ثمانية حوارات: 3 من 8 – ج. كريشنامورتي

ثمانية حوارات*
الحوار الثالث

ج ك، ثمانية حوارات

سائل: أرى أهمية إنهاء الخوف والأسى والغضب وكدح الإنسان كلِّه. أرى أنَّ على المرء أن يحرص على وضع أُسُس السلوك الصالح، الذي يُدعى عمومًا بالبِر، وعلى أنْ لا توجد في ذلك كراهية ولا حسد ولا شيء من التوحُّش الذي يعيش فيه الإنسان. أرى كذلك أنَّه لا بدَّ من الحرية، لا بمعنى التحرُّر من شيء بعينه، بل الحرية في ذاتها، وأنَّ المرء يجب ألا يبقى دومًا حبيس متطلَّباته ورغباته. أرى هذا كلَّه رؤيةً واضحةً جدًّا وأحاول – وإنْ كنتَ ربما لا تحبذ كلمة “محاولة” – أن أعيش على هديٍ من هذا الفهم. توغلت في ذاتي إلى حدٍّ ما. لم يعد يقيِّدني أيُّ شيء من أشياء هذه الدنيا، ولا أيُّ دين من الأديان. وأودُّ الآن أن أسأل: إذا سلَّمنا جدلًا بأنَّ المرء حر، ليس خارجيًّا وحسب بل داخليًّا، من بؤس الحياة كلِّه وبلبلتها، ماذا يوجد هناك فيما وراء الجدار؟ حين أقول “الجدار” أعني الخوفَ والأسى وضغطَ الفكر الدائمَ. ماذا يوجد هناك مما يمكن رؤيته حين يكون الذهن هادئًا، وليس ملتزمًا أيَّ نشاط بعينه؟

كريشنامورتي: ماذا تعني بقولك: “ماذا يوجد هناك”؟ أتعني شيئًا ينبغي أن يُدرَك، أن يُحَسُّ، أن يُختبَر، أو أن يُفهَم؟ أتراك تسأل ما هي الاستنارة؟ أم أنك تسأل ماذا يوجد هناك حين يتوقف الذهن عن شروده كلِّه ويؤول إلى الهدوء؟ هل تسأل ماذا يوجد هناك على الجانب الآخر حين يكون الذهن ساكنًا حقًّا؟

السائل: أسأل هذه الأشياء كلَّها. فحين يكون الذهن ساكنًا يبدو وكأنَّه لا يوجد شيء. لا بدَّ أنَّ هناك شيئًا على جانب هائل من الأهمية ينبغي اكتشافه وراء الفكر كلِّه. البوذا، وواحد أو اثنان سواه، تكلَّموا على أمرٍ هو من الشساعة بحيث لم يكن في وُسعهم التعبير عنه بكلمات. قال البوذا: “لا تقيسوا بالكلمات ما لا يقاس.” جميعنا عرفنا لحظات كان الذهن فيها ساكنًا سكونًا كاملًا، ولم يكن في الأمر حقًّا شيء بهذه العظمة كلِّها… كان الأمر مجرَّد فراغ! ومع ذلك ينتاب المرءَ شعورٌ بأنَّ هناك شيئًا شديد القرب، بمجرَّد أن يُكتشف يحوِّل الحياة بأسرها. ولعلَّه يبدو، ممَّا قاله الناس، أنَّ ذهنًا ساكنًا ضروري لاكتشاف هذا الأمر. أرى، كذلك، أن وحده ذهن غير مزدحم، ساكن، يستطيع أن يكون فعالًا ونافذ البصيرة بحق. لكنْ لا بدَّ أنَّ هناك شيئًا أكثر من مجرَّد ذهنٍ غير مزدحم، ساكن، شيئًا أكثر بكثير من ذهنٍ طازج، ذهنٍ بريء، أكثر حتى من ذهنٍ مُحِب.

كريشنامورتي: فما هو السؤال الآن؟ لقد صرَّحتَ بأنَّ ذهنًا هادئًا، حساسًا، يقظًا، ضروري، لا لتكون فعالًا وحسب، بل لتدرك الأشياء من حولك وفي نفسك أيضًا.

السائل: جميع الفلاسفة والعلماء يدركون شيئًا ما طوال الوقت. بعضهم ذكي ذكاءً ملحوظًا، والعديد منهم مستقيم حتى. لكنك حين تنظر في كلِّ ما أدركوه أو أبدعوه أو عبَّروا عنه تجده بلا قيمة تُذكَر، وليس فيه قطعًا أيُّ إشعارٍ بشيء إلهي.

