فيما يسمَّى بـ"الهياكل عديمة الأبواب" و"المدارس التي لا يعلَّم فيها" أو فيما يمكن أن يكُونه تكوين تنظيمات لا تتصف بأية من خصائص "جمعية" بالمعنى الأوروبي لهذه الكلمة، وليس لها شكل خارجي معين، وليس لها أحيانًا اسمٌ حتى، والتي مع ذلك تنعقد بين أعضائها رابطة فعلية من أقوى ما يكون ومن أقل الروابط عرضةً للفسخ؛ فهذا كله ليس من شأنه أن يمثل شيئًا في المخيلة الغربية لأن المألوف لديها لا يتيح هنا أي حدٍّ يصلح للمقارنة.

على المستوى الأظهر، أغلب الظن أن ثمة تنظيمات تبدو أيسر قابلية للفهم نظرًا لأنها منخرطة في مجال العمل، على كونها هي الأخرى مغايرة من حيث "سرِّيتها" للجمعيات الغربية كافة التي تدَّعي الاتصاف بهذه الصفة بشيء من التبرير. فهذه التنظيمات ليس لها عمومًا إلا أجَل مؤقت؛ فتراها تكوَّن لغرض بعينه، ثم تختفي من غير أن تترك أثرًا حالما يتم إنجاز مهمتها؛ وهي ليست إلا مجرد تفرعات عن تنظيمات أخرى أعمق وأكثر ديمومة، تتلقى منها توجيهها الحقيقي، بينما زعماؤها الظاهرون غرباء تمامًا عن المراتب الطاوية. وبعضها مما لعب دورًا لا يُستهان به في ماض متفاوت البُعد ترك في ذهن الشعب ذكريات يعبَّر عنها تعبيرًا أسطوري الشكل: بذا سمعنا الناس يروون أن سادة جمعية سرية بعينها كانوا يأخذون في ماضي الزمان حفنة من الدبابيس ويرمونها على الأرض، ومن هذه الدبابيس كان يولد عدد مساو لها من الجنود المدججين بالسلاح! إنها بالضبط قصة قدمس زارع أسنان التنين[10]؛ ولهذه الأساطير، التي لا يخطئ العوام إلا في أخذها على محمل حرفي، تحت مظهرها الساذج، قيمة رمزية حقيقية للغاية.

إلى ذلك، قد يتفق في حالات عديدة لهذه الجمعيات التي نحن بصددها، أو لأظهرها على أقل تقدير، أن تكون على خلاف وحتى على نزاع بعضها مع بعض؛ ولن يفوت الراصدين السطحيين أن يستخلصوا من هذا الأمر اعتراضًا على ما ذهبنا إليه لتوِّنا وأن يستنتجوا منه أنه، ضمن شروط كهذه، ينتفي وجود وحدة التوجيه. هؤلاء لا يتناسون إلا أمرًا واحدًا: ألا وهو أن التوجيه المقصود "يتعدى" الخلاف الذي يعاينونه، ولا يقع قطعًا في المجال الذي يتأكد فيه هذا الخلاف والذي يصح عليه وحده. وإذا كان لا بدَّ لنا من الرد على أمثال هؤلاء المعارضين، لاكتفينا بتذكيرهم بالتعليم الطاوي في التكافؤ بين الـ"نعم" والـ"لا" في اللاتمايز الأصلي، وفيما يخص وضع هذا التعليم موضع التطبيق، لأحلناهم ببساطة إلى حكاية مربي القرود.

نظنُّنا أسهبنا في القول إقناعًا بأن التأثير الحقيقي للطاوية يمكن له أن يكون عظيمًا للغاية، مع بقائه دومًا غير مرئي ومستترًا؛ فأمور من هذا القبيل لا توجد في الصين وحدها، لكن يبدو أنها مطبَّقة فيها تطبيقًا أكثر دوامًا مما هو عليه في كل مكان آخر. ويُفهم من كلامنا أيضًا أن مَن هم على اطلاع ما على دور هذا التنظيم النقلي لا بدَّ لهم أن يحترسوا من المظاهر ويُبدوا الكثير من التحفظ في تقديرهم لأحداث كالتي تجري حاليًّا في الشرق الأقصى[11] والتي يُحكَم عليها في الغالب بالمقارنة مع ما يحدث في العالم الغربي، الأمر الذي يُظهرها على غير ما هي عليه تمامًا. لقد اجتازت الحضارة الصينية العديد من الأزمات الأخرى في الماضي، وانتهت دومًا إلى استعادة توازنها؛ وفي الحاصل، لا شيء يدل حتى الآن أن الأزمة الحالية أخطر بكثير من الأزمات السابقة؛ وحتى إذا أقررنا بأنها أخطر، ليس هذا مما يحملنا على الظن بأنها ستمس لا محالة بما هو الأعمق والأكثر جوهرية في منقول العرق الذي تكفي، إلى ذلك، ثلة صغيرة من البشر للحفاظ عليه سليمًا في فترات الاضطراب، لأن الأمور من هذه الرتبة لا تستند البتة على قوة الجمهور الفظة. يمكن للكونفوشية، التي لا تمثل إلا الوجه الظاهر للمنقول، أن تختفي حتى، إذا اتفق للشروط الاجتماعية أن تتغير بما يقتضي تكوين شكل جديد بالكلِّية؛ لكن الطاوية أبعد من تأثير هذه الأعراض الطارئة. فلا ننسينَّ أن الحكيم، بحسب التعاليم الطاوية التي نقلناها، "يبقى هادئًا في مركز العجلة الكونية"، مهما اتفق للظروف أن تتغير، وأنه حتى "انهيار الكون لا يسبب له أي اضطراب".

الترجمة عن الفرنسية: ديمتري أڤييرينوس


* Le Voile d’Isis, 1932, pp. 485-508 ; repris dans René Guénon, Aperçus sur l’ésotérisme islamique et le Taoïsme, Gallimard, 1973, pp. 102-129.

** فيلسوف فرنسي (1886-1951)، ولد في بلوا (فرنسا) وتوفي بالقاهرة. شُغف بالروحانيات منذ حداثة سنِّه، فدفعه الفضول إلى اختبار معظم مدارسها الحديثة، حتى اهتدى أخيرًا إلى تصور متكامل عن وحدة المأثورات "الدينية" الأصيلة في العالم قاطبة، بوصفها تعبيرات متنوعة متفرعة عن "منقول قديم" Tradition Primordiale واحد، فاطمأن إليه وراح، بالتوازي مع حياة باطنية غنية، يكتب فيه المقالات والكتب والرسائل، مؤسِّسًا بذلك لمذهب "نقلي" traditionnaliste مازال أثرُه ساري المفعول حتى يومنا هذا. من مؤلفاته الكثيرة الهامة: الإنسان ومآله بحسب الڤيدنتا، أزمة العالم الحديث، رمزية الصليب، الثالوث الأكبر، لمحات عن المُسارَرة. (المحرِّر)

[1] كتاب شعائر تشِوْ.

[2] تشُنگ-يُنگ، 22.

[3] كان رونيه گينون في بدء أمره، بتأثير من ممثلي المنقول الهندوسي الذين تعرف إليهم، يرى في البوذية مجرد "تمرد على الذهنية النقلية"، من حيث إنها لا تقيم وزنًا لنظام الطوائف الأربع ولسلطة النخبة البرهمنية العقلية عليه، ولا تأخذ برأي الڤيدنتيين في وجود "ذات" (آتما ātma) دائمة في الإنسان، وتعدم أية شعائر مُسارَرة initiation باطنية لا غنى عنها لكل مَن يريد دخول مجال الباطن؛ وقد ظل على هذا الرأي حتى تعرف إلى مؤلفات الفيلسوف الهندي آنندا كوماراسوامي الذي بين له بالحجة المقنعة أن البوذية مذهب باطني خالص يستغني، بالتالي، عن أية قاعدة ظاهرية اجتماعية وأخلاقية (دور البوذا في قلب الهندوسية أشبه بدور المسيح في قلب دين إسرائيل أو بدور الحلاج في قلب الإسلام)، ويلبي شروط المُسارَرة الباطنية الأرثوذكسية، ويتيح للمريد بلوغ أسمى درجات التحقق الروحي. (المحرِّر)

[4] ليون-يو، 7.

[5] تشوانگ-تسُه، 5.

[6] تشوانگ-تسُه، 11.

[7] تشوانگ-تسُه، 24.

[8] تشوانگ-تسُه، 19.

[9] تشوانگ-تسُه، 2.

[10] قدمس أمير فينيقي هو المؤسس الأسطوري لمملكة طيبة في اليونان. (المحرِّر)

[11] المقصودة هي الأحداث التي عصفت بالصين الجمهورية في ثلاثينيات القرن العشرين في أثناء الصراع على السلطة الذي تلا القطيعة (1927) بين تشانگ كاي-تشك وبين الشيوعيين. (المحرِّر)

حكيم المغرب والمشرق – ديمتري أڤييرينوس

حكيم المغرب والمشرق

مقدمة موجزة لدراسة حياة الشيخ الأكبر ومذهبه

ديمتري أڤييرينوس

ابن العربي (560-638 هـ/1165-1240 م) ذروة عالية من ذروات التصوف في الإسلام، بل التصوف في العالم قاطبة. ولد في مرسية وتوفي في دمشق: وفي مجرد هاتين الواقعتين الجغرافيتين إشارة إلى تلك السيرورة الغنية وإلى ذلك القَدَر المركَّب اللذين تخللا التأهيل والسلوك الروحيين اللذين كابدهما ذلك الرجل الاستثنائي بين الأندلس والولايات الشرقية للعالم الإسلامي آنذاك.

كان ابن عربي، كما يبين اسمه الكامل: أبو بكر محمد بن العربي (المختصر عادة إلى "ابن عربي") الحاتمي الطائي، بصفته ينتسب إلى قبيلة طي، عربيًّا قحًّا. وقد كان في بدو شأنه متقيدًا بالشريعة والسنَّة، لكن ميله الفطري إلى التصوف وطبيعة سلوكه الروحي قرباه إلى حدٍّ كبير من النمط الشرقي، الفارسي تخصيصًا، من الروحانية، ألا وهو التشيع، على حدِّ ما يذهب إليه الأستاذ هنري كوربان. فمع أنه لم يتشيع رسميًّا قط وظل على مذهب أهل السنَّة حتى وافتْه المنية، فإن العقيدة التي استكمل بناء أركانها بالتوازي مع نضجه العقلي-الصوفي، استنادًا إلى خبراته الرؤيوية الخارقة في عالم المثال[1]، كانت شديدة التساوق مع روحية الإسلام الشيعي الفارسي؛ ودليلنا على ذلك أن ابن عربي وجد العدد الأكبر من مريديه وخلفائه في إيران الشيعية وبين أبناء الطائفة الباطنية الإسماعيلية. وإلى اليوم، تشكِّل إلهيات ابن عربي، إلى جانب – أو بالتآلف مع – إلهيات السهروردي المقتول ("شيخ الإشراق")، أساس النظر العقلي، الحِكَمي-العرفاني، لطالبي المعرفة المسلمين الفرس. والحق أن لقبه "محيي الدين" يتألق بقوته الحية عندما يُنظر إليه بمقتضى الدور الذي لعبه في صيرورة التكوُّن التاريخي للإسلام الإيراني. كذلك فإن لقبه الشهير الآخر – "الشيخ الأكبر"[2] – يقدِّم ابن عربي بوصفه من أقطاب مشايخ الصوفية، إنْ في الروحانية السنِّية أو في الروحانية الشيعية على حدٍّ سواء.

إن ابن عربي، عبر العمق الفريد لخبرته الصوفية، المتميِّزة بوفرة من الصور "العينية" archetypal، وأسلوبه العويص في عرض مذهبه، ولغته المبهمة عن قصد، هو من الصوفية الذين لا تذعن مذاهبهم لأي عرض مبسط. لذا فإن المقاربة المدرسية المعتادة بطريق العرض المنهجي (الحياة، الأعمال، الأفكار) تكاد تكون هنا بلا طائل يُذكَر، من حيث إنها تختزل بحرًا خضمًّا إلى سبخة راكدة. إن كل واقعة من وقائع حياة الشيخ الأكبر الخارجية تتصف بقيمة رمزية تحيل إلى جانب معين من جوانب خبرته الصوفية أو الرؤيوية؛ وبالمثل، فإن كل جانب من جوانب تلك الخبرة مترع بالمعاني الروحية الباطنة. ومنه فإن هذه العناصر كافة تندرج في كلٍّ عضوي واحد متماسك؛ ومن ثَمَّ فلن نتمكن في هذا المقام إلا من تقديم نبذة موجزة عن حياة ابن عربي الخارجية-الداخلية، وذلك بتقسيمها تعسفيًّا إلى ثلاث مراحل كبرى:

  1. التأهيل العقلي-الروحي في الأندلس؛
  2. خبرة الحب في أثناء طوافه حول الكعبة؛ و
  3. مرحلة النضج الصوفي-الميتافيزيقي.

1. الأيام الأولى في الأندلس

تلقى ابن عربي تعليمه الإسلامي المبكر في ذلك المركز العقلي والروحي الكبير الذي كانتْه إشبيلية التي وفد إليها، وعمره آنذاك لا يتجاوز الثماني سنين، وأقام فيها نحو ثلاثين سنة. وهناك كرس نفسه، على بعض أكابر علماء المدينة، لدراسة العلوم النقلية: القرآن، الحديث، فقه الشريعة، الكلام، والفلسفة. وقد كانت إشبيلية أيضًا من أهم مراكز التصوف، يقيم فيها عدد من مشاهير مشايخ الصوفية. وهكذا فقد انجذب ابن عربي انجذابًا جدَّ طبيعي إلى سلوكهم ورياضاتهم الروحية وتعاليمهم. ولدى بلوغه العشرين، كان مكتمل الإدراك لطبيعة "بعثته" الروحية الفريدة، وشرع في سلوك طريق الصوفية سلوكًا لا رجعة عنه.

ومما يستلفت النظر بصفة خاصة، بهذا الصدد، لقاؤه مع الولية الشيخة فاطمة القرطبية التي ظهرت له في رؤيا محاطةً بهالة سماوية. كان يشعُّ من شخصها باستمرار جوٌّ من الجمال الباهر، بحيث كانت تترك في ناظرها انطباعًا بأنها لم تتخطَّ عقدها الثاني، على ما يروي ابن عربي؛ فكلما مَثُلَ الفتى محمد بين يديها تعذَّر عليه ألا تحمرَّ وجنتاه حياءً في حضرتها. وقد قالت له فاطمة: "أنا أمُّك الإلهية"، معترفةً به ابنًا روحيًّا؛ وبذلك، بصفته واحدًا من مريديها المقربين، بويِع بأول أسرار الطريقة. وإنه لذو مغزى أن مبايعته بطريقة التصوف تمت عبر خبرة حبٍّ روحي من هذا المستوى؛ إذ إن أولى خبرات محيي الدين في الحب تدل سلفًا على إلهيات المحبة التي بسطها فيما بعد في مكة طائفًا حول الكعبة الشريفة.

كان ابن عربي لا يزال فتى أمرد حين اعتنق حياة الدَرْوَشة، وطفق يقوم بسياحات طويلة في إسبانيا وشمال أفريقيا – قرطبة، ألمرية، تونس، فاس، مراكش – حيث اجتمع بكبار مشايخ التصوف فيها. وتجدر الإشارة خصوصًا إلى زيارته لقرطبة، حيث كان بينه وبين ابن رشد، الفيلسوف المشائي الكبير، ممثِّل التيار الأرسطي الصحيح في الفلسفة الإسلامية، لقاء عجيب. فالمقابلة التي حصلت بينهما (بمبادرة من ابن رشد) كانت حاسمة الأهمية لكلا الصوفي الشاب والفيلسوف الكهل، من حيث إنها ألقت الضوء على أوجُه الائتلاف والاختلاف بين طريق النظر العقلي-المنطقي وبين طريق الخيال العرفاني، مما كان لا بدَّ له أن يؤدي إلى انشعاب الفكر الإسلامي برمته فيما بعد[3]. زدْ على ذلك أن واقعة أنه كانت للصوفي الرائي اليدُ الطولى على الفيلسوف النظري في تلك الحادثة، تاركًا الأخير في النهاية مُفحَمًا حائرًا، تجيز لنا وضع إصبعنا بدقة على الفيصل بين مذهب ابن عربي وبين خبرة الصوفية، فيتبين لنا كيف يرتبط التصوف كحياة والمذهب المعبِّر عنه واحدهما بالآخر في الإدراك الروحي: فالأمر لم يكن مجرَّد غلبة التصوف على الفلسفة؛ إذ إن خبرات ابن عربي الصوفية الرؤيوية كانت وثيقة الصلة إلى حدٍّ كبير بنظر عقلي بالغ الدقة، متكئة عليه ومدعِّمة له على حدٍّ سواء. فابن عربي صوفي كان، في الآن نفسه، معلِّمًا حقيقيًّا في الفلسفة، في شقيها المشائي والأفلاطوني، بحيث إنه استطاع – أو بالحري كان لا بدَّ له – أن ينظِّر لخبراته الروحية في مذهب كلِّي يشمل الكون بأسره، كما سوف نحاول أن نبين في إيجاز، ولاسيما فيما يتعلق ببنيان إلهياته في وحدة الوجود التي ستكون لنا عودة إليها في سياق المقال.

2. الطواف حول الكعبة

فيما كان ابن عربي يدنو من منتصف العقد الثالث من عمره قرَّ رأيه على مغادرة مسقط رأسه إلى الأبد. وقد حضَّه جزئيًّا على اتخاذ هذا القرار الوضع الديني-السياسي المضطرب في المغرب الإسلامي (الأندلس وشمال أفريقيا)، حيث لم يدعْ تزمتُ العلماء و"فقهاء الرسوم" وتعصبُهم أي مجال لانبساط منظور لاهوتي جديد، ولكن على الأخص بسبب رؤيا رآها في العام 1198 في مرسية، حيث أمره طائر يطير حول العرش الإلهي المحمول على أعمدة من نور بشدِّ الرِّحال من فوره نحو مشرق العالم الإسلامي. وبذلك بدأ الطور الثاني من حياته الخارجية-الداخلية الممتد من العام 1200 حتى 1223: 23 سنة من التجوال في الشرق الأدنى، حتى استقراره أخيرًا في دمشق.

في العام 1201 – وكان له من العمر يومذاك 36 سنة – زار ابن عربي للمرة الأولى مكة المكرمة، وفيها نزل ضيفًا على أسرة فارسية أصفهانية شريفة. ولقد كان ربُّ الأسرة نفسه شيخًا صوفيًّا هاجر من إيران إلى الحجاز وشغل منصبًا رفيعًا في مكة. وبحسب رواية ابن عربي نفسه، كانت لهذا الشيخ الفارسي بنت اسمها نظام، لقبها "عين الشمس والبهاء"، فتاة باهرة الجمال، ذات باع عقلي كبير وخبرة روحية عميقة؛ وسِحْرُ لَحْظِها، وحلاوة منطقها، وتواضع هيئتها اللطيف، كما يقول، كانت من العظمة بحيث إن حضورها كان يفتن كل مَن يجالسها. وهكذا وقع ابن عربي في حبِّها من فوره. وقد عبَّرت نفسه المفتونة عن هذه الخبرة في ديوانه الشهير ترجمان الأشواق.

يبدو ترجمان الأشواق من حيث الظاهر – أي لدى قراءته قراءة سطحية – وكأنه مجموعة قصائد غزل عادية مفعمة بصور عشقية دنيوية. والواقع أن غالبية العلماء والفقهاء فهموه على هذا النحو؛ وهو أمر أتاح لمن كانوا دومًا في ارتياب من صحة تعاليم ابن عربي إسلاميًّا ذريعة لرميه بالفساد الأخلاقي. لكن هؤلاء، باتخاذهم، هذا الموقف من قصائد الديوان، فضحوا جهلهم بأن صورة الفتاة الفارسية الجميلة نظام، إذ ترتقي من عالم الأجسام إلى البُعد الرؤيوي أو "الخيالي" للوعي، تتحول إلى تجسيد عيني للـ"أنثى الأزلية"، فتصبح صورة متجلِّية للحكمة الخالدة Sophia æterna، بما يشبه بياتريتشه، حبيبة دانتي في الكوميديا الإلهية. والديوان كلُّه، بهذه المثابة، هو التعبير الغزلي لإنسان مُسارَر بـ"دين الحب"، أو بما يدعوه هنري كوربان البُعد "الحِكَمي" sophianique للحب.

وبقصد توضيح هذه المسألة، كتب ابن عربي نفسه شرحًا مستفيضًا على الترجمان. وهذا المصنف ذو أهمية باطنية قصوى، من حيث إنه يلقي ضوءًا على واحد من المبادئ الأساسية الحاسمة في تعاليم ابن عربي: التأويل، الذي يعني حرفيًّا "إرجاع الشيء إلى أوَّله"[4]. وهو يشير، اصطلاحًا، إلى طريقة معينة لتعليل شيء – مهما كان المرئي منه على السطح، وسواء كان نصًّا كاملاً أو مقطعًا أو عبارة أو حتى كلمة واحدة – بالرجوع إلى معناه "الخام"، غير المرئي على السطح.

يُفهَم من ذلك أن استعمال التأويل لم يكن، من أي وجه من الوجوه، مقتصرًا على شرح قصيدة غزلية، بل على العكس: إذ بعدما يرسخ المبدأ، كان يتيح منهاجًا تفسيريًّا ذا تطبيق واسع مرن لجميع المهتمين باستنباط المعاني الباطنة المكنونة في أعماق نصٍّ بعينه. ولقد استعمل ابن عربي هذا المنهاج في تأويل القرآن الكريم والحديث الشريف. والواقع أن التعاليم التي صاغها ابن عربي في النصف الثاني من حياته تُعتبَر ثمرة تطبيق مبدأ التأويل على القرآن والحديث اللذين كان يستنبط معانيهما الباطنة في ضوء خبراته الرؤيوية.

