أرشيف التصنيف: روحانيات

في العالم… لكن ليس من العالم – ديمتري أڤييرينوس

في العالم… لكنْ ليس من العالم

ديمتري أڤييرينوس

ديمتري أڤييرينوس

 

إني بلَّغتُهم كلمتك فأبغضهم العالم، لأنهم ليسوا من العالم كما أني لست
من العالم. لا أسألك أن تُخرِجَهم من العالم، بل أن تحفظهم من الشرير.
إنجيل يوحنا 17: 14-15

 

في أكثر من لقاء مع أستاذنا ندره اليازجي مؤخرًا شدَّد – كعادته حين يتطرَّق إلى فلسفته الأخلاقية – على وجوب “تطبيق أنبل المبادئ في أدنى العوالم على سلَّم الوجود وأكثفها وأصعبها”، مكرِّرًا عبارة “أن نكون في العالم دون أن نكون منه“. فإذا قلبنا مدلول كلٍّ من حرفَي الجر في عبارة الأستاذ اليازجي العميقة نجد أنهم قلة بين الناس، على ما يبدو، مَن يفقهون معنى أن يكون الإنسان جزءًا لا يتجزأ من العالم بالمعنى الروحي للعبارة، لا بالمعنى “الانتمائي” الدنيوي السائد، في حين أن سواهم منخرطون في العالم، غارقون فيه، شأنهم شأن الغريق في مستنقع وحل، لا يعي ما يجري عليه.

Continue reading

ينبوع الطاقة الروحية – ديمتري أڤييرينوس

ينبوع الطاقة الروحيَّة

ديمتري أڤييرينوس

ديمتري أڤييرينوس

 

مدرِّسة: ما شعورك وأنت ترقص؟

بيلي: لا أدري. أحسُّ نوعًا من الارتياح. أحسُّ أولاً بالتيبُّس نوعًا ما، لكني
حالما أنطلق… فكأني عندئذٍ أنسى كلَّ شيء. و… كأني أختفي. كأني أختفي.
كأني أحسُّ تغيرًا في جسمي كلِّه. ثم تسري هذه النار في جسمي. أكون
حاضرًا فقط. أطير كالعصفور. مثل الكهرباء… أجل، مثل الكهرباء.[1]

 

كيف لِمَن شاهد بيلي إليوت، فيلم ستيڤن دَلْدري الساحر، أن ينسى صورة ذلك الصبي الموهوب، الملهَم، ذي القدمين المجنَّحتين، يكاد أن يطير، محمولاً على طاقة هائلة تتدفق من داخله في يُسْر عجيب وتذلِّل على طريق تفتُّح موهبته، واحدًا بعد الآخر، كلَّ عراقيل وسطٍ اجتماعيٍّ متخلفٍ يعدُّ رقص الباليه “تخنثًا” والملاكمة “رجولة”!

Continue reading

اطلبوا الملكوت… – ديمتري أڤييرينوس

اطلبوا الملكوت…

ديمتري أڤييرينوس 

ديمتري أڤييرينوس

 

لا تكنزوا لأنفسكم كنوزًا في الأرض، حيث يُفسِد السوس
والعث وينقب السارقون فيسرقون، بل اكنزوا لأنفسكم
كنوزًا في السماء، حيث لا يُفسِد السوس والعث ولا
ينقب السارقون فيسرقوا. فحيث يكون كنزك يكون قلبك.
إنجيل متى 6: 19-21

ماذا ينفع الإنسان لو ربح العالم كلَّه وخسر نفسه؟
إنجيل متى 16: 26

 

نتذكر صديقًا علَّق ذات يوم على زيارته “جنة العريف”، أحد متنزَّهات قصر الحمراء بغرناطة، بقوله: “أحسست بأني في الجنة فعلاً!” بيد أن السماء والأرض كلتيهما فينا. حين يقول أحدهم مجازًا: “أنا في الجنة!” أو “صوت فلانة ملائكي!” إلخ، فهو يعني بذلك أن ما يختبره من الروعة بحيث يُشعِرُه بنشوة غير اعتيادية. هذه الخبرة، في الواقع، إنما هي حال وعي، لأن جميع المشاعر الذاتية، سواء كانت فرحًا أو سلامًا، خوفًا أو عذابًا، منطلقها الوعي ومستقرُّها الوعي. لماذا يوصف حقلٌ قانٍ من شقائق النعمان في الربيع بأنه “سماوي”، مع أنه مزهر على الأرض بكل تأكيد، إذا لم تكن الخاصية “السماوية” فيه هي حال الوعي لدى رؤيته؟ ومنه، فإن ما يُسمَّى “الجنة” إنما هو حال وجودٍ باطنية، وليس موقعًا على مرتبة وجودية أخرى أو مكانًا آخر بعينه.

Continue reading

المادية الروحية والروحانية – ديمتري أڤييرينوس

“الماديَّة الروحيَّة” والروحانيَّة

ديمتري أڤييرينوس

ديمتري أڤييرينوس

 

الأنا المادية والذات الروحية لا يمكن لهما أن تلتقيا أبدًا،
وعلى إحداهما أن تتوارى، لأنه لا مكان ثمة لاثنين.
هـ.پ. بلاڤاتسكيا، صوت الصمت

 

لا بدَّ أن بعضنا قد تناهى إلى سمعه التصريح المنسوب إلى الكاتب وذوَّاقة الفن أندريه مالرو في أواخر ستينيات القرن الفائت: “القرن الحادي والعشرون سوف يكون روحيًّا spirituel (وبعضهم ينقل عنه قوله: “صوفيًّا” mystique) أو لن يكون!” فما مقدار معقولية نبوءة المفكر الفرنسي، بقطع النظر عن صحة نسبتها إليه؟ وماذا ترانا نعاين في واقع عالم اليوم، نحن الذين حَبَتْهُم الأقدارُ أن يكونوا من أبناء هذا القرن الوليد؟

