مدخل إلى نظرية پروقلس في الخيال – فارس جلون

الدِّين والفلسفة في حياة پروقلس ومذهبه
مدخل إلى نظريَّته في الخيال*

فارس جلون 

فارس جلون**

 

تأثرت الفلسفة الأفلاطونية المُحدَثة بعد القرن الرابع بمذهب الفيلسوف يمبليخوس (يمليخا) الأفامي الذي أبدى من الاهتمام بالوثنية ما جعل الأفلاطونيين المُحدَثين بعده تُقاةً لا يتعبَّدون للآلهة فلسفيًّا وحسب، بل على غرار الديِّنين الروحانيين أيضًا، فاستعملوا الفلسفة لتأويل القَصص المأثور عن هوميروس والخبرات الروحية والرموز والشعائر السرَّانية لعلم الباطن. والغرض من هذا البحث هو تعليل انعطاف الأفلاطونية المُحدَثة المتأخرة نحو الدِّين بدوافع فلسفية.

قبل الدخول في صلب المواضيع العقلية، لا مناص لي من التذكير بضرورة التزام حياة الفيلسوف وأخلاقياته وبأهمية الدين “الوثني” في حياة پروقلس ومذهبه الفلسفي. فلقد بيَّن پيار هادو، في كتابه عن “الفلسفة القديمة”[1]، أن تلك الفلسفة لم تكتفِ بالخطاب الفلسفي المجرَّد، إنما أصرَّت كذلك على ضرورة انسجام سلوك الفيلسوف مع فكره، فوضع كلُّ مذهب فلسفي قواعد في المناقب والسلوك؛ إذ لم يفصل الفلاسفة آنذاك بين النظر theoria والعمل praxis. ومنه، كان پروقلس يؤالف في حياته بين النظر العقلي العميق وبين التعبد للآلهة.

ولد پروقلس سنة 411 م وتوفي سنة 487، وقد ترأس المدرسة الأفلاطونية في أثينا. وهو لم يكن فيلسوفًا وحسب، بل رجل دين أيضًا – وسأورد على الفور بعض المعلومات لتبيان ذلك: ففي حوزتنا تفاصيل كثيرة عن حياة پروقلس، إذ دوَّن مريدُه مارينوس[2] سيرته، وفيها نقرأ عن رجل يتوضأ ويداوم على الصلاة فجرًا وظهرًا ومساءً، يصوم صومًا منتظمًا ويحتفي لأعياد جميع الأديان الوثنية التي يعرفها. وقد كان من المتعبِّدين للإلهة أثينا، إلهة الحكمة عند الإغريق، وكان يُخلِص لها العبادة. ويروي مارينوس أن أستاذه رأى أثينا في المنام وأنها طلبت منه أن يؤويها في بيته بعد أن خلع المسيحيون صنمها من هيكل الپارثينون الشهير المكرس لعبادة أثينا “البتول”؛ ناهيكم أنه وضع عددًا من الصلوات والابتهالات المرفوعة للآلهة – وهذا شيء نادر. كان پروقلس يعتبر أن دور الفيلسوف لا يقتصر على الكهانة لدين بعينه، بل للأديان قاطبة؛ فعليه أن يكرِّم آلهة الأمم جميعًا، وبذلك يصير “كاهنًا للعالم كلِّه”. نستخلص من هذه المعلومات أن حياة پروقلس كانت مكرسة للآلهة[3].

 پروقلس (411-487 م)

لم يكن أفلوطين، مؤسِّس الأفلاطونية المُحدَثة، يولي تلك الأمور أهمية تُذكَر، غير أن الأفلاطونيين المتأخرين عادوا وأدرجوها في فلسفتهم. وقد تعجَّب المفسرون الحديثون من هذه الظاهرة عند الفلاسفة الأفلاطونيين، إذ لمسوا تناقضًا بين فكرهم العميق وبين تديُّنهم. لكن التعجب هو بداية الفلسفة وليس نهايتها! إذ إن التعجب بحدِّ ذاته ولد من مسلَّمة أخذ بها الغرب الحديث، تلتبس فيها العقلانيةُ بالمعقولية. على الفلسفة أن تتحلى بالمعقولية، في حين أن المذهب العقلاني صنف من الفلسفة ينفي وجود معرفة (روحانية) تفوق العقل. إن سبب تعجُّب المفسرين المذكورين هو إسقاطهم مفاهيم فلاسفة القرن السابع العشر الأوروبي (ديكارت ونظرائه) على الفكر الأفلاطوني المُحدَث. غير أن تعجبهم كان ليزول قليلاً لو أنهم قارنوا مذهب پروقلس بمذهب ابن عربي، مثلاً، بدلاً من مقارنته بمذهب اسپينوزا، كما فعل فستوجيار[4].