كريشنامورتي: أتراك تسأل إنْ كان هناك شيء مقدس فيما يتعدى هذا كلَّه؟ هل تسأل إنْ كان هناك بُعد مختلف يستطيع الذهن أن يحيا فيه ويدرك شيئًا ليس مجرَّد صياغة عقلية للدهاء؟ هل تسأل بطريقة مواربة إنْ كان يوجد شيء سامٍ أم لا يوجد؟

السائل: لقد قال عدد كبير من الناس بأكثر ما يمكن من الإقناع بأنَّ هناك كنزًا هائلًا هو منبع الوعي. جميعهم متفقون على أنَّه عصيٌّ على الوصف، لكنهم مختلفون على كيفية إدراكه. ويبدو أنهم جميعًا يعتقدون أنَّ الفكر يجب أن يتوقف قبل أن يتاح لذاك الكنز أن يتجلَّى. بعضهم يقول إنَّه المادة المصنوع منها الفكر بالذات، وهكذا دواليك. جميعهم متفقٌ على أنَّك لا تحيا حقًّا ما لم تكتشفه. وأنت نفسك، على ما يبدو، تقول بشكل أو بآخر الشيء ذاته. غير أني لا أتبع أيَّ مذهب أو طريقة أو گورو [معلِّم] أو معتقَد. لا أحتاج إلى أيٍّ من هذه الأمور لإخباري بوجود شيء متعالٍ. حين تنظر إلى ورقة نبات أو إلى وجه إنسان، تراك تدرك أنَّ هناك شيئًا أعظم بكثير من التفسيرات العلمية أو البيولوجية للوجود. يبدو أنك شربت من هذا الينبوع. نحن نستمع إلى ما تقول. وأنت حريص على تبيين تفاهة الفكر ومحدوديَّته. ونحن نستمع، نتفكَّر، ونقع على سكون جديد. النزاع ينتهي فعلًا. ولكن ماذا بعد؟

كريشنامورتي: لِمَ تسأل هذا؟

السائل: أنت تسأل رجلًا أعمى لماذا يريد أن يبصر!

كريشنامورتي: لم يُسأل السؤال كمناورة ذكية، أو للفت النظر إلى أنَّ ذهنًا صامتًا لا يسأل شيئًا بتاتًا، بل للتأكد من أنك تبحث فعلًا عن شيء متعالٍ. فإنْ كنت تبحث، ما هو الدافع من وراء ذلك البحث يا ترى؟ – الفضول، إلحاح الاكتشاف، أم الرغبة في رؤية جمال لم ترَ مثيله من قبل. أليس مهمًّا في نظرك أن تكتشف بنفسك إنْ كنت تطلب المزيد، أم أنك تحاول أن ترى الموجود بالضبط؟ الإثنان متنافران. فإنِ استطعت أن تنحِّي المزيد فنحن عندئذٍ مهتمان فقط بـالموجود حين يكون الذهن صامتًا. ماذا يحدث فعليًّا حين يكون الذهن هادئًا حقًّا؟ ذاك هو السؤال الحقيقي، أليس كذلك، وليس ما هو متعالٍ أو ما يكمن أبعد؟

السائل: سؤالي هو عما يكمن أبعد.

كريشنامورتي: ما يكمن أبعد لا يمكن إيجاده إلا إذا كان الذهن ساكنًا. قد يكون هناك شيء وقد لا يكون هناك شيء إطلاقًا. وإذن فالأمر الوحيد المهم هو أن يكون الذهن ساكنًا. مرة أخرى، إنْ كنتَ مهتمًّا بما يكمن أبعد فأنت عندئذٍ لا تنظر إلى ماهية حالِ السكون الفعلي. إنْ كان السكون في نظرك مجرَّد باب إلى ما يكمن أبعد فأنت غير مهتم بذلك الباب، في حين أنَّ المهم هو الباب بالذات، هو السكون بعينه. لذا لا يجوز لك أن تسأل ماذا يكمن أبعد. الشيء الوحيد المهم هو أن يكون الذهن ساكنًا. ماذا يحدث عندئذٍ؟ ذاك كلُّ ما يهمُّنا، لا ما يكمن أبعد من الصمت.