ولقد توارث مبدأ التأويل عدد من مشايخ الصوفية والعارفين الكبار في العصور اللاحقة. ففي التشيُّع، احتل التأويل المنزلة الأرفع في التأمل الفلسفي، بحيث إنه أصبح سمة نوعية للبنيان العقلي الشيعي برمته وخاصية من خاصياته الأساسية.

على أنه لا بدَّ لنا من أن نشير هاهنا إلى أن التأويل لم يكن عند ابن عربي مجرد مسألة تفسير لغوي، لفظي، بل كان يتسم بمغزى أونطولوجي: فعنده أن كل ما هو موجود في عالم الحس يستر في أعماقه الأونطولوجية حقيقة باطنة، الأمر الذي يعني أن كل ما في الوجود تجلٍّ خاص. بعبارة أخرى، فإن كل شيء صورة ظاهرة يتجلَّى عبرها الحق غير المرئي؛ وعالم الوجود الخارجي ("عالم الشهادة") ليس على الحقيقة إلا صورة ظاهرة على السلَّم الكوني لعالم الغيب، يتجلَّى من خلالها الحق برهةً باسمه "الباطن" عبر صور لا نهاية لها من التعيُّنات.

3. نضج التعاليم

يُنسَب إلى ابن عربي عددٌ ضخم من المؤلفات (200 ونيف على الأقل)، تتراوح بين المقالات القِصار والرسائل التي لا تتجاوز بضع صفحات وبين المصنفات الضخمة التي تضم آلاف الصفحات. وبين مؤلفاته يُعتبَر اثنان منها بخاصة جليلان بحق، إذ يشتملان على تعاليمه على أكمل وجه (وثانيهما خلاصة للأول): الفتوحات المكية وفصوص الحِكَم.

رُسِمَت الخطوط العريضة للـفتوحات وبدئ بتدوينه بمناسبة زيارته الأولى لمكة في العام 1201، وانتُهيَ من وضعه في دمشق بعد ذلك بأكثر من ثلاثين عامًا في العام 1237. والفتوحات، الذي كثيرًا ما أطلق المستشرقون عليه تسمية "إنجيل باطن الإسلام"، عبارة عن موسوعة للتصوف بحق، تتناول – وإنْ بغير ترتيب منهجي – نظريات في الإلهيات والكونيات، وخبرات صوفية، وعلومًا باطنية متنوعة، ورؤى وتأملات، ناهيكم عن الفقه الشرعي.

غير أن زبدة تعاليمه في الإلهيات، قولاً واحدًا، مكنونة في الفصوص الذي ألَّفه في العام 1229 قبل وفاته بعشر سنين؛ وهو مصنف صغير بالقياس إلى الفتوحات، لكنه واسع بما لا يقاس في مبناه ومعانيه: ففيه نجد نظرية ابن عربي في النبوة، حيث يوصَف كلُّ نبي، ورد ذكرُه في القرآن أم لم يَردْ، بدءًا من آدم، في علاقاته بالأسماء والصفات الإلهية التي يختص بها، ويظهر في "مقامه" الروحي الفريد. وفي آخر سلسلة الأنبياء نجد نبي الإسلام الذي يؤول ابن عربي شخصيته في ضوء الحديث: "حُبِّبَ إليَّ من دنياكم ثلاث: النساء والطيب وجعلت قرة عيني الصلاة". وإن سلسلة الشروح على الفصوص التي كتبها مريدوه وأتباعه تشكِّل تاريخًا للحكمة في حدِّ ذاتها[5]. والعرض الموجز التالي لأسس تعاليمه مستمَد أساسًا من الفصوص.

التأويل

يحتل ابن عربي في تاريخ التصوف منزلة إمام مذهب ما يُعرَف اصطلاحًا بـوحدة الوجود. و"وحدة الوجود" موقف صوفي محدَّد هو نتاج للتطبيق الأونطولوجي لمبدأ "التأويل" السابق ذكره من خلال الخبرة الصوفية. والتأويل، كما ألمعنا، يبدأ كمنهاج في التفسير اللفظي، يذهب من ظاهر تعبير لغوي متوغلاً إلى باطن معناه؛ وهو، إذ يُطبَّق أونطولوجيًّا، يشي بكونه منهاج عرفان إلهي ينطلق من ظاهر الأشياء إلى باطنها. والتأويل الأونطولوجي للبنيان الباطن للوجود يتم عبر سلوك الصوفي سلسلةً من مراحل الخبرات الكشفية ("أحوال" و"مقامات")، يتصف كلٌّ منها برؤيا وجودية معينة.

إن منطلق السيرورة برمتها هو عالم الأجسام، كما يُرى بعين الإنسان العادي الذي يرى الكثرة الأونطولوجية في كل مكان، ولا يرى شيئًا سواها. وهو لا يعرف العالم الجسماني إلا على هذا النحو: ففيه توجد الأشياء متشعبة إلى ما لا نهاية، بما فيها هو، حيث كلُّ موجود قائم بذاته ومختلف في الأساس عما سواه؛ إنه لا يستطيع أن يرى الوحدة التي تكتنف الكثرة إلا بالعقل المجرد فقط؛ وعالم الوجود ليس في نظره إلا صعيدًا واحدًا من الصور والألوان، لا شيء وراءه أو فيما يتعدَّاه.

غير أن ابن عربي، عبر تطبيق التأويل الأونطولوجي، يمضي إلى ما يتخطى الأفق الأونطولوجي والعقلي للبشر العاديين ("العوام")، فيما يتعدى الظاهر؛ إذ إنه على يقين بأن للحقيقة بُعدًا أونطولوجيًّا هو الباطن، هو حصرًا ما ينبغي للمؤوِّل الغوص فيه. لكن هذا يتطلب سلوك طريق روحي معين، وإلا فإن البُعد العميق المُلازم لـ"باطن" الحقيقة التي يتم السلوك إليها لا ينفتح أبدًا.

جدلية الفناء والبقاء

في نظر ابن عربي، لا يستطيع الإنسان العادي رؤية الحق في صوره المتنوعة بسبب التفرع الأصلي لوعيه إلى ذات وموضوع؛ إذ إن الذات المتميِّزة عن الموضوع – الأنيَّة – مجعولة بحيث إنها لا تتعرف في عالم الظواهر إلا إلى تكتلات من الأشياء المتكثِّرة بوصفها موضوعات عديدة للمعرفة. بذلك فإن على المرء، لكي يتخطى صعيد الكثرة الأونطولوجية، أن "يمحق" وعي أنيَّته. وإن السلوك الروحي الشاق، المحفوف بالأهوال، باتجاه هذا المقصد يقود المرء أخيرًا إلى اختبار ما يصطلح الصوفية على تسميته بـالفناء. والفناء، اصطلاحًا، يعني اضمحلال الوعي "الأنوي"، وينطوي على تلاشي عالم الوجود بأسره؛ إذ إنه حيثما لا توجد أية ذات عارفة لا يوجد، بالتالي، أي موضوع معروف. والفضاء المطلق الذي يتحقق فيما يتعدى تفرُّع الوعي البشري إلى ذات وموضوع يتراءى بوصفه حقيقة سابقة على الوجود في لاتعيُّنها الغيبي، يدعوها ابن عربي الأحدية.

و"الأحدية"، المشتقة من الاسم الإلهي الأحد، نفيٌ كلِّي غير مقيَّد للأشياء كلها دونما استثناء؛ وهي الغيب المطلق قبل أن يتجلَّى في شكل محدَّد، هي اللاتعيُّن قبل أن يتعين، واللامتصوَّر قبل أن يتصور في صورة بعينها. وحتى الله، باعتباره نسبيًّا، هو واحد من الصور المتعيِّنة للأحدية المطلقة[6].

بذلك لا يدرك الصوفي الذي بلغ حال الفناء إلا الأحدية، فيرى الأحدية في كلِّ شيء، ولا يرى شيئًا سواها. وفي حال الإدراك الإلهي هذه يتحول العالم بأسره إلى "الأحد" من دون أدنى أثر للتصور أو للتعيُّن. تلكم هي، بالمصطلح الصوفي، وحدة الشهود، التي كان أبو منصور الحلاج أبرز ممثِّليها. لكن الصوفي، كما يُحاجِج ابن عربي، ينبغي ألا يتوقف عند هذا الشوط من الخبرة الصوفية؛ إذ إن الذي لا يرى إلا الأحد، الذي يرى العالم برمته راجعًا إلى حالة أونطولوجية من اللاتمايُز التام، لا يزال ناقص الإدراك. لذا فعلى الصوفي الكامل أن يخطو خطوة أخرى ليصبح ذا العينين، أي الإنسان القادر بحق على رؤية عالم الوجود بوصفه الجامع بين الضدَّين: الوحدة والكثرة؛ وإن حال الحقيقة هذه تتحقق بالخبرة في حال البقاء التي تتخطى حال الفناء.

من الواضح بأن الكثرة، في هذا السياق، تشير إلى البُعد الظواهري للوجود، عالم الأشياء الظاهرة المتعيِّنة في تنوع لانهائي؛ إلا أن من الجلِّي أيضًا أن الكثرة، كما تتحقق في خبرة البقاء، ليست "الكثرة" بوصفها ضد "الوحدة". ولعل بوسعنا تقريب هذا "الجمع بين الضدَّين" coincidentia oppositorum إلى الأذهان – على الرغم من تعذُّر ذلك – بالقول إن "ذا العينين"، بالمصطلح الصوفي، هو القادر على رؤية الحق في الخلق وعلى رؤية الخلق بالحق؛ أو باستعمال استعارة أثيرة إلى ابن عربي، بوسعنا القول إن "ذا العينين" هو القادر على رؤية كلا المرآة والصور المنعكسة فيها، حيث الحقُّ والخلق يلعبان، على التناوب، دور المرآة ودور الصور المنعكسة. إن رؤية الكثرة الملوِّنة للأشياء الظاهرة ليست، كما هي لدى العامة، "حجابًا" أونطولوجيًّا يحول دون رؤية الصوفي للحق المحض في حالة لاتعيُّن قصوى. كذلك لا تحول رؤية الأحد دون ظهور الكثرة؛ فعلى العكس، يتمِّم كل واحد منهما الآخر في إظهار البنيان الكلِّي للحقيقة، من حيث إنهما وجهاها الأصليان: الوحدة تمثِّل مظهر الإجمال، بينما تمثِّل الكثرة مظهر التفصيل. ومادمنا لا ندرك على هذا النحو جدلية العلاقة بين الوحدة والكثرة في فعل معرفة إلهي-أونطولوجي، فإننا نبقى محرومين من رؤية كلِّية للحقيقة كما هي حقًّا.

التجلِّي

إن ما حاولنا أن نترسَّمه لتوِّنا في بسط العلاقة بين اللامتعيِّن والمتعيِّن، كواقع من وقائع الخبرة العرفانية للحقيقة، يعيِّن البنيان الكلِّي لوحدة الوجود: فهي مذهب خاص يقوم على رؤيا إلهية يختبرها الصوفي بوصفها التفاعل بين الوحدة والكثرة. والمصطلح الدال على هذا التفاعل هو التجلِّي، الذي يدعى في مذهب ابن عربي التعيُّن أيضًا.

وبالنسبة إلى تأرجُح الوعي بين حالَي الفناء والبقاء، يمضي الأحد المطلق متدرِّجًا، متحولاً إلى الكثرة الظاهرية، عبر فعل تجلِّيه وتعيُّنه؛ وبعبارة أخرى، ثمة في الوحدة نزوع أصلي (= ضرورة أونطولوجية) أو نوع من الطاقة المبدعة، التي يرمز إليها الأمر الإلهي كُنْ، هي التي يطلق عليها ابن عربي اسم الحب أو المحبة. فعالم الوجود بأسره يُعتبَر بهذه المثابة تجليًا لـنَفَس الرحمن.

جدير بالذكر هنا أن أول مظاهر الطاقة المبدعة للوحدة هي الوحدة نفسها؛ أي أن بنيان الوحدة، في حدِّ ذاته، ذو بعدين، ويحمل بهذه المثابة اسمين اثنين: الأحد والواحد. وهذان الاسمان المشتقان من الجذر نفسه ليسا مترادفين في لغة ابن عربي الاصطلاحية، حيث "الأحد" هو الوحدة المحضة – حقيقة الوجود في حالة لاتعيُّن مطلقة –، بينما "الواحد" هو حقيقة الوجود نفسها في طور تبدأ فيه بالتوجُّه إلى الظهور.

بذلك يكون الأحد هو الوحدة فيما يتعدى التعيُّنات كلها والصفات كلها؛ وبالتالي، فهو عصيٌّ على أي علم، إنسانيًّا كان أو إلهيًّا. وبلغة الإلهيات، يمكن وصف الأمر بالقول إنه حتى الله عندئذٍ لا "يعرف" نفسه، ذلك أن وعي الله لنفسه لا يظهر إلا عند عبور وصيد الواحدية. الأحد، بهذه المثابة، غيب؛ بل هو الغيب المطلق أو غيب الغيب.

أما الواحد، على العكس، فهو الوحدة مضافةً إليها الصفات الإلهية؛ وهذه الصفات، المنطوى عليها في الوحدة، تتحقق بوصفها أعيانًا ثابتة أونطولوجية. وهذه الأعيان الثابتة (أو "الأنماط البدئية" archetypes، بالمصطلح الفلسفي) تعيِّن الصور التي تتمخض بها الطاقة المبدعة للحقيقة المطلقة باستمرار عن أشياء عالم الظواهر عند الطور التالي من التجلِّي الإلهي.

تلكم هي الخطوط العريضة لسيرورة "تجلِّي" المطلق، كما انكشفت لابن عربي، بدءًا من غيب الغيوب نزولاً حتى عالم الشهادة. وأهم نقطة يجدر الوقوف عندها بهذا الصدد هي أن الوحدة، بمقتضى ميلها الذاتي الباطن، تتفتح عن الكثرة – أو، بدقة أكبر، تتحول إليها – عبر سيرورة متدرِّجة من التجلِّي. فعلى الوحدة، بالضرورة الحتمية، أن تتجلَّى في صور ظاهرية؛ بعبارة أخرى، فإن الله لا يستطيع إلا أن "يخلق". والمطلق-النسبي لا يستطيع أن يستغني عن عالم الظواهر، مثلما أن هذا الأخير لا يستطيع أن "يبقى" إلا بفعل تجلِّي المطلق في الظواهر النسبية.

تجديد الخلق مع الأنفاس

ما يهمنا من كل ما تقدَّم هو المستفاد منه لفهم نظرية الخلق عند ابن عربي، فيما يدعوه تجديد الخلق مع الأنفاس – وهو ذو صلة مباشرة مع جدلية الفناء والبقاء. إن الأعيان الثابتة، أو الممكنات المحضة التي يتجلَّى فيها الحق لنفسه، تظل في حكم العدم؛ إذ وحدها مظاهرها المتعيِّنة – جميع النسب الممكنة التي تنطوي عليها – تسري في الكون. وهذه التعيُّنات في الحقيقة لا "تخرج" من أعيانها، ولا يُستهلَك تنوعُها أو يُستنفَد، مثلما أن مويجات النهر لا تني تغيِّر من شكلها فيما هي، في الوقت نفسه، تنصاع للقانون المفروض عليها برسم مجرى النهر.

في تشبيه النهر هذا – وهو ناقص بالضرورة – يمثل ماء النهر فيض الوجود المتواصل، ويمثل مجرى النهر العين الثابتة، بينما تُقابل المويجات الصورة (المحسوسة أو اللطيفة) الناجمة عن هذه القطبية الأونطولوجية. وبالوسع كذلك مقارنة العين الثابتة بموشور عديم اللون، يحلِّل ضوء الوجود الأبيض إلى أشعة ألوان قوس قزح جميعًا، بحيث يتوقف لون الأشعة على طبيعة كلٍّ من الضوء والموشور.

إن تنوع انعكاسات عين ثابتة واحدة في العالم الذي يتعدى الصور (عالم الأرواح أو الجبروت) يظهر كـ"غنى" في مظاهره المحتوى بعضها في بعض، شأنها في ذلك شأن المظاهر المنطقية العديدة المنطوية في حقيقة واحدة أو الجمالات اللانهائية المحتواة في جمال واحد. وإن تنوعها على مرتبة الوجود هذه هو أبعد ما يكون عن التكرار لأنه يعبِّر تعبيرًا مباشرًا عن الواحدية الإلهية. في الوقت نفسه، فإن الأعيان المختلفة يشتمل بعضها على بعض؛ أما في عالم التعيُّن فإن انعكاسات العين الواحدة تتجلَّى على التوالي لأن تعيُّن الصور يتدخل هاهنا ليفرز المظاهر بعضها عن بعض. إن هذا العالم – وهو يشتمل على صور نفسانية مثلما يشتمل على صور جسمانية – هو الذي يدعى عالم المثال لأن الصور التي تتجلَّى فيه على التوالي، أو في آنٍ معًا، يماثل كلٌّ منها الأخرى من جراء كونها مماثلة لعينها المشتركة.

وإذا نُظِرَ إلى تنوع انعكاسات عين واحدة على التوالي، يقال إن "خلع" هذه العين على الوجود يتجدد كل آنة تجددًا لا تلبث فيه حالة الوجود هذه على حال واحدة: فكأنها تنعدم وتتجدد، تفنى في لحظة، لتُخلَق من جديد في اللحظة التي تليها، دون انقطاع زمني بين الحالتين؛ ترتد إلى الذات الإلهية في كلِّ لحظة من لحظات القبض، لتعود إلى الظهور والتجلِّي في حالة البسط.

أما الأنفاس فهي كيفيات لـنَفَس الرحمن، الذي يُفهَم منه، بحسب اصطلاح ابن عربي، المبدأ الإلهي الذي "ينفِّس" عن الممكنات النسبية أو ينشرها بدءًا من الأعيان الثابتة. وهذا "التنفيس" لا يظهر كذلك إلا من وجهة نظر نسبية تظهر فيها حالة بطون الممكنات باعتبارها كَرَبًا. وإن النَّفَس الرحماني متصل بصفة الرحمة الكلِّية التي يعيِّنها الاسم "الرحمن"، من حيث إن الوجود يفيض بالرحمة أعيانًا لا حصر لها[7].

هذا ويربط ابن عربي جدلية الفناء والبقاء بتجديد الخلق، بما يحلُّ إشكالية التعارض الظاهري بين القائلين بوحدة الشهود وبين القائلين بوحدة الوجود: الفريق الأول يختبر الحق لحظة انعدام التجلِّي في الذات فقط، فلا يُثبت إلا الحق، بينما يختبره الفريق الثاني لحظة انعدامه ولحظة إيجاده على التوالي، فيرى الوجود "واحدًا" (= وحدة الوجود)، ويُثبت الخلق أيضًا كما يُثبت الحق.

* * *

يبقى أن مذهب ابن عربي لا يزال مدار جدل كبير. فلقرون طوال، ظل العديد من الفقهاء – وعلى رأسهم ابن تيمية – يعتبرون الشيخ الأكبر زنديقًا و"ماحي الدين"[8]. لكنْ على الرغم من هذا النقد المستمر، تخللت عقائده التصوف اللاحق برمته؛ وحتى الصوفية الذين لم يوافقوه على مذهبه لم يتورعوا عن إدراج تعريفاته الدقيقة في تصانيفهم. وتأثيره هو الذي يضفي على الآداب الصوفية، ولاسيما الشعر المقروض في حلقات الدراويش، تجانُسه معنًى ومبنى.

مراجع مختارة

– ابن عربي (محيي الدين)، الفتوحات المكية، بتحقيق وتقديم عثمان يحيى وتصدير ومراجعة إبراهيم مدكور، طب 3، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1987.

– ابن عربي، محيي الدين، ترجمان الأشواق، دار صادر، بيروت، 1966.

– ابن عربي، محيي الدين (منسوب إلى)، تفسير القرآن، بتحقيق وتقديم مصطفى غالب، دار الأندلس، بيروت، طب 3: 1981.

– ابن عربي، محيي الدين، ذخائر الأعلاق في شرح ترجمان الأشواق؛ ويليه الأمر المحكم المربوط في ما يلزم أهل طريق الله من الشروط، بتحقيق وتعليق محمد بن عبد الرحمن الكردي، مطبعة السعادة، القاهرة، 1968.

– ابن عربي، محيي الدين، رسائل ابن العربي، مطبعة جمعية دائرة المعارف الإسلامية، حيدر آباد الدكن، 1948.

– ابن عربي، محيي الدين، فصوص الحكم، في جزأين، بتحقيق وشرح أبي العلا عفيفي، دار الكتاب العربي، بيروت، طب 2: 1980.

– أبو زيد، نصر حامد، هكذا تكلم ابن عربي، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء/بيروت، طب 2: 2004.

– الجيلي، عبد الكريم، الإنسان الكامل في معرفة الأواخر والأوائل، مكتبة صبيح، القاهرة، 1960.

– الحكيم، سعاد، المعجم الصوفي: الحكمة في حدود الكلمة، دندرة للطباعة والنشر، بيروت، 1981.

– الشيبي، كامل مصطفى، صفحات مكثفة من تاريخ التصوف الإسلامي، دار المناهل، بيروت، 1997.

– الكاشاني، عبد الرزاق، اصطلاحات الصوفية، بتحقيق وتقديم وتعليق عبد الخالق محمود، دار المعارف، القاهرة، طب 2: 1984.

– نصر، سيد حسين، ثلاثة حكماء مسلمين، بترجمة صلاح الصاوي ومراجعة وتنقيح ماجد فخري، دار النهار، بيروت، 1971.

– يحيى، عثمان، مؤلفات ابن عربي: تاريخها وتصنيفها، بترجمة أحمد محمد الطيب، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2001.

– ‘Addas, Claude, Ibn ‘Arabī ou la Quête du soufre rouge, Gallimard, Paris, 1989.

– Chodkiewicz, Michel, Le Sceau des saints : prophétie et sainteté dans la doctrine d’Ibn ‘Arabī, Gallimard, Paris, 1986.

– Chodkiewicz, Michel, Un océan sans rivage : Ibn ‘Arabī, le Livre et la Loi, Seuil, Paris, 1992.

– Corbin, Henry, Face de Dieu, face de l’homme : herméneutique et soufisme, Flammarion, Paris, 1983.