المذهب العقلاني غريب عن الأفلاطونية التي تميِّز بين noûs، وسيلة المعرفة الكشفية المباشرة، وبين dianoia، وسيلة المعرفة الاستدلالية المنطقية. والمشكلة في اللسان العربي أن كلتا هاتين الكلمتين تترجَم بـ”العقل”. لذا فإن التمييز بين العقلانية والمعقولية هو الخطوة الأولى في سبيل تعليل انعطاف الأفلاطونية باتجاه الدِّين.

في ثنايا هذا البحث، سأترجم مصطلح noûs بـ”الروح” [أو الذهن]، كما فعل جان ترويار، أحد مترجمي پروقلس إلى الفرنسية[5]، أو بـ”العقل”، كما فعل مترجمو تاسوعات أفلوطين إلى العربية بعنوان أثولوجيا أرسطاطاليس[6] في القرن التاسع، وهو نصٌّ كان له بالغ الأثر في الفلاسفة العرب. فالـnoûs ليس جزءًا من النفس الإنسانية ووسيلة للمعرفة وحسب، بل هو، أولاً، ماهية عالم الوجود. أما الـdianoia فلن أتكلم عليها في هذا المقام، لكني سأنتهز المناسبة وأقترح ترجمتها بمصطلح “المنطق” (أو “النفس الناطقة”) لكي نميِّزها من الـnoûs.

الخطوة الثانية في تعليل انعطاف الأفلاطونية باتجاه الدِّين هي تفحُّص مفهوم التوسط أو “الصلة” to meson الذي يبدو لي مركزيًّا. فكل فكر ديني يقتضي وجود “علاقة” بين الإله والإنسان: الإله يخلق الخلق عبر واسطة، وليس مباشرة، وإلا صار الاثنان شيئًا واحدًا. ومن هنا ضرورة وجود صلة بين الخالق والخلق، وكذلك صلة بين الخلق والخالق.

سأتطرق إلى هذا المفهوم بمعنييه في الأفلاطونية المُحدَثة. ويمكن لنا من هذا القبيل التمثيل لإيجاد الكون بالفيض proodos والتمثيل لإعدامه بالرجوع epistrophê. وسأحاول تتبُّع تلك الحركة الكونية المزدوجة على شوطين: في الشوط الأول، سأبيِّن ظهور مفهوم الصلة في نظرية الفيض عن الواحد، وفي الشوط الثاني، سأبيِّن ضرورة هذا المفهوم للرجوع إلى الواحد، وفيه سأشرح نظرية الخيال بوصفه وسيلة الارتقاء إلى عالم ما فوق الهيولى؛ إذ إن الخيال هو مرحلة تمهيدية للعروج إلى العالم الروحاني أو عالم الـnoûs. فالكون ينقسم إلى ثلاث مراتب: عالم الـnoûs، وهو عالم العقل الكلِّي أو الروح المحض، يليه العالم النفساني، فالعالم الحسِّي (الهيولي) أخيرًا.

1. الفيض والصلة

تتميز الأفلاطونية المُحدَثة بتأمل عبارة مأخوذة من جمهورية أفلاطون (509 ب) يصف بها الخير أو الواحد بأنه “فوق الوجود” epekeina tês ousias؛ كما تتميز بتأويل خاص للـپرمنيدس، إذ ترى أن هذه المحاورة تتضمن خلاصة الإلهيات الأفلاطونية. وأفلوطين هو أول من عرَّف بقضايا الـپرمنيدس والحقائق الكونية، غير أنه لم يشرح قضايا المحاورة كلَّها، بل الثلاث الأولى منها فقط، وقابل بينها وبين الواحد to hen والعقل الكلِّي noûs والنفس الكلِّية psuchê. أما الأفلاطونيون المُحدَثون اللاحقون فقد قاموا بتهذيب شرح الـپرمنيدس وأصروا على تأويل القضايا التالية، إذ تتضمن المحاورة ككل تسع قضايا.

سأتكلم الآن على مفهوم الرجوع الفلسفي إلى الواحد من خلال الإلهيات السالبة (النافية) théologie apophatique التي أسُّها قول ما ليس الواحد بدلاً من قول ما هو (الليس دون الأيس). فللكون علَّة ليست منه، فإنْ كانت كونيةً لَما كانت علَّةً الكون؛ إذ لا يجوز أن تكون علَّة الكون ضمن الكون بحدِّ ذاته. بذا يثبت الأفلاطونيون أنطولوجيَّتهم التي تنبسط عبر فيض متدرِّج عن مبدأ “فوق الوجود”. تقابل هذه الإلهيات السالبة القضية الأولى في الـپرمنيدس، حيث يُستنبَط من الإثبات “إنْ كان واحدًا” أنه ليس كلاً منقسمًا، ولا ذا بداية ووسط ونهاية إلخ. بذا يمكن لنا القول إن تعليل الكون يبدأ من جهلنا علَّته (أصله). فهل يلزم عن استحالة الكلام على أصل الوجود إثباتًا أن يلوذ الفيلسوف الأفلاطوني بالصمت لتعذُّر الكلام؟ لا، بل إن السكوت عن أصل الوجود هو بالعكس شرط الكلام على الوجود. فطريق التنزيه الذي يبدو للوهلة الأولى كالحًا في نفيه، إذ ينأى بنا عن الواحد، ينعكس في جزالة الكون، وما كنا ننزِّه عنه أصلَ الوجود بالنفي نثبتُه في الوجود. كذلك الأمر في الـپرمنيدس: كل ما يُنفى في القضية الأولى يُثبَت في القضية الثانية؛ والصمت الذي كنَّا نستبعد فيه الواحد يتحول إلى كلام على سائر الكائنات.

ننتقل الآن إلى الحديث عن نظرية الفيض. لحظ المفسرون أن الحقائق قد تكاثرت مع تنامي المذهب الأفلاطوني المُحدَث: فيمليخا، مثلاً، يقول بأن الواحد تتبعه الآلهة، ثم الملائكة، ثم الجان، فالأبطال، فالأنفُس. ونجد عند پروقلس المزيد من الحقائق الجديدة بالقياس إلى مراتب أفلوطين التي لا تضم غير ثلاث حقائق: الواحد والعقل والنفس.

يقيس أفلوطين إمكان خبرة الاتحاد على التشابه بين النفس ومبدئها: “ومادامت النفس كذلك شيئًا شريفًا وإلهيًّا فتوكَّلْ عليها […] في سيرك إلى الإله [الواحد]، وارتقِ إليه معتصمًا بحبلها. فإنك […] لن تبرح بعيدًا وليس بينك وبينه أوساط كثيرة” (مقتبس من التاسوع الخامس، التاسوعات 5: 1، 3، بترجمة فريد جبر). في كتابه مختارات من الإلهيات يردُّ پروقلس على أفلوطين قائلاً: “كل نفس فردية تهبط في الفساد تهبط كلها ولا يبقى منها شيء فوق عندما يقع شيء في الأسفل” (پروقلس 211). يعتبر پروقلس كل كائن في ذاته، لا باعتبار علَّته؛ فثمة بين كلِّ مرتبتين كونيتين، من الواحد إلى الهيولى، عبر العقل والنفس الكلِّيين، تفاوُت وانقطاع كوني: “في الكائنات التي تليه [الواحد] على المراتب كلِّها تختلف العلَّة عن معلولها تمامًا” (إلهيات أفلاطون 2: 62). يريد پروقلس بذلك تفادي الخلط بين مراتب الكون؛ غير أن ذلك يوقعه في مشكلة أخرى، ألا وهي عزل كلِّ كائن ونسيان وحدة الوجود ووضع سدٍّ أمام فيض الكون. لذا تعيَّن عليه أن يوفِّق بين لازمين: أولاً، التمييز بين الحقائق تمييزًا دقيقًا – وهذا التمييز هو الذي يجعل بين الكائنات علاقة تغايُر؛ وثانيًا، حرية فيض الكون معقولاً في وحدته – وهذه العلاقة تجعل الكائنات على علاقة تشابُه.

