النظر إلى العالم – ديمتري أڤييرينوس

النظر إلى العالم

ديمتري أڤييرينوس

ديمتري أڤييرينوس

 

في عقيدة البوذيين، على اختلاف مذاهبهم، أن كلا التحقق بالـنيرڤانا nirvāna، مقام الحرية والغبطة، والدوران مع سمسارا samsāra، عجلة العبودية والشقاء، يتمَّان هنا، في اللحظة الراهنة، وأن المسألة برمَّتها يقرِّرها صوابُ النظر إلى العالم أو خطؤه. فحين ننظر إلى العالم نظرة صائبة – وهذا يعني أننا على علاقة راقية مع الموجودات قاطبة – يسود فرح لا يوصف وشعور حقيقي بالحرية؛ أما إذا لم نكن ننظر إليه نظرة صائبة، إذا لم نكن نرى فيه سوى الأوهام، فإن كل ما نحصد شقاء في شقاء. بعبارة أخرى، إذا نظرنا إلى العالم عبر شاشة الأنانية فإننا نختبر سمسارا؛ أما إذا تطهَّر الذهن من الأنانية وانجلى صافيًا فإننا نختبر النيرڤانا. العالم الخارجي يبقى في كلتا الحالين هو هو، لكن العالم الذي نختبره يكون في كلٍّ منهما على حدة مختلفًا.

تقودنا هذه الفكرة، إذا أعملنا نظرنا فيها بما يكفي من الجد، إلى إدراك أن “العالم” ليس شيئًا واحدًا؛ فالعالم هو ما يجعله الفكر: كما تفكر كذلك يكون عالمُك. ثمة “عوالم” مختلفة، إذا جاز لنا القول – عالم الطبيعة، عالم الإحساس، عالم المشاعر، إلى ما هنالك من عوالم –، وكلها يتصوَّره الفكرُ ويشكَّله كما يحلو له.

* * *

فلننظر الآن إلى عالم الطبيعة الذي يشتمل على كل ما لم يختلقه الإنسان. لقد درج ج. كريشنامورتي، في أحاديثه ومفكرته، على التمييز الدقيق بين “الواقع” reality وبين “الفعلية” actuality. فإذا أخذنا بهذا الاصطلاح الدقيق نجد أن عالم الطبيعة عالم “فعلي” actual لأنه موجود فعلاً. ليس بمستطاعنا أن نغيِّب الجبال أو السواقي، الأشجار أو الطيور، إلخ – فهذه ليست وهمًا (مايا māyā بتعبير الهنود) لأنها غير موجودة، لكنها “وهم” لأننا لا نرى ما هو موجود فعلاً، بل شيء آخر هو “واقع” خبرتنا المحدودة ليس إلا.

إن ما يبدو “واقعيًّا” بنظر أحدهم لا يمتُّ غالبًا إلى الوجود الفعلي بصلة. يرى بعضهم ظلاًّ يتحرك في الليل فيفزع من رؤيته “شبحًا”؛ بل إن بعض القوم يرون عند الخسوف “تنين السماء” يبتلع القمر فترتعد فرائصهم! “التنين” في نظر المتبصِّر ليس إلا ظل الأرض وقد حجب وجه القمر، لكنه بنظر هؤلاء تنين “واقعي”. فلا ظل الأرض يصير تنينًا ولا الظلال بعامة تصير أشباحًا وحسب، بل إن كل شيء – السماء والساقية وحتى الطبيعة إجمالاً – يتخذ مظاهر مختلفة في أذهاننا، فنشقى من جراء طريقتنا الخرقاء في النظر إلى العالم. لقد كتب أحد الحكماء، شري رام: “الحياة شيء خارق، لكننا نتجاهل ما هو خارق فيها، فننكره أو نكبته.”

دعونا الآن نمعن النظر أولاً في كلمة “نتجاهل” التي نعت بها ذلك الحكيمُ موقفَنا من الطبيعة. يعيش كثير من الناس وسط عجائب الطبيعة، لكننا إذا سألناهم: ماذا ترون منها؟ هل ترون تنوُّع النباتات والحيوانات، كيف تنمو، وفي أي شروط؟ هل تبصرون العنصر “الخارق” في الطبيعة؟ – إذا طرحنا عليهم أسئلة كهذه، أغلب الظن أننا لن نلقى منهم جوابًا شافيًا. أجل، ثمة دومًا عنصر خارق في الطبيعة. والصوفي من “أهل الباطن” ليس شخصًا يجترح الكرامات أو يخطُّ الطلاسم؛ الصوفي الحق امرؤ يرى ببصيرته ما يحتجب عن أبصار غيره من الناس. لقد كتبتْ هلينا پتروڤنا بلاڤاتسكيا في موسوعتها الباطنية العقيدة السرية (1888):