– Corbin, Henry, L’imagination créatrice dans le soufisme d’Ibn ‘Arabī, 2e éd., Flammarion, Paris, 1976.

– Nasr, Seyyed Hossein, Living Sufism, Allen & Unwin, London, 1980.


[1] أو "عالم الخيال": مصطلح غنوصي المنشأ، وجد فيه الأستاذ كوربان المكافئ العربي الدقيق للمصطلح اللاتيني Mundus imaginalis.

[2] المكافئ العربي للمصطلح اللاتيني Doctor maximus الذي يُطلَق على آباء الكنيسة من اللاهوتيين الكبار.

[3] للاطلاع على تحليل يتناول الأبعاد الفلسفية لهذا اللقاء التاريخي وملابساته، راجع: نصر حامد أبو زيد، هكذا تكلم ابن عربي، ص 163-199.

[4] في اللغة: "أوَّل الشيء": رجَّعه؛ ويقال "أوَّل الله عليك": ردَّ عليك ضالتك وجمعها لك؛ و"أوَّل الكلام": دبَّره وقدَّره وفسَّره؛ و"أوَّل الرؤيا": عبَّرها.

[5] أكثر من مئة، بحسب المرحوم عثمان يحيى، محقِّق الفتوحات؛ راجع: عثمان يحيى، مؤلفات ابن عربي، ص 479-500.

[6] بخصوص الإله النسبي المقيد بـ"مألوهاته"، راجع: الأستاذ إيكهرت، "في الفقر بالروح"، سماوات: http://samawat.org/texts/spiritual_poverty_meister_eckhart. (المحرِّر)

[7] بهذا المعنى يؤوِّل ابن عربي الآيتين 17 و18 من سورة التكوير: "والليل إذا عَسْعَس والصبح إذا تنفَّس"، حيث ترمز "عسعسة" الليل إلى انعدام الموجودات في العلم الإلهي، فيما يرمز "تنفُّس" الصبح إلى انخلاع التعيُّنات عن الأعيان الثابتة وإيجادها في الكون.

[8] كذلك يتهمه مفكِّرون (أو بالأحرى "مكفِّرون"!) معاصرون، منهم فضل الرحمن، برمزية "شبه جنسية" parasexual، ويزعمون أن مذهبه يلغي التمييز بين الخير والشر. وقد مُنِعَ الفتوحات المكية أكثر من مرة في مصر، كان آخرها في العام 1979.

“من رآني في المنام فقد رآني” – پيار لوري

"من رآني في المنام

فقد رآني"

دور رؤية النبي محمد

في الروحانيات الإسلامية*

پيار لوري**

تدور هذه المحاضرة حول الدور الديني لرؤى المنام في الإسلام، وبالأخص حول طائفة منها فريدة في بابها: رؤية المؤمنين للنبي محمد.

لقد أقرَّ المأثور الإسلامي من فوره، كما هو معلوم، أنه يجوز للرؤيا أن تصير ناقلاً خطيرًا لرسائل من رتبة فائقة للطبيعة. فالقرآن يؤكد ذلك مرارًا، كما في حالة إبراهيم الذي رأى في المنام أنه يذبح ولده، فصدَّق الرؤيا وأوَّلها كأمر إلهي (سورة الصافات 102، 105)؛ وقصة يوسف الصدِّيق، كما وردت في السورة الموسومة باسمه، تسرد رؤى يوسف بن يعقوب طفلاً (الآيات 4-6)، كما تسرد تأويله لرؤيتَي الفتَيَين السجينين معه في مصر (الآيتان 36، 41)، ثم أخيرًا تأويله لرؤيا فرعون نفسه (43-49)، بالتطابق مع النص التوراتي[1]. وفي النص الكريم أيضًا إشارتان إلى خبرتين رؤيويتين كابدهما محمد نفسه: إسراؤه إلى القدس الشريف[2] ودخوله والمسلمين المسجدَ الحرامَ مُحرمين، "محلِّقين رؤوسـ[ـهـ]ـم ومقصِّرين" (سورة الفتح 27). وصحة رسائل الرؤى مثْبتة في القرآن فيما يخص غير الأنبياء، وربما غير المؤمنين أيضًا، على اعتبار أن صاحبَي يوسف السجينين، وفرعون مصر كذلك (وثلاثتهم مشركون)، بحسب الآيات من سورة يوسف التي ذكرنا أعلاه، قد تبلغوا رؤًى تبيَّن بعد تأويلها أنها مُنذِرة بوقوع خطب جلل.

إلى ذلك، فإن الحديث والسيرة النبوية أصْرَح بهذا الخصوص: إنهما يؤكدان أن محمدًا كثيرًا ما كان يرى الرؤى وأنه أوْلى اهتمامًا كبيرًا لهذه الرسائل الليلية، سواء التي تخصه أو التي تخص أصحابه[3]، فكان إذا أصبح اليوم يجمع من حوله مجلس كبار الصحابة ويبادرهم بالسؤال عما إذا كان أحد منهم رأى من رؤيا خلال الليل؛ وكان كثيرًا ما يقص عليهم ما رأى في منامه ويؤوِّله، لكن رؤى غيره من المؤمنين كانت تؤخذ بالحسبان هي الأخرى. كان من شأن هذا أن يؤدي إلى نتائج ملموسة للغاية: إقامة الأذان للصلاة، على سبيل المثال، كانت نتيجة رؤيتين متواردتين رآهما رجلان من صحابة النبي (عبد الله بن زيد الأنصاري وعمر بن الخطاب).

لكن ثَمَّ مزيدًا: يبدو أن محمدًا أكد أن المؤمنين بعد وفاته – أي بعد انقطاع الرسالة النبوية عن العالم كافة – سيستفيدون من "المبشِّرات"، أي، على حدِّ ما جاء في صحيح البخاري، "الرؤيا الصالحة" (أو "الرؤيا الحسنة"، بحسب صحيح مسلم) التي "يراها المسلم أو تُرى له"؛ وهذه، بحسب كتب السنَّة، "جزء من ستة وأربعين جزءًا من النبوة"[4] – وهي إشارة ذات تبعات لا يُستهان بها. إلى ذلك، أكد الرسول في حديث آخر أن "مَن تحلَّم بحلم لم يرَه"، أي كذب في منامه، مسؤول عن فعلته في حضرة العدل الإلهي[5]. ولسوف يشتد دور الرؤى في آخِر الزمان، كما يؤكد أيضًا حديث آخَر: "إذا قَرُبَ الزمانُ لم تكد رؤيا المؤمن تكذب"؛ وبذا تتأكد كلَّ التأكيد وظيفةُ الرؤيا كتجلٍّ حيٍّ لصورة من صور الوحي بعد وفاة النبي. لكنما يجدر بنا أن ندقق بأن الحديث لا يأخذ هنا إلا بالرؤى "الصالحة" ("بشرى من الله")، طارحًا من فوره تجليات المنام الأخرى التي يعدُّها من قبيل "حديث النفس"؛ وهذا الأخير يقابل خصوصًا ظهور انشغالات عادية في أثناء النوم – انشغالات اليقظة على الأخص –، حيث إن هذه الرسالة من الشخص إلى نفسه لا تأتي بجديد ذي دلالة أو فائدة.

كما ترد في الحديث أيضًا "وسوسات الشيطان" التي تستهدف تخويف الرائي وزعزعة ضميره[6]؛ إذ يبدو أن للشيطان سبيلاً إلى ضمير الرائين فعلاً، لكن في الإمكان دفعَه بشعائر "وقائية"، وخصوصًا بالتعوذ والصلاة: "إذا رأى أحدكم رؤيا يكرهها فليتفل عن يساره ثلاثًا، وليستعذْ بالله من الشيطان ثلاثًا، وليتحول عن جنبه الذي كان عليه" (صحيح مسلم)؛ "إذا رأى أحدكم ما يكره فليقمْ وليصلِّ ولا يحدِّث به الناس" (الصحيحان). مطروحة كذلك من مجال تعبير الرؤيا "أضغاث الأحلام"، الأمر الذي يشي بمبدأ "المعقولية الشرعية" الذي يتحكم بتعبير الرؤيا في الإسلام[7].

وأخيرًا، فإن فقهاء المسلمين لم يكونوا جاهلين بالأحلام الناجمة عن مجرد الاضطرابات الفسيولوجية: "رؤيا تريها الطبائع إذا اختلفتْ وتكدَّرت على المرء" (راجع: الدينوري، ج 1، ص 98-99؛ والإشارة هنا إلى النظريات الأرسطية)، لكن الأدبيات التي سوف نوردها هنا لا تأخذها بالحسبان هي الأخرى.

يمكن للرؤيا "الصالحة" أن تطرأ بحسب كيفيتين ممكنتين: يمكن للمَلَك الموكل بالرؤيا أن يهبط على مقربة من النائم ويبلِّغه رسالة بعينها؛ كما يمكن لنفس النائم أن تفارق جسمه، فتعرج إلى السماء حتى تقترب من عرش الله ومن اللوح المحفوظ الذي خُطَّتْ عليه المقادير[8]، ثم تحتفظ بعد إيابها إلى الجسم بصورة أمينة نوعًا ما عما استطاعت إدراكه إبان معراجها[9]. وفي كلتا هاتين الحالتين النموذجيتين، يندرج هذا الكشف الفردي في مذهب التوحيد لدى أهل السنَّة والجماعة، بما أن الله قطعًا هو الذي يبادر فيهما إلى تبليغ العبد رسالة؛ وإن نقاء سريرة الرائي، في كلتا الحالتين، هو الذي يحدد مقدار وضوح المعلومة المتبلَّغة.

إلى ذلك، فإن واحدًا من مفاتيح تأويل الرؤى في إطار هذا التسنُّن المشترك يقوم على حديث نود في هذه المحاضرة أن نبين مغزاه. يُنسَبُ إلى النبي قولُه: "مَن رآني في المنام فقد رآني [في اليقظة]، فإن الشيطان لا يتخيل بي"[10]. وقد ورد هذا الحديث في كتب السنَّة بأكثر من رواية، مما يؤكد صحته، لكنْ يشي بتعدد تأويلاته طوال القرون الأولى للهجرة. وهكذا، بعد "مَن رآني في المنام…"، نجد أيضًا: "… فقد رآني"، "… فسيراني في اليقظة"، "… فكأنما رآني في اليقظة"، "… فقد رأى حقيقة"، "… فقد رآني حقًّا". والجملة السببية المتعلقة بجواب الشرط عن عجز الشيطان ترد أحيانًا كذا: "… فإن الشيطان لا يتخيل بي"، "… فإن الشيطان لا يتمثل بي"، "… ولا ينبغي للشيطان أن يتصوَّر بصورتي" – وكلٌّ من هذه الروايات ينطوي أصلاً على تفسير يخصُّه. إن هذا الحديث المحمدي على جانب كبير من الأهمية طبعًا لأنه لا يدل على أقل من نوع من استمرار النبوة في أمَّة المسلمين بعد انتقال النبي إلى الرفيق الأعلى.

بالطبع استفاد علم التعبير الإسلامي الكلاسيكي من هذا الحديث استفادة جمة. فهو يدل بالفعل أن النبي إذا رُئي في المنام فهو لا يرمز إلى شيء آخر، أي لا يحيل إلا إلى شخصه بالذات، لا إلى دالٍّ أبعد. من ناحية أخرى، فإن مثل هذه الرؤيا بالضرورة صحيح، غير كاذب، إلهي المصدر يقينًا. أما فيما يتعدى ذلك فتوافُق الآراء أكثر ترددًا[11].

مواقف الفقهاء

تراءى النبي لبعض المؤمنين في منامهم ترائيًا باكرًا في التاريخ الديني للإسلام؛ وهذا ما كان إلا ليطرح حتمًا مشكلات فقهية[12]. ذلك أن النبي، بنظر المسلمين جميعًا، قد مات فعلاً، ورفاته مدفون بالمدينة المنورة في الروضة الشريفة بالمسجد النبوي، ولن تقوم قيامة أحد قبل يوم الدين. فهل يعاد خلقُ شخص محمد الجسماني عند ظهوره في المنام، أم أن ما يرسله الله للرائي هو مجرد "خيال"؟ وهذا الترائي، أهو عبارة عن كائن واع يتخذ صفة جسمانية بعينها؟ وهل يتطابق مظهر النبي هذا مع صورته التي قُبض عليها، أم أنه يتخذ مظهرًا آخر؟ وإذا اختلف مظهره، هل ثَمَّ معيار يتطابق معه هذا المظهر أم أنه اتفاقي فحسب[13]؟ وكيف يمكن له أن يتراءى احتمالاً لأكثر من راءٍ في وقت واحد؟ وإذا كانت رؤية النبي في المنام حقيقية، هل يجوز لمَن يراه أن يدَّعي لنفسه منزلة "صحابي" (على غرار معاصريه)، لا بل منزلة ناقل الحديث؟

إذا جزنا، في الواقع، عن تأويل بعض الفقهاء العقلانيين الذين يرون أن هذه الترائيات من قبيل "الرؤى القلبية"[14]، فإن جمهور المفسِّرين، على اختلافهم على التفاصيل، متفقون على مسألة جوهرية: رؤية النبي في المنام رؤيا حقيقية، لكنها ليست مادية، بل تقابل تمثيلاً لروحه في صورة بشرية. وقد أسهب الفقيه الوسيطي الكبير أبو حامد الغزالي (ت 1111) خصوصًا في شرح هذه المسألة في أكثر من موضع من كتبه ورسائله؛ وهو يخلص إلى أن رؤية النبي تقابل تمثيلاً رمزيًّا لروح النبي: "فما رآه [الرائي] من الشكل ليس هو روح النبي وجوهره، ولا شخصه، بل مثاله على التحقيق" – أي بوصفها، بحسب الغزالي، "مثال واسطة بين النبي وبين [الرائي] من تعريف الحق إياه"، و"معنى [المثال] الصادق أن الله تعالى خلق مثل هذه الواسطة بين الرائي وبين النبي في تعريف بعض الأمور"[15]؛ وفي عبارة فريتس ماير (ص 39)، ليس ما يُرى من قبيل "المثل" Abbild، بل من قبيل "المثال" Sinnbild.

ولقد قام تيار، أضحى غالبًا، لمزيد من تدقيق هذا الرأي؛ وهو يرى أن هذه الرؤية يمكن لها أن تطرأ بكيفيتين اثنتين. يمكن لها أن تبدو جلية للغاية، فتقابل عندئذٍ – من حيث المبدأ – مظهر محمد التاريخي: إذ ذاك فإن مَن يتراءى هو النبي بذاته، حيث تتطابق الذات مع كيان شخصه مُدرَكًا بالخيال (رواية الحديث: "… فسيراني")؛ لكنْ يمكن لها، في مناسبات أخرى، أن تتراءى ناقصة أو مبهمة: وإذ ذاك فالمرئية هي صفة جزئية من صفات النبي التي تتمثل عندئذٍ تمثيلاً رمزيًّا (رواية الحديث: "… فكأنما رآني")[16]. من منظار كهذا، تتوقف درجة جلاء الرؤيا على نقاء روح صاحب الرؤيا نفسه، "لأنه صلى الله عليه وسلم كالمرآة الصقيلة ينطبع فيها ما يقابلها"، على حدِّ قول النابلسي (ص 594). مثل هذه الخبرة الرؤيوية لا يأتي بشيء يُتعلَّم عن طبيعة محمد نفسه، بل يكشف عن عناصر من الحالة الذهنية للرائي. وقد قام فريتس ماير بجمع تفصيل الحجج وخلاصة الحلول المقترَحة في مقال خصَّصه للأمر[17].

يجدر بنا هنا التذكير بأن هذه التأكيدات تندرج في كلِّ تصور لكيفية بقاء نفوس الموتى قبل قيام الساعة. وبالفعل، تفضي النصوص المأثورة التي تورد حصول "استجواب" يلي الموت الجسماني وتكفين الجثمان ودفنه مباشرة، وبقاء أرواح الشهداء من المجاهدين "في حواصل طيور خضر"، والعلاقات المتبادلة بين الأحياء والموتى، إلخ – تفضي هذه النصوص جميعًا إلى تأكيد حقيقة بُعد برزخي للوجود، هي حالة جسمانية لطيفة تحيا فيها أنفُس المتوفين، فتحس وتشعر وتتواصل فيما بينها ومع الأحياء على الأرض. وقد أخذ معبِّرو الرؤيا تلقائيًّا بهذه التصورات عن الآخرة، وبالفعل قلما طرحوا على أنفسهم أسئلة بهذا الشأن على الصعيد العقيدي؛ ومن ثَمَّ ليس هاهنا مقام التوسع في الأمر. حسبنا أن نشدِّد على أهمية الرهان: النبي محمد حي، وهو يستطيع بذلك أن يتواصل في الخيال مع أي مسلم. وهذا النمط من التواصل الرؤيوي من نفس إلى نفس من شأنه أن يكون أنقى وأشف وحتى أحق من اتصال مادي في الزمان والمكان العاديين، حيث إن "الحس الروحاني أشرف من الحس الجسماني، لأن الروحاني دالٌّ على ما هو كائن، يعني الرؤيا، والحيواني دالٌّ على ما هو موجود، يعني اليقظة" (الدينوري، ج 1، ص 90، ناقلاً عن أرسطوطاليس)؛ والنبي محمد، وإنْ لم يقمْ من بين الأموات عند المسلمين نظير يسوع عند المسيحيين، فإن حضوره بواسطة المبشِّرات في المنام والمشاهَدات في اليقظة ظل دومًا أشيع بكثير بين المسلمين، بمن فيهم أكثرهم تواضعًا من الرجال والنساء الذين ليسوا بالضرورة من كبار الصوفية أو الأولياء المعترَف بهم.

هذا النوع من الرؤى الذي يتراءى فيه شخص النبي محمد كانت له مكانة طولى في النشاط الديني والثقافي للإسلام الوسيطي. ونحن مدينون لأعمال ليئة كِنْبرگ بملاحظات دقيقة حول الدور الذي أنيط بها في النقاشات الفكرية حول علم الحديث (كِنْبرگ، 1993؛ راجع أيضًا: كاتْس، ص 220)، ومذاهب الشريعة (كِنْبرگ، 1985؛ وهناك أمثلة أخرى يوردها كلٌّ من گولدتسيهر وكِسْتِر)، وقراءات القرآن (كِنْبرگ، 1991)، أو حتى الأدبيات في محض الأخلاق، بوصفها عوامل إضفاء للشرعية[18].

وفي مجال التصوف أيضًا، كانت اللقاءات في المنام مع النبي كثيرة. فعلى سبيل المثال: يورد الترمذي الحكيم (ت في أوائل القرن العاشر) في بدو شأنه، سيرته الذاتية الروحية المختصرة، عدة رؤى تراءى له فيها النبي تثبيتًا لمنزلته كوارث محمدي ولمقامه في مراتب الولاية[19]. كذلك فإن روزبهان بقلي الشيرازي (ت 1206) وضع هو الآخر كتابًا مستقلاً يصف فيه المشاهَدات الكبرى التي وسمتْ تطوره الروحي والتي يؤدي فيها النبي محمد دورًا حاسمًا في إجازة كرامته كوليٍّ متحقق[20]؛ وهو يؤكد فيه رؤيته النبيَّ أكثر من ألف مرة، ليس على هيئات بشرية متنوعة وحسب، ولكنْ كنور محض.

أما ابن عربي فهو يورد هو الآخر عدة رؤى أو مبشِّرات في اليقظة تراءى له فيها النبي محمد وكلَّمه، وكتابه الأشهر فصوص الحكم، على حدِّ قوله، قد تبلَّغه من فم محمد في مبشِّرة أريَها سنة 627 هـ/1229 م في دمشق[21]؛ كما أنه وضع رسالتين خصصهما لرؤى النبي في المنام[22]. ودراسة ي. كاتْس (1996) الحديثة حول السيرة الذاتية الرؤيوية لمحمد الزواوي، وهو متصوف مغربي مغمور من القرن الخامس عشر، إنما هي مثال على ذلك: فهو يصف على التفصيل محادثاته مع النبي بمناسبة حوالى مئة من الرؤى امتدت على عشر سنوات. وهذه السطوة للرؤيا النبوية لم تخْبُ البتة في العصر الحديث. بذا فإن الشيخ أحمد التجاني، مؤسِّس الطريقة التجانية، أقام شرعية منزلته ومكانة طريقته على صلته الرؤيوية المباشرة مع النبي (هذا ليس إلا مثالاً واحدًا من بين العديد من الأمثلة). وهذا النمط من الخبرة لا يختص به الشيوخ الكبار المعترَف بهم.

تعبير الرؤيا الشعبي

على كل حال، ليست نصوص كبار المتكلِّمين أو الصوفية هي التي سوف نرجع إليها هنا، بل سوف نرجع إلى مستوى أكثر عمومية من مستويات الخبرة الدينية؛ فظهور النبي في المنام لم يقتصر على حلقات الصوفية، بل هيهات أن يكون ذلك. ولنلحظ، مع ذلك، أنه لا يوجد أي حدٍّ فاصل بين رؤى أهل التصوف ورؤى سواهم؛ فمذهب الصوفية في رؤى المنام ليس مختلفًا أساسًا عن التصور العام، حيث يمكن لعامة المؤمنين أن يَخبَروا في منامهم خبرةً من مرتبة روحانية. والواقع أن آلاف المسلمين ذكروا حصول مثل هذه الرؤى منذ بدايات الإسلام؛ ووُضعت خصيصًا لهذه المسألة بعينها تصانيف كثيرة إلى حدٍّ ما، ليس كتاب السيوطي الذي درسه فريتس ماير (1985) إلا أشهرها؛ كما أحصى توفيق فهد ستة عشر عنوانًا لكتب وصلتنا مخصصة لهذا الموضوع حصرًا[23]؛ وهذا الأخير يشغل في المقالات العامة في تعبير المنام أيضًا بابًا أو أكثر.

إن الكتب التي نود أن نلخص فحواها هنا لا تضارع طموحًا رواياتِ مشايخ الصوفية؛ فهي عبارة عن منتخبات من المأثور في تأويل الرؤيا جُمِعَت وقُيِّدَت منذ القرون الأولى للهجرة. ونحن نستعمل مصطلح "أثر" هنا قصدًا، وذلك لأن الأمر عبارة عن نقل شبيه نوعًا ما بنقل روايات الحديث أو السيرة. ومن المحتمل أن تدبُّر التعبير قد نما في فترة مبكرة جدًّا من الإسلام، منذ بدايات الجماعة على الأرجح[24]. وقد ضاع من تلك المنتخبات الأولى الكثير، لكن جزءًا لا يُستهان به من المواد التي جُمعتْ أعيد استعمالُها، وكثيرًا ما أوردها بنصِّها مصنِّفون أحدث وصلتنا كتبُهم؛ فهؤلاء قد "اقتبسوا"، قرنًا بعد قرن، عناصر هامة من نصوص أولئك، من دون إشارة إلى أصحابها في الغالب، بحيث إن بنيانًا من التصانيف في تعبير الرؤيا قد تكوَّن ككلٍّ متجانس على الرغم من طول الفترة المعنية. فإذا اكتفينا لهذه الدراسة بالعناوين الرئيسية لفن التعبير حصلنا على المراجع الأساسية التالية:

1) يبرز كتاب القادري في التعبير (انتهى في العام 1006)، الذي وضعه علامة نيسابور أبو سعد الدَّيْنَوَري، بوصفه أضخم كتب هذا البنيان. وهو يقتبس من كتب القدماء، ولاسيما من كتاب تعبير المنام لأرطاميدُورس الإفسُسي[25]، كما يفيد من عناصر تعبير الرؤيا عند النصارى واليهود إلخ، مشددًا على دور هذا الفن كعلم نبوي في الإسلام في مقدمة نظرية هامة[26].

2) وُضِعَ كتاب البشارة والنذارة في تعبير الرؤيا لأبي سعيد الواعظ الخركوشي (ت في العام 1015) في نيسابور أيضًا حوالى الفترة نفسها التي وُضِعَ فيها الكتابُ السابق، ومن الواضح منه أنه يخاطب جمهورًا أكثر شعبية وأقل حظًّا من الثقافة من جمهور القادري.

3) كتاب كامل التعبير لأبي الفضل التفليسي (علامة وطبيب، ت حوالى العام 1203) هو قاموس بمواضيع الرؤى باللسان الفارسي كُتِبَ خصيصًا لسلطان روم (الأناضول)؛ وهو عبارة عن منتخبات من مصادر أقدم، وهو بهذه المثابة كتاب قيِّم للغاية. وبالفعل، فإن التفليسي نقل إلى الفارسية فقرات كاملة من مؤلِّفين أقدم، مدققًا أسماءهم تدقيقًا واضحًا، بما يتيح تحديدًا أفضل لتاريخ ظهور العديد من التأويلات؛ فبفضله أمكن لنا التعرف إلى فقرات طويلة من هذه المصادر، أعاد الدينوري أو سواه من المصنِّفين نَسْخَها من غير تدقيق للأصل.

4) في حوزتنا أيضًا كتاب الإشارات في علم العبارات لغرس الدين بن شاهين (الذي عاش في مصر وتوفي في العام 1468). وقد اجتهد في تأويلاته المرتبة بحسب المواضيع أن ينعش تعبير الرؤيا بوصفه فنَّ تكهُّن إسلامي بامتياز، وذلك كي يدحض فنونًا أخرى شائعة من فنون الكهانة ذات شرعية دينية مريبة.

5) كتاب المنتخب في تعبير الرؤيا لأبي علي الخليلي الداري (مصنِّف مغمور من القرن الخامس عشر، لم يصلنا له غير هذا الكتاب) عبارة عن مجموعة متأخرة من نصوص أقدم، منها النصوص المذكورة أعلاه. وقد حظي هذا الكتاب، المعروف تحت عناوين متنوعة[27] والمنسوب إلى ابن سيرين، بانتشار أوسع من أي كتاب سواه، حتى صار المرجع الرئيس للقراء المعاصرين. ومع أن هذا التكديس للمعطيات القديمة، على غير ترتيب في الغالب، يفتقر أحيانًا إلى الاتساق فإن محتواه المتنوع يجعله قيِّمًا هو الآخر. فهو يسهب، مثلاً، في أخلاقيات تعبير الرؤيا أو في الأحلام ذات الأصل الفسيولوجي البحت[28].

6) أخيرًا، فإن تعطير الأنام في تفسير المنام، قاموس تعبير الرؤيا الذي وضعه الفقيه الشرعي والصوفي الدمشقي الشهير عبد الغني النابلسي (ت في العام 1731 واتسمت حياته الروحية بعدد من الرؤى الحاسمة)، يستعيد مختارات من نصوص سابقة ويرتبها ترتيبًا أبجديًّا بحتًا، مضيفًا إليها النزر اليسير من الشروح من عنده. لكنْ فلنلحظ أن النابلسي هو وحده بين مصنِّفينا مَن توقف بعض الشيء عند تقييم الأحاديث التي تتناول الرؤى وعند النتائج العقيدية لرؤية النبي في المنام (النابلسي، ص 593-594).

هذه الأدبيات، على ما نرى، تمتد على أكثر من سبعة قرون من التاريخ، لكن عدد الإحالات والمراجع المشتركة، كما سبق أن قلنا، يضفي عليها صفة التجانس والتكامل؛ وهذا ما يجيز لنا أن نتناولها كبنيان متسق من شأنه أن يحلَّل بوصفه كذلك[29].

فلندقق الآن بضعة نقاط جوهرية حول بنية هذه الأدبيات في تعبير الرؤيا. إن المعطيات المنقولة فيها لا تقابل بتاتًا مجموعة من الرؤى الفردية، المفهرسة والموصوفة على هذا الأساس، بل هي عبارة عن ملحوظات مختصرة ومنمَّطة وعن مفاتيح تأويلية كثيرًا ما يتكرر ورودُها من منتخب إلى آخر، كما سبق أن رأينا، وقلما نجد فيها روايات للرؤى تامة ومتصلة، بل نجد خصوصًا تعدادًا لواحدات سردية مختزَلة (على سبيل المثال: "مَن رأى النبي في المنام راكبًا فإنه…"؛ "مَن رأى لحيته الكريمة سوداء ليس فيها بياض فإنه…"؛ إلخ). لدينا هنا من حيث المبدأ تصوُّر عن أداء الرؤيا عبر ارتباط الصور بدوالٍّ ثابتة بعينها: فقد سادت فكرة مفادها أن الرمز المنامي الواحد لا بدَّ أن تقابله تأويلاتٌ ثابتة؛ إذ إن الرأي المعاكس، القائل بأصالة كل صورة منامية فردية، ما كان له، والحال هذه، إلا أن يعطِّل وجود فن التعبير من أصله. وقد حاول بعض المصنِّفين، إلى ذلك، أن يؤسِّسوا لتعبير الرؤيا كعلم من علوم الدين، ذي قواعد ثابتة (هي معطيات القرآن الكريم والحديث الشريف، بالإضافة إلى أقدم التأويلات) يمكن أن تُشتَق منها تأويلاتٌ ثانويةٌ عن طريق القياس[30]؛ لكن هذه المحاولات سرعان ما باءت بالإخفاق أمام غزارة المواد التي تراكمت على كرِّ القرون والتي تعذَّر التحقق منها – بما يشهد شهادة غير مباشرة للصلة الحقيقية بين مزاولة هذا النشاط التأويلي وبين الكتابة النظرية فيه. بذا ظل موقف واضعي التصانيف يتوخى الحذر ويأخذ بالضدين في أغلب الأحيان: إنهم بالفعل لا يزودون قارئهم بـ"مفاتيح للرؤى" جاهزة للاستعمال، تحيل بمقتضاها روايةٌ بعينها تلقائيًّا إلى تأويل ثابت بعينه، بل نجد فيها، في الغالب الأعم، قوائم بواحدات مختزَلة مجردةً من الشروح. وحتى في حالة القواميس المرتبة على أكثر ما يكون الجمود، كقاموسَي التفليسي والنابلسي، فإن قلة الاتساق بين مختلف التأويلات الواردة للمادة الواحدة لَصارخةٌ. وإذن فالأرجح أن مُزاول تعبير الرؤيا هو الذي كان يضطلع باستلهام هذه الملحوظات في تأويل كل رؤيا يُعمِلُ فيها فطنتَه، بطريقته وبحسب منطق كل حالة على حدة.

أما وأن هذه هي حال القرون الخوالي، ما هي القيمة التاريخية التي تمثلها هذه النصوص في نظرنا الآن، نحن أبناء القرن الحادي والعشرين؟ في رأيي أننا يجب أن نقرأها بوصفها تسوية بين المواضيع المتكررة رؤيتها في المنام فعلاً والمفهرسة وبين التأويلات المعيارية التي أثبتت على كرِّ القرون ما هو "قابل للرؤية" حقًّا. وبهذا فإن نطاقًا تأويليًّا خاصًّا بالإسلام السنِّي قد تعيَّن منذ عصر الدينوري، نُبذتْ منه العناصرُ التي لا توافق السنَّة وحتى الشطط الأخلاقي. من هنا فإنه لَمِنَ التوهم أن نتوقع من هذه النصوص مكتشفات رمزية كبرى – من قبيل استخلاص "لاوعي جمعي" للإسلام الوسيطي، على سبيل المثال. في المقابل، فإن بالإمكان تبيان ملاحظات أكثر تواضعًا، لكنها خصبة ربما، على سريان المعاني في الخيال السنِّي.

إذا قمنا الآن باستنطاق ما تنمُّ لنا عنه هذه النصوص حول مغزى الرؤى التي يُرى فيها النبي محمد ماذا يتيسر لنا أن نجد؟ نجد، بادئ ذي بدء، أنها تتوضع في الإطار الأوسع لرؤى الأنبياء. المؤلفون أو المصنِّفون يضعون على رأس التصنيف، في الغالب الأعم، الرؤى المتعلقة بالله والملائكة والأنبياء والصحابة والتابعين والأولياء والمواضيع الدينية الرئيسة؛ وهم يفعلون ذلك، أغلب الظن، احترامًا للمواضيع الأكثر حرمة، ولكن أيضًا لكون هذه المواضيع تنساق أصلاً لميول مشتركة لا تنطبق على المعطيات الأكثر دنيوية والمشروحة شرحًا غزيرًا في الأبواب التالية. وبين هذه الرؤى التي يختص بها المجال الحرام تبرز الرؤى المتعلقة بمحمد؛ إذ هي تمثل نوعًا من التحقق أو الذروة. وبالفعل، كما يؤكد ابن سيرين[31]، لا مناص من تمييز منزلة النبي الذي يتجلى في رؤيا بعينها: فقد يكون نبيًّا "قليل الشأن" أو نبيًّا "عظيم الشأن" أو واحدًا من الأنبياء "أولي العزم"، إبراهيم وموسى وعيسى ومحمد نفسه؛ فتكون "الشحنة التأويلية" مختلفة لكل حالة على حدة: رؤية أحد هؤلاء الأربعة في المنام مبشِّرة بالرئاسة والفوز؛ أما ظهور نبي "قليل الشأن" فهو، في المقابل، مجرد تصديق للطهارة الدينية. وغني عن القول إن لترائي محمد من بين هؤلاء الأربعة فأل عظيم، كما يومئ إلى ذلك التفليسي مقتبسًا عن الكرماني (التفليسي، ص 36).

التأويلات العامة

إن ظهور النبي محمد في المنام، كما هو متوقع، إشارة مواتية للغاية عمومًا. فالدينوري يخلص بهذا الصدد إلى القول: "وجملة الأمر في تأويل رؤيته عليه السلام أن رؤيته رحمة تغشى صاحب الرؤيا والمكان الذي يرى فيه وأهله، لقوله تعالى: "وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين" [الأنبياء 107]" (الدينوري، ج 1، ص 142). أما الخركوشي فهو يعبِّر تعبيرًا شاعريًّا عن فوائد مثل هذه الرؤى: "طوبى لمن رأى [النبي] في حياته فاتَّبعه، وطوبى لمن رآه في منامه بعد وفاته. فإنه إنْ رآه مديون قضى الله تعالى دَيْنه؛ وإن رآه مريض شفاه الله تعالى؛ وإن رآه ممتحَن كفاه الله تعالى؛ وإن رآه محارب نَصَرَه الله تعالى؛ وإن رآه صَرور [به فاقة] رَزَقَه الله تعالى حجَّ البيت الحرام…" (صح 22، أ-ب). ويتوالى النص، الطويل نسبيًّا، بالاندفاع نفسه: فيض خيرات على الميسورين، بما أنه يبشر رجلاً غنيًّا بالمزيد من الغنى، تعداد للمصائب والمحن التي تبشر رؤية النبي بالنجاة منها، إلخ. وهذا التعداد يستعيده الداري (ص 72)؛ وإننا لنقع على فقرات مشابهة لدى المصنِّفين الآخرين (التفليسي، ص 37-39؛ ابن شاهين، ص 66؛ النابلسي، ص 594، 595، 597).

إن مجرد حضور النبي بمكان طَلْق فيه إشارة إلى الحفظ والخير المعنوي واليسار (التفليسي، ص 37، 38)؛ وفي سياق القتال، يبشِّر حضورُه المغلوبَ بالانتصار على أعدائه (ابن شاهين، ص 66)، إلخ. لكنما إذا اتفق لمحمد أن يبدي للنائم استنكاره، بل غضبه حتى، فذاك لأن هذا الأخير قد تهاون في دينه أو لأنه اعتنق بدعًا مخالفة للسنَّة. إن غضب النبي ينذر عمومًا بالبلاء (التفليسي، ص 36)؛ لكن واقع الأمر هو أن الرؤيا، حتى في مثل هذه الحالات، ناتجة من فضل أو من اصطفاء إلهي، بما أن الغاية من الإنذار، كما يفسر ابن سيرين (في التفليسي، ص 38)، هي بلوغ النجاة. يؤيد هذه الفكرة تأويل آخر متكرر: إذا رأى المرء في المنام أنه تحول في صورة النبي فهذا يعني أنه سوف يكابد المحن نفسها التي كابدها محمد في حياته (كذا عند التفليسي، ص 38). وفي الحاصل، كما يلحظ النابلسي، فإن رؤية النبي في المنام "بشارة للرائي بحسن العاقبة في دينه ودنياه"، وذلك بحسب حاله: "إن كان عابدًا بلغ إلى منازل أهل الكرامات، وإن كان عاصيًا تاب وأناب إلى الله تعالى، وإن كان كافرًا اهتدى" – ذلك أنها تنطبع على مرآة النفس، "وعلى قدر ذاتـ[ـه] وصفاء مرآتـ[ـه] تتنزل لـ[ـه] رؤيتُه عليه السلام في المنام" (النابلسي، ص 594-595؛ وبالمؤدى نفسه، ابن شاهين، ص 66).

ورسالة الرؤيا كثيرًا ما يكون المغزى منها دينيًّا. فهي عبارة عن بشرى للرائي بالمنن والبركات، وحتى، بكل صراحة، بشرى له بأنه "من أهل الجنة ومن الفائزين" (ابن شاهين، ص 66)؛ حتى إن حديثًا يورَد بهذا الخصوص: "مَن رآني في المنام فلن يدخل النار"[32] (الدينوري، ج 1، ص 93؛ الخركوشي، صح 21، أ؛ الداري، ص 72؛ النابلسي، ص 593). لكنما يمكن للوعد أيضًا أن يتعلق بالمجال محض الدنيوي (شفاء، مال، رئاسة…)؛ فالواقع أن هذين المجالين متداخلان تمامًا بنظر المؤوِّلين الذين لا حاجة عندهم إلى الفصل بينهما في بابين مستقلين: فالبركة النبوية تشمل كلتا الحياة المادية والحياة الدينية جميعًا.

بذا، إذا رأى بعض التجار أنه يزور قبر الرسول فهذا عبارة عن وعد بأنه يصيب مالاً عظيمًا (الدينوري، ج 1، ص 142؛ الداري، ص 72-73)، من دون أن تُذكَر الفوائد الروحية. وفي كلتا الحالتين – المغزى الدنيوي أو المغزى الديني من الرسالة –، كثيرًا ما تنطوي هذه الرؤى على بُعد يخص الجماعة: فمن شأنها أن تخص شخص الرائي وحده، لكنها كثيرًا ما تخص أيضًا أتباع ملَّة محمد في مدينته أو بلاده، بل حتى أمَّة محمد عمومًا: "رؤية الرجل الواحد رسولَ الله في منامه لا تختص به، بل تعمُّ جماعة المسلمين" (الداري، ص 73؛ النابلسي، ص 596). وهذا يصح بالأحرى إذا رأى الرؤيا إمامُ المسلمين أو كانت تخص مسئولين سياسيين أو عسكريين. ومهمَن كان رائي الرؤيا فإن الحديث يحضُّه على أن يحدِّث بها غيره من المؤمنين مادام في فحواها فائدة معنوية لهم.

أما وقد قلنا ما قلنا، ما هي الدلائل والتفاصيل التي تتيح توجيه التأويل؟ بين الرئيسي منها، لهيئة النبي أهمية عظيمة، وكذلك لنوع الثياب التي يلبسها. فإن في مجرد رؤيا محمد في هيئة حسنة ولابسًا ثوبًا نفيسًا وعدًا بالثواب على صالح الأعمال في الدنيا والآخرة، أو باللطف في البلايا، خاصة إذا بدا عليه الرضا والبشاشة؛ وهذا – نكرر – قد يكون عبارة عن رسالة مخصوصة بفرد بعينه وقد تكون المعنيةَ بها جماعةُ الإسلام أيضًا (الدينوري، ج 1، ص 141؛ التفليسي، ص 35). على الضد من ذلك، إذا بدا النبي شاحب اللون، مهزولاً، ناقصًا بعض الجوارح، أو رثَّ الكسوة، فإن الرسالة معاكسة: إنها تعني أن الرائي أو أهالي بلاده متهاونون في الدين أو ضالون عنه أو مستهترون به (الدينوري، ج 1، ص 141؛ التفليسي، ص 37، 38؛ ابن شاهين، ص 66؛ الداري، ص 73)، ولاسيما إذا رآه غضبان عبوس الوجه.

وليس من نافل القول هنا أن نلحظ بأن تفسير الحديث قد أخذ بالحسبان مثل هذا النمط من التأويل القائم على هيئة جسد النبي. بذا فإن المحدِّث الكبير ابن حجر العسقلاني يبين، فيما يخص الحديث الذي نحن بصدده، أن جسد النبي في المنام قد يشير إلى مقدار صلاح دين الرائي؛ وبالتالي، فإن كمال الجسد المرئي أو نقصه يترجَم بحسب هذه المقاربة القياسية. ومنه فإن رؤية جسد النبي وقد اعتراه شين أو نقص تدل على وجود خلل خطير في الدين، وربما على ظهور البدعة؛ فصاحب الرؤيا المبتدع [= الزنديق] مَن أحرز في المنام عنده عضوًا من أعضاء النبي (الدينوري، ج 1، ص 142؛ الداري، ص 73؛ النابلسي، ص 596). لكلٍّ من هذه التفاصيل أهميته، لأنها تبين أن صورة النبي – على الضد مما قد يشي به الحديثُ المدروس هنا – تحيل إلى أسانيد أخرى عديدة غيرها هي، وهذا على غرار جميع الخلائق الأخرى التي تظهر في الرؤى في الحاصل.

من ناحية أخرى أيضًا، تستحق الانتباه صورةُ جسد النبي كرمز جامع إلى الأمَّة أو الدين: "فإن رؤية جسده تامًّا صلاح جماعة الإسلام" (الدينوري، ج 1، ص 141؛ التفليسي، ص 38). إذ يمكن لمظهر محمد الجسدي أن يعكس بالفعل طبيعة سلطة الإمام أو السلطان: "إن رآه عليه السلام أعظم ما يكون فإن الإمام تعظم رياسته وسلطانه" (النابلسي، ص 596). وغلاظة عنقه وسعة صدره وطول ساقيه وانفراج أصابع يده أو قبضها إلخ تدل على صفات الإمام المعنوية وسلوكه في السياسة والحرب وتدبير المال والأرزاق (النابلسي، ص 596). متكرِّرة أيضًا هي صورة دم النبي: "إنْ رأى أنه شرب دمه عليه السلام حبًّا فيه خفيةً فإنه يُستشهَد في الجهاد" (الدينوري، ج 1، ص 142؛ النابلسي، ص 595). أما نبش قبر أحد من الأنبياء فيعني في بساطة جمع علم النبي وإحياء سنَّته، "وإنْ وجد من عظمه شيئًا يكون اتِّباعه أبلغ وحصل مراده من ذلك" (ابن شاهين، ص 66). من هذا القبيل تأويل ابن سيرين لرؤيا والد الفقيه الكبير أبي حنيفة، صاحب المذهب الحنفي، الذي رأى ابنه يدخل قبر النبي محمد وهو غلام، فيجمع عظامه ثم يخرج بها (الدينوري، ج 1، ص 144).