إن مفهوم البرزخ to meson هو الذي يؤدي هذا الدور، إذ يمكِّن من تمييز الكائنات ومن بقاء الفيض على اتصال بكلِّيته. وبهذا الاتصال بين مراتب الكون يمكن الرجوع إلى المبادئ. إن كتاب پروقلس مختارات من الإلهيات يعج بكائنات “برزخية” متوسطة دورها توحيد نظامها الكوني من أعلى إلى أسفل.

والنفس الكلِّية هي “البرزخ” بامتياز، إذ تؤدي هذا الدور بالذات، ليس في نظام كوني بعينه وحسب، بل في الكون كلِّه. ينقسم الكون، كما رأينا، إلى ثلاثة أنظمة: عقلي (أو روحاني) ثم نفساني ثم هيولاني، والنفس بهذه المثابة تكفل تماسُك الكل. يقول فيها پروقلس إن الأعلى يوجد فيها في مظهر سفلي والأسفل في مظهر علوي؛ أي أنها ترمز إلى المعقولات وهي معلولها، وهي النموذج المثالي للمحسوسات. النفس هي المحل حيث المعقولات المجردة من الصورة وغير المنقسمة تتصف بالصورة وتنقسم وتصير كذلك نماذج للكائنات المتجسِّمة.

هنا لا بدَّ من التذكير بمحاورة طيماوس لأفلاطون، حيث الإله الباري (المصوِّر) يصوِّر العالم الحسِّي وهو يتأمل المعقولات. وهذا يبيِّن أن الباري هو الذي يضفي الصورة التي نتجت عن تأمُّله. وفي هذه المحاورة يمثِّل للباري عالَمُ النفس.

في المختارات يقول پروقلس بأن النفس هي “حقيقة الحقائق”: المحسوسات من حيث النموذج والمعقولات من حيث التصور. فيها توجد وجودًا غير هيولي مبادئُ الكائنات الهيولية، وتوجد وجودًا غير متجسِّم مبادئُ الكائنات المتجسِّمة. ملفت للنظر أن هنري كوربان علَّق بالعربية على هامش النسخة التي كانت بحوزته بحذاء كلام پروقلس: “عالم المثال”؛ إذ يبدو أنه رأى عنده نظرية وقع عليها في الفكر العربي الإسلامي، هي نظرية الصور المجردة والمعقولة بالخيال.

2. نظرية پروقلس في الخيال

يتيح مفهوم الخيال استيعاب التجلِّيات وتأويل القَصص والرموز السرَّانية. فمنزلة المخيِّلة من النفس الفردية كمنزلة النفس الكلِّية من الكون. وقد سبق لنا القول إن النفس برزخ متوسط بين عالم العقل (أو الروح) وبين عالم المحسوسات؛ فكذلك المخيِّلة في النفس الفردية برزخ بين أعلاها، أي عقلها noûs، وبين أسفلها، أي قسمها المرتبط بالمحسوسات.

سنورد الآن نظرية أرسطو في الخيال؛ فهي تعاكس نظرية پروقلس معاكسةً تامة. ففي كتابه في النفس يعدِّد أرسطو ملكات النفس، بادئًا بالحس، صاعدًا إلى العقل عبر المخيِّلة. لكنه قبل أن يتكلم على المخيِّلة تراه يتطرق إلى مسألة الحس المشترك الذي يتيح وحدة الإحساس: فلو لم يكن هناك حسٌّ مشترك لتكاثر الإدراك بعدد الحواس. على سبيل المثال، إذا أبصرتُ وردة ولمستها وشممتها فإن الحس المشترك هو الذي يتيح لي نَسْبَ مدركات الحواس إلى غرض واحد بعينه (الوردة). الحس المشترك، إذن، هو الذي يوحِّد الأحاسيس الخارجية وينقل حصيلتها إلى ملكات النفس العليا، وهو يتعيَّن كلِّيةً بالأحاسيس الخارجية.

أما پروقلس فالحس المشترك عنده ليس استدلاليًّا، بل قبْلي، سابق للتجربة. فاشتراك الحواس بنظره أصل في الموضوع. يتفق أرسطو وپروقلس على وحدة الحس المشترك، غير أنه بنظر پروقلس ليس حاسة موحِّدة، بل مبدأ الحس وسابق للانفصال. وهذه النظرية تتيح شرح بعض التجلِّيات التي تستغني عن الحواس الظاهرة، كظاهرة صوت “جني” daimon سقراط الذي كان وحده يسمعه. ويفسر پروقلس ذلك في شرحه على محاورة ألقبيادس لأفلاطون.

ننتقل الآن إلى مذهب أرسطو في المخيِّلة، التي يعيِّنها بنقلة يولِّدها الحس، وبذلك يجعل المخيِّلة قابلة للخطأ؛ إذ لا يوجد علم فردي بينما الإحساس فردي. فالخيال عنده، إذن، تابع لعالم الحس. أما مذهب پروقلس في هذه المسألة فهو عينه مذهبه في الحس المشترك. ففي حين يقول أرسطو بأنه لا يوجد في العقل شيء لم يكن محسوسًا من قبلُ، يقول پروقلس بأنه لا يوجد في النفس شيء إلا وله أصل في عالم المُثُل.

نخلص من هاتين النظريتين إلى أن للتخيل منحيين: الأول مادي، والثاني تابع لنور العقل الذي يحوِّله إلى صور ورموز.

فلنحاول الآن تفحُّص نظرية پروقلس عبر مسألتين: كيف تعبِّر تلك النظرية عن التجلِّيات الإلهية؟ وكيف تُستعمَل لتأويل قَصص هوميروس؟

يقول پروقلس إن الآلهة تتجلَّى في السرَّانية وفي الأحلام وحتى في اليقظة أحيانًا؛ وهو يشرح إمكان ذلك بتأويله بيتًا لهوميروس يقول فيه: “الآلهة، كغرباء مقبلين من بعيد، يتخذون مظاهر مختلفة ويتنقَّلون من مدينة إلى أخرى”. لقد انتقد أفلاطون هذا البيت في الجمهورية ورفضه لأنه يشي بفكرة غير صحيحة عن الآلهة، إذ يُظهِرها وكأنها متعددة ومتغيرة. فالآلهة واحدة في ذاتها وليست قابلة للتغير، إذ لا يمكن لمبادئ الكون أن تكون غير ثابتة. يحاول پروقلس أن يوفِّق بين قيومية الآلهة وبين ما جاء في بيت هوميروس، إذ يعتبر أن كليهما – هوميروس وأفلاطون – موحى إليه. وإذن فإن الإله قيوم لا يتغير، لكن المُسارَر initié تتراءى له صورٌ متباينة؛ فإنْ لم تكن هذه الصور في المتجلِّي فهي لا محالة في المتجلَّى له، وكل تغيُّر نعزوه للآلهة نجده في الحقيقة في طبيعتنا نحن. فلصور التجلِّي أصلان: أولاً، الإله الذي يشعُّ بنوره من غير أن تتغير ذاته؛ وثانيًا، طبيعة الإنسان الذي تتراءى له تلك الصور. وقد كتب پروقلس أن طبيعتنا تعيِّن صفات الآلهة بحسب إمكاناتنا أو استعداداتنا؛ وهو لا يقصد بذلك أن الإنسان يخلق الإله، بل إنه يخلق الصورة التي يتجلَّى بها الإله. إن صورة التجلِّي متوسطة بين طبيعة الإله المنزَّهة عن الصور وبين طبيعتنا ذات الصورة والمرتبطة بالهيولى. فالصورة التي تتجلَّى منزَّهةٌ عن المادة، مثل الإله، غير أن لها صورة، مثل الإنسان. وإذن، يتجلَّى نور الإله من دون صورة، ثم نصوِّر ذلك النور بحسب استعداد طبيعتنا. يقول پروقلس: “لا يمكن لمُشاهد التجلِّي أن يرى الإله من دون صورة، ولذلك يراه بحسب طبيعته، أي ذا صورة”. إن تصوُّر الإله ضروري؛ فإذا لم نضفِ على نوره صورةً لن يقيَّض لنا أن نراه أبدًا. والصورة ليست حجابًا لذات الإله، بل هي الكشف عنه أيضًا؛ إذ إن الإله متعالٍ (تنزيه)، لكنه يظهر أيضًا بالتجلِّي (تشبيه).