Continue reading

إكسير الحياة – ديمتري أڤييرينوس

إكسير الحياة

ديمتري أڤييرينوس 

ديمتري أڤييرينوس

 

كلُّ نفس ذائقة الموت.
القرآن الكريم، آل عمران 185

كلُّ شيء فهو خاضع للتغيير. ومنه، فإن التفكر يشي للقارئ قطعًا بما يلي من
الاستنتاجات المنطقية التي مفادها أن كونًا شروطه غير دائمة أساسًا لا يمكن لشيء
فيه أن يمنح الديمومة. وإذن، فما من جوهر ممكن، حتى إذا اتفق له أن يُستخلَص
من أعماق اللانهاية، ما من
تركيبة عقاقير قابلة للتخيل، سواء كان مصدرها أرضنا
أو أي أرض أخرى، حتى إذا قام بتدبيرها أرفع العقول، ما من طريقة حياة ولا
من نهج، حتى بإرشادٍ من العزيمة الأشد والبراعة الأعظم، يمكن له أن ينتج الثبات.

ومنه، نرى أن التصور المثالي الشائع عن “الخلود” ليس مغلوطًا من أساسه فحسب،
بل هو من قبيل المحال الفيزيقي والميتافيزيقي. فالفكرة، أكان يغازلها ثيوصوفيون أم غير
ثيوصوفيين، مسيحيون أم أرواحيون، ماديون أم مثاليون، إنما هي وهم من بنات الخيال.
ج م، إكسير الحياة

 

هي آية من كتاب للحكيم شنكراتشاريا، مؤسِّس مذهب اللاثنوية (أدڤيتا advaita = التوحيد المطلق) في الهندوسية، مافتئ عمقُها وبساطتُها يلهمان أجيالاً عديدة، في الهند وغيرها، تنصُّ على الآتي:

[ما أروعها] صورةً: تحت شجرة البَنْيان، [يجلس] معلم شاب وتلامذة شيوخ؛ المعلم يعلِّم صامتًا والمريدون تتلاشى شكوكهم. (شنكرا، ستوترا دكشنامورتي، 3)

Continue reading

الاتزان الداخلي – ديمتري أڤييرينوس

الاتِّــزان الداخـلي

ديمتري أڤييرينوس

ديمتري أڤييرينوس

 

اليوگي المنضبط الذهن والمتَّحد بـالذات، محافظًا على اتِّزانه
دومًا، يصل إلى السلام، النرڤانا الأقصى، مقيمًا فيَّ.

حقًّا إن هذا اليوگا ليس لِمَن يفرط في الأكل أو يفرط في الصوم،
ولا هو، يا أرجونا، لِمَن يفرط في النوم أو يفرط في السهر.

أما المعتدل في الأكل وفي الراحة، المعتدل في تأدية الأعمال، المعتدل
في النوم وفي اليقظة، فنصيبه اليوگا الذي يخلِّص من كل شقاء.

عندما يرسخ ذهنُه المنضبط في الذات وحدها، متحررًا
من أغراض الرغبة كافة، إذ ذاك يقال عنه إنه متَّزن.

كما المصباح الذي في منأى [من الريح] لا تتراقص شعلته،
كذلك ذهن اليوگي المنضبط لا يحيد عن يوگا الذات.

بهگڤدگيتا، 6: 15-19

 

ونحن نطأ درب الحياة الروحية، ترانا في أمس الحاجة إلى الاتِّزان. ولعل الأصح من هذا قولنا إننا في حاجة إلى الاتِّزان التام؛ إذ وحدها حال اتِّزان داخلي مستتب تفسح في المجال لرؤية كل ما نواجه في الحياة رؤية موضوعية وتتيح لنا إمكان العمل السليم. تصرِّح الـبهگڤدگيتا – كتاب الحكمة الهندي الذي كثيرًا ما نقتبس منه في مقالاتنا لأنه منجم نفيس من مناجم الحياة الروحية –، على لسان كرشنا، بأن “الاتِّزان هو اليوگا”. فمن دون اتِّزان، يغيم الإدراك ويفتقر إلى الوضوح، فنصير نهبًا للبلبلة والقلق والحيرة، وتسوء أمور حياتنا من جراء ذلك، ولا نفهم لماذا! أسفار الأوپنشاد تتكلم هي الأخرى على الدرب “الشبيه بحدِّ الموسى”، والإنجيل يذكر “الباب الضيق”، وفاتحة القرآن الكريم تطلب الهداية إلى “الصراط المستقيم” – وكلها عبارات تشير إلى المفهوم ذاته.

Continue reading

اعرف نفسك بنفسك – رونيه گينون

اعرف نفسك بنفسك
وهو بحث فلسفي صوفي*

رونيه گينون في القاهرة

رونيه گينون**

 

كثيرًا ما تقال هذه الجملة: “اعرف نفسك بنفسك”، وكثيرًا ما يخفى القصد منها؛ وبين هذا القول وذاك الغموض يعترضنا سؤالان: أولهما، ما هو المصدر الأصلي للجملة؟ وثانيهما، ما مدلولها الحقيقي وإلامَ ترمي من أغراض؟

قد يُخيَّل لبعض القراء، عند أول وهلة، أن السؤالين مفترقان، لا رابطة بينهما ولا صلة تجمعهما؛ لكنْ عند تدقيق النظر، والبحث والتمحيص، سيثبت لهؤلاء أن السؤالين مترابطان كل الترابط.

Continue reading