إلى ذلك، فإن سِنَّ شخص النبي تستوجب التأويل هي الأخرى: "من رآه شيخًا فهو في غاية سلم، ومن رآه شابًّا فهو في غاية حرب"؛ "ومن رأى النبي صلى الله عليه وسلم في صورة شاب طويل فإنه يكون في الناس فتنة وقتل، وإن رآه وهو شيخ كبير فإن الناس في عافية" – وذلك تبعًا للمنحنى التاريخي لسيرة محمد (النابلسي، ص 593، 597). كذلك يهم كثيرًا سلوك النبي المحتمل حيال الرائي: "إن رآه مقبلاً عليه فهو خير للرائي، وعكسه بعكسه" (النابلسي، ص 593). وكثيرًا ما يحصل أن يعطي النبيُّ الرائيَ شيئًا من مستحبِّ متاع الدنيا أو من طعام أو شراب؛ والحال، فإن طبيعة هذه العطية وجوهرها النفيس أو الرديء يشيران إلى ما يخبئه المستقبل القريب للرائي أو لأهله (الدينوري، ج 1، ص 142؛ وعنه يأخذ الداري، ص 73). فإن ناوله، على سبيل المثال، مما يُستحب نوعُه من الفاكهة، كالرطب والعسل، فإنه يحفظ القرآن وينال من العلم بقدر ما ناوله؛ أما إذا رآه يكسوه ملبوسًا دلَّ ذلك على التقوى، لاسيما إن كانت الكسوة بيضاء أو خضراء (التفليسي، ص 38؛ النابلسي، ص 596). كما يمكن لصلة خاصة أن تنعقد بين محمد والرائي، الذي قد يتفق له أن يرى نفسه لابسًا ملبوس النبي (ابن شاهين، ص 67)، أو يرى نفسه كأنه ابنه وليس من نسله، دلالةً على خلوص إيمانه ويقينه؛ أو حتى كأنه أبوه، وهو بالعكس أمر مشئوم يدل على وهن دينه وضعف إيمانه ويقينه (الدينوري، ج 1، ص 142؛ الداري، ص 73؛ النابلسي، ص 596، 597)، نظرًا لأن عبد الله بن عبد المطلب مات على الشرك. أخيرًا، فإن موت النبي أو جنازته ينذران بمصيبة وشيكة، في بقعة بعينها إذا اتفق للحدث أن يقع فيها، أو بموت واحد من نسل الرائي (التفليسي، ص 38؛ الداري، ص 72؛ النابلسي، ص 595).

كذلك فإن تكرار رؤى بعينها يؤخذ بالحسبان على نحو طبيعي للغاية: "من رأى النبي صلى الله عليه وسلم كثيرًا، وليس في رؤياه مكروه، لم يزل خفيف الحال" (الدينوري، ج 1، ص 140). لكنما يتدخل هنا بالأخص متحول آخر، ليس شكلانيًّا لكنه ذاتي، ونعني حال الرائي الشخصية – مكانته الاجتماعية أولاً: رؤيا الإمام أو السلطان لا بدَّ أن تؤوَّل على حدة، إذ لا تنطبق عليه القواعد التي تنطبق على عامة المسلمين. كل فئة اجتماعية وكل سِنٍّ وكل انتماء مِلِّي مولِّد في الواقع لخيال منامي يختص به على نحو ما، وينبغي لمعبِّر الرؤيا أن يأخذه بالحسبان (التفليسي، ص 14-17). لكن هذا يتعلق أيضًا – وبالأخص – بحال سريرته. فالنابلسي يذكِّر، مستندًا إلى مصادر نقلية، بأن النفس البشرية مرآة تلتقط ساعة النوم الصور التي تتراءى لها؛ فكلما كانت المرآة صقيلةً علَّمتْها صورةُ النبي التي تنطبع عليها أمورًا أفْيَد. وفي واقع الأمر، يعكس مظهرُ صورة النبي الحالَ الباطنة للرائي (النابلسي، ص 594). والمراد من ذلك أولاً هو موقفه الديني الإجمالي: فالعاصي أو الواهن الإيمان أو غير الصالح لا يكون أي تراءٍ نبوي مواتيًا له، حتى في إطار موضوع تديُّن (من ذلك إطار حج البيت الذي يورَد على سبيل المثال)؛ فالمقصود منه دومًا هو التحذير الصارم (الدينوري، ج 1، ص 141). أما الكافر فيمكن له بالفعل أن يتلقى في المنام رسالة "صالحة"، لكنها تقابل بالضرورة إنذارًا ملحًّا. وبذا يحيَّد خطرُ إضفاء الشرعية على آراء فاسدة تصدر عن أناس على هامش السنَّة. يؤخذ بالحسبان، أخيرًا، المفعول الذاتي في لحظة الرؤية و/أو الاستيقاظ بعينها – ما يسمِّيه الدينوري الضمير: "الضمير في الرؤيا أقوى من النظر" – ثم الأثر الذي يتركه هذا المفعول في اليقظة (الدينوري، ج 1، ص 108-109، 140). وهذا عنصر حاسم في إرشاد التأويل؛ الأمر الذي يتطلب من معبِّر الرؤيا إصغاءً منتبهًا ومتواصلاً إلى رواية صاحب الرؤيا طالب مشورته. إذ إن هذا ما يتيح فرز طبيعة الرؤيا ومغزاها الحقيقي، بحسب ما إذا ترافقت في المنام ثم تلاها عند الاستيقاظ فرحٌ خالص، مثلاً، أو ندم، إلخ.

ثمة أيضًا رسائل لفظية يبلِّغها النبي للرائي. في هذه الحال، ينبغي لعباراته بحذافيرها أن تؤخذ على محمل الصدق. إن مجرد سماع امرئ نبيًّا يكلِّمه لَبشرى بأنه سيصيب نصيبًا من علم ذلك النبي (الكرماني، ينقل عنه التفليسي، ص 36). ويبدو أن هذا المبدأ – خطاب النبي واضح، لا مواربة فيه ولا رموز، ويجب قبوله، وعند الاقتضاء، تحديث الناس به كما هو – واضح للوهلة الأولى ولا لبس فيه. لكن التأويل يتعقد في حالاتِ عباراتٍ (تذكرها تصانيفنا) من قبيل التناقض يفوه بها محمد أو تصرفات يأتي بها غير متوقَّعة من نبي. نحن هنا نمس مسألة دقيقة: فقد يحصل مثلاً، كما يشير ابن شاهين، أن يأمر أحد الأنبياء الرائي بما يخالف الشريعة (ص 66)، الأمر الذي يوجد موقفًا فيه شبهة. والدينوري يستنكر الأحلام التي يعمل فيها نبيٌّ من الأنبياء عمل الفراعنة أو يتكلم مثلهم بوصفها أضغاثًا؛ وخبث هذا النمط من الأحلام يُستشف، على ما كتب، من هذا التفصيل غير المقبول أو ذاك: "وكل شيء رأيته ناقصًا فاعلم أنه من الأضغاث، والأضغاث تدل على الشر الحاضر" (الدينوري، ج 1، ص 98)[33]. القضية، على نحو ما، مفروغ منها؛ لكن الحديث المذكور أعلاه ينص، خلافًا لذلك، على أن صورة النبي أبعد من متناول الشبهات الشيطانية. فكيف يعلَّل هذا؟ هناك بضع طُرُق للتعليل يمكن إعمالُها بحسب مصنِّفينا:

1) مبدأ اتساق العقيدة: رؤية نبي أو مَلَك أو وجيه من وجوه الدين يأتي معصيةً (أو يأمر بإتيانها) هي من البُعد عن المعقولية بحيث إن ظهورًا كهذا يُطرَح في فئة الأضغاث. لكن طبيعة الضلالة أو الهلوسة المذكورة – قد تكون عبارة عن وسوسة شيطانية و/أو عن شين في نفس الحالم – لا تلقى البتة إيغالاً في التحليل. الحديث يؤكد أن الشيطان "لا يتخيل" بمحمد؛ وإذن فإن الخيال المرئي في المنام ليس "خيال" النبي. لكن لدى الشيطان، على ما يبدو، من القدرة ما يوسوس به بهذا القدر من الوهم لراءٍ عاص أو واهن الدين. وهذه المشكلة لا نجد لها تعليلاً أوفى: أغلب الظن أنه ليس لدى مصنِّفينا اهتمام بالمرة للتوغل في الآليات السرِّية للكذب والوهم؛ أو لعلهم قد استشعروا الصعوبة الفقهية العقيدية التي تثيرها هذه النقطة.

2) تفسير رؤيا بعينها: الأمر بمخالفة الشريعة الذي يلقيه النبي قد يُفهَم كإنذار ساخر من فساد دين الرائي. إنه يعني، كما كتب ابن شاهين موردًا الحديث: "إذا لم تستح من الله فاصنعْ ما شئت" (ص 66). والحال، فإن الرؤيا حق، لكنها مجعولة على سبيل الزجر والوعيد.

3) تطبيق مبدأ تعبير المنام في تأويل المعنى بضدِّه ومقلوبه: "يقلب الشاهد الرؤيا فيجعل الخير شرًّا والشرَّ خيرًا". بذا فإن رؤية الحامل أنها ماتت وحُمِلَتْ، والناس يبكون عليها من غير رنة ولا نوح، دلالة على أنها تلد ابنًا وتُسَرُّ به، وعكسه بعكسه (الدينوري، ج 1، ص 96؛ الداري، ص 38). المسألة هنا، إذن، مسألة تأويلية بحتة. وبذا يُستوثَق من صدق الرؤية المعنية، كما في الرؤيا السابقة؛ لكنما، كما في تلك الحالة بالدقة، فإن مبدأ وضوح الخطاب والسلوك النبويين وجلاء معناهما هو الذي يتعرض للشبهة. وإذن فإن النبي يتكلم في الوقت المناسب بالرموز والمفارقات، كشأن غالبية المواضيع الأخرى التي تنبثق في المنام.

إن عالِمًا سُنيًّا ذائع الصيت مثل ابن حجر العسقلاني يؤيد هذا النوع من التفسير كل التأييد. فبخصوص أحلام يوعز فيها النبي إلى الرائي بمخالفة الشرع – كأنْ يأمره بقتل نفْس بغير حق مثلاً –، يميز ابن حجر بين الرؤيا المباشرة الحق وبين الرؤيا الرمزية، حيث ينبغي التفتيش عن المراد من رؤيا مريبة، كرؤية المثال الذي أوردناه، بتأويلها رمزًا (الحالتان 2 و3 المذكورتان أعلاه). بذا فإن التشويه الذي يعتور صورة النبي لا يخصه هو، بل هو ناجم عن شين في نفس الرائي؛ حتى إنه يقتبس هنا كلام الدينوري بحذافيره (ج 1، ص 141)، مشيرًا في السياق إلى درجة قبول تعبير المنام في إطار الثقافة الدينية العالِمة. وإذن فإن الالتباس يقيم في النقص الذي جُبلتْ عليه نفوسُ غالبية البشر، الأمر الذي يشدِّد، إلى ذلك، على الضرورة المُلحَّة لعلم التعبير الذي وحده قادر أن يجتنب عثرات الأحلام الخادعة.

مهما يكن من أمر، فإن الله، كما يذكر الداري، فعَّال لما يريد، وقد يريد أن يرسل رسائل في المنام كما يشاء ولمن يشاء: إنه يقدر أن يرسلها بواسطة المَلَك الموكل بها أو بواسطة الشيطان. وإذ ذاك فلا مناص من التمييز، بحسب السنَّة، بين "الرؤيا" الصادقة وبين "الحلم" الخبيث؛ لكن الأصل الإلهي للرؤية ثابت في كلتا الحالين، لأن "الله سبحانه هو الخالق لجميع ما يُرى في المنام من خير أو شر" (الداري، ص 26). فإذا وُجِدَ اللبسُ واضطربت نفسُ الرائي، عليه عند استيقاظه أن يؤدي فروض الشرع بحذافيرها، لا أن يمتثل لإيعاز الرؤية، حتى إذا أوعز به إليه خيالُ النبي. وهذه النقطة حاسمة، لأنها تذكِّر بالحد الفاصل دومًا بين وظيفة الرؤيا كجزء من النبوة وبين الشريعة التي سُنَّتْ للبشر في حالة اليقظة والتي ستبقى سارية المفعول حتى قيام الساعة وانقضاء الأزمنة التاريخية. ففي الحالات النموذجية كلها، نرى أن تعبير المنام ينغلق بذلك في حلقة تأويلية: كل فحوى مخالف للسنَّة أو غير أخلاقي سرعان ما يُعزى إلى حال الرائي أو إلى مقدرته على التأويل، ولا يجوز له بأي حال من الأحوال أن يضفي شرعية على أقل ثغرة في صرح عقيدة أهل السنَّة والجماعة أو أخلاقهم.

لقد كان بالإمكان أن يُستشعَر مما ذهبنا إليه في مستهل كلامنا أن من شأن ظهور النبي في المنام أن يصبح شكلاً قويًّا من أشكال استمرار الكرامة النبوية بعد وفاة محمد في العام 632؛ بيد أن الواقع التاريخي، كما رأينا لتوِّنا، جاء خلاف ذلك.

أجل، إن الرؤى التي ظهر فيها محمد كانت كثيرة على كرِّ القرون، أكثر قطعًا من الرؤى التي ظهر فيها غيره من الأنبياء أو الملائكة؛ وقد فاقت أهميتها بكثير، على كل حال، أهمية ترائيات الله نفسه، وهي أندر وأدق تأويلاً. كانت رؤية محمد في المنام مشحونة دومًا بسلطان قاهر لا يُشكَّك فيه بتاتًا؛ الأمر الذي يفسِّر، خلافًا لما ينمُّ عنه الحديث المدروس هنا، أن شخصه راح يحيل إلى دوالٍّ أخرى عديدة سواه (الإمام، الوالدين، الأمَّة، الدين…). غير أن الحواجز الإپستمولوجية والعقيدية التي أقامها علماء السنَّة أفلحت في حصر رهاناتها في مجالات محددة بعينها. فقد يكون المقصود هو مجال الحياة الخاصة البحتة، فيخص الترقِّي الخُلُقي والديني لذات الرائي؛ كذلك الرؤى المقصودة بها الأمَّة والمفهرسة في مصنفاتنا قُبلَتْ وأوِّلَتْ في إطار مواز تمامًا: حثٌّ على الحمد عند المكروه وعلى التوبة عند المعصية. لا جديد، كما نرى، على الرسالة المحمدية: المطلوب دومًا عبارة عن مجرد تفعيل لموقف المؤمن وجهاده في هذه الدنيا. وبهذا تمكَّن مذهب أهل السنَّة، عبر نشاط ذكي ومنهجي، من أن يستعيد لصالحه قوة الرؤيا وشحنتها الرمزية، مشذبًا جميع عناصرها الملتبسة أو المخرِّبة، جاعلاً منها أداة شرعنة واستمداد دينيين.

المترجم عن الفرنسية: ديمتري أڤييرينوس

المراجع الإسلامية

ابن سيرين، تفسير الأحلام الكبير، راجع: الداري.

ابن شاهين، غرس الدين (1993)، الإشارات في علم العبارات، بتحقيق سيد كسروي حسن، بيروت: دار الكتب العلمية.

– التفليسي، حبيش بن إبراهيم (1994)، كامل التعبير، بتحقيق محمد حسين ركن زاده آدميت، تهران: كتابفروشي إسلامي.

الخركوشي، أبو سعيد الواعظ، البشارة والنذارة في تعبير الرؤيا، مخطوط، حاجي بشير آغا كتابخانه، 348.

الداري، أبو علي (1995)، تفسير الأحلام (منسوب إلى ابن سيرين)، بيروت: منشورات دار مكتبة الحياة.

الدينوري، أبو سعد (1997)، كتاب التعبير في الرؤيا أو القادري في التعبير، في جزأين، بتحقيق فهمي سعد، بيروت: عالم الكتب.

الغزالي، أبو حامد (2006)، مجموعة رسائل الإمام الغزالي، 1-7، بيروت: دار الكتب العلمية.

النابلسي، عبد الغني (1991)، تعطير الأنام في تعبير المنام، بيروت: دار الكتب العلمية.

المراجع الأجنبية

– ABDEL-DAÏM, Abdallah (1958), L’oniromancie arabe d’après Ibn Sīrīn, Damas : Presses Universitaires de Damas.

– BLAND, Nicholas (1856), "On the Muhammedan Science of Tābir or Interpretation of Dreams," Journal of the Royal Asiatic Society, pp. 118-179.

– FAHD, Toufic (1987), La divination arabe, Paris : Sindbad.

– FAHD, Toufic (1997), Études d’histoire et de civilisation islamiques, vol. I, Istanbul : Isis.

– IBN ABĪ AL-DUNYĀ, Morality in the Guise of Dreams—A Critical Edition of Kitāb al-Manām, with an Introduction by Leah Kinberg, Leiden: Brill.

– KATZ, Jonathan (1996), Dreams, Sufism and Sainthood—The Visionary Career of Muhammad al-Zawāwī, Leiden: E.J. Brill.

– GOLDTZIHER, Ignaz (1912), "Addendum to Krenkow: ‘The Appearance of the Prophet in Dreams’," Journal of the Royal Asiatic Society, pp. 503-506.

– KINBERG, Leah (1985), "The Legitimization of the Madhāhib through Dreams," Arabica, XXXII.

– KINBERG, Leah (1986), "Interaction Between This World and the Afterworld in Early Islamic Tradition," Oriens, XXIX-XXX.

– KINBERG, Leah (1991), "The Standardization of the Qur’ān Readings—The Testimonial Value of Dreams," The Arabist, Budapest Studies in Arabic, III-IV.

– KINBERG, Leah (1993), "Literal Dreams and Prophetic Hadīths in Classical Islam—A Comparison of Two Ways of Legitimization," Der Islam, LXX.

– KINBERG, Leah (1994), see: IBN ABĪ AL-DUNYĀ.

– KISTER, M.J. (1974), "The Interpretation of Dreams—An Unknown Manuscript of Ibn Qutayba’s ‘Ibarāt al-Ru’yah," Israel Oriental Studies, IV.

– KRENKOW, F. (1912), "The Appearance of the Prophet in Dreams," annexed to his article "The Tarīkh-Baghdād (vol. XXVII) of the Khatīb… al-Baghdādi, Journal of the Royal Asiatic Society, pp. 77-99.

Les rêves et les sociétés humaines (1967), Éd. Par Gustav E. von Grunebaum et Roger Caillois, Paris : Gallimard.

– LORY, Pierre (1998), « Les rêves dans la culture musulmane », Islam de France, VI.

– MASSIGNON, Louis (1963), « Thèmes archétypiques et onirocritique musulmane », dans Opera Minora II, Beyrouth : Dar al-Maaref.

– MEIER, Fritz (1985), « Eine Auferstehung Mohammeds bei Suyūtī », Der Islam, LXII ; repris dans Essays on Islamic Piety and Mysticism (1999), English trans. by J. O’Kane, Leiden: Brill.


* نص محاضرة ألقِيَتْ في المركز الثقافي الفرنسي في دمشق في 2009/12/16.

** دكتور في الدراسات العربية والإسلامية، اختصاصي في التصوف. مدير دراسات في "المدرسة التطبيقية للدراسات العليا" (السوربون). نشر مؤلفات ومقالات عديدة في التفسير الصوفي للقرآن ولصنعة الكيمياء العربية وفي تعبير الرؤيا في التراث الإسلامي. يشغل حاليًّا منصب المدير العلمي في المعهد الفرنسي للشرق الأدنى (دمشق).

[1] راجعه في سفر التكوين 37: 9-10؛ 40: 5-22؛ 41: 1-36. (المترجم)

[2] الإسراء مبهم المعالم (بيت المقدس ليس مذكورًا في النص بلفظه)؛ يؤوِّله الحديث بمعنى واقعي بوصفه انتقالاً بالجسم، لكن الآية 60 من سورة الإسراء تورده صراحةً بلفظة "رؤيا": "وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس".

[3] للاطلاع على لمحة موجزة عن رؤى النبي وأصحابه، راجع: فهد، 1987، ص 255-289 [ت ع: توفيق فهد، الكهانة العربية قبل الإسلام، بترجمة حسن عودة ورندة بعث وتقديم رضوان السيد، دمشق: قدمس للنشر والتوزيع، 2007، ص 181-204]. يعتمد فهد كتب المؤرخين (ابن هشام؛ ابن سعد) خصوصًا، لكننا نقع على روايات مشابهة في صحيح الحديث أيضًا.

[4] وفي بعض الروايات: "جزء من أربعين"، "جزء من سبعين"، إلخ؛ فروايات هذا الحديث متباينة، ولهذا التباين أهميته أحيانًا. للاطلاع على مجموع مراجع هذا الحديث، راجع: كِنْبرگ، 1993، ص 283، الحاشية 12.

[5] "الكذب في المنام اشتد فيه الوعيد" (ابن حجر)، وذلك لأن الرؤيا في المنام، بمقدار ما هي رسالة إلهية، فإن الكذب فيها في الحاصل افتراء على الله، وهو بهذه المثابة مثل الشرك بالله، وشأن الكاذب فيها شأن صانع الصنم المذكور في الحديث نفسه ("مَن صوَّر صورة")، الذي يصور هو الآخر "صورة" كاذبة على الله.

[6] جاء في الحديث أن أعرابيًّا أتى محمدًا يسأله تأويل حلم رأى فيه كأن عنقه ضُربت وسقط رأسه، فاتبعه فأخذه فأعاده، فلم يرَ النبي في الحلم إلا وسوسة من الشيطان ونصح للأعرابي ألا يكترث به ولا يقصه على الناس.

[7] راجع الفقرة التي يطرح فيها الدينوري (ج 1، ص 98) الأحلام التي يبدي فيها الله أو الأنبياء أو الملائكة سلوكًا شائنًا (كما سنبيِّن لاحقًا) بوصفها وسوسات وأضغاثًا؛ وليس هذه وحسب، بل والأحلام غير المعقولة أيضًا: كأنْ يرى المرء أنه نبتت من السماء أشجار أو طلعت من الأرض نجوم، أو يرى الفيل قملة أو الأسد نملة. إن اتساق العقيدة الدينية منسجم هنا تمامًا مع اتساق نواميس الكون، كلاهما مطبوع بالتناغم نفسه.

[8] في الكوسمولوجيا الإسلامية الوسيطية نجد أفلاك السموات السبع وفلك النجوم الثابتة، يطوقها أو يحيط بها عرش الله؛ وعلى مقربة من العرش المحيط يوجد اللوح المحفوظ الذي خُطَّتْ عليه أقدارُ الكائنات كلها والعلمُ بما كان وما يكون وما سيكون.

[9] كان هذان المفهومان عن الرؤيا موجودين منذ القديم، وقد وضع الفلاسفة شروحًا عليهما؛ وحين جاء الفكر السنِّي الغالب صدَّق كليهما بالاستناد إلى أحاديث متفاوتة الصحة.

[10] للاطلاع على المراجع النصية لهذا الحديث في صحيح الحديث، راجع: أ.ي. ڤِنْسِنْك، توافُق الحديث النبوي وقرائنه، ليدن: برل، 1936، مادة "منام"؛ كِنْبرگ، 1993، ص 285، الحاشية 16.

