ثمانية حوارات: 4 من 8 – ج. كريشنامورتي

ثمانية حوارات*
الحوار الرابع

ج ك، ثمانية حوارات

سائل: عندي عادة واحدة مستحكمة… عندي عادات أخرى، لكنَّها ذات أهمية أقل. مازلت أكافح هذه العادة حصرًا منذ أبعد ما تطاله ذاكرتي. أغلب الظن أنها تشكَّلت في طفولتي المبكرة، ويبدو أنَّه لا أحد اهتمَّ اهتمامًا كافيًا لتصحيحها آنذاك؛ وبالتدريج، مع تقدُّمي في العمر، صارت متجذِّرة أكثر فأكثر عمقًا. وهي لا تختفي أحيانًا إلا لتعاود الظهور من جديد. ويبدو أني غير قادر على التخلُّص منها. أودُّ أن أسود عليها تمامًا؛ فقد صار التغلُّب عليها هوسًا عندي. فماذا ينبغي لي أن أفعل؟

كريشنامورتي: يبدو مما تقول أنك استسلمت لعادةٍ طوال سنين عديدة جدًّا، وتراك نمَّيت عادةً أخرى، عادةَ مكافحتها. وإذن فأنت تريد التخلُّص من عادةٍ بتنمية عادةٍ أخرى هي إنكار الأولى. تراك تكافح عادةً بعادةٍ أخرى. وحين لا تقدر على التخلُّص من العادة الأولى تشعر بالذنب، بالعار، بالكآبة، وربما بالغضب من نفسك على ضعفك. لكن كلتا العادة الأولى والثانية وجه من وجهَي العملة نفسها: من دون الأولى ما كان للثانية أن توجد؛ ومنه فإنَّ الثانية هي حقًّا استمرار للأولى كردَّة فعل. وإذن فعندك الآن مشكلتان، في حين كان عندك في البداية مشكلة واحدة فقط.

السائل: أعلم ما ستقول لأنني أعلم ما تقوله عن الوعي، لكني لا أستطيع أن أكون واعيًا طوال الوقت.

كريشنامورتي: وإذن فعندك الآن عدة أشياء تجري في الوقت ذاته: عندك أولًا العادة الأصلية، ثم الرغبة في التخلُّص منها، ثم الشعور بالإحباط من فشلك، ثم العزم على أن تكون واعيًا طوال الوقت. وهذه الشبكة نشأت لأنك في قرارة نفسك تريد أن تتخلَّص من تلك العادة بالذات؛ ذلك هو دافعك الأوحد، وأنت تتأرجح طوال الوقت بين العادة وبين مكافحتها. لست ترى أنَّ المشكلة الحقيقية هي في التعوُّد أصلًا، حسنًا كان أم سيئًا، وليس في مجرَّد عادةٍ واحدةٍ بعينها. وإذن فإنَّ المسألة حقًّا هي: هل من الممكن الإقلاع عن عادةٍ ما دون بذل أيِّ جهد، دون تنمية ضدِّها، دون قمعها عبر المراقبة المتواصلة، وهي مقاومة؟ فالمراقبة المتواصلة هي مجرَّد عادةٍ أخرى، بما أنها تتولَّد من العادة التي تحاول هذه المراقبة أن تتغلَّب عليها.

السائل: أتعني أني أستطيع أن أتخلَّص من العادة من غير توليد هذه الشبكة المعقدة من ردَّات الفعل عليها؟

كريشنامورتي: مادمت تريد التخلُّص منها فإنَّ تلك الشبكة المعقدة من ردَّات الفعل هي التي تشتغل فعليًّا. إنَّ مراد التخلُّص منها هي تلك الشبكة الرَّجعية. وإذن فأنت حقًّا لم توقف ردَّة الفعل العبثية على العادة هذه.

السائل: لكني، مع ذلك، يجب أن أفعل شيئًا حيالها!