يعلِّمنا العلم بأن المتعضِّيات، الحي منها والميت على حدٍّ سواء، في كلا الإنسان والحيوان تعجُّ بالبكتيريا. […] لكن العلم لم يبلغ به الأمرُ حدَّ الذهاب مع مذهب الباطن إلى أن أجسامنا، كما أجسام الحيوان والنبات والحجر، مصنوعة برمَّتها من مثل هذه الكائنات؛ […] قد يصرُّ علم الكيمياء أنه لا فرق بين المادة التي يتكون منها الجاموس وبين نظيرتها التي يتكون منها الإنسان، غير أن مذهب الباطن أكثر صراحة بكثير، إذ يقول: ليست المكونات الكيميائية فقط هي نفسها، بل إن الحيوات الضئيلة عينها تكوِّن ذرات أجسام الجبل والزهرة، الإنسان والنملة، الفيل والشجرة التي تظلِّله من الشمس. كل قُسَيْم – سواء أسميتَه عضويًّا أو غير عضوي – هو حياة. (مج 1، ص 304-5)

الحياة، بعبارة أخرى، تنبض في كل قُسَيْم مادي. إنها تتحرك حركة ديناميَّة في كلِّ مكان، وهي أبعد ما تكون عن السكون – ولو كانت ساكنة لما كانت “حياة” أصلاً! لكن في الطبيعة من الأسرار أكثر من هذا بكثير. الحياة برمَّتها – كل وجود فردي فيها – ممتلئة بالمغزى. ثمة حوالينا سرٌّ لا ينفك يتفتح، وثمة قصد يعتمل في الأشياء مفصحًا عن ذاته على الدوام. الشجرة التي نمرُّ بها، الحجارة الجاثمة على جانب الطريق، المحيط الشاسع بحيتانه الضخمة – هذه الأشياء والكائنات من حولنا كلها ليست ما تراه أعيننا، بل أكثر من ذلك بكثير.

ماذا نعني بطالب الحكمة؟ طالب الحكمة امرؤ تجسِّد أفعالُه حكمةً بعينها – ما يعني أنه يجب أن يكون على علاقة صحيحة بالعالم، ومن باب أولى، على علاقة صحيحة بعالم الطبيعة. الإنسان “راعي الوجود”، كما يقول مارتن هيدگر؛ فإذا “تجاهَله” فهو ليس على علاقة به أصلاً، وإذا أنكر وجوده وقال بأنه برمَّته مايا أو مجرد وهم فقد يخرِّبه ولا “يرعاه”. إنَّ تجاهُله أو إنكاره إيَّاه يضيِّع عليه علاقةً من شأنها أن تثمر طيبة بغير حدٍّ. وإذن فحين ينظر طالب الحكمة إلى عالم الطبيعة عليه أن يراه رؤية تجعله على تواصل عميق، لا مع مظاهر هذا العالم الخارجية وحسب – روائع الطبيعة الخارقة –، بل ومع القدرة المبدعة التي وحدها تجترح العجائب في كلِّ مكان وكلِّ أوان. النظر إلى الطبيعة فنٌّ قائم بذاته، والعلاقة الصحيحة معها ضرب من التواصل الروحي. إن من شأن قراءة الشاعر الياباني باشو أو الشاعر الإنكليزي وُردزوُرث أو سواهما من المبدعين ممَّن كانوا على علاقة حميمة بالطبيعة أن تذيقنا شيئًا من المستويات الرفيعة التي يمكن للوعي الإنساني أن يرقى إليها ومن ماهية الخبرة التي يمكن له أن يختبرها إذا تَواصَل مع الطبيعة تواصلاً صحيحًا وعميقًا.

* * *

حين نتفوَّه بكلمة “عالَم” غالبًا ما تخطر ببالنا ما تقترفه الإدارات الأميركية أو الأنظمة الاستبدادية من جرائم، أو آخر الكوارث التي ضربتْ منطقة بعينها، أو الفساد الأخلاقي المتفاقم، إلخ. ذلكم هو “العالم”، ما في ذلك ريب، لكنه ليس العالم في كلِّيته؛ إذ إن هناك، فضلاً عن عالم الطبيعة، عالمًا بأسره من الأغراض التي يصنعها الإنسان أو يركِّبها. ولقد باتت أهمية هذا العالم تتعاظم في حياة الناس، حتى إن أذهان الكثيرين منهم تكاد أن تكون منشغلة طوال الوقت بالأغراض التي حلَّت محلَّ الفعلية التي تكلَّمنا عليها قبل قليل. قد تصير الزهرة الورقية، مثلاً، أكثر جاذبية من الزهرة الحقيقية على أمِّها، وقد تكون اللوحة التشكيلية بنظر متذوق الفن المزعوم – على أهميتها – أهم من المَشاهد المذهلة التي تبديها السماء الليلية المرصَّعة بالنجوم!

