ثمانية حوارات: 2 من 8 – ج. كريشنامورتي

ثمانية حوارات*
الحوار الثاني

ج ك، ثمانية حوارات

سائل: عند الناس المتديِّنين المزعومين جميعًا شيءٌ يشتركون فيه، وأرى هذا الشيء نفسه عند أكثر الناس القادمين للاستماع إليك. إنَّهم جميعًا يفتشون عن شيء ما يسمونه بأسماء متنوعة: نيرڤانا، التحرُّر، الاستنارة، تحقيق الذات، الأبدية، أو الله. هدفهم معيَّن سلفًا، يضعونه نُصْبَ أعينهم في تعاليم مختلفة، ولكلٍّ من هذه التعاليم، من هذه المذاهب، عدَّته من الكتب الشريفة، طُرُقه، معلِّموه، أخلاقياته، فلسفته، وعوده ووعيده – صراط مستقيم ضيق يستبعد باقي العالم ويَعِدُ عند آخِره بفردوس ما أو بسواه. أكثر هؤلاء الطالبين يتنقَّلون من طريقة لأخرى، مبدِّلين آخِر تعليم بالتعليم الذي تخلوا عنه مؤخرًا؛ يتنقَّلون من عربدة عاطفية إلى أخرى، غير متبصِّرين بأنَّ السيرورة نفسها جارية في هذا السعي كلِّه. بعضهم يبقى ضمن طريقة واحدة مع جماعة بعينها ويرفض التزحزح؛ وبعضهم الآخر يحسب في آخر المطاف أنَّه حقَّق ما كان يريد تحقيقه، ثم يصرف أيامه في غبطة منقطعة ما، مستدرجًا بدوره مجموعة مريدين يشرعون في الدورة برمَّتها من جديد. وفي هذا كلِّه، نجد الجشع القهري لبلوغ تحقيق ما، وغالبًا، خيبة الإخفاق وإحباطه المريرين. هذا كلُّه يبدو لي غير صحي للغاية. يضحِّي هؤلاء الناس بفعل الحياة العادي في سبيل هدف متخيَّل ما، وثمة شعور كريه للغاية ينبعث من هذا النوع من الأوساط: تعصُّب، هستيريا، عنف، غباء. ويندهش المرء حين يجد بينهم بعض الكتَّاب الجيدين الذين يبدون فيما عدا ذلك سليمي العقل نسبيًّا. هذا كلُّه يسمى دينًا؛ والأمر كلُّه يفوح منه النتن حتى السماء العليا! هذا هو بخور التقوى؛ وقد رصدتُه في كلِّ مكان. هذا البحث عن الاستنارة يسبِّب خرابًا هائلًا، والناس يضحَّى بهم في أعقابه. والآن أودُّ أن أسألك: هل يوجد في الواقع شيء ما كالاستنارة، وإنْ كان يوجد، فما هو؟

كريشنامورتي: إنْ كان هروبًا من فعل الحياة اليومي – فعل الحياة اليومي بوصفه الحركة الخارقة للعلاقة – فإنَّ هذا التحقيق المزعوم، هذه الاستنارة المزعومة، أو أيَّ اسم تودُّ أن تطلقه عليه، هو وهم ونفاق. كلُّ ما ينفي المحبة وفهم الحياة والعمل يؤدي لا محالة إلى إيقاع قَدْر كبير من الأذى. إنَّه يشوِّه الذهن، والحياة تغدو معاناة مروِّعة. فإذا اتخذنا ذلك مسلَّمةً، عندئذٍ قد نستطيع، ربما، أن نتابع لنتبيَّن إنْ كان يمكن للاستنارة – أيًّا كان معناها – أن توجد في فعل الحياة بذاته. ففعل الحياة، في النهاية، أهم من أيِّ فكرة أو هدف مثالي أو مبدأ. فلأننا لا نعرف ما هو فعل الحياة ترانا نخترع هذه المفاهيم الرؤيوية وغير الواقعية التي تتيح لنا الفرار. المسألة الحقيقية هي: هل يستطيع المرء أن يجد الاستنارة في الحياة، في نشاطات الحياة اليومية، أم أنَّ الأمر يقتصر على القلَّة الموهوبين قدرةً ما خارقةً على اكتشاف هذه الغبطة؟ الاستنارة تعني أن يكون المرء نورًا لذاته، لكنَّه نور ليس ذاتيَّ الإسقاط ولا متخيَّلًا، ليس مزاجيةً شخصيةً ما. ثم إنَّ هذا مافتئ أبدًا تعليم الدين الصحيح، وإنْ لم يكن تعليم الاعتقاد والخوف المنظَّمين.

السائل: تقول تعليم الدين الصحيح! هذا يختلق على الفور معسكر المحترفين والاختصاصيين في مقابل باقي العالم. فهل تعني إذًا أن الدين منفصل عن الحياة؟

كريشنامورتي: الدين ليس منفصلًا عن الحياة، بل إنَّه الحياة ذاتها. إنَّ هذا التقسيم بين الدين والحياة هو الذي ولَّد هذا البؤس كلَّه الذي تتحدث عنه. وهذا يعيدنا إذًا إلى السؤال الأساسي حول إمكانية اختبار الحياة اليومية في حالٍ دعنا نسمِّها، مؤقتًا، الاستنارة.