كريشنامورتي: ذاك يدلُّ على أنك محكوم بهذه الرغبة بعينها. هذه الرغبة وردَّات الفعل عليها ليست مختلفة عن العادة؛ إذ إنَّ بعضها يقتات ببعض. الرغبة في التفوق ليست مختلفة عن الدونية؛ فالمتفوق هو المتدنِّي، القديس هو الخاطئ!

السائل: فهل يجب عليَّ فقط ألا أفعل شيئًا حيالها بتاتًا؟

كريشنامورتي: ما تفعله حيالها هي تنمية عادةٍ أخرى في مقابل العادة القديمة.

السائل: فإذا لم أفعل شيئًا سأظل على العادة، ونعود إلى حيث ابتدأنا!

كريشنامورتي: هل نعود فعلًا؟ حين تعي بأنَّ ما تفعله للإقلاع عن العادة هي تنمية عادةٍ أخرى، لا مجال لديك إلا لعمل واحد، وهو ألا تفعل شيئًا ضدَّ تلك العادة بتاتًا. كلُّ ما تفعل يقع ضمن قالب العادات، وبالتالي فإنَّ عدم فعلك شيئًا، شعورك بأنك غير مضطر إلى مكافحتها، هو أعظم أفعال الفطنة. إذا فعلت أيَّ شيء إيجابي فأنت واقع من جديد في مجال العادات. أما إذا رأيت هذا الأمر رؤيةً واضحةً جدًّا يسود على الفور شعورٌ بارتياح عظيم وبخفَّة فائقة. فأنت الآن ترى أنَّ مكافحة العادة الواحدة بتنمية أخرى لا ينهي العادة الأولى، فتكف عن مكافحتها.

السائل: عندئذٍ تبقى العادة فقط، وليس من مقاومة لها.

كريشنامورتي: أيُّ شكلٍ من أشكال المقاومة يغذي العادة – لكنَّ هذا لا يعني أنك ستستمر على العادة. فأنت تصبح واعيًا للعادة ولتنمية ضدِّها – وهي عادة هي الأخرى –، وهذا الوعي يبيِّن لك أنك مهما فعلت بخصوص العادة فهو من قبيل تشكيل عادةٍ أخرى. فالآن، وقد رصدتَ هذه السيرورة برمَّتها، تقول فطنتك: “لا تفعل شيئًا حيال العادة، لا تولِها أيَّ انتباه، لا تأبه لها، لأنك كلَّما أبهت لها صارت أكثر فاعلية.” الفطنة الآن تشتغل، وهي تعاين. وهذه المعاينة مختلفة كلَّ الاختلاف عن مراقبة مقاومة العادة، عن ردِّ الفعل عليها. فإذا اعتمل فيك الشعور بهذه الفطنة وهي تعاين، إذ ذاك فإنَّ هذا الشعور هو الذي سيعتمل ويعالج العادة، وليس رقابة التصميم والإرادة. وإذن فالمهم ليس العادة، بل فهم العادة الذي يستحضر الفطنة. وهذه الفطنة تبقى متيقظة من غير وقود الرغبة، وهي الإرادة. في الحال الأولى تُجابَه العادةُ بالمقاومة، وفي الحال الثانية لا تُجابَه بتاتًا – وتلك هي الفطنة. فعل الفطنة يصعق مقاومة العادة التي تتغذى عليها العادة.

السائل: هل يعني قولك أني تخلَّصت من عادتي؟

كريشنامورتي: تأنَّ، ولا تتسرع في افتراضك أنك تخلَّصت منها. فالأهم من العادة هو هذا الفهم، وهي الفطنة. هذه الفطنة مقدسة ويجب، بالتالي، أن تُمَسَّ بيدين طاهرتين، لا أن تُستغَلَّ في ألاعيب صغيرة تافهة. عادتك الصغيرة لا أهمية لها مطلقًا. إذا كانت الفطنة حاضرة فالعادة تافهة؛ أما إذا لم تَحضُر الفطنة فإنَّ عجلة العادة هي كلُّ ما عندك.


* J. Krishnamurti, Eight Conversations. Copyright ©1969 Krishnamurti Foundation Trust, England.