هي ذي أهمية الخيال إذن: إنه يمكِّننا من رؤية الآلهة، ليس في ذاتها بالطبع، بل من خلال تصوُّرنا لنورها؛ فلا نرى ذلك النور إلا ونحجبه بمخيِّلتنا. أما إذا أردنا رؤية الإله بالذات فلن نرى شيئًا لأن نوره الباهر يعمينا. وتعميمًا، مُحالٌ علينا أن نستوعب شيئًا من الكون ما لم نعيِّن إطارًا لاستيعابنا. فكما الأمر في الموسيقى – من دون سلَّم الأنغام والمقامات والإيقاعات وقوانين الموسيقى لما كانت الموسيقى؛ لكن الموسيقى ليست هذه كلَّها وحسب، بل تتطلب عنصرًا روحانيًّا – كذلك الأمر فيما يخص صور التجلِّي: إنها ليست عين الإله، لكنها تتطلب نوره لتتحقق.

في نصٍّ آخر، يريد پروقلس أن يثبت فعالية القَصص الهوميري على النفس؛ إذ إنه يعتبر هوميروس نبيًّا ويعتبر كلامه موحى به. وهو لهذا القصد يضع مقايسة analogia بين النفس وبين القصَّة mythos، إذ إن لكلٍّ منهما قسمين.

للنفس كونان: كونها الأول هو ذروتها العقلية التي تشارك المعقولات في عالم الـnoûs، وهذا الكون أزلي؛ وكونها الثاني هو الجسم الأول الذي يجعله لها الكونُ الأولُ عندما تهبط النفس إلى عالم المحسوسات؛ كما يوجد جسمٌ ثانٍ، وهو هيولي بالكلِّية، بعكس الجسم الأول المجرَّد من الهيولية. النفس، إذن، مؤلَّفة من عقل، هو ذروتها، ومن جسمين: الأول غير هيولي، ويسمَّى باليونانية “مركبة” ochima، والثاني هيولي؛ والـochima هو الذي يمكِّن النفس من الحياة الدنيا، وهو متوسط بين عقل النفس وبين الجسم الهيولي، وهو ذو عقل أيضًا يسمِّيه پروقلس بالعقل المتخيِّل أو المخيِّلة noûs phantastikos، وهذا “العقل” لا يعقل المعقولات، بل يصوِّرها (يحوِّلها إلى صور).

هاهنا أيضًا نرى كم يفترق پروقلس عن نظرية أرسطو في الخيال، إذ يسمِّي المخيِّلة “عقلاً” ويعيِّنها بالمعقولات بدلاً من المحسوسات. لكنه ليس عقلاً فاعلاً محضًا مثل عقل النفس في ذروتها، بل هو عقل منفعل بعقل النفس المحض الذي يتكون من المبادئ المكتسَبة من اشتراك ذروة النفس في العالم الروحاني. يسمِّي پروقلس العقل المتخيِّل بالعقل المنفعل؛ إذ إن المخيِّلة، بسبب من موقعها البرزخي المتوسط، هي “عقل” لأنها تشترك في العقل المحض، غير أنه عقل منفعل كالأحاسيس.

أما القصَّة فلها كذلك وجهان: باطن وظاهر، يقابلان قسمَي النفس اللذين ذكرناهما، أي العقل والمخيِّلة. يقول پروقلس: “إن القَصص تحوي نور الحق العقلي في الباطن، لكنها تلقي إلى الخارج مظهرًا وهميًّا يحجب ذلك النور من جراء مشابهة، إذ إن مخيِّلتنا تُظلِم عقلنا”. القصَّة، إذن، ذات حقيقة عقلية، لكنها محجوبة بالوهم “من جراء مشابهة”. وعندما يقول پروقلس بأن المشابهة تحجب الحق نفهم من ذلك أن المغايرة هي التي تحجب الحق لأن مفهوم المشابهة ينطوي على مفهوم المغايرة، ولولا ذلك لما كانت المشابهة “مشابَهة” بل مماثَلة. و”الظلم” هو ظلم تلك المغايرة. تنطبق المخيِّلة على المغايرة في الأسطورة، فيما ينطبق العقل على حقيقتها العقلية.