السائل: مازلت لا أعلم ما تعنيه بالاستنارة.

كريشنامورتي: حال نفي. النفي هو الفعل الأكثر إيجابية، وليس الجزم الإيجابي. هذا أمر هام للغاية ينبغي فهمه. أكثرنا يقبل العقيدة الإيجابية، يقبل معتقَدًا إيجابيًّا بسهولة بالغة، لأننا نريد أن نكون آمنين، أن ننتمي، أن نتعلَّق، أن نتَّكل. الموقف الإيجابي يجزِّئ ويولِّد الثنائية. وعندئذٍ يبدأ النزاع بين هذا الموقف وبين الآخرين. لكنَّ نفي جميع القيم، جميع الأخلاقيات، جميع المعتقدات، بما أنَّه من غير حدود، فهو لا يمكن له أن يتعارض مع أيِّ شيء. العبارة الإيجابية، من حيث تعريفها نفسه، تفصل، والفصل مقاومة. وعلى هذا نحن معتادون، هذا هو إشراطنا. إنكار هذا كلِّه ليس منافيًا للأخلاق، بل إنكار كلِّ تجزئة ومقاومة هو، بالعكس، ذروة الأخلاق. نفي كلِّ ما اخترعه الإنسان، نفي قيمه وأخلاقه وآلهته جميعًا، هو أن تكون في حالٍ ذهنيةٍ لا ثنائية فيها، وبالتالي، لا مقاومة ولا نزاع بين الأضداد. ففي هذه الحال تنعدم الأضداد، وهذه الحال ليست نقيض شيء آخر.

السائل: فكيف لنا أن نعرف ما هو الخير وما هو الشر؟ أم أنَّه لا يوجد خيرٌ وشرٌّ أصلًا؟ ماذا يحول بيني وبين الجريمة أو حتى القتل؟ إنْ لم تكن عندي معايير، ماذا يحول بيني وبين الله أعلم أي ضلالات؟

كريشنامورتي: إنكار هذا كلِّه هو إنكار المرء ذاتَه، والذات هي الكيان المشروط الذي يسعى سعيًا مستمرًّا إلى خير مشروط. يبدو النفي بنظر أكثرنا وكأنَّه خواء لأننا لا نعرف النشاط إلا في سجن إشراطنا وخوفنا وبؤسنا. وانطلاقًا من ذلك ننظر إلى النفي ونتخيل أنَّه حالٌ رهيبةٌ ما من النسيان أو الفراغ. ففي نظر الإنسان الذي نفى جميع إثباتات المجتمع والدين والثقافة والأخلاقيات، الإنسانُ الذي لا يزال قابعًا في سجن التبعية الاجتماعية هو إنسان شقي. النفي هو حال الاستنارة الفاعلة في جميع نشاطات إنسانٍ حرٍّ من الماضي. فالماضي، بموروثه ومرجعيَّته، هو الذي يجب نفيُه. النفي حرية، والإنسان الحر هو الذي يحيا ويحب ويعرف معنى الموت.

السائل: هذا القَدْر واضح. لكنك لا تقول شيئًا عن أيِّ إشعار بالمتعالي، بالإلهي، أو ما تشاء أن تطلق عليه من الأسماء.

كريشنامورتي: الإشعار بذاك لا يمكن له أن يوجد إلا في الحرية، وأيُّ تصريح عنه إنما هو إنكار للحرية؛ أيُّ تصريح عنه يصير تبليغًا لفظيًّا عديم المعنى. إنَّه حاضر، لكنْ لا يمكن العثور عليه أو استدعاؤه، ولا بالأحرى حبسه في أيِّ مذهب، أو الإيقاع به بأيِّ حيلة ذكية من حيل الذهن. إنَّه ليس في الكنائس، ولا في المعابد، ولا في المساجد. ما من درب إليه، ولا من معلِّم، وما من مذهب بإمكانه أن يكشف عن جماله؛ وَجْدُه يأتي فقط حين توجد المحبة. هذه هي الاستنارة.

السائل: فهل يجلب أيَّ فهم جديد لطبيعة الكون أو الوعي أو الوجود؟ جميع النصوص الدينية تغصُّ بهذا النوع من الأمور.

كريشنامورتي: هذا أشبه ما يكون بطرح المرء أسئلةً عن الضفة الأخرى بينما هو يعيش ويشقى على هذه الضفة. حين تكون على الضفة الأخرى فأنت كلُّ شيء ولاشيء، ولا تطرح أسئلة كهذه أبدًا. جميع الأسئلة من هذا القبيل مصدرها هذه الضفة وحقًّا لا معنى لها بتاتًا. ابدأ بالحياة وستجد نفسك هناك من غير سؤال، من غير سعي، من غير خوف.


* J. Krishnamurti, Eight Conversations. Copyright ©1969 Krishnamurti Foundation Trust, England.