أرشيف التصنيف: حوارات

الآخر – ديمتري أڤييرينوس

الآخر؟ ولكن… هل هناك “آخر”؟!*

ديمتري أڤييرينوس

ديمتري أڤييرينوس

 

بدايةً، أشكر مجلة شباب لك على مبادرتها إلى طرح هذه المسألة الهامة: مسألة الآخر من منظار الذات.

منذ أن وعيت ذاتي وسط هذا العالم الغريب والرائع، وسؤالٌ ما انفك يطرق عقلي ووجداني طَرْقًا ملحًّا: “مَن أنا؟” ولا أبالغ إذا قلت إن قوام وعيي الشخصي لا يزال حتى اليوم مجبولاً بهذا السؤال!

لا ريب أن ثقافتي الأصلية المزدوجة (ولدت من أم سورية وأب يوناني) لعبت دورًا في تنبيهي إلى ضرورة تجنب الوقوع في فخ الإجابات الجاهزة عن مسألة الهوية والانتماء، فهيأتْني لحسمها سريعًا في نفسي. وقد قادتني تأملاتي، مدعمةً بمسح عام شامل للتراث الثقافي العالمي، الفلسفي والأدبي والفني والروحي، إلى إدراك وحدة جوهر الطبيعة الإنسانية فيما يتعدى تنوع مظاهرها اللانهائي.

Continue reading

صورة أخرى للسعادة – فابريس ميدال وعبد الوهاب المؤدب

صورة أخرى للسعادة*

على هامش مهرجان فيلوصوفيا، قام فابريس ميدال مع عبد الوهاب المؤدب بمناظرة بين وجهتَي نظر الإسلام والبوذية في السعادة. وقد بدا لهما أن الغبطة – وهي أبعد ما تكون عن حال التأمل المجرد – لا تنفصل عن البصيرة وعن الإقرار بالشقاء البشري. أهي مفارقة؟ ليس بالضرورة. فالرياضة الروحية، هنا، لا تقود إلى التبلد، بل إلى "حكمة مجنونة" تجمِّل الحياة!

بات طلب السعادة، على غرار فلاسفة الأنوار، هو شوق البشرية الألح والأثبت. فكأن البشر، وقد انعتقوا من وصاية الآلهة ومن انتظار الآخرة، باتوا منذورين لاستعادة السعادة الأرضية بوصفها غاية وجودهم القصوى. فهل لا يزال لعالمية السعادة هذه من معنى؟ ألا يوجد، وراء رغبة البشرية المشتركة هذه، العديد من تصورات الحياة السعيدة؟ من الفرد إلى الجماعة، من الجسد إلى النفس، من السعادة الواهية إلى الغبطة الروحية، أليس كلٌّ من مختلف طُرُق اختبار السعادة فريدًا بحدِّ ذاته؟ وباختصار، أليست الفكرة الغربية عن السعادة آخر الأوهام الفلسفية الكبرى؟ للإجابة عن هذه الأسئلة، لا شيء يعدل سفرًا خارج الغرب الحديث، إلى دارَين روحيتين – البوذية والفكر الإسلامي – عُبِّر فيهما عن فكرة السعادة بعبارات جذرية الاختلاف.

عبد الوهاب المؤدب – الفرنسي التونسي الأصل، الشاعر، المترجم والكاتب وأستاذ الأدب المقارن في جامعة باريس العاشرة – هو مؤلف كتب عديدة يشجب فيها الأصولية الإسلامية ويدعو إلى تجديد الحوار الفلسفي بين الإسلام والغرب (داء الإسلام، مواعظ مضادة، الخروج من اللعنة: الإسلام بين الحضارة والهمجية[1]). تراه، إذ يستمسك بروح العَلمانية وبفكرة أن الحداثة تُلزم كل امرئ إحداثَ قطيعة مع أصوله، يبشر في الوقت نفسه بـ"تعايش" جديد بين المنقولات الروحية الكبرى للإنسانية.

غلاف كتاب المؤدب "داء الإسلام".

غلاف كتاب المؤدب "الخروج من اللعنة: الإسلام بين الحضارة والهمجية".

أما فابريس ميدال – الدكتور في الفلسفة والمدرِّس في جامعة باريس الثامنة – فقد ولد في أسرة يهودية أشكنازية، لكنه تحول مبكرًا إلى البوذية، دارسًا على العديد من أساتذة المنقول التبتي، ولاسيما تشوگيَم ترونگپا[2]. إنه مؤلف كتب عديدة، منها: أي بوذية للغرب؟ والوجيز في الحداثة في الفن، ومؤخرًا، المجازفة في سبيل الحرية: الحياة في عالم بلا معالم[3]، وتراه يجد في الحوار بين البوذية والفلسفة فرصة قد تتيح تحرير الفلسفة من التجريد وتحرير البوذية من الوعظ.