السائل: أنت على حق. فليس للصمت من أهمية بنظري إلا كبوابة.

كريشنامورتي: كيف لك أن تعرف أنَّه بوابة وليس الشيء بحدِّ ذاته؟ الوسيلة هي الغاية، وهما ليستا أمرين منفصلين. الصمت هو الواقعة الوحيدة، لا ما تكتشف من خلاله. فلنبقَ عند الواقعة، ولنرَ ما هي تلك الواقعة. من عظيم الأهمية – ولعلَّه من أعظم الأهمية – أن يكون هذا الصمت صمتًا بحدِّ ذاته وليس شيئًا محرَّضًا كوسيلة إلى غاية، ليس شيئًا محرَّضًا بواسطة المخدرات أو الرياضة أو ترداد الكلمات.

السائل: الصمت يأتي من تلقاء ذاته، من غير دافع ومن غير سبب.

كريشنامورتي: لكنك تستعمله كوسيلة!

السائل: لا، فقد عرفتُ الصمت وأجد أنَّه لا يحدث شيء.

كريشنامورتي: هذه هي المسألة برمَّتها. ليس هناك من واقعةٍ أخرى غير الصمت الذي لم يُستدعَ، لم يحرَّض، لم يُسعَ إليه، بل هو النتيجة الطبيعية للرصد ولفهم المرء نفسَه والعالمَ حواليه. وفي هذا لم يكن هناك مِن دافعٍ جَلَبَ الصمت. إذا وُجِدَ أيُّ ظلٍّ أو شبهةٍ في وجود دافع، إذ ذاك يكون هذا الصمت موجَّهًا ومتعمَّدًا، وبالتالي فهو ليس صمتًا على الإطلاق. إنْ كنت تستطيع أن تقول صادقًا إنَّ ذلك الصمت صمت حر، إذ ذاك فإنَّ ما يحدث فعليًّا في ذلك الصمت هو همُّنا الأوحد. ما هي خاصيَّة ذلك الصمت وما هو جوهره؟ هل هو سطحي، عابر، قابل للقياس؟ هل أنت تعيه بعد أن ينتهي أو في أثناء الصمت؟ إذا وعيت أنك كنت صامتًا فهي ذكرى وحسب، وهي بالتالي ميتة. إذا وعيت الصمت وهو يحدث فهل هو صمت؟ إذا لم يكن هناك من راصد – أي ما من حزمة من الذاكرات – فهل هو صمت؟ هل هو شيء متقطع يجيء ويذهب تبعًا لكيمياء جسمك؟ هل يجيء وأنت وحدك، أو مع الناس، أو عندما تحاول أن تتأمل؟ ما نحاول أن نكتشفه هي طبيعة هذا الصمت. هل هو غني أم فقير؟ (لا أعني غنيًّا بالخبرة أو فقيرًا لأنَّه غير متعلِّم.) هل هو ممتلئ أم ضحل؟ هل هو بريء أم هو مركَّب؟ من شأن الذهن أن ينظر إلى واقعةٍ ولا يرى جمال تلك الواقعة، عمقَها، خاصيَّتَها. فهل من الممكن رصد الصمت من دوت الراصد؟ حينما يحلُّ الصمت هناك صمت وحسب، ولا شيء سواه. عندئذٍ، في ذلك الصمت، ماذا يحدث؟ أهذا ما تسأل؟

السائل: أجل.

كريشنامورتي: هل هناك رصد للصمت بالصمت في الصمت؟

السائل: هذا سؤال جديد!

كريشنامورتي: إنَّه ليس سؤالًا جديدًا لو أنك كنت تتابع. الدماغ بكلِّيته، الذهن، المشاعر، الجسم، كلُّ شيء هادئ. فهل يمكن لهذا الهدوء، لهذا السكون، أن ينظر إلى ذاته، لا كراصدٍ ساكن؟ هل يمكن لكلِّية هذا الصمت أن تشاهد كلِّيتَها؟ الصمت يصبح واعيًا لذاته. وفي هذا ينعدم التقسيم بين راصدٍ ومرصود. تلك هي المسألة الرئيسية. هذا الصمت لا يستعمل ذاته لاكتشاف شيء يتعدَّاه. يوجد ذلك الصمت وحسب. والآن انظرْ ما يحدث.


* J. Krishnamurti, Eight Conversations. Copyright ©1969 Krishnamurti Foundation Trust, England.