اعرف نفسك بنفسك – رونيه گينون

اعرف نفسك بنفسك
وهو بحث فلسفي صوفي*

رونيه گينون في القاهرة

رونيه گينون**

 

كثيرًا ما تقال هذه الجملة: “اعرف نفسك بنفسك”، وكثيرًا ما يخفى القصد منها؛ وبين هذا القول وذاك الغموض يعترضنا سؤالان: أولهما، ما هو المصدر الأصلي للجملة؟ وثانيهما، ما مدلولها الحقيقي وإلامَ ترمي من أغراض؟

قد يُخيَّل لبعض القراء، عند أول وهلة، أن السؤالين مفترقان، لا رابطة بينهما ولا صلة تجمعهما؛ لكنْ عند تدقيق النظر، والبحث والتمحيص، سيثبت لهؤلاء أن السؤالين مترابطان كل الترابط.

إذا سألنا أغلب دارسي الفلسفة اليونانية عن الإنسان الذي فاه بهذه الحكمة لَما تردَّد فريق منهم في الإجابة بأن قائلها سقراط، بينما يقول فريق ثان: أفلاطون، ويقرر فريق ثالث بأنه فيثاغورث. ومن هذا التضارب في الرأي وذلك التباين في القول نستطيع الحكم بأن الجملة لا تَرِدُ في كتاب لأحدهم بعينه باعتباره مصدرها. وقد يبدو حكمُنا هذا جائرًا، لكنه في الحق حُكم صحيح، تَثبُتُ للقارئ صحتُه عندما يعلم أن اثنين من أولئك الفلاسفة – هما فيثاغورث وسقراط – لم يخلِّفا شيئًا مسطورًا أو منقوشًا؛ أما ثالثهم، أفلاطون، فما من أحد – بالغًا ما بلغ من العلم بالفلسفة – يستطيع أن يميِّز على التحديد ما قاله هو نفسه أو ما قاله على لسان أستاذه سقراط الذي لم نعرف أكثر آرائه إلا بواسطة أفلاطون؛ وقد يكون أن أفلاطون استقى من مدرسة فيثاغورث بعض التعاليم التي بثَّها في محاوراته، كما استقى من سقراط نفسه. من هذا نرى أن من الصعب جدًّا تحديد نسبة بعض العبارات إلى أحد الثلاثة بالذات: فما يُنسَب إلى أفلاطون قد يُنسَب إلى سقراط، بينما قد يكون سابقًا لوقت كليهما جميعًا، فيكون صَدَرَ عن المدرسة الفيثاغورثية، إنْ لم يكن من فم فيثاغورث نفسه.

فيثاغورث

والحق هو أن المصدر الحقيقي لهذه الجملة لأقدم تاريخًا من أولئك الفلاسفة أنفسهم، بل لأقدم من تاريخ الفلسفة نفسها؛ وأكثر من هذا وذاك إنها أسمى مجالاً من مجال الفلسفة ذاته. فهذه العبارة وُجِدَتْ منقوشةً على باب هيكل أپولون في دلفي، واتخذها سقراط، كما اتخذها غيره، قاعدةً لتعاليمهم، وإن اختلفت التعاليم وتباينت المقاصد؛ ومن المحتمل جدًّا أن فيثاغورث استعملها قبل سقراط نفسه.

سقراط 

والذي نفهمه من هذا هو أن أولئك الفلاسفة حاولوا أن يُظهِروا لنا – بل أظهروا لنا بالفعل – أن تعاليمهم لم تكن من تلقاء أنفسهم، بل كانت من مصدر أسمى ومنزلة أرفع يتناسبان مع مصدر الوحي ومنزلة الإلهام. لهذا نراهم مختلفين جدَّ الاختلاف عن الفلاسفة المُحدَثين الذين يحاولون جهد طاقتهم أن يقولوا شيئًا “جديدًا” يدَّعون أنه من بنات أفكارهم الخاصة، وأن ما يبدونه من آراء وقفٌ عليهم – كأن الحقيقة ملك لشخص معيَّن! والحال، لماذا كان الفلاسفة القدماء يحرصون أن يربطوا تعاليمهم بهذه العبارة أو بعبارات تُماثِلها؟ ولماذا يجوز لنا أن نقول إن هذه العبارة أسمى منزلةً من الفلسفة نفسها؟

