ثمانية حوارات: 5 من 8 – ج. كريشنامورتي

ثمانية حوارات*
الحوار الخامس

ج ك، ثمانية حوارات

سائل: أجدني أتعلَّق بالناس تعلُّقًا مرعبًا وأتَّكل عليهم. وهذا التعلُّق يتطور في علاقاتي إلى نوع من التطلُّب الاستئثاري يولِّد شعورًا بالسيطرة. وإذ أراني متَّكلًا، مدرِكًا لمشقَّة ذلك وللألم الناجم عنه، أحاول أن أكون غير متعلِّق. عندئذٍ أشعر بالوحشة شعورًا رهيبًا، وفي عجزي عن مواجهة الوحشة، أتهرَّب منها عن طريق الشراب وبطُرُق أخرى. ومع ذلك لا أريد لعلاقاتي أن تكون مجرَّد علاقات سطحية عابرة.

كريشنامورتي: هناك التعلُّق، ثم هناك الصراع لفكِّ التعلُّق، ثم ينجم عن هذا نزاعٌ أعمق هو الخوف من الوحشة. فما مشكلتك إذن، ما الذي تحاول أن تتبيَّنه، أن تتعلَّمه؟ هل هو أنَّ كلَّ علاقة هي قضية اتِّكال؟ أنت متَّكل على البيئة والناس. فهل من الممكن لك أن تكون حرًّا، لا من البيئة والناس فحسب، بل أن تكون حرًّا في ذاتك، بحيث لا تتَّكل على أيِّ شيء أو أيِّ أحد؟ أَمِنَ الممكن أن يوجد فرحٌ ليس حصيلة البيئة أو الناس؟ البيئة تتغير، الناس تتغير، وإذا اتَّكلت عليهم فأنت واقع في شِراكهم – وإلا فإنك تصير لامباليًا، متحجِّر القلب، متهكِّمًا، قاسيًا. وإذن أليس مناط القضية إنْ كنت تستطيع أن تحيا حياةَ حريةٍ وفرحٍ ليست نتيجة البيئة، بشريةً كانت أو غير ذلك؟ هذه مسألة هامة للغاية. أكثر البشر عبيد لأسرتهم أو لظروفهم، وهم يريدون تغيير الظروف والناس، آملين بذلك أن يجدوا الفرح، أن يحيوا حياةً حرَّةً وأكثر انفتاحًا. لكنهم حتى إنْ أوجدوا فعلًا بيئةً تخصُّهم أو اختاروا علاقاتٍ خاصةً بهم سرعان ما ينتهي بهم الأمر إلى الاتِّكال ثانيةً على البيئة الجديدة وعلى الأصدقاء الجُدُد. فهل الاتِّكال، مهما يكن شكله، يجلب الفرح؟ وهذا الاتِّكال هو أيضًا حافز للمرء على التعبير، دافع إلى أن يكون مرموقًا. فصاحب موهبة أو قدرة بعينها يتَّكل عليها، وحين تتناقص أو تزول برمَّتها تراه يحار ويصير بائسًا وقبيحًا. ومنه فإنَّ الاتِّكال نفسيًّا على أيِّ شيء – الناس، الممتلكات، الأفكار، المواهب – مدعاةٌ للأسى. لذا يتساءل المرء: هل هناك فرح لا يتَّكل على أيِّ شيء؟ هل هناك ضياء لا يضيئه آخر؟

السائل: فرحي حتى الآن أضاءه دومًا شيءٌ أو أحدٌ خارج ذاتي – فلا أستطيع الإجابة عن ذلك السؤال. ولعلِّي لا أجرؤ حتى على سؤاله، لأنني عند ذاك قد أضطر إلى تغيير أسلوب حياتي. أنا قطعًا متَّكل على الشراب والكتب والجنس والصحبة.

كريشنامورتي: لكنك حين ترى بنفسك، في وضوح، أنَّ هذا الاتِّكال يولِّد مختلف أشكال الخوف والبؤس، ألا تسأل حتمًا السؤال الآخر، الذي ليس عن كيفية التحرر من البيئة والناس، بل بالحري عمَّا إذا كان ثمة فرح، غبطة، هي نور ذاتها؟

السائل: قد أسأله، لكنَّه لا قيمة له. بما أني واقع في شَرَك هذا كلِّه فهذا كلُّ ما هو موجود فعليًّا في نظري.

كريشنامورتي: ما يهمُّك هو الاتِّكال، بكلِّ منطوياته، وهو أمر واقع. ثم هناك واقعة أعمق هي الوحشة، ذلك الشعور بالعزلة. حين نشعر بالوحشة نتعلَّق بالناس، بالشراب، وبشتى أنواع المهارب الأخرى. التعلُّق مهرب من الوحشة. فهل يمكن لهذه الوحشة أن تُفهَم، وهل يمكن للمرء أن يتبيَّن بنفسه ما يتعدَّاها؟ هذه هي المسألة الحقيقية، لا ما يجب فعله بخصوص التعلُّق بالناس أو بالبيئة. هل يمكن تجاوُز هذا الإحساس العميق بالوحشة، بالفراغ؟ إنَّ أيَّ حركة لتفادي الوحشة، مهما كانت، تعزِّز الوحشة، فتزداد الحاجة إلى الإفلات منها أكثر من ذي قبل. وهذا يعلِّل التعلُّق الذي يسبِّب مشكلاته الخاصة. إنَّ مشكلات التعلُّق تحتلُّ الذهن إلى حدِّ أنَّ الوحشة تغيب عن ناظر المرء فيُسقِطها من حسابه. بذا نستخف بالسبب وننشغل بالنتيجة. لكنَّ الوحشة فاعلة طوال الوقت لأنه لا فرق ثمة بين السبب والنتيجة. هناك الموجود فقط، وهو لا يصير سببًا إلا حين يتفادى ذاته. لذا فمن المهم فهمُ أنَّ هذه الحركة بعيدًا عن ذاته هي ذاته، ومن ثَمَّ فهي نتيجته. لا يوجد، بالتالي، سبب ولا نتيجة أصلًا، لا حركة إلى أيِّ مكان بتاتًا، بل الموجود فقط. أنت لا ترى الموجود لأنك تتشبَّث بالنتيجة. هناك وحشة، وهناك حركة تفادي الوحشة ظاهريًّا إلى التعلُّق؛ ومن ثَمَّ يصير هذا التعلُّق، بمنطوياته كلِّها، من الأهمية، من الهيمنة، بحيث يحول بين المرء وبين النظر إلى الموجود. وحركة تفادي الموجود هي الخوف، ونحن نحاول أن نصرفَه بمهربٍ آخر. هذه حركة مستديمة، تظهر وكأنها تتفادى الموجود، لكنْ فعليًّا ليس هناك حركة بتاتًا. وإذن فوحده ذهنٌ يرى الموجود ولا يتفاداه في أيِّ اتجاه ذهنٌ متحرِّر من الموجود. وبما أنَّ سلسلة السبب والنتيجة هذه هي من فعل الوحشة فمن الواضح أنَّ الإنهاء الوحيد للوحشة هو إنهاء هذا الفعل.

السائل: سوف يتعيَّن عليَّ أن أتمعَّن في هذا الأمر عميقًا جدًّا جدًّا.

كريشنامورتي: ولكنْ هذا أيضًا يمكن له أن يصير انشغالًا يصير بدوره مهربًا. إذا رأيت هذا كلَّه في وضوح تام فرؤيتك أشبه بطيران النسر الذي لا يترك أثرًا في الجو.


* J. Krishnamurti, Eight Conversations. Copyright ©1969 Krishnamurti Foundation Trust, England.