بذا فإن الأغراض التي يصنعها البشر باتت تملأ أذهانهم حتى لم يعد بمقدورهم مجرد التفكير في شيء غير كيفية تصنيعهم المزيد منها، من أين يشترونها، كيف يحصلون عليها ويحفظونها، كيف يَجْنون أعظم ربح ممكن منها، إلخ – ولا حدود لمثل هذه الانشغالات التافهة. لقد وقعنا مؤخرًا في بعض الصحف على أمثلة صارخة على أناس مهووسين بجمع مئات أزواج الأحذية والحقائب والقمصان وحتى علب التنك الفارغة إلخ، لا لشيء إلا لأن الذهن أدمن اقتناء الأغراض؛ وهناك الكثيرون ممَّن يصرفون حياتهم في “مهرجانات التسوق”! إن عالم هؤلاء الناس هو عالم الأغراض وحسب.

* * *

هناك أيضًا نوع آخر من العالم – عالم الأحداث – ينشغل به الذهن حتى الاستغراق. يقع حادث طفيف في بيت أحد الجيران، كأنْ يخرج أحدهم أو يدخل: فمع أن هذا الأمر لا يعنينا غالبًا في شيء، لا يرتاح لنا بال حتى نعرف ما جرى أو ما قيل عن قال. إن تكالُبنا على الصحف والمجلات (على حساب قراءتنا الكتب الجدية) لا يشي بكبير اهتمام بحال الإنسانية، بل بمجرد انشغال سطحي بما نسمِّيه بـ”الأنباء”، أي أخبار الاغتيالات والجرائم، الميتات والزيجات، إلخ – وكلها معلومات لا جدوى منها ولا نفع. فالذهن الثرثار لا يلذ له شيءٌ بقدر ما تلذ له “الحوادث”!

* * *

أما الناس من ذوي النشاط الذهني فهم يعيشون في عالم من المفاهيم؛ وهذه المفاهيم المجردة تصير عندهم من الأهمية بمكان، حتى تؤدي إلى اندلاع الحروب الإيديولوجية أو القومية “العادلة” (كذا!) التي تغذيها بالوقود سائر صنوف الكراهية والإقصاء. هذا النوع من العوالم لا يوجد إلا في “واقع” الذهن؛ أما الفعلية فشيء مختلف كل الاختلاف. بذا ينهمك المخ طوال الوقت انهماكًا محمومًا بالتحليلات والتفسيرات، خالقًا من لاشيء صورًا ومفاهيم ذهنية معقدة.

* * *

بالإضافة إلى عالم الطبيعة وعالم الأغراض وعالم الأحداث وعالم المفاهيم هناك أيضًا عالم الناس. والناس عادةً ما يكونون “قومي” أو “ملَّتي” أو “طائفتي”، في مقابل الأقوام والملل والطوائف الأخرى. و”قومي” أو “ملَّتي” أو “طائفتي” قد يكونون مجرد جماعة صغيرة متغيرة تبعًا لما ترتئيه مصلحتي الشخصية الراهنة. فالمسلم قد يعتبر جميع المسلمين الآخرين “ملَّتي” بوصفهم معادين لملَّة اليهود أو النصارى؛ لكنه إذا اختلف على قضية ما مع مسلم من طائفة غير طائفته، ترى “ملَّتي” تضيق لتصير “طائفتي”، فيما يشمل “الآخرون” المسلمَ الذي يتفق له أن ينتمي إلى طائفة أخرى، وإذا اختلف مع مسلم من طائفته ترى “طائفتي” تتقلص لتصير “أنا وعائلتي”، فيما ينسحب “الآخرون” على ذاك المسلم الذي يتفق له أن ينتمي إلى المعسكر المعادي – وقل الشيء نفسه في ملَّة اليهود أو النصارى، أمَّة العرب أو الفرس، “معسكر الخير” أو “معسكر الشر”، إلخ. ألا يقال: “أنا وأخي على ابن عمي، وأنا وأخي وابن عمي على الغريب”؟!