للجواب عن الفقرة الأخيرة من هذا السؤال نقول إنه منحصر في المعنى الأصلي المقصود من اشتقاق كلمة “فلسفة” نفسها التي قيل إن أول مَن استعملها فيثاغورث: فكلمة فيلوسوفيا philosophia تعني بالدقة “حب الحكمة” والميل إلى طلبها؛ وقد استُعمِلتْ لتدلَّ دائمًا على كل تأهيل لطالب الحكمة، وعلى الأخص لمُحبِّها، حيث تساعده على أن يصير سوفوس sophos، أي “حكيمًا”. وكما أن الوسيلة لا تؤخذ على محمل الغاية، كذلك “حب الحكمة” ليس هو الحكمة بذاتها. فبما أن “الحكمة” هي بذاتها المعرفة الحقيقية الباطنة فإنه يجوز القول بأن المعرفة الفلسفية إنْ هي إلا المعرفة السطحية الظاهرية؛ فليست لها قيمة في نفسها أو من نفسها، وما هي إلا درجة أولية على الطريق المؤدية إلى المعرفة السامية الحق التي هي الحكمة.

معلوم لِمَنْ درسوا الفلسفة أن معظم الفلاسفة القدماء كان لهم في مدارسهم نوعان من التعليم: ظاهر وباطن. أما الأول فهو ما كان مكتوبًا؛ وأما الثاني فتصعب علينا معرفة طبيعته على التحقيق، وذلك لقِصَره على القليلين، أولاً، ولطابعه السرِّي، ثانيًا؛ وهذا الطابع وتلك القلة دليلان على وجود مقصد أسمى من تعلُّم الفلسفة التي لا تستطيع الإحاطة به. على أنَّا نعتقد، في الآن نفسه، أن لهذا التعليم السرِّي صلةً مباشرةً قويةً بالحكمة ذاتها؛ إذ لم يكن عماده، على كل حال، العقل أو الاستدلال المنطقي، شأن الفلسفة التي تعتمد عليهما، وبهما سُمِّيت “النظر العقلي” theoria. ومسلَّم عند الفلاسفة القدماء بأن النظر العقلي (أي الفلسفة) ليس المعرفة العليا الحق، وبعبارة أخرى، ليس الحكمة ذاتها.

لكنْ هل يمكن للحكمة أن تعلَّم كما تعلَّم المعرفةُ الظاهريةُ بواسطة التلقين أو الكتب؟ هذا مستحيل كل الاستحالة – وسنرى سبب ذلك. والذي يمكن لنا أن نقرِّره هو أن التأهيل الفلسفي البحت ما كان ليكفي مطلقًا، لأنه لا يختص إلا بقوى محدودة هي قوى النفس العاقلة، بينما يُستمَد التأهيلُ للحكمة من الكون الكلِّي للإنسان نفسه. وإذن فهناك تأهيل آخر للحكمة أسمى منزلةً من التأهيل الفلسفي، لا يُلجأ فيه إلى القوة العاقلة، بل إلى النفس والروح. وهذا ما نستطيع تسميته بالتأهيل الباطني، الذي عُرِفَ أنه من الصفات التي امتاز بها تلامذة الفيثاغورثية الممتازون والذي استمرَّ حتى أكاديمية أفلاطون، بل وصل حتى إلى الأفلاطونية المُحدَثة بمدرسة الإسكندرية التي ظهر فيها ذلك التأهيل في وضوح تام، كما ظهر جليًّا، في الوقت نفسه، عند أتباع الفيثاغورثية المُحدَثة.

في مثل هذا التأهيل الباطني، تُستعمَل الكلماتُ على أنها صور رمزية لإحدى الوسائل التي تساعد على تركيز التأمل الباطني؛ وبهذا التأمل ينتقل الإنسان إلى بعض أحوال نفسية وروحية يمكن له فيها أن يسمو فوق درجة النظر العقلي التي سبق له أن وصل إليها. وبما أن هذه الحالات فوق مستوى العقل فإنها – منطقيًّا – فوق مستوى الفلسفة؛ إذ يستحيل علينا أن نعزو إلى الفلسفة معنى غير المعنى المعروف عنها: فالقصد منها دومًا تعيين ما يبحث فيه العقل فقط. ومن العجب أن “الفلاسفة” المُحدَثين لا يقيِّدون الفلسفة بهذا القيد، كأنها كاملة في حدِّ ذاتها – فلقد غاب عن أذهانهم أن فوق فلسفتهم ما هو أسمى بكثير!