غلاف كتاب ميدال "أي بوذية للغرب؟"

غلاف كتاب ميدال "المجازفة في سبيل الحرية: الحياة في عالم بلا معالم".

بمناسبة مهرجان الفلسفة في سانت-إميليون [2009][4]، حيث قدم كل منهما مداخلة، اقترحنا على هذين الاختصاصيين في الإسلام والبوذية النظرَ في نقاط الاختلاف والائتلاف بين منقولَيهما حول مسألة السعادة.

* * *

عبد الوهاب المؤدب: حتى نعرف إذا كان طلب السعادة عالميًّا، لا مناص لنا أولاً من التفاهم على تعريف مشترك. إذا اقتصرت السعادة على حال من الرضا المادي والوجودي للفرد، فمن المؤكد أن السعي في بلوغ هذه الحال ليس عالميًّا، بل مختص فقط بالغرب الحديث، حيث بات تحقيق الذات، الخاص والعَلماني، يتصدر سائر أشكال الهناء الأخرى. أما في الحضارة العربية-الإسلامية، فإن مفهوم السعادة أرحب: إنه، في آن معًا، اجتماعي وروحي وديني: اجتماعي، لأنه، بنظر غالبية المفكرين المسلمين، لا يفترق عن الصلة مع الآخر؛ ديني، لأنه مرتبط بالغبطة السماوية؛ روحي وفلسفي، لأنه، في الفكر الإسلامي، يقع في القلب من تعريفه بالحياة الطيبة في مدينة فاضلة.

فابريس ميدال: ليس للتصور الغربي للسعادة كذلك من مكافئ في البوذية، التي يساورها نوع من الريبة حيال طلب حال من الرضا ننعتق فيها من قلقنا الوجودي. فالإيعاز النفساني بالسعادة، في البوذية، إنما هو إلزام مضلِّل يجعل الفرد يتهرب من الواقع ويسجنه في قوقعة متمركزة على الأنية égocentrique. البوذية أكثر حساسية للفرح بوصفه لحظة تلوح بغتة؛ وواجب الفرد إذ ذاك عبارة عن ترك مثل هذه اللحظات المباغتة تنبسط في حياته.

ع.م.: كلمة سعادة، بالعربية، متصلة أيضًا بمعنى فعل ساعَد، أي "عاوَن". إذ إن السعادة ليست خبرة فردية؛ إنها بالحري خبرة خروج من الذات، يحملنا فيها شيء يتجاوزنا، يحركنا شيء يسمو بنا. وللمصطلح أيضًا بُعد وظيفي وتقني. فكلمة ساعِد، المشتقة هي الأخرى من الثلاثي سَعَدَ، تعني "الذراع": لنيل السعادة يُعتقَد أن من الضروري تحريك الجسم؛ فكما أن الطائر الذي ينطلق محلقًا في الأجواء يستعمل جناحيه للطيران ويفوز بهذه الحركة بشكل من السعادة، كذلك فإن جسم الإنسان هو الآلة "التقنية" للسعادة. ومنه فإن كلمة "سعادة"، التي تعني في الآن نفسه الهناءة والغبطة، تشترك في الجذر مع كلمة "ساعِد" التي تنطوي على معنى "التعاضد" والقدرة على التحرك، بفضل الجسم، نحو الآخر ونحو العالم. وهذا التجاور اللفظي يوجِد كثافة معنوية تستحق الاستفسار عنها. أخيرًا، فإن معنى كلمة "سعادة" وارد في القرآن: فحتى إذا كان المصطلح غير وارد فيه بحرفه، يتكرر فيه حديث "الذين سُعِدوا"، الأصفياء الخالدين في الجنة، في مقابل "الذين شَقوا"، الخالدين في النار (سورة هود 105-108). السعادة التامة مرتبطة هنا بفكرة الخلود، وليست متاحة إلا في الآخرة. بيد أن انتظار السعادة السماوية يقتضي سلوكًا معينًا على الأرض…

عبد الوهاب المؤدب

ف.م.: يمكن لمفاهيم مختلفة مرتبطة بالسعادة أن تساعد على فهم روح البوذية. الـنرڤانا nirvāna، أولاً – وهو مفهوم غالبًا ما يسيء أهل الغرب فهمه إساءة شديدة لأنه ليس معرفًا في الكتب إلا تعريفًا سلبيًّا. معنى هذا المصطلح ليس مكافئًا للفردوس الساذج الذي يشبَّه به عمومًا اