ثمانية حوارات: 1 من 8 – ج. كريشنامورتي

ثمانية حوارات*
الحوار الأول

ج ك، ثمانية حوارات

سائل: ليتني أجد نفسي، فجأةً، في عالم مختلف كليًّا، عالي الفطنة، مفعم بالسعادة، ذي حسٍّ عظيم بالمحبة. أودُّ أن أكون على الضفة الأخرى من النهر، لا أن أضطر إلى قطع المسافة مصارعًا، سائلًا الخبراء أن يدلوني على الطريق. لقد جُبْتُ العديد من أصقاع العالم المختلفة، ونظرتُ إلى مساعي الإنسان في مختلف مجالات الحياة. ما من شيء جذبني إلا الدين. وإني لَفاعلٌ أيَّ شيء للوصول إلى الشاطئ الآخر، للدخول إلى بُعدٍ جديدٍ ورؤيةِ كلِّ شيء كما لو للمرة الأولى بعينين صافيتين. أشعر شعورًا قويًّا جدًّا بأنَّه لا بدَّ من وجود اختراق مفاجئ لكلِّ بهرجة الحياة هذه – لا بدَّ من وجوده!

حين كنتُ في الهند مؤخرًا سمعتُ ناقوس معبد يرن، وكان له أثرٌ عجيب عليَّ. شعرت فجأة بإحساس خارق بالوحدة والجمال كما لم أشعر من قبل. كان حدوث الأمر من المفاجأة بحيث إنَّه أصابني بشيء من الدوار. وكان حقيقيًّا، وليس من قبيل الشطح أو الوهم. ثم أقبل دليلٌ وسألني إنْ كان يستطيع أن يريني المعابد، وفي تلك اللحظة عدت إلى عالم الضجيج والابتذال من جديد. أودُّ لو أمسك به مرة أخرى، لكنَّه بالطبع، كما تقول، مجرَّد ذكرى ميتة، ومن ثَمَّ لا قيمة له. فماذا يمكن لي أن أفعل، أو لا أفعل، كي أصل إلى الشاطئ الآخر؟

كريشنامورتي: ما من طريق إلى الشاطئ الآخر. ما من عمل، ما من سلوك، ولا من وصفة جاهزة من شأنها أن تفتح الباب إلى الآخر. ليس الأمر سيرورة تطورية؛ إنَّه ليس غاية طريقة؛ مُحالٌ شراؤه أو منحُه أو دعوتُه. إنْ كان هذا واضحًا، إنْ نسي الذهن نفسه ولم يعد يقول “الضفة الأخرى” أو “هذه الضفة”، إنْ كفَّ الذهن عن تلمُّس طريقه والتفتيش، إنْ كان هناك فراغ ومساحة كلِّيان في الذهن نفسه، إذ ذاك، وإذ ذاك فقط، يكون حاضرًا.

السائل: أفهم ما تقول لفظيًّا، لكني لا أستطيع الكفَّ عن التلمُّس والحنين، لأني في أعماق سريرتي لا أؤمن بأنَّه ما من طريق، ما من طريقة، ما من عمل سوف ينقلني إلى الشاطئ الآخر.

كريشنامورتي: ماذا تعني بقولك: “لا أؤمن بأنَّه ما من طريق”؟ هل تعني معلِّمًا يأخذ بيدك ويحملك إلى هناك؟

السائل: لا. غير أني آمل بأنَّ أحدهم ممَّن يفهمون سوف يدلُّ عليه مباشرة، لأنَّه لا بدَّ أن يكون موجودًا فعليًّا طوال الوقت، بما أنَّه حق.

كريشنامورتي: هذا كلُّه قطعًا من قبيل التخمين. لقد حصل لك ذاك الشعور المفاجئ بالحقِّية حين سمعتَ ناقوس المعبد، لكنَّ تلك ذكرى، كما قلتَ، ومنها فأنت تستنتج بأنَّه لا بدَّ أن يكون موجودًا دومًا لأنَّه حق. الحق شيء عجيب؛ إنَّه يكون حاضرًا حين لا تنظر؛ لكنك حين تنظر، بجشع، فإنَّ ما تمسك به هو نفاية جشعك، وليس الحق. الحق شيءٌ حيٌّ ولا يمكن الإمساك به، ولا يمكن لك أن تقول إنَّه دومًا حاضر. هناك درب فقط إلى ما هو مستتب، إلى نقطة ثابتة، ساكنة. أما الشيء الحي، المتحرك على الدوام، الشيء الذي ليس له مستقَر، فكيف يمكن أن يوجد دليل إليه أو درب؟ الذهن من التلهُّف إلى بلوغه، إلى القبض عليه، بحيث إنَّه يجعل منه شيئًا ميتًا. وإذن، هل تستطيع أن تنحِّي ذكرى تلك الحال التي حصلت لك؟ هل تستطيع أن تنحِّي المعلِّم، الدرب، الغاية، أن تنحِّيها تنحيةً تامةً بحيث يفرغ ذهنك من هذا السعي كلِّه؟ إنَّ ذهنك في الوقت الحاضر من الانشغال بهذا الطلب الغامر بحيث إنَّ هذا الانشغال بالذات يصير حاجزًا. أنت تطلب، تسأل، تتوق إلى السير على الشاطئ الآخر. الشاطئ الآخر يقتضي وجود هذا الشاطئ، ومن هذا الشاطئ، للوصول إلى الشاطئ الآخر، هناك مكان وزمن. وهذا ما يلجمك ويجلب عليك هذا الشوق الموجع إلى الشاطئ الآخر. وتلك هي المشكلة الحقيقية – الزمن الذي يجزِّئ، المكان الذي يفصل، الزمن الضروري للوصول إلى هناك، والمكان الذي هو المسافة بين هذا وذاك. هذا يريد أن يصير ذاك، فيجد الأمر غير ممكن بسبب المسافة والزمن المطلوب لقطع تلك المسافة. وفي هذا لا توجد المقارنة وحسب، بل القياس أيضًا، وذهنٌ قادرٌ على القياس ذهنٌ قادرٌ على الوهم أيضًا. هذا التقسيم للمكان والزمن بين هذا وذاك هو طريق الذهن، الذي هو الفكر. لعلمك، حين توجد المحبة يختفي المكان ويختفي الزمن. فقط حين يتدخل الفكر والرغبة توجد فجوة زمنية لا بدَّ من ردمها. حين ترى هذا، يكون هذا هو ذاك.

السائل: لكني لا أراه. أشعر بأنَّ ما تقوله صحيح، لكنَّه يتملَّص مني.

كريشنامورتي: سيدي، أنت شديد نفاد الصبر، وفي نفاد صبرك هذا تكمن عدوانيَّته نفسها. أنت تهاجم، تجزم. لستَ هادئًا لتنظر، لتصغي، لتشعر بعمق. تريد الوصول إلى الشاطئ الآخر بأيِّ ثمن، فتسبح سباحة محمومة، غير عالم أين الشاطئ الآخر. الشاطئ الآخر قد يكون هذا الشاطئ، وإذن فأنت تسبح مبتعدًا عنه. إذا أجزتَ لي أن أقترح، كفَّ عن السباحة. وهذا لا يعني أنك يجب أن تصير بليدًا، فتعيش عيشةً خاملةً ولا تفعل شيئًا، بل بالحري أنك يجب أن تكون منفعل الإدراك من دون أيِّ اختيار، أيًّا كان، ولا قياس. ثم انظرْ ما يحدث. قد لا يحدث شيء، لكنك إنْ كنت تتوقع من ذلك الناقوس أنَّ يرنَّ مرة أخرى، إنْ كنت تتوقع عودة كلِّ ذلك الشعور والبهجة، فأنت تسبح في الاتجاه المعاكس. الهدوء يتطلَّب طاقة عظيمة، والسباحة تبدِّد تلك الطاقة. وأنت في حاجة إلى طاقتك كلِّها لصمت الذهن، وفقط في الفراغ، في الفراغ التام، يمكن لأمر جديد أن يكون.


* J. Krishnamurti, Eight Conversations. Copyright ©1969 Krishnamurti Foundation Trust, England.