[11] من ذلك شرح استعمال سين التنفيس في رواية "… فسيراني في اليقظة" الذي استدعى تفسيرات متخبطة أحيانًا: كأنْ لا يخص الحديث غير المعاصرين لمحمد؛ أو لعل المراد منه أن الرائي سيفهم معنى ما رأى حين يستيقظ؛ أو لعل المقصود هو حال المؤمن بعد القيامة، وعدًا بصحبة النبي في الجنة. أما الغزالي فيؤوِّل بحسب مذهبه: إدراك الصورة الرمزية يمنح مدخلاً أعمق إلى روح النبي نفسه: "جوهر النبوة – أعني الروح المقدسة الباقية من النبي بعد وفاته – منزهة عن اللون والشكل والصورة، ولكن تنتهي تعريفاته إلى الأمَّة بواسطة مثال صادق ذي شكل ولون وصورة" (رسالة المضنون به على غير أهله). أما كرنكوڤ (1912) فهو يومئ، في المقابل، إلى أن هذا الاستقبال يشير إلى الحال التي كان عليها نص الحديث في حياة محمد، بينما تقابل الروايات الأخرى تحريفات لاحقة على النص بعد موته.

[12] إن مسألة طبيعة الرؤيا نفسها قد دفعت الفقهاء إلى التفكر: فهي متداخلة بالفعل مع التصورات عن العلاقة بين الجسم والنفس (المذكورة صراحة في القرآن الكريم: سورة الزمر 42؛ سورة الأنعام 60)، وبالتالي، عن طبيعة النفس الفردية وبقائها في الآخرة وكيفيات القيامة.

[13] تنص إحدى روايات الحديث الذي نحن بصدده على أن "مَن رآني في المنام فقد رآني حقًّا، فإني أُرى في كل صورة"، غير أن المحدِّث ابن حجر العسقلاني يرى في كتابه فتح الباري أنه ضعيف الإسناد نظرًا لأن أحد ناقليه خولط في عقله في آخر عمره؛ لكنه يستحق إيراده على الأقل. راجع أيضًا: النابلسي، ص 593.

[14] قصدوا من ذلك خبرة كشفية قاهرة لا تترك مجالاً للشك في حضور النبي، لكنها خلو من التمثيل البصري.

[15] راجع: الغزالي، رسالة المضنون به على غير أهله. ويدقق الغزالي: "الرسول أيضًا لا يُرى [في المنام]؛ فإن المرئي مثاله، لا عينه؛ فقوله: "مَن رآني في المنام فقد رآني" هو نوع من التجوز معناه: كأنه رآني، وما سمع من المثال كأنه سمع مني". (المترجم)

[16] نلحظ هاهنا مثالاً جيدًا على تفسير للحديث يجتهد في شرح مختلف روايات الحديث الواحد وفي الاستفادة من كلٍّ منها: تنطبق كل رواية بالفعل على حالة بعينها من حالات خبرة الرؤية، وبذا تُنحَّى المسألةُ المطروحةُ بخصوص صحة الروايات المأثورة المتباينة.

[17] راجع: ماير (1985) الذي يسعى خصوصًا إلى تميُّز الكيفيات الدقيقة لبقاء النبي في الآخرة عند مختلف المفكرين المسلمين الذين تطرقوا إلى المسألة. ومن الجدير بالملاحظة أن الرأي الذي تقول به السلفية، والذي مفاده أن محمدًا قد مات وأن النبوة انقطعت عنه وأن روحه تقيم جغرافيًّا في المدينة المنورة وحدها، بقي أقليًّا طوال القرون وحتى يومنا هذا. للاطلاع على تعريف دقيق بكيفيات رؤية النبي، راجع: المقال نفسه، ص 39.

[18] إن شروح ل. كِنْبرگ على كتاب المنام لابن أبي الدنيا الذي حققتْه وقدَّمتْ له (1994) لَتُبرز بداهة النص: الرؤى (أو الحكايات الواردة بصفتها رؤى) المختارة هنا ترمي جميعًا إلى تعزيز شرعية الإسلام السنِّي المعوِّل على الحديث وشرعية أخلاقه الدينية وشرعية نبذه لبعض التيارات (الاعتزال، التشيع، إلخ).

[19] بات في مستطاعنا الرجوع إلى ترجمة إنكليزية حسنة التقديم والحواشي لهذا النص في مفهوم الولاية في التصوف الإسلامي المبكر، قام لها ب. رادتْكه ونقلها إلى الإنكليزية ج. أوكين، رتشمُند: كورزُن پرس، 1996. للاطلاع على الرؤى المذكورة، راجع: ص 18، 28، 30، 31؛ والفهرست، مادة "حلم". [راجعْها بنصِّها العربي في: أبو عبد الله الحكيم الترمذي، كتاب ختم الأولياء، بتحقيق عثمان يحيى، بحوث ودراسات بإدارة معهد الآداب الشرقية، مج 19 (بيروت: المطبعة الكاثوليكية، 1965)، ص 16، 25، 26، 28. (المترجم)]

[20] كان هنري كوربان قد درس كتاب كشف الأسرار في رباعيته عن الإسلام في إيران، مج 3 (باريس: گليمار، 1972)؛ وقد عني پول بالنفا بترجمة نصِّه كاملاً وتقديمه تقديمًا وافيًا (باريس: سوي، 1996).

[21] راجع: ابن عربي، فصوص الحكم، بتحقيق وشرح أبي العلا عفيفي، دار الكتاب العربي، بيروت: طب 2: 1980، ج 1، ص 47. (المترجم)

[22] للاطلاع على دور الخيال الرؤيوي في تصوف ابن عربي، راجع: هـ. كوربان، الخيال الخلاق في تصوف ابن عربي، باريس: فلاماريون، 1958 [ت ع: فريد الزاهي، كولن: الجمل، 2008]. [أحصى عثمان يحيى ضمن كتابه مؤلفات ابن عربي: تاريخها وتصنيفها (بترجمة أحمد محمد الطيب، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2001) كتابًا بعنوان المبشرات من الأحلام فيما رُوي عن النبي من الأخبار في المنام أو المبشرات الكبير (ص 542). (المترجم)] إلى ذلك، فقد بسط الشيخ الأكبر مذهبًا شاملاً ذهب فيه [استنادًا إلى الحديث الشريف: "إن الناس نيام، فإذا ماتوا انتبهوا"] إلى أن اليقظة نوع من المنام بالقياس إلى "اليقظة" الحقيقية الوحيدة التي هي الوعي الإلهي: "فاعلم أنك خيال، وجميع ما تدركه، مما تقول فيه: ليس أنا، خيال. فالوجود كله خيال في خيال، والوجود الحق إنما هو الله […]" (راجع: فصوص الحكم، "الفص اليوسفي"، ص 99-106).

[23] راجع: فهد، 1987، ص 329 [ت ع: ص 234]؛ و1997، ص 44 و102، حيث يلحظ أن الأدبيات المسيحية لم تخصِّص لهذه المسألة أي كتب مكافئة.

[24] مرارًا ما يرد اسم سعيد بن المسيب، الذي عاش في أول العهد الأموي، وكذلك اسم ابن سيرين (654-728) بالأخص، في النصوص المتأخرة. وقد قُيِّدتْ التشخيصات والروايات المؤسِّسة في منتخبات منذ القرنين الثالث والرابع للهجرة، نذكر من أهمها المقالات المنسوبة إلى جعفر الصادق وابن سيرين وأبي اسحق الكرماني. للاطلاع على عرض حول ولادة جنس تعبير الرؤيا في الثقافة الإسلامية، راجع: فهد، 1987، ص 309-328 [ت ع: ص 218-234]؛ و1997، ص 38-43، 70-72. كذلك يحوي مقال ن. بلنْد الرائد (1856) عناصر تاريخية مفيدة، وإنْ كانت وثائقُه آنذاك لا تزال مبعثرة بعض الشيء.

[25] راجع: أرطاميدُورس الإفسُسي، كتاب تعبير الرؤيا، نقله من اليونانية إلى العربية حنين بن إسحاق، وقابله بالأصل اليوناني وحققه وقدم له توفيق فهد، دمشق: المعهد الفرنسي للدراسات العربية، 1964. (المترجم)

[26] عقد لويس ماسينيون حول كتاب القادري سمنارات في الكوليج دُه فرانس طوال سنتين (في العام 1941-42 وفي العام 1942-43)؛ للاطلاع على مَحاضرها، راجع: حوليات الكوليج دُه فرانس، السنة 41 (1941) والسنة 42 (1942)، وكذلك السنة 51 (1951). وقد حاول ماسينيون، الذي كان يشتغل آنذاك على نصوص لروزبهان بقلي وابن عربي أيضًا، أن يربط بين معطيات تعبير الرؤيا الإسلامي وبين الرمزية الصوفية للألوان والمقامات الموسيقية والعطور والطُّعوم؛ وقد خَلُصَ إلى نتيجة مفادها التالي: "من الممكن إذن أن يُستعلَم استعلامًا غير مباشر عما قبل تاريخ المجتمعات بواسطة پاليونطولوجيا أحلامية تمامًا مثلما يمكن، بواسطة التحليل النفسي، النبش عن السيرة الطفلية المنسية للراشد" (السنة 42، ص 94).

[27] منها: منتخب الكلام في تفسير الأحلام، تفسير الأحلام الكبير، إلخ. (المترجم)

[28] يراجَع في هذه المسألة بالأخص: الدينوري، ج 1، ص 98-99؛ والتفليسي، ص 5 وما يليها وص 13 وما يليها.

[29] لقد اصطفينا هنا بالطبع عددًا قليلاً نسبيًّا من المؤلفات إذا ما قيس إلى الفهرست الذي وضعه ت. فهد (1987، ص 330 وما يليها [ت ع: ص 235-258]) والذي يضم 158 عنوانًا عربيًّا؛ لكننا نرى جزمًا أنها النصوص الأكثر إحاطة والأكثر مرجعية في العصر الوسيط – وحتى أيامنا هذه.

[30] نحيل بهذا الخصوص إلى التعبير المنسوب إلى ابن قتيبة؛ راجع: فهد، 1987، ص 316-328 [ت ع: ص 224-231]، وبالأخص كِسْتِر، 1974.

[31] التفليسي، ص 53. بابن سيرين نقصد هنا المصنِّف من القرن الثالث الهجري الوارد ذكره أعلاه (الحاشية 24)، ولا نقصد أبا علي الداري، مصنِّف المنتخب في تعبير الرؤيا.

[32] لا بدَّ هنا من الربط بين هذا الحديث وبين رواية الحديث المذكور أعلاه "… فسيراني في اليقظة" الذي أوِّل كذلك تأويلاً أخرويًّا. راجع أعلاه الحاشية 11.

[33] راجع الحاشية 7 أعلاه. هذه النقطة حاسمة: حتى تصدَّق الرؤيا على أنها "صالحة" لا بدَّ من تأويلها وفقًا للسنَّة – وبذلك تنغلق الحلقة التأويلية.

أصول الفلسفة العربية – فيليپ ڤالا

أصول الفلسفة العربية*

فيليپ ڤالا**

اسمحوا لي أن أستهل هذه المحاضرة معرفًا بالكلمات التي استعملتُها في عنوانها، لعلِّي بذلك أتمكن من استجلاء مضمونها بعض الشيء.

بادئ ذي بدء، ماذا ينبغي لنا أن نستشف من كلمة أصول؟ لعل الأصح بالعربية أن نتكلم على نَسَب الفلسفة العربية أو نسبتها بدلاً من الكلام على "أصولها" المفترَضة. فبـ"نَسَب" الفلسفة العربية أعني بالفعل معرفة أسلاف هذه الفلسفة الذين كان الفلاسفة العرب أنفسهم يطلقون عليهم تسمية "القدماء من اليونانيين" أو "القدماء" وحسب، بمعنى الأسلاف. وأسارع إلى لفت أنظاركم إلى أن هذه الإشارة تلميح من العرب إلى أنهم كانوا يعدُّون أنفسهم بمثابة "ورثة" هؤلاء الأسلاف الإغريق أو "أخلافهم"، إذا جاز لي القول؛ وبعبارة أخرى، كانوا يجاهرون بصحيح انتسابهم شرعًا إلى العقل اليوناني. ففي العصر الذي نحن بصدده ما كان لأحد أن يطلق تسمية "أجداد" أو "أسلاف" على أناس مختلَف على ميراثهم أو مشكوك فيه.

وبـ"نَسَب" الفلسفة العربية أعني، من ناحية أخرى، كيفيات انتقال معرفة الإغريق إلى العرب: ما هي المسالك التاريخية والجغرافية التي وصلت بواسطتها علوم الإغريق إلى العالم العربي؟ ومَن هم الأفراد أو، عند الاقتضاء، ما هي المؤسسات التي تُرجِمَتْ بواسطتها الفلسفةُ المكتوبةُ باليونانية إلى اللسان العربي؟ هذان سؤالان جوهريان لا مناص من الإجابة عنهما إذا ما شئنا أن نتبين ما كانت عليه الفلسفة العربية، في بواكيرها على الأقل.

هناك نقطة ثانية لا بدَّ من توضيحها في العنوان: ما المقصود بـ"الفلسفة العربية"؟ حتى يُفهَم معنى هذا السؤال يجب التمعن في كلمة فلسفة. وبما أنه لا يوجد لدينا بعدُ معجم تاريخي للِّسان العربي، لا أستطيع أن أحدد تاريخًا دقيقًا لظهور مفردة فلسفة، لكن بوسعنا أن نرجِّح ظهورها بدءًا من القرن الثاني للهجرة (القرن الثامن للميلاد). مهما يكن من أمر، فالمؤكد أن كلمة فلسفة تعريب للكلمة اليونانية philosophia. غير أن التعريب يختلف عن الترجمة، ومن شأن هذه المسألة اللسانية أن تذكِّرنا بأنه لم يكن في الثقافة العربية أصلاً ما يكافئ الفلسفة اليونانية، وهو سبب استشعار العرب الحاجة إلى تعريب الكلمة اليونانية مباشرة، لكنْ في صورة تشي بأصلها اليوناني، بحيث يكون بالإمكان تبيان هذا الأصل عند الاقتضاء، كما فعل أبو نصر الفارابي، كبير فلاسفة القرن الرابع للهجرة، على سبيل المثال، بادئًا بالإشارة، كما فعلتُ لتوِّي، إلى أن "اسم الفلسفة يوناني وهو دخيل في العربية"، على حدِّ قوله. وهذا بالضبط ما أخذه على الفلسفة جميعُ خصومها حتى القرن الرابع عشر على الأقل: هي "دخيلة" على اللسان العربي بوصفه لغة القرآن، وبالتالي، "دخيلة" على الوحي نفسه.

والحال، فقد كان بوسع العرب أن يترجموا كلمة philosophia اليونانية ولا يكتفوا بتعريبها إلى فلسفة. لا ريب أن ثمة محاولات لترجمتها، بدءًا قطعًا بكلمة "حكمة"، لا بل "حكمة إلهية". لذا لا مناص، توضيحًا للأمور ودرءًا للالتباسات الممكنة بقدر المستطاع، من تدقيق فوري لمعنى كلمة فلسفة وتبيان ما يميزها من مصطلح الحكمة الإلهية. فالفلسفة كانت بنظر جمهور أكابر الفلاسفة الناطقين بالعربية (الكندي، الفارابي، فلاسفة "مدرسة بغداد"، ابن سينا، ابن ميمون، ابن باجة، ابن رشد)، قبل كل شيء، نهجًا يقوم على قواعد في البرهان شديدة الصرامة، قواعد وضع صيغتها النهائية أرسطاطاليس (أرسطو)، تلميذ أفلاطون. بعبارة أخرى، لم تكن الفلسفة، في مقدماتها على الأقل، تمت بصلة إلى حكمة مستعلية، يشير إليها مصطلح الحكمة الإلهية إشارة صريحة. لذا تقتضيني الأمانةُ على فكرهم وتدقيقُ موضوع محاضرتي ألا أتكلم على الحكمة الإلهية، بل على ذلك النهج العقلاني المأثور عن أرسطو فحسب.

كما أن هناك نقطة أخيرة لا بدَّ من توضيحها في عنوان هذه المحاضرة: لِمَ الكلام على "فلسفة عربية"، وليس على "فلسفة إسلامية"، حسبما درج عليه الاستعمالُ اليوم؟ السبب الأول – وهو السبب الأجلى أيضًا – هو أن الفلاسفة لم يكونوا جميعًا مسلمين، بل هيهات: فبين وجهائهم كان هناك أيضًا يهود ومسيحيون كتبوا بالعربية، ناهيكم عن الوثنية منهم، مثل ثابت بن قرة، وعن منكري الوحي، مثل أبي زكريا الرازي، وعن المشككين، مثل ابن الراوندي. فحتى يشملهم المصطلحُ الذي يشار به إلى النشاط العقلي الذي زاولوه جميعًا، لا بدَّ لهذا المصطلح من أن يجتنب التلون المِلِّي، حتى إذا كان من البديهي أن جميع هؤلاء الفلاسفة عاشوا في مجتمع إسلامي جزمًا.

إلى هذا السبب الأول لاجتناب مصطلح فلسفة إسلامية يضاف سببٌ ثانٍ لا يقل عنه وجاهة من حيث المضمون: حين كان المسلمون واليهود والمسيحيون والصابئة وغيرهم يشتغلون بالفلسفة فإنهم لم يفعلوا ذلك أصلاً لتأويل القرآن أو التوراة أو العهد الجديد، بل فعلوه سعيًا منهم في تعيين ما يتيسر للبشر أن يفهموه بخصوص العالم والإنسان. بذا، كانت منطلقاتهم المشتركة، نظريًّا على الأقل، عناصر معرفية يقبلها كل إنسان، ألا وهي معطيات العقل البشري، دون التماس أي وحي بعينه. وإذا أجزت لنفسي الإصرار على هذه النقطة فلأن الفلاسفة الذين أحدثكم عنهم اتخذوها عقيدة، إذا جاز القول، وكانوا جميعًا، أو أغلبهم، يستنكرون فكرة الانطلاق من أشياء أخرى غير معطيات العقل، كما فعل مثلاً في الإسكندرية، في القرن السادس، المسيحي يوحنا فيلوپونس، المعروف بالعربية باسم يحيى النحوي، الذي أجمع جمهور فلاسفتنا، أو كادوا يُجمعون، على السخرية منه بوصفه "الأسوة السيئة" التي يجب الحرص على عدم التأسي بها! فبالفعل، كان يوحنا فيلوپونس قد ارتكب في نظرهم خطيئة لا تُغتفر، حينما عارض أرسطو باسم الاعتقاد (المشترك، إلى ذلك، بين الأديان الإبراهيمية الثلاثة) بخلق العالم؛ إذ إن معارضة أرسطو على هذا النحو كانت برأيهم معارضةً للعقل بالذات، باسم اللاعقلاني في أسوأ الأحوال، وفي أحسنها، باسم لغة شاعرية غير متماسكة من حيث الأساس.

زبدة القول إن الفلاسفة كانوا يميزون تمييزًا قاطعًا بين الفلسفة والدين تمييزَهم بين منطلقات كلٍّ منهما: إما معطيات العقل فيما يخص الفلسفة، وإما معطيات الوحي فيما يخص علم الكلام. فالخلط بين المقدمات والمنهجيات الخاصة بكلٍّ من هذين النهجين يقود لا محالة، على حدِّ رأيهم، إلى خراب الفلسفة كنهج مستقل؛ إذ إن استقلالية الفلسفة والعقل – وهذه نقطة على غاية من الأهمية – كانا العماد الأساس الذي يقوم عليه طلبُهم العلم، في مواجهة نظيره عند المتكلمين الذين كانوا يقصدون بـ"العلم" شيئًا مختلفًا كل الاختلاف. وبعيدًا عن أية مفارقة منطقية، لا نجد هذه الصرامة المنهجية فقط عند المناطقة من ذوي المراس الصعب، كأبي نصر الفارابي، لكننا نجدها أيضًا عند اللاهوتيين من الفلاسفة، مثل المسيحي يحيى بن عدي واليهودي موسى بن ميمون.

ثمة قطعًا طيف كامل من التلاوين لا بدَّ من إضافته إلى هذه اللوحة، لأنني لا أنتوي اختزال تاريخ الفلسفة العربية إلى تعارُض لا يلين بين أنصار العقل الأرسطي وبين فقهاء الدين. بيد أنه لا مندوحة لنا من الانطلاق من هذا الإطار المفهومي – من هذه "المواجهة"، إذا شئتم – حتى نفهم الظاهرة الثقافية التي هي قوام "الفلسفة العربية".

أما وقد قيل ذلك، فإن مصطلح فلسفة عربية حتى هو في الواقع من أردأ ما يكون، لأن أغلب الفلاسفة الذين أتيت على ذكر أسمائهم لم يكونوا، كما تعلمون، من غير العرب وحسب، بل كتبوا أحيانًا في ألسُن غير اللسان العربي، كثابت بن قرة الذي كتب بالسريانية أو ابن سينا الذي كتب بالفارسية، على سبيل المثال لا الحصر. لذا فإن مصطلح "فلسفة عربية"، مأخوذًا على الإجمال، هو من قبيل التقريب ليس إلا. فحتى نتقيد بالصرامة التامة، ينبغي لنا أن نضيف إلى كلمة "فلسفة" صفة مستقاة من رجوعهم المشترك إلى أرسطو وأن نتكلم على الفلسفة الأرسطية أو المشائية باللسان العربي، مؤجلين التعريف الدقيق بـ"أرسطية" كلٍّ منهم على حدة. أيًّا ما كان الأمر، فإني مكلِّمكم على أصول هذه الفلسفة بعينها.