وقد عُرف هذا النوع من التعليم الباطني في الأقطار الشرقية قبل أن يُعرَف عند اليونان، حيث كان معروفًا عندهم باسم mystêria أي “المساتير” [= الأسرار][1]. وقد أدخل أولئك الفلاسفة – وخاصة فيثاغورث – تلك المساتير في تعاليمهم لأنها كانت بنظرهم نوعًا جديدًا للمذاهب القديمة ومعنى حديثًا لها. فقد كانت توجد أنواع كثيرة من تلك المساتير ذات مصادر مختلفة، لكن المساتير التي استلهمها فيثاغورث وأفلاطون كانت على صلة بشعائر هيكل أپولون.

أطلال هيكل أپولون في دلفي

وقد احتفظت المساتير دومًا بطابع سرِّي، ولذلك صار اسمها مرادفًا للسَّتْر: فالمعنى الأصلي لتلك الكلمة هو الصمت التام؛ فكل الأمور التي تتصل بالغيبيات [= المساتير] غير قابل للتفسير بواسطة الكلمات، وبهذا لم يكن لها من طريقة لتعليمها غير الصمت. ثم جاء الفلاسفة المُحدَثون، فلم يعرف أكثرهم تلك الطريقة، فتهرَّبوا خلف استعمال الكلمات التي ابتدعوها من طريق التعليم الظاهري. ويمكن لنا أن نؤكد أن هذا التعليم الصامت كانت طريقته الصور والرموز ووسائل أخرى يُراد منها تهيئة الإنسان لأحوال باطنية يمكن له فيها – بعد خطرات متتابعة – أن يصل أخيرًا إلى المعرفة الحقيقية – وهذا هو المقصد الأساسي العام من المساتير وما يشابهها مقصدًا.

أما المساتير المتصلة بشعائر أپولون أو بأپولون نفسه فإنه ينبغي لنا أن نشرح للقراء بأنه كان معروفًا في عرف الإغريق بأنه ربُّ الشمس والنور، بالمعنى الروحي للنور: فهو المبدأ المشرق الذي منه تنبعث كل المعارف من علوم وفنون. وقد قيل إن الشعائر الروحية لهيكل أپولون جاءت من الأقطار الشمالية؛ وقد ثبت هذا في الكتب المقدسة، كالڤيدا Veda الهندي والأڤستا Avesta الفارسي. وكانت دلفي معروفة بأنها مركز العالم، وقد عُثِرَ في هيكلها على حجر يسمَّى أمفالوس Omphalos، يُرمَزُ إليه بأنه “مركز العالم”.

أمفالوس دلفي

ويظهر أن قصة فيثاغورث – بل واسم “فيثاغورث” نفسه – على صلة وثيقة بشعائر أپولون الروحية[2]: فقد كان يلقَّب بپيثيوس Pythios، أي “الپيثي”؛ وقد قيل إن پيثو Pythô هو الاسم الأقدم لدلفي[3] وإن الكاهنة التي كانت تتلقى وحي الآلهة oracle في الهيكل كانت تُلقَّب بپيثية Pythia؛ ومعنى پيثا-غوراي Pytha-gorai هو “دليل الپيثية”، ودليل الپيثية هو فيثاغورث نفسه[4]. وقيل أيضًا إن الپيثية هي التي أعلنت أن سقراط “أحكم الرجال”؛ ومنه نستطيع أن نفترض أن لسقراط اتصالاً خاصًّا بالمركز الروحي في دلفي، كفيثاغورث أيضًا.

أپولون يذبح الثعبان پيثون، متحف دلفي

أضف إلى ذلك أن العلوم كلها كانت تُنسَب إلى أپولون، وبخاصة الهندسة والطب؛ وقد كان أپولون نفسه يمثَّل كأنه يمارس هذه العلوم بعامة والهندسة منها بوجه خاص. وفي مدرسة فيثاغورث كانت الهندسة وسائر فروع الرياضة هي الجزء العام من التأهيل للمعرفة العليا. وعند بلوغ عتبة هذه المعرفة، ما كان لتلك العلوم أن تُنحَّى، بل كانت تُستعمَل رموزًا إلى الحقيقة الروحية. وقد كانت الهندسة عند أفلاطون تحضيرًا لا غنى عنه لكل فرع من فروع تعليمه، حتى صحَّ عنه قولُه الذي نقشَه على مدخل أكاديميته: “لا يدخلها إلا عالِم بالهندسة”. ويظهر معنى هذه الكلمات جليًّا إذا ما قورنت بقول آخر لأفلاطون نفسه: “الإله لا يني يُهندِس” – وهنا لا بدَّ من ذكر أن أپولون هو المقصود بـ”الإله المهندس”. وإذن فلا غرو أن نرى الفلاسفة القدماء يستعملون تلك الجملة المنقوشة على مدخل هيكل دلفي بعدما عرفنا صلة الوصل بينهم وبين شعائر مساتير أپولون.

أفلاطون

من كل ما تقدَّم، يمكن لنا أن ندرك في سهولة ما المقصود الحقيقي من هذه الجملة، كما يمكن لنا أن ندرك خطأ الفلاسفة المُحدَثين فيها. وأساس خطئهم هذا ناجم عن أنهم أخذوا الجملة على أنها صادرة عن أحد الفلاسفة الذي كثيرًا ما ينسبون إليه فكرةً كفكرتهم، مع أن الحقيقة هي أن الفكرة القديمة كثيرًا ما تختلف عن الفكرة الحديثة كل الاختلاف؛ لذا يعزو العديد منهم إلى هذه الجملة معنى اپسيخولوجيًّا [= نفسانيًّا]، مع أن علم النفس يقتصر على دراسة الظواهر الذهنية فحسب، أي دراسة الوصف الظاهري – لا الذاتي – للكائن العاقل. ويرى بعض المحدَثين – وخصوصًا الذين ينسبونها إلى سقراط – أنها وُضِعَتْ لغرض خُلقي هو البحث عن قانون داخلي لاستعماله في الحياة العملية.

إن أقل ما يقال في هذه التفسيرات الظاهرية (وإنْ لم تكن باطلة دومًا) هو أنها غير كافية تمامًا ولا تؤدى الحُرْمة التي كانت لهذه الجملة في أول الأمر، وهي التي لها معنى أعمق بكثير من هذه التفسيرات الظاهرية. إذ إنها، أولاً، تفيد أن التعليم الظاهري لا يمكن له أن يؤدي إلى معرفة حقيقية، وهي التي يجدها الإنسان في نفسه فقط. فلا يخفى أن المعرفة – أي معرفة – لا يمكن نوالها إلا بالإدراك الذاتي، ومن دونه لا تكون للتعليم نتيجة فعالة؛ والتعليم الذي لا يوقظ فيمَن يتلقَّاه ما يناسبه لا يمكن له أن يفضي إلى أي معرفة بتاتًا. لذلك قال أفلاطون بأن كل ما يتعلمه الإنسان هو في قرارة نفسه أصلاً، وبأن خبراته وما يحيط به من الخارج ما هي إلا أسباب تُعِينه على أن يصير عالِمًا بما في نفسه؛ وهذا التيقظ الهام يُسمَّى بـأنمنيسِس anamnêsis، أي “تذكُّر”. فلئن صح هذا على أي معرفة، الأحرى به أن يصح على المعرفة الأسمى والأعمق.

فإذا نذر المرء نفسه لنيل تلك المعرفة فإن كل الوسائل الخارجية الحسية تصير، شيئًا فشيئًا، غير كافية، حتى إنها تكون أخيرًا عديمة الفائدة؛ ومع أنها قد تُعِين على الاقتراب عدة درجات نحو الحكمة فإنه لا يمكن بواسطتها نيلُها تمامًا. ومن الشائع في الهند أن الـگورو guru الحقيقي، أي “الشيخ”، يقيم في نفس الإنسان ولا ينبغي البحث عنه في العالم الخارجي. أما العون الخارجي فربما كان ضروريًّا له في البداءة، وذلك لتحضيره ليصير قادرًا على أن يجد في نفسه بنفسه ما لا يمكن له أن يجده في العالم الخارجي، وخصوصًا ما كان منه فوق مستوى النظر العقلي: فإنه يحتاج إلى تحقيق أحوال تتعمق دومًا في باطن الكائن وتتجه نحو المركز المرموز إليه بأنه القلب. وعنده لا بدَّ من ارتقاء إدراك الإنسان حتى يصير قادرًا على نيل المعرفة الحقيقية. وهذه الأحوال التي كانت تتحقق في المساتير كانت درجات في الانتقال من العقل إلى القلب. وقد كان في هيكل دلفي حجر يُسمَّى بالأمفالوس يمثِّل لمركز الكائن الإنساني، وفي الوقت نفسه، لمركز العالم، وذلك نظرًا للصلة القائمة بين “العالم الأكبر” makrokosmos و”العالم الأصغر” mikrokosmos، أي الإنسان؛ لذا تجد أن كل ما في أحدهما يتصل اتصالاً تامًّا بما في الآخر. ولقد قال ابن سينا:

وتحسبُ أنك جرمٌ صغيرٌ * وفيك انطوى العالمُ الأكبرُ

ومن الطريف حقًّا هذا الاعتقاد الذي ساد قديمًا بأن الأمفالوس كان قد هوى من السماء. وإنك لتدرك قوة اعتقاد قدماء الإغريق بهذا الحجر إذا علمتَ أنه يقترب من اعتقادنا نحن بالحجر الأسود في الكعبة الشريفة. وهذه المقايسة بين العالم الأكبر والعالم الأصغر (الإنسان) هي التي تجعل من أحدهما صورة تامة للآخر؛ وهذا الاتصال بين العناصر التي يحويها كلاهما يبيِّن لنا أن على الإنسان أن يعرف نفسه أولاً لكي يتمكن من معرفة كل ما حوله، وذلك لأنه يستطيع أن يجد كل شيء في نفسه. ولهذا السبب تجد أن لبعض العلوم – وخاصة تلك التي كانت جزءًا من المعرفة القديمة والتي كادت أن تصير مجهولة عند المُحدَثين – معنَيَين: ففي الشهود العيني تشير هذه العلوم إلى العالم الأكبر، فتُعتبَر صحيحة من هذه الوجهة؛ كما يوجد لها في الوقت نفسه معنى أعمق، وهو يشير إلى الإنسان وإلى الطريق الباطني الذي يمكن له بواسطته إدراكُ المعرفة الحقيقية في نفسه، أي إدراك كونه الخالص. وقد قال أرسطو في ذلك: “الكائن هو كل مَن يعرف ماهيته”. ولذلك حيث توجد المعرفة الحقيقية – لا ظواهرها ولا شبحها – تندمج المعرفة والكون ويصيران شيئًا واحدًا.

أما “الشبح” فقد فسَّره أفلاطون بأنه كل معرفة بالحس، بما فيها معرفة النظر العقلي: فهذه، ولو أنها تتكون على درجة أعلى من مصدرها، فإن مصدرها الأول هو الحس. وأما المعرفة الحقيقية فهي فوق مستوى العقل؛ ولهذا نرى أن تحقيقها أو تحقيق ماهية الكائن نفسه يقايس تكوين العالم أو يطابقه، كما أسلفنا. لذا فإن بعض العلوم المعنيَّة بمعرفة ظواهر هذا التكوين قد استعملت المساتير القديمة على هذا المعنى المثنَّى الذي وُجِدَ أيضًا في سائر أنواع التعاليم التي كانت ترمي إلى المقصد نفسه بين الأمم الشرقية. وفي الغرب، يبدو أن مثل هذه التعاليم وُجِدَتْ في زمن القرون الوسطى، ولو أنها فُقِدَتْ تمامًا، حتى إن غالبية الغربيين ليس عندهم أقل فكرة عن طبيعتها أو وجودها أو مكانها.

مما سبق، ترى أن المعرفة الحقيقية ليس طريقها العقل، بل طريقها النفس والروح؛ ويمكن لنا أن نضيف إليهما الكون الكلِّي، لأنها ليست غير الإدراك الكلِّي لهذا الكون في حالاته كلِّها – وهذا هو غاية المعرفة وكمالها ونوال الحكمة السامية. وحقيقة كل ما يختص بالنفس، وما يختص بالروح أيضًا، تظهر فقط على درجات هذا الطريق إلى الجوهر الباطني، أي النفس الحقيقية. وهذا يمكن إدراكه فقط عندما يصل الكائن إلى مركزه الخاص، متحدةً أجزاء فؤاده كلها ومركزَه في نقطة واحدة. عندئذٍ تظهر له الأشياء كلها تحتويها جميعًا تلك النقطة كما كانت في مبدئها الأول. وهذا [الكائن] يمكن له أن يعرف الأشياء كلَّها كما هي في نفسه ومن نفسه، كما يظهر الوجود الكلِّي الأوحد في وحدة جوهر الفرد. ومن السهل أن نرى الفارق بين هذا وبين علم النفس بالمعنى الحديث: فإن الأول يسمو على الثاني بمعرفة للنفس أصح وأعمق، بينما الثاني ما هو إلا خطوة أولى على الطريق.

ولا بدَّ هنا من ملاحظة أن المعنى لا ينبغي أن يُقصَر على النفس، لأن كلمة “نفس”، المستعمَلة في اللسان العربي بما يطابقها في اليونانية: پسيخي psychê، لا يظهر معناها إلا في الجملة الأصلية التي تبحثها؛ ففي مثل هذه الحالة لا يجوز أن يسري لهذه الكلمة المعنى الدارج، بل لا بدَّ أن يكون لها معنى أسمى يجعلها مطابقة لكلمة “ذات” ويجعلها تُطابق النفس الحقيقية.

ولدينا ما يثبت هذا المعنى في الحديث الشريف الذي يُطابق الجملة اليونانية: “مَن عَرَفَ نفسَه فقد عَرَفَ ربَّه”. فعندما يعرف الإنسان نفسه – يعرفها حقًّا في جوهره الباطن، أي في مركز وجوده – عندئذٍ يعرف ربَّه. فإذا عرف ربَّه عرف الأشياء كلها التي منه تصدر وإليه تُرجَع، عرف الموجودات كلَّها في أحدية المبدأ الألوهي [= الحق] الذي لا يخرج عنه شيء على الإطلاق. وهذا معنى قول سيدي محيي الدين بن عربي في الفتوحات: “فخلو وجه الحق عن شيء من العالم محال”؛ وفي فصوص الحكم: “ولولا سريان الحق في الموجودات بالصورة ما كان للعالم وجود”.


* مقال مكتوب رأسًا بالعربية ومنشور في مجلة المعرفة القصيرة الأجل، عدد مايو 1931.

** فيلسوف فرنسي (1886-1951)، ولد في بلوا (فرنسا) وتوفي بالقاهرة. شُغِفَ بالروحانيات منذ حداثة سنِّه، فدفعه الفضول إلى اختبار معظم مدارسها الحديثة، حتى اهتدى أخيرًا إلى تصور متكامل عن وحدة المأثورات “الدينية” الأصيلة في العالم قاطبة، بوصفها تعبيرات متنوعة متفرعة عن “منقول قديم” Tradition Primordiale واحد، فاطمأن إليه وراح، بالتوازي مع حياة باطنية غنية، يكتب فيه المقالات والكتب والرسائل، مؤسِّسًا بذلك لمذهب “نقلي” traditionnaliste مازال أثرُه ساري المفعول حتى يومنا هذا. من مؤلفاته الهامة: الإنسان ومآله بحسب الڤيدنتا، أزمة العالم الحديث، رمزية الصليب، الثالوث الأكبر، لمحات عن المُسارَرة. (المحرِّر)

[1] لم نعثر على ترجمة دقيقة تؤدي المقصود من كلمة mystêria. وقد راجعنا في هذا الأستاذ فريد بك وجدي، فعبَّر عنها بكلمة “مساتير”، وكنا نرى أنها قد تكون “الغيبيات” أو “الرموز” أو “الخفائية”… فلعل أحد حضرات القراء يجد لها تعبيرًا أدق.

[2] يروي الفيلسوف يمليخا الأفامي في كتابه عن سيرة فيثاغورث أن الپيثية تنبأت لأمِّه الحامل به بأنها ستلد “رجلاً جميلاً وحكيمًا ونافعًا للبشر إلى أعلى حد”. (المحرِّر)

[3] من “پيثون” Pythôn، وهو اسم ثعبان خرافي أرداه أپولون بسهامه، لأنه حال بينه وبين دخول هيكل ربَّة الأرض جي Gê، ورمى بجثته في شق الأرض تحت موضع نزول الوحي، فلُقِّب منذئذٍ بأپولون الپيثي، “قاتل الپيثون”. (المحرِّر)

[4] فسَّر أرستيپُّس الفيثاغورثي اسم فيثاغورث بقوله: “كان يتكلم agor بالحق لا أقل من الپيثية Pyth.” (المحرِّر)