لقد أشارت السيدة بلاڤاتسكيا إلى أن واحدة من ثمار التأمل meditation لا محالة هو أن العالم لا يعود مجزأ إلى “أصدقاء” و”أعداء”. فحين يكون العالم مجزأ على هذا النحو التعسفي يزول التبصر بفعلية الأشياء، لأن إقرار مثل هذه الأحكام الجائرة لا يجري إلا عبر مفاهيم الذهن وأحكامه الاعتباطية. وهذه المفاهيم والأحكام مشروطة بالدين والمذهب، بالانتماء الإيديولوجي أو السياسي، بالثروة والمكانة الاجتماعية، إلى آخر ما هنالك من تصنيفات تافهة. والعالم، منقسمًا على هذا المنوال، يبدو واقعًا هو من الهول بحيث يختلق الذهنُ سائر أصناف الأحكام المسبقة والخصومات والنزاعات والحروب طوال الوقت. لكن أحكام الذهن محرَّفة ومحرِّفة تمامًا، مشوَّهة ومشوِّهة. فإذا اتفق لابني أن يرتكب حماقة أو أذى فهو “طفل بريء” ليس إلا؛ أما إذا اتفق لابن غيري أن يتحامق أو يسلك سلوكًا مؤذيًا فهو “ولد شرير” لم يُحسن والداه تربيته! ردَّات الفعل تتغير بحسب إشراطات أذهاننا لأن الذهن، كما قلنا، هو المجزِّئ الأكبر. وبذا نتوصل إلى أحكامنا الجائرة على أساسٍ من مصالح أو ردَّات فعل بعينها تعيث فسادًا في نفوسنا. فكيف نختلق مفاهيمنا هذه عن “العالم”؟

* * *

تتوالد المفاهيم وردَّات الفعل من عوامل متعددة، أحدها القبول الأعمى لأيِّ نموذج سائد حولنا وامتصاصه كالإسفنج من غير تروٍّ. تلكم، في بساطة، هي طبيعة “الإشراط” conditioning. إن شخصًا يعيش في وسط ينهمك فيه الجميع انهماكًا محمومًا باقتناء الأغراض لا بدَّ أن ينقاد إلى إدمان العادة نفسها؛ وإذا كان يعيش في وسط لا يبالي بالطبيعة فأغلب الظن أنه سيشاركه لامبالاته هذا.

في أوقات الجفاف التي يعزُّ فيها القوت كثيرًا ما بدرت من المزارعين الأمريكيين تصرفات غير معقولة، كأنْ يحاولوا جني أقصى ربح ممكن من لحوم المواشي المذبوحة؛ وفي شهر رمضان “الفضيل” في بلادنا ترتفع أسعار السلع والخضار والفاكهة ارتفاعًا لا يصدق! هذان مثالان على إشراط مُفاده انتهاز كلِّ فرصة متاحة لجني المزيد من المكاسب. ومن السهل جدًّا امتصاص ذلك الموقف الانتهازي واتخاذه بالفعل أساسًا للسلوك لأن الناس قد يظنونك مغفَّلاً إذا لم تحرص على مصلحتك وتجني المكسب المتاح!

بذا فإن الإشراط يحدث طوال الوقت، وهو جزء لا يتجزأ من حجاب الأنانية؛ ومن شأنه أن يتلاعب بالمفاهيم بحسب ملاءمتها للمصلحة المواتية. هناك ظروف عديدة يحاجج فيها الناس تبعًا لما يواتي مصلحتهم في لحظة بعينها؛ وقد تكون حجتهم غير معقولة على الإطلاق، لكنهم لا يدركون لامعقوليَّتها مهما اجتهدتَ في إقناعهم بذلك. كأنْ يتذرع بعضهم، على سبيل المثال، بأن العاطلين عن العمل ليسوا فقراء إلا لأنهم كسالى لا يريدون العمل، مفضلين البقاء عالة على المجتمع. لكن واقع الأمر هو أن العديد من البلاد يفحش فيها الثراء بينما يتكاثر عدد المشرَّدين على قارعة شوارع مدنها الكبرى. غير أن الناس يتمسكون بالذرائع والنظريات التي تواتي مصلحتهم. فقد يحسب أحدهم بأن عليه أن يكدس الملايين في البنوك حتى إذا لم يكن بمستطاعه أن يفعل بها شيئًا: هو مجرد دافع مَرَضي يوفر له إحساسًا وهميًّا بالأمان. والفقير، كذلك، يتمسك بالذرائع التي تناسبه.