توجد، إذن، مقايسة بين القصَّة والنفس: موقع المخيِّلة من النفس كموقع مظهر القصَّة الوهمي من حقيقتها العقلية. وتوجد إذن حركتان: أولاً، يطبع العقل الحقيقة العقلية في المخيِّلة التي تحوِّلها إلى صورة وهمية؛ ثانيًا، تُظلِم المخيِّلةُ العقلَ، إذ تغدو الحقيقة العقلية مزوَّرة حين تهبط إلى مرتبة الخيال. هاتان الحركتان هما حركتا الكشف والسَّتْر. وبوسعنا اعتبار أن القصَّة تحجب الحقيقة فيما هي تكشف عنها في الوقت نفسه. فالقصَّة كاشفة وساترة في آنٍ معًا؛ إذ إن الكشفَ سَتْرٌ والسَّتْرَ كشف. وبذلك تظل المخيِّلة ملتبسة بين المشابَهة والمغايَرة.

كذلك الكون نفسه: فهو، من ناحية، يحجب الله فلا نراه في العالم؛ ومن ناحية أخرى، هو خير الرموز إلى الله ويكشف عنه، إذ لا نرى من الله إلا خلقه. لقد لحظ پروقلس وبعض الأفلاطونيين وجود مقايسة بين القصَّة والكون: فأصل الكون، أي الواحد، فوق الوجود، وحجابه هو عين وجوده، تمامًا كما يحجب مظهرُ الأسطورة الوهميُّ حقيقتَها العقلية. وبذا ندنو من نظرية ابن عربي الذي كان يعتبر الخلق مفعول الخيال الإلهي في الكون.

خلاصة

نخلص مما سبق إلى ثلاث نقاط:

1. الفكر الأفلاطوني المُحدَث بعد يمليخا فكر ديني.

2. يؤلِّف هذا الفكر بين الدين والفلسفة عبر مفهوم الخيال الذي يتيح شرح الخبرات الدينية والعناصر الوثنية.

3. بحثي هذا يفتح الباب للمقارنة بين الأفلاطونية الوثنية والأفلاطونية الإسلامية. وقد بيَّن هنري كوربان في أبحاثه العديدة أهمية نظرية الخيال وعالم المثال (الملكوت) في الفكر الإسلامي.


* محاضرة ألقِيت ضمن أعمال الندوة الدولية حول “دمسكيوس والمسار السوري للأفلاطونية المُحدَثة” التي انعقدت في المعهد الفرنسي للشرق الأدنى بدمشق (27-28 تشرين الأول 2008).

** باحث سوري شاب في المدرسة التطبيقية للدراسات العليا، باريس.

[1] Cf. Pierre Hadot, Qu’est-ce que la philosophie antique ?, Coll. « Folio Essais », Gallimard, Paris, 2005.

[2] من المحتمل أن مارينوس النابلسي كان سامري الأصل، لكن هناك مَن يقول بيهوديته. وقد اعتنق أسلوب الحياة اليوناني وانتسب إلى “أكاديمية” أثينا، حيث تتلمذ على پروقلس الذي كان يرأسها آنذاك قبل تحريم الفلسفة بفرمان يوسطنياني سنة 529 م. وقد خلفه مارينوس على رأسها سنة 485؛ وفي الكتاب الذي وضعه عن سيرة أستاذه ذكر أن پروقلس كان ملهَمًا وأنه حين كان يتفلسف “كان محيَّاه يشعُّ بنور خارق للطبيعة”. (المحرِّر)

[3] Cf. Marinus, Proclus ou Sur le bonheur, édité et traduit par H.D. Saffrey et A.-Ph. Segonds avec la collaboration de C. Luna, les Belles Lettres, Paris, 2001.

[4] Cf. Proclus, Commentaire sur la République, 3 vols., trad. A.-J. Festugière, Paris, Vrin, 1970 ; Commentaire sur le Timée, 5 vols., trad. A.-J. Festugière, Paris, Vrin, 1968 ; Céline, Lacroix, « La notion de Providence chez Spinoza et Proclus », Studia Spinozana, vol. 12, Königshausen & Neumann, Würzburg, 1996.

[5] Cf. Proclos, Éléments de Théologie, trad. Jean Trouillard, Aubier, Paris, 1965.

[6] راجعه في: أفلوطين عند العرب، نصوص حققها وقدم لها عبد الرحمن بدوي، وكالة المطبوعات، الكويت، طب 3: 1977.