* * *

لا بدَّ أنكم استنتجتم أنه يجب الرجوع إلى أرسطو نفسه، أو بالأحرى، إلى تكوين بنيان النصوص الأرسطية لمعرفة ما ورثه العرب بالضبط. لقد استقر هذا البنيان على الصورة التي وصلتنا تقريبًا بفضل رجل يدعى أندرونيقوس الرودي، الخليفة الحادي عشر على رأس المدرسة المؤسَّسة في أثينا، أخذ على عاتقه ترتيب المقالات ونَشَرَها للمرة الأولى قبل حلول العصر المسيحي بعدة عقود، بعد زهاء 250 عامًا على موت أرسطو. ولقد كابدت هذه النصوص قبل نشرها للمرة الأولى، كما ونصوص تلميذه الأول ثاوفرسطس، حوادث من قبيل الخيال. فقد حُفِظَتْ في الواقع مدفونةً تحت تَلْعة طوال زهاء قرن، بين أواسط القرن الثالث والنصف الأول من القرن الثاني قبل الميلاد، وذلك اجتنابًا لمصادرتها. فالأسرة التي ورثتْها والتي لم تستفد منها البتة، اللهم إلا الحَجْر عليها، أرادت من ذلك بالفعل الحيلولة بينها وبين أسرة پرغامون (حاضرة توجد أطلالها اليوم في منطقة إزمير في تركيا) المَلَكية التي كانت تسعى آنذاك في اقتناء مكتبة. فإذا صح وجود "عناية ربانية" ترعى الفلاسفة يبدو أنها تدخلت في تلك اللحظة من التاريخ بالذات تدخلاً محسوسًا. وإننا بالفعل لنتساءل عَرَضًا عما كان سيؤول إليه التاريخ الفكري للبحر متوسط وأوروبا لولا هذا الاكتشاف!

أخذت نصوص أرسطو فور نشرها، كما هو متوقع، تغذي النظر العقلي لمفكري المدرسة الأرسطية، ولاسيما الإسكندر الأفروديسي، الوارد ذكره مرارًا في المصادر العربية، وكذلك، بصفة عامة، جملة النظر الفلسفي في العالم اليوناني. والأمر الذي يهمُّنا بالأكثر من منظار ظهور الفلسفة العربية هو ما جرى بعدئذٍ. فمنذ القرن الثالث الميلادي، ضُمِّنَ بنيانُ النصوص الأرسطية، وبالأخص المقالات في المنطق، في برنامج لدراسة الفلسفة على شوطين: كان الشوط الأول عبارة عن دراسة مصنفات أرسطو، بدءًا بالضبط من المقالات في المنطق؛ أما الشوط الثاني، الذي لم يكن أرسطو غير مدخل إليه، فكان عبارة عن دراسة كتب أفلاطون. والمدرسة التي وُضِعَ لها هذا البرنامجُ الدراسيُّ سميت بعد ذلك بوقت طويل بالمدرسة الأفلاطونية المُحدَثة التي كان مؤسِّسها، أو مؤسِّساها بالأصح، فيلسوفين متنافسين، وكلاهما، إلى ذلك، سوري الأصل: كان الأول يدعى فرفيريوس الصوري، وقد عاش، فيما نعلم، بين العامين 234 و305؛ أما الثاني، يمليخا الأفامي، فقد عاش بين العامين 230 و330 قادمًا من قنَّسرين، الواقعة حاليًّا في لبنان، كما برهن على ذلك برهانًا حاسمًا زميلُنا جوليان أليكو، النزيل العلمي في المعهد الفرنسي للشرق الأدنى.

كلا هذين الفيلسوفين مذكور في المصادر العربية. وقد كتب أولهما مقالة ممهِّدة لمنطق أرسطو، درسها العرب وعلقوا الشروح عليها حتى القرن السابع عشر على الأقل، سواء مباشرةً، اعتبارًا من ترجمتها العربية، أو على نحو غير مباشر، اعتبارًا من الخلاصة التي وضعها الأبهاري في القرن الثالث عشر للشرح الذي وضعه ابن سينا بنفسه على هذا النص.

* * *

كانت للمدرسة الأفلاطونية المُحدَثة خصائص عدة يجدر بنا أن نسلط عليها انتباهنا. أولى هذه الخصائص من حيث الأهمية (مع أن أهل الاختصاص حتى كثيرًا ما يمرون بها مرور الكرام) هو أن برنامج هذه المدرسة كان يتخطى بكثير إطار الفلسفة البحتة. فالأمر كان بالفعل في ذهن فرفيريوس، وأكثر منه في ذهن يمليخا ومريديه، عبارة عن تأليف رصين ومنهجي بين فلسفة أفلاطون وبين جوانب التراث اليوناني كافة منذ هوميروس: فالأديان والروحانيات والأدب والشعر والفلسفة والعلوم والفنون وسائر مكوِّنات الثقافة اليونانية كانت مدعوة إلى الائتلاف في كنف أفلاطون وفيثاغورث في سبيل نَظْم ردٍّ متسق على الدين الحديث الظهور والوقوف صفًّا واحدًا أمامه، ذلك الدين الذي كان يزعم تارةً بأنه فلسفة الكلمة Logos الإلهي نفسه، وطورًا يندِّد بالمماحكات الهلينية – وبهذا الدين نعني المسيحية طبعًا.

عديدون هم أعضاء المدرسة الأفلاطونية المُحدَثة، من فرفيريوس حتى أواخر ممثليها في القرن السادس، ولاسيما من مدرسة أثينا، ممَّن اشتهروا بمعارضتهم العنيدة لهذا الدين الذي كان بنظرهم صيغة محرَّفة، شعبية وفظة، للعلم اليوناني الذي كانوا يعدون أنفسهم وحدهم ممثِّليه الشرعيين.

فهل هذه الصيغة للتراث اليوناني بعينها هي التي ورثها العرب؟ نعم ولا، كما سنرى.

الخاصية الثانية لهذه المدرسة، أو لفرعها المستقر في الإسكندرية على الأقل، هي أن التشديد فيها، على ما يبدو، كان على تأويل مقالات أرسطو، وبالأخص على مقالاته في المنطق. وهذه النقطة تتيح الإصرار على عامل كان حاسمًا للشكل الذي اتخذته الفلسفة في القرون التالية، عند العرب وعند اللاتين على حدٍّ سواء.

كان الشرح الاتباعي على النصوص الفلسفية هو النشاط الفكري المفضل عند الفلاسفة منذ القرن الأول قبل الميلاد، وليس الإبداع المذهبي الحر، يقوم له أفرادٌ يعتبرون أنفسهم خالصين من ديون سابقيهم، كما قد يُظن؛ فالوفاء للقدماء – أفلاطون وأرسطو – كان على العكس القاعدة الذهبية المعمول بها، بحيث كان التفكر يجري انطلاقًا من معطيات موجودة سلفًا من أجل الكشف عن معانيها، وذلك من غير الحياد عن مقاصد المؤسِّسَين الأصلية. ولعلكم ستلحظون معي أن الاشتغال بالفلسفة كان بذلك أقرب إلى الهيكلية التي نجدها في فقه "أديان الكتاب".

النتيجة الأولى لهذا النشاط التفسيري كانت ترتيب مذاهب الأقدمين وتنسيقها على نظام معين أغلب الظن أن أفلاطون وأرسطو لم يجتهدا في تقعيدها وتنسيقها على هذا النحو. مهما يكن من أمر، فقد درجت العادة منذ ذلك العصر على تصور النشاط العقلي كمجرد تفسير حرفي لبنيان النصوص كما قيَّدها على صورتها النهائية، فيما كان يُظن، المؤسِّسان الكبيران. ولقد ظل أساتذة مدرسة الإسكندرية ورثة هذه الممارسة حتى القرن السادس، لكن أعضاءها، أكثر من أعضاء أية مدرسة أخرى، قيَّدوا جميع قواعدها وأشواطها وتفاصيلها، بحيث طوَّعوا العلم للتعليم وأضفوا بذلك أكثر ما يمكن من الاتساق على برنامج التحصيل الذي كلمتكم عليه لتوِّي، فصارت معهم الفلسفةُ حقيقةً تعليمًا مخصصًا للطلاب، غايتها التأهيل على قواعد المعرفة العقلانية التي وضعها أرسطو قبل نحو عشرة قرون. وهذا كله، كما ستلحظون معي، موافق للمثال الإغريقي الذي كان يطلق تسمية "جامعة" universitas على مجموع مدارس الفلسفة في أثينا.

ها قد صرنا الآن في صلب المكوِّنين الرئيسين لما أضحى "الفلسفة العربية" فيما بعد: فعن مدرسة أثينا ورث الفلاسفة العرب، في جملة ما ورثوا، فكرة أن الفلسفة مسعى عقلي وروحي في آنٍ معًا، وبالتالي، مالوا إلى اعتبارها دينًا مستقلاً، دينًا للخاصة من أهل العقل؛ وعن مدرسة الإسكندرية تعلموا كل شيء تقريبًا عن الفلسفة نفسها، أي أرسطو والشروح على مقالاته وفنون التأويل والشرح جميعًا. بيد أن هذه الشروح الإسكندرانية كانت قد تلقفت نتائج نشاط تأويلي يعود، كما رأينا، إلى القرن الأول قبل الميلاد؛ وهذا يعني أن المادة المفاهيمية المتراكمة كانت مما لا يُستهان به. وما تبقَّى من الفلسفة بحصر المعنى مما انتقل إلى العالم العربي إما ضُمِّن، بصورة أو بأخرى، تضمينًا متناغمًا في مخطط العلوم وفي الهيكلية التعليمية للعلم الموروث عن أساتذة الفلسفة في مدرسة الإسكندرية، وإما أقحِم فيه قسرًا؛ وهذان – كلا الهيكلية والمخطط – ظلا مثالاً علميًّا وقدوة في الصرامة المنهجية يُحذى حذوُهما طوال الفترة التي دام فيها الانصراف إلى شرح أرسطو، أي حتى القرن الثاني عشر الميلادي.

* * *

أما وقد بانت لنا الخطوط الكبرى لما انتقل إلى العالم العربي، يجدر بنا أن نتبيَّن طُرُق انتقال هذا الإرث اليوناني وكيفياته. أما طُرُق هذا الانتقال فأرى له، من جانبي، طريقين اثنين: أولهما – وهو الذي نعرف عنه بعض الشيء، وسوف أتكلم عليه على الفور – طريق أوساط أرباب الأدب والدين السريان أو السوريين؛ والثاني – وهو الذي نكاد لا نعرف عنه شيئًا والذي يدور حوله سجالٌ بين أهل الاختصاص – هو طريق أوساط صابئة مدينة حرَّان الواقعة شمال بلاد الرافدين، شمال حلب وشرقها على الجانب التركي من الحدود الحالية.

إن أخذ العالم العربي للفلسفة اليونانية لم يتم مباشرة عن الإغريق الوثنيين قطعًا لأن هؤلاء، كما هو معلوم، كانوا في القرن الثاني الهجري قد اندثروا منذ قرن على الأقل. إلى ذلك، فإن هذا النقل لعلوم الإغريق إلى الشرق بدأ في وقت لم تكن الإمبراطورية العربية الإسلامية موجودة بعدُ بوصفها كذلك. فكان لا بدَّ من وجود وسيط رئيس، وهذا الوسيط هو العالم الناطق بالسريانية متمثلاً، والحال هذه، إما بأفراد من رجال الدين على الأغلب، وإما بأعلام علمانيين مرموقين، منهم سرجيوس (سركيس) الراشعيني الذي سأقول فيه بضع كلمات لأنه يقدم لنا مَعْلَمًا تاريخيًّا وجغرافيًّا منورًا.

تبوأ سركيس رئاسة الطب في مدينة من شمال سورية واقعة عند منابع الخابور، ونحن لا نعرف إلا تاريخ وفاته في العام 536 م. وما نعرفه عن حياته العلمية يجيز لنا أن نتعرف في شخصه إلى واحد من ممثلي التيار الفكري الذي كان يرى في المسيحية فلسفةً ودينَ وحي على حدٍّ سواء. فهو بالفعل ناقل ديونيسوس الأريوپاغي الذي تأثرتْ كتاباتُه بالأفلاطونية المُحدَثة تأثرًا جمًّا؛ ويقال فيه أيضًا إنه كان قارئًا متبحرًا في أوريجينس، عالِم اللاهوت المسيحي الذي نشط في القرن الثالث للميلاد وكان مقربًا جدًّا، من حيث العديد من المباحث، من الفلسفة الأفلاطونية. إلى ذلك، عُرفتْ عن سركيس ترجماتُه إلى السريانية لثلاثين مقالة من مقالات الطبيب الإغريقي جالينوس (131-201 م). وأغلب الظن أنه حصَّل علمه في هذا المجال حتى أتقنه في الإسكندرية؛ وفي مدرسة الإسكندرية الأفلاطونية المُحدَثة تابع تحصيله للفلسفة، مطَّلعًا بالأخص على كتاب المقولات لأرسطو، الذي كان المدخل إلى تحصيل المنطق والمدخل إلى الفلسفة عمومًا.

كان سركيس ممثلاً لانفتاح العالم السرياني على التأثير اليوناني ولاستقلالية الفكر التي كانت تسري فيه منذ القرن الرابع. وبالفعل، فإنه اعتبارًا من القرن الرابع، وبمقدار ما كانت المسيحية السريانية تزداد ثقة بنفسها ويقل شعورها بخطر الوثنية التي كانت آيلة إلى الانحطاط، راح الموقف المناوئ للهلينية سابقًا ينقلب إلى مودة عقلية متعاظمة؛ وبذلك انتقل القوم، حتى القرن السابع، وفيما يتعداه، حتى القرن الثالث عشر، من موقف النابذ للميراث اليوناني ولمثاله في التأهيل العقلي paideia إلى موقف تبنِّيهما المتحمس. فبنظر سركيس، باتت ترجمة المصنفات اليونانية وتأليف المقالات الفلسفية يصبان في مطمح واحد، ألا وهو استملاك المعرفة العلمية والفلسفية الهلينية.

وفي صورة أعم، تكاثرت بؤر الثقافة اليونانية أو اليونانية-السريانية في العالم السرياني إبان القرن الخامس. بذا حافظت مدارس علم اللاهوت في الرها ونصيبين وطيسفون سلوقية وحرَّان على تعليم النحو وعلم البيان بوصفهما لازمين لتحصيل اللاهوت؛ وكانت الأديرة مراكز لترجمة علوم الإغريق وتعليمها أيضًا، فكان دير قنَّسرين على الفرات ودير مار متى قرب الموصل، على سبيل المثال، ذائعَي الصيت في القرنين السابع والثامن.

وبين الأعلام الكبار الذين وسموا بسِمَتهم نقل الآداب العلمية اليونانية إلى السريانية، وبالأخص ترجمة أرسطو وتأويله، لا بدَّ من ذكر الأسماء التالية: پروبا (القرن السادس)، بولس الفارسي (القرن السادس)، ثاودوروس من كرخ جُدَّان، الذي كان صديقًا وزميلاً لسركيس الراشعيني، سويرس النصيبيني (السبختي، ت 667 م)، أطناس (أثناسيوس) البلذي (ت 686 م)، جرجيس العرب أو أمة العرب (القرن السابع)، يعقوب الرهاوي (ت 709 م)، ثاوفيلس الرهاوي (ت 791 م).

ويبدو أن هؤلاء المصنِّفين اطلعوا من الشروح الإسكندرانية الكبرى على منطق أرسطو، وخصوصًا الشروح على كتب المقولات والعبارة De interpretatione والتحاليل الأولى، غير أنهم لم ينهضوا لترجمتها، بل اكتفوا بالاستفادة منها. كما يبدو أنهم كانوا مطلعين أيضًا على كتاب ما بعد الطبيعة لأرسطو، غير أنهم، في المقابل، لم يطلعوا على ما يبدو على مقالات أرسطو في الطبيعيات والأخلاق.

خلاصة القول إن في إمكاننا أن نميز في عملهم جميعًا سمة بارزة، ألا وهي الأهمية التي أوْلوها للمنهجية وللقواعد الأرسطية في التعقل، حيث أجمعوا على الاعتراف بمكانة أرسطو أستاذًا بلا منازع للمعرفة العلمية والمنطق، كما ولمنهجية هذه المعرفة، أيًّا كان العلم المعتبَر.

بذا فإن هذا الرأي وخيارات القراءة المتفرعة عنه كانت إرهاصات لحركة الترجمة الكبرى إلى العربية التي بدأت في القرن الثامن. وإذن فإن الفلسفة العربية ليست مدينة للسريان وحدهم بالمحاولة الأولى لتطويع مصطلحات الفلسفة اليونانية للغات الساميَّة، بل هي مدينة أيضًا لخيار حاسم يتعلق بأساس الاجتهاد الفلسفي، وهو خيار عاد العرب وأخذوا به، فجددوه وأضفوا عليه بُعدًا لا يقارَن بكل ما عُمِل قبلئذٍ. وبعبارة واحدة، صار أرسطو حقيقةً "المعلم الأول" للفلاسفة العرب، مثلما بدأ بإصابة هذه المكانة عند السريان.

قبل أن أتناول ما سُمي عن حق بـ"النقل التحصيلي" translatio studiorum (وهو مصطلح لاتيني المقصود منه أن النصوص ليست وحدها ما يُنقَل، بل منهج قراءتها وتأويلها أيضًا)؛ قبل أن أتطرق إلى ذلك، أقول، لا بدَّ لي أيضًا من قول كلمة في الطريق الثاني التي وصل العلم اليوناني بواسطته إلى العالم العربي.

في العام 529 أو 530 للميلاد – مازال أهل الاختصاص مختلفين على التاريخ –، أغلِقَتْ مدرسةُ أثينا الأفلاطونية المُحدَثة على أثر إبرام فرمان إمبراطوري يحرِّم على جميع سكان أثينا – وثنيين ومسيحيين – تعليم الفلسفة في هذه المدينة؛ الأمر الذي اضطر أساتذة المدرسة – وجميعهم من الوثنيين المناضلين، ونصفهم سوري الأصل – إلى اتخاذ طريق المنفى. ونحن نعلم أنهم لجأوا إذ ذاك إلى طيسفون، حيث بلاط كسرى الأول أنوشروان الذي حكم بين العامين 531 و578 بعد الميلاد. غير أنهم لم يلبثوا هناك إلا سنة أو سنتين على الأكثر وعادوا إلى ديار الروم، من غير أن نستطيع البت في المكان الذي استقروا فيه يومذاك. وإني لأعفيكم من سماع تفصيل الأسباب، الممل بعض الشيء، التي تحملني على الظن بأن واحدًا منهم على الأقل ألقى عصا الترحال في ديار مضر، في حرَّان تحديدًا، وهي مدينة كانت تجتمع فيها ميزتان على الأقل: كانت داخلة ضمن حدود الدولة الساسانية وغير بعيدة عن حدود الدولة البيزنطية. حسبي أن ألحظ أن تلك المدينة شهدت قطعًا ازدهار معرفة نقلية وثنية حتى القرن الرابع للهجرة (القرن العاشر للميلاد). بذا فإن عوامل بعينها، وبالأخص الأهمية التي يبدو أن دراسة الرياضيات احتفظت بها، ترجِّح أن الفلسفة اليونانية الأثينية الأخيرة قد خلَّفتْ ذرية في حرَّان[1]. أيًّا ما كان الأمر، فقد كان في مقدور الفيلسوف والرياضي ثابت بن قرة، الصابئي الحرَّاني الأصل والعالم الذي لا يضارع باليونانية وآدابها، أن يظل، في عزِّ القرن العاشر، على ثنائه للفكر الوثني، العلمي منه والديني، الذي كان في نظره منبع جميع الخيرات التي أنعِمَ بها على البشر منذ فجر الأزمان؛ ثناء كان – ويجدر التنويه بذلك – مبطَّنًا بنقد مباشر للمسيحية، بالضبط على غرار الخطابات المعادية للمسيحية للمأثور الأثيني الأفلاطوني المُحدَث. إلى ذلك أضيف أن هذا الثناء على الوثنية والانتصار لها في القرن التاسع يُنسَب إلى رجل عاش في بغداد في العصر العباسي.

* * *

لنأتِ الآن إلى حركة الترجمة الكبرى التي مكنت من ظهور ثقافة عالمة عربية حصرًا وتمخضت عنها حياةٌ عقليةٌ فيها من العزم والغنى ما يستحق الكثير من الإعجاب.

لن أولي اهتمامي طبعًا إلا للفلسفة ولمترجميها، لكنْ لا بدَّ من الإشارة إلى أن هذه الحركة الواسعة تخص جميع العلوم اليونانية أيضًا: الطب والرياضيات، ومنها الجومطريقى (الهندسة) والأرثماطيقى (الحساب) وعلم الفلك والموسيقى؛ وكذلك البصريات والفلاحة (الزراعة) وعلم الحيل (الميكانيكا). لقد كان جانب من هذه العلوم، إلى ذلك، جزءًا لا يتجزأ من برنامج تحصيل الفلسفة نفسها، ولاسيما الرياضيات التي كانت، إلى جانب علوم أخرى، تفيد تعليمًا ممهِّدًا لدراسة الفلسفة بحصر المعنى.

لقد تواصلت الحركة الأولى لترجمة الأعمال اليونانية إلى السريانية – تلك الحركة التي قادتنا حتى أواخر القرن السابع – إبان القرن العاشر، بعد عدد من الصدامات والتخلفات الناجمة عن الفتوحات الإسلامية، لكنها لم تبلغ تلك السعة التي وصفتُها لتوِّي إلا في القرن التاسع، قبل أن تتوقف نهائيًّا في القرن العاشر – هذا فيما يخص الإطار الزمني.

إن أقدم ترجمة لكتاب من كتب أرسطو إلى العربية تشي، أولاً، بما كان مأمولاً في البداية من الفلسفة اليونانية، ثم بالسياق التاريخي لاستقبالها الأول. والترجمة التي نحن بصددها هي ترجمة الطوپيقى، وهي مقالات يستعرض فيها أرسطو ويعرِّف بشروط الجدل أو بمختلف الأشكال التي يمكن للحِجاج الفلسفي أن يتخذها، وبعبارة واحدة، ما عُرف بالعربية بـصناعة الجدل. وهذه الترجمة تعود إلى العام 782، ويقال إن الخليفة العباسي المهدي (ت 785) عهد بها إلى الجاثليق (الأسقف) النسطوري طيماثاوس الأول الذي قام بنفسه بترجمة سريانية للمقالات عن اليونانية، ثم نقلها إلى العربية آنذاك صديقٌ له يدعى أبا نوح.