* * *

وفي التحليل النهائي، فإن الطريقة التي ينظر بها المرء إلى العالم انعكاس لما يصطلح الهنود على تسميته بـأڤديا avidyā أو أسميتا asmitā، أي الجهل بطبيعة الحياة الحق من جراء التمركز على الأنيَّة self-centeredness ومركزية الاهتمام self-interest التي تنبثق منه. بذا فإن الجشع يتبدى في العلاقة مع الطبيعة، وكذلك في العلاقة مع الأغراض. إن الولع بالاكتساب طريقة من طُرق النظر إلى العالم، بينما اللامبالاة أو عدم الاكتراث طريقة ثانية؛ وهناك، ثالثًا، ما يسمِّيه إريش فروم بـ”الاستلاب” alienation – إحساس المرء بالاغتراب عن كلِّ ما يحيط به وبانعدام الصلة معه؛ وهناك، رابعًا، الموقف النفعي الذي يحرص على انتزاع أقصى ما يمكن من ربح من كل شيء، بما يدفع المرء إلى مصادقة الناس لمجرد استخدامهم بطريقة أو بأخرى. في هذا الجهل avidyā كلِّه لا نقع في المحصلة إلا على مركزية الاهتمام والتمركز على الأنيَّة.

على طالب الحكمة أن ينظر إلى العالم نظرة مختلفة تمامًا: لا بعين أڤديا أو أسميتا، لا عبر حجاب الجهل أو الأنانية، بل بعين التبصر والحكمة. في كتاب ميخائيل نعيمه القيِّم مرداد: منارة وميناء، يقول الأديب الحكيم إن “الإنسان إله في القمط”، ويعني بذلك أن في كلِّ إنسان كمونًا إلهيًّا. ثمة بالفعل عنصر “خارق” في كلِّ مكان من الطبيعة؛ والبشرية كذلك جزء من الطبيعة، لكن لهذا الكمون في الكائن الإنساني مدى أوسع بما لا يقاس، إذ يمكن له أن يتفتح فيه ويتسع إلى حدٍّ أعظم منه في الكائنات الأخرى قاطبة. جاء في كتاب حكاية اللوتس البيضاء: “روح الإنسان خالدة ولا حدَّ لنموِّها وبهائها”. ففي الوعي الإنساني تكمن خواص الوعي الكلِّي العظيمة كافة.

* * *

لكلِّ ما سبق من أسباب، على طالب الحكمة أن يروِّض نفسه على النظر إلى العالم نظرة مختلفة. فحتى لا يكون كليل الحس لا بدَّ له من أن يشحذ حواسه بالانتباه الدائم. إن علَّة غفلة الناس وبلادتهم كامنة في انشغالهم المستمر بصورهم ومفاهيمهم الذهنية، وبالأخص تحت قهر ردَّات فعلهم الرعناء. أما إذا روَّض المرء نفسه على النظر في هدوء وروية فإن غيوم التبلُّد تتبدَّد إذ ذاك من تلقاء ذاتها. لذلك من المهم تحرير الذهن من البلادة، عاقبة الإشراط القتالة. إذا صادف امرؤ أحد الناس، وكانت عنده فكرة مسبقة مغلوطة عنه، قد لا يكون مستعدًّا للنظر إلى الواقع فيعامله انطلاقًا منها، حتى وإنْ كان سلوك الشخص المذكور ودودًا فعلاً. فالذهن عمومًا مثقل بالكثير من الأفكار عن الناس والأشياء، ولا بدَّ من تحريره أولاً قبل التمكن من النظر الصائب.

يمكن للإشراط أن يتلاشى بالرصد وبالفحص عن نضج التعقل أو ضموره. فحين يكون الذهن صافيًا من الداخل لا تعود هناك عوالم مختلفة من الكائنات والأغراض والأحداث والمفاهيم والأشخاص، بل عالم واحد. وحين ينجلي الذهن ويتحرر من جهله وأنانيته يسود النفسَ شعورٌ عميق بالوحدة مع الأشياء كلها في علاقة حقيقية.

حين ينظر طالب الحكمة إلى العالم يجب أن تكون علاقته به علاقة تجعل أفعاله مفيدة لنفسه ولكلِّ نفس أخرى. فمن لا يعمل على الوجه السديد لا ينظر نظرًا صائبًا: “من ثمارهم تعرفونهم” (المعلِّم الناصري). لذا من الأهمية بمكان لطالب الحكمة أن يتعلم صفاء النظر الصائب ويتواصل مع طبيعة الأشياء الحق – فبغير ذلك لا يجوز له أصلاً أن يطلب الحكمة أو يتطلع إلى تحقيقها في حياته.