إن استعمال المسيحيين لهذا النص أصلاً في مناظراتهم مع المسلمين – حول التثليث، مثلاً لا حصرًا – هو ما يفسِّر اختيار المسلمين نصًّا أقل ما يقال فيه إنه يشق على الترجمة، إذ كان ينبغي لهم أن يردوا على أسئلة مناظريهم المحرجة مستعملين الأسلحة الديالكتيكية نفسها؛ وهذا ما يسوغ الترجمة السريانية الجديدة، فالعربية، لمقالة كانت نسخة سريانية أخرى منها متوفرة منذ القرن السابع. وبوسعنا إبداء الملاحظات نفسها في خصوص مقالة أرسطو الثانية التي تُرجمت إلى العربية في الثلث الأول من القرن التاسع، ألا وهي السوفسطيقى أو الخطابة، حيث نجد وصفًا لمختلف أنماط السفسطة المستدَل عليها في كلام أحد المحاورين وسُبُل تفنيدها. وهاتان الترجمتان معاصرتان للمناظرات الدينية بين المسيحيين والمسلمين التي كان أرسطو يقوم فيها مقام الحَكَم غير المتحيز، إذا جاز التعبير.

* * *

تسنَّمت حركة الترجمة ذروتها في القرن التاسع مع أسرة حنين بن اسحق: الأب حنين وابنه اسحق وابن أخيه حُبيش، مع أعوانهم، أمثال ابن الجوهري وعيسى بن يحيى؛ ثم تألفت عصبة المترجمين المجتمعين حول أول الفلاسفة العرب الكبار، أبي يوسف الكندي (ت 873 م)، الذي كان يموِّل الترجمات ثم يصلحها، مع أنه لم يكن ملمًّا باليونانية. ثم تواصلت ترجمة مقالات أرسطو فيما يُعرف (بشيء من الشطط) بـ"مدرسة بغداد" في القرن العاشر وبداية القرن الحادي عشر.

فلنبدأ بأسرة حنين بن اسحق الذي توفي في العام 260 للهجرة (873 م). كان حنين، وكذلك ابن أخيه حُبيش وزميلهما الصابئي ثابت بن قرة، أشبه ما يكونون بموظفين لدى أسرة بني موسى، وهم أنفسهم من كبار العلماء ويحظون برعاية الخليفة المأمون. إننا على جهل تام بنسب بني موسى، وحتى بملَّتهم، وهذا على الرغم من اسمهم؛ أما موظفوهم فنعلم أنهم كانوا مأجورين متفرغين "للنقل والملازمة". وحنين نفسه قد توفر على نقل مصنفات طبية وعلمية، لكنْ من غير أن ينصرف إليها بالكلية، بما أننا ندين له بجوامع compendium مقالة أرسطو كتاب الآثار العلوية التي تتناول الظواهر السماوية، كما يشير عنوانها. تضاف إلى هذه الترجمتان السريانيتان الجديدتان لـمقولات أرسطو وكتاب العبارة، حيث قام ابنه اسحق بنقل هاتين المقالتين إلى العربية عن السريانية.

ومع اسحق بن حنين لم تعد الترجمة المنهجية إلى العربية تقتصر على مؤلفات أرسطو، بل راحت تشمل الشروح عليها أيضًا. وبين الفلاسفة الآخرين الذين ترجم لهم اسحق لا يرد ذكر الإسكندر الأفروديسي وثامسطيوس وحسب، بل أفلاطون ونماسيوس الحمصي (ت 390 م)، واضع كتاب في طبيعة الإنسان De natura hominis، وپروقلس، الأفلاطوني المُحدَث الكبير من القرن الخامس.

وندين كذلك لحنين وابنه اسحق بوضعهما جملة مفردات سريانية تفيد دراستها فائدة جمة لتوضيح تشكُّل المصطلحات الفنية التي نصادفها في الترجمات العربية للمصنفات في المنطق وفي مقالات المناطقة العرب.

أما فيما يخص المترجمين المجتمعين حول الكندي، فقد استخدم هذا الفيلسوف أفرادًا مؤهلين استطاعوا، من غير أن يكونوا أنفسهم مناطقة أو فلاسفة متمرِّسين، أن يترجموا مع ذلك جملة من النصوص الهامة، بدءًا من كتاب ما بعد الطبيعة لأرسطو وكتاب مختارات من الإلهيات للأفلاطوني المُحدَث پروقلس الذي سبق ذكره. وبالإضافة إلى هذه النصوص، طوَّعوا إلى العربية أيضًا كتابين حظي ثانيهما بنصيب هائل من الشهرة، إنْ بالعربية وإنْ باللاتينية – وأعني كتاب في محض الخير أو كتاب في الخير المحض، الذي عُرف باللاتينية بعنوان Liber de causis. فهذا الكتاب تطويع توحيدي لمقاطع مستقاة هي الأخرى من مختارات من الإلهيات لپروقلس، وكذلك ربما لكتاب آخر من كتب پروقلس بعنوان إلهيات أفلاطون. أما الكتاب الآخر الهام الذي طوعوه للعربية فهو تاسوعات أفلوطينس (بعنوان أثولوجيا أرسطاطاليس، منسوبًا إلى "الشيخ اليوناني" دون تسمية المؤلِّف)، الفيلسوف من القرن الثالث الميلادي الذي يُعد مؤسِّس الأفلاطونية المُحدَثة وواحدًا من أعلام النظر العقلي إبان العصور القديمة المتأخرة.

والكندي نفسه وضع، انطلاقًا من عمل فريق مترجميه، كتابًا كان مطمحه الأول، بالإضافة إلى التباري مع الإغريق، صياغة الفلسفة بحسب قواعد البرهان الرياضي more geometrico، أي البرهان كما نجده مثلاً في الأصول والأركان لإقليدس، الرياضي الإغريقي الكبير من القرنين الرابع والثالث قبل الميلاد. وفيما يخص الاصطلاح، وضع الكندي فضلاً عن ذلك مقالة في التعريفات أسهمت بعض الشيء في تحديد مصطلحات المفاهيم بالعربية، حتى إذا لم يُحذَ حذوُه في خياراته إلا فيما ندر، كما يجب أن نقر.

* * *

أنتقل الآن إلى المدرسة المعروفة باسم "مدرسة بغداد" التي خرَّجت واحدًا من ألمع عباقرة الفلسفة العربية، وأعني به أبا نصر الفارابي، الذي يجوز لنا أن نعتبره أستاذ كلٍّ من ابن سينا وابن رشد على حدٍّ سواء. وباستثناء الفارابي نفسه، الذي كان دينه أقرب ما يكون إلى دين الفلاسفة الأغارقة، كان جميع أعضاء المدرسة المذكورة يدينون بالمسيحية، سواء في ذلك أساتذة الفارابي والذين غدوا طلابه فيما بعد. وبين أساتذته، الذين يُسنِدُ سلسلتهم دون انقطاع حتى الإسكندرية، في رواية هي أقرب إلى الأسطورة منها إلى التاريخ، لا بدَّ لنا من ذكر متى بن يونس ويوحنا بن هيلان (أو غيلان)، الذي أخذ على يديه تحصيله التام للدراسات الأرسطية كما صيغت وعُلِّمت في الإسكندرية – وهو تحصيل كان فيلسوفنا شديد الافتخار به. وعلى حدِّ علمنا، لم يشارك الفارابي بنفسه في العمل الفيلولوجي (الفقهي اللغوي) لتدقيق ترجمات أرسطو الذي اشتغل عليه أساتذتُه وطلابُه هو من بعد. من هذا المنظار، يشغل الفارابي من هذه المدرسة منزلةً أشبه بمنزلة الكندي بين زملائه المترجمين، بمعنى أنه لم يكن على ما يبدو أوفر من الكندي أهليةً للمشاركة في هذا العمل الفيلولوجي، على معرفته الأكيدة بالسريانية.

ولقد علمنا بهذا العمل الذي نحن بصدده مصادفة بفضل مخطوطة تعود، إذا صح التقدير، إلى فترة إنجاز العمل المذكور نفسها في بداية القرن الحادي عشر. وهذه المخطوطة، المحفوظة في باريس، تكشف عن عمل عدة أجيال من العلماء الذين عنوا بمقارنة مختلف الترجمات السريانية المتوفرة لجميع مقالات أرسطو في المنطق، إما للاحتفاظ بدروسها ولترجمتها إلى العربية مباشرة، وإما لتنقيح النص السرياني على الأصل اليوناني، بحيث يحصلون بعده على الترجمة العربية الأكثر أمانة للأصل. ونجد في هذه المخطوطة، إلى وفرة الحواشي الفقهية، تسجيلاً، في أمكنة بعينها، لتأويل الأفلاطونيين المُحدَثين الإسكندرانيين. وهذه الاستعانة بالشروح الإسكندرانية، التي كانت إذن معروفة هي الأخرى، إما بالعربية وإما، على الأرجح، بالسريانية، تبين أن علماءنا لم يألوا جهدًا في محاولة إضاءة معنى النص الذي كانوا بصدد تحريره. وفي أيامنا هذه، يتبع مترجمو أرسطو هذا النهج بحذافيره، وإنْ يكُ فقه اللغة قد سار منذ ذلك الوقت أشواطًا بعيدة قُدُمًا.

وما صنعه أعضاء مدرسة بغداد بجملة مقالات أرسطو في المنطق صنعوه أيضًا، اعتبارًا من مادة أفقر، بمقالة أرسطو الكبرى في الفيزياء، المعروفة بالعربية بعنوان كتاب السماع الطبيعي. وهاهنا أيضًا وصلتنا على الأقل مخطوطة جيدة جدًّا لعملهم التحريري؛ وهذه المخطوطة محفوظة في ليدن، وقد نُشرت، كسابقتها، منذ بضعة عقود بعناية العالِم المصري عبد الرحمن بدوي.

حتى ننهي كلامنا على مدرسة بغداد لا بدَّ لنا أيضًا من الإشارة إلى أمرين اثنين: من جهة، كان هؤلاء المترجمون جميعًا، في الوقت نفسه، شارحين لأرسطو أيضًا، وقد وضع أغلبهم مقالات أكثر شخصية، أكان ذلك في الفلسفة أو في الإلهيات أو حتى في الطب؛ ومن جهة ثانية، فإن المدرسة الشهيرة التي يُنسَبون إليها جميعًا تيسيرًا للبحث لم توجد قط بوصفها مؤسسة، واجتهادُهم، وإنْ يكُ حظي أحيانًا بدعم أنصار رسميين، ظل مع ذلك أشبه بالمغامرة الفردية – وهذان الأمران خطيران، كما سنبينه في خلاصة استنتاجاتنا.

* * *

قبل أن نصل إلى التأملات العامة المتعلقة بخصائص المسار التاريخي الذي اقتفيناه لتوِّنا جاهدين، لا بدَّ لي من إبداء بضع ملاحظات على مآل العمل الذي نهضت له الأجيال الأولى من المترجمين الفلاسفة.

فلنلحظ، بادئ ذي بدء، أن مثال الصرامة والدقة العلميتين الذي وُضع في متناول الناطقين بالعربية بفضل هذه الترجمات قُيض له أن يشهد من الخسوف ما قُيض له من الانبعاث؛ إذ يجوز لنا الكلام مثلاً على "خسوف" فيما يخص الفترة التي انتصر فيها هذا المثال – ويا للمفارقة! – في الأدب الفلسفي. والأدب الفلسفي تيار أدبي أمست فيه الفلسفة ثيمة بيان مبهرج، إذا جاز التعبير، تناسب تزويق أحاديث الصالونات. وأبو حيان التوحيدي خير ممثل للتيار المذكور؛ لكن بوسعنا أن نسمي أيضًا مسكويه الذي، وإنْ كان صاحب مزاج أكثر فلسفية من مُعاصره التوحيدي، لم تكن معرفته بالفلسفة أعمق من معرفة أبي حيان.

أما ابن سينا والمنقول الذي استهلَّه فشأنهما شأن آخر تمامًا، حيث تطاول هذا المنقول حتى القرن السابع عشر في شرق ديار الإسلام. فمع أن الفلسفة عانت قُبيل ابن سينا من انحطاط عابر فإنه من جانبه يمثل للتفتح الكامل للفكر الفلسفي في الإسلام. فهو من كلِّ وجه وريث العمل التحريري والتقعيدي الذي أنجزتْه قبله أجيالُ العلماء الذين كلمتكم عليهم، حتى إن بعضهم كتب مؤخرًا أن ابن سينا يجسد ذروة الفلسفة المنبثقة في المحصلة من مدرسة الإسكندرية نفسها. لكنه "وريث" من نوع خاص بعض الشيء. وبالفعل، فإن أبا علي لا يشرح أرسطو أو يكاد لا يشرحه: إذ لم يصلنا من الشروح التي وضعها غير شروح وجيزة نوعًا ما على المقالة في النفس وعلى ما بعد الطبيعة؛ وهذه الشروح لا يُعتَد بها إذا ما قيست إلى بقية مؤلفاته الضخمة. ذلكم أن ابن سينا تخيَّر نموذجًا آخر، ليس نموذج شرح القدماء، بل نموذج صهر مذاهبهم وإعادة سبكها من جديد. ابن سينا يعيد النظر والتفكر في أرسطو وفي شارحيه ويعيد كتابتهم في آنٍ معًا؛ وإذا اتفق له أن يستبقي شيئًا من عناوين مصنفات أرسطو الذي يعيد كتابته فهو يفعل من غير أن يستشهد به أبدًا. جملة القول إن الفلسفة العربية، مع ابن سينا والناسجين على منواله، لم تعد أرسطية، بل سيناوية بحتة. لقد طُويت صفحة الاقتباس عن العلم اليوناني؛ إذ إن ابن سينا هَضَمَه.

* * *

هذه الملاحظة الأخيرة تقودني إلى خاتمتي. لقد تبين لنا سريعًا نسبيًّا من أي طُرُق وبأية وسائل تشبَّع العالم العربي بالثقافة اليونانية من القرن الثامن إلى القرن الحادي عشر؛ ويجب علينا الآن أن نتساءل عن خصائص هذا "النقل التحصيلي".

في المقام الأول، لا بدَّ أنكم لاحظتم أنني لم أكلمكم البتة على بيت الحكمة المبالغ في شهرته. فبحسب رواية تأريخية معينة، كان بيت الحكمة الشهير هذا هو المؤسسة الخليفية التي قام فيها عدد من العلماء، بدءًا من العام 830 وبتكليف من الخلفاء أنفسهم، بإنجاز جميع الترجمات من اليونانية إلى العربية أو بعضها على الأقل. لكننا بتنا نعلم، اعتبارًا من التحقيق في أقدم النصوص التي ذُكر فيها بيتُ الحكمة، أن الأمر لم يجر على هذا النحو. فلئن صح أن الخلفاء، وبالأخص الخليفة المأمون، أيدوا حركة الترجمة هذه إلى حدٍّ ما، الأصح أن غالبية مموِّلي المترجمين كانوا أفرادًا من مصلحتهم – لأسباب خاصة، مهنية أو سياسية أو حتى مذهبية – أن تكون للعلم اليوناني مكانته في المجتمع المسلم. على كل حال، كلما عدنا بالزمن إلى الوراء تلاشت الصلة المفترَضة بين بيت الحكمة وحركة الترجمة الكبرى التي وصفتُها لكم. بعبارة أخرى، "بيت الحكمة" عبارة عن أسطورة متأخرة.

بوسعنا، إلى ذلك، تعميم هذه الملاحظة وإثبات أن العالم الإسلامي لم يُقِمْ في أي وقت من تاريخه مؤسسات لنقل المعرفة الدنيوية، سواء كانت العلوم أو الطب أو الفلسفة – وذلك لسبب أصيل: لقد ساد الاعتقاد بالفعل بأن هذه المعرفة لا تُنقل أفضل النقل إلا من الأستاذ إلى مريديه، الأمر الذي لم يكن يتطلب إقامة "مؤسسة" بعينها لهذه الغاية.

أمر آخر تجدر الإشارة إليه في خصوص هذا النقل: باستثناء بضعة مترجمين أفراد ممَّن ذكرتُهم، ما من عالم عربي أو ناطق بالعربية واحد بذل جهدًا لتعلُّم اليونانية. فضلاً عن ذلك، ليس هناك غير مثال فريد معروف، في العصر الكلاسيكي، على عالِم مسلم تعلَّم لسانًا أعجميًّا غريبًا عن الإسلام؛ بيد أن هذا اللسان ليس اللسان اليوناني، بل اللسان السنسكريتي الذي أتقنه أبو الريحان البيروني حتى صار قادرًا على الترجمة من العربية إلى السنسكريتية قدرته على الترجمة من السنسكريتية إلى العربية.

بذا، لئن صح بلا أدنى ريب أن مجتمعًا بأكمله تتلمذ على مدرسة قدماء الإغريق العظام، الصحيح أيضًا، على ما يبدو، أن الحاجة إلى تعلُّم لسان هؤلاء لم تلح على أحد. كذلك فإن الإعراض عن اللسان نفسه كان أصلاً أمرًا مفعولاً في الطريقة التي عامل بها بعض المترجمين على الأقل من اليونانية إلى السريانية المخطوطاتِ اليونانيةَ متى انتهوا من الاشتغال عليها: فبدلاً من أن يحتفظوا بهذه المخطوطات كانوا يمحون المكتوب عليها بالحك لكي يكتبوا عليها شيئًا آخر. أما العلماء المسلمون فإن البيروني هذه المرة أيضًا – ويا للمفارقة! – هو الذي يبين لنا أسباب قلة اكتراثهم هذه باليونانية، في جانب منها على الأقل. فقد كتب: "وإلى لسان العرب نُقلتْ العلومُ من أقطار العالم، فدانت وحلَّتْ في الأفئدة وسَرَتْ محاسنُ اللغة منها في الشرايين والأوردة"[2]. بعبارة أخرى، صار اللسان العربي من العلم المنقول بمثابة اللحم والدم وفاق بجماله اللسان الأصل.

كان من شأن هذه الصلة المخصوصة بالماضي وبمصادر العلم التي يشي بها الموقفُ من اليونانية أنْ تعذَّر الرجوعُ إلى الأعمال المترجَمة في نصها الأصلي، ومعه تعذَّر رجوع العقل الفلسفي إلى غرضه الأول. وبذلك حكمت الفلسفة العربية على نفسها بأن لا تستقي من بعدُ إلا من مَعينها وحده، الأمر الذي فعلتْه حقًّا طوال مدة طويلة.

أشكر لكم حسن استماعكم.

المترجم عن الفرنسية: ديمتري أڤييرينوس

للاستزادة راجع:

– بدوي، عبد الرحمن (نصوص حققها وعلق عليها)، أفلاطون في الإسلام، دار الأندلس، بيروت، طب 3: 1982.

– بدوي، عبد الرحمن (حققه وقدم له)، أفلوطين عند العرب، وكالة المطبوعات، الكويت، طب 3: 1977.

– بدوي، عبد الرحمن (دراسات لكبار المستشرقين ألف بينها وترجمها)، التراث اليوناني في الحضارة الإسلامية، وكالة المطبوعات، الكويت/دار القلم، بيروت، طب 4: 1980.

– بدوي، عبد الرحمن، دراسات ونصوص في الفلسفة والعلوم عند العرب، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، طب 1: 1981.

– عباس، إحسان، ملامح يونانية في الأدب العربي، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، طب 2: 1993.

– غوتاس، ديمتري، الفكر اليوناني والثقافة العربية، بترجمة وتقديم نقولا زيادة، المنظمة العربية للترجمة/مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، طب 1: 2003.

– قنواتي، جورج شحاته، المسيحية والحضارة العربية، دار الثقافة، القاهرة، طب 2: 1992.


* نص محاضرة ألقِيت في المركز الثقافي الفرنسي في دمشق في 2009/01/13.

** باحث لدى وزارة الخارجية الفرنسية وعضو مشارك في "مخبر الدراسات حول أديان التوحيد" (المركز الوطني للبحث العلمي). صدر له في العام 2004 كتاب الفارابي ومدرسة الإسكندرية: من مقدمات المعرفة إلى الفلسفة السياسية. اختصاصه الفلسفة العربية الكلاسيكية، وهو حاليًّا نزيل علمي في المعهد الفرنسي للشرق الأدنى (دمشق).

[1] في أثناء تنقيح الترجمة وقعنا على نص للبيروني يؤيد تمامًا ما يذهب إليه فيليپ ڤالا في محاضرته عن دور صابئة حرَّان في انتقال التراث اليوناني إلى العالم العربي، كونهم آنذاك الورثة الباقين لدين الإغريق وروحانياتهم: "ويوجد أكثر هذه الطبقة بسواد العراق، وهم الصابئون بالحقيقة، وهم متفرقون غير مجتمعين ولا كائنين في بلدان مخصوصة بهم دون غيرهم، ومع ذلك غير متفقين على حال واحدة، كأنهم لا يُسندونها إلى ركن ثابت في الدين من وحي أو إلهام أو ما يشبههما، وينتمون إلى أنوش [أخنوخ] بن شيث بن آدم. وقد يقع الاسم على الحرَّانية الذين هم بقايا الدين القديم المغربي البائنون عنه بعد تنصُّر الروم اليونانيين، وينتسبون إلى أغاذيمون وهرمس وواليس ومابا وسوار، ويتدينون بنبوتهم ونبوة أمثالهم من الحكماء. وهذا الاسم أشهر بهم من غيرهم، وإن كانوا تسمَّوا به في الدولة العباسية في سنة ثمان وعشرين ومائتين ليُعَدُّوا في جملة مَن يؤخَذ منه ويُرعى له الذمَّة، وكانوا قبلها يُسمَّون الحنفاء والوثنية والحرَّانية" (أبو الريحان البيروني، كتاب الآثار الباقية عن القرون الخالية، بتحقيق إدوارد زخاو [نسخة بالأوفست عن طبعة لايپزيش: 1923]، دار صادر، بيروت: ب ت، ص 318). (المترجم)

[2] نقلاً عن مقدمة كتاب الصيدنة في الطب، بتحقيق الحكيم محمد سعيد، كراتشي، 1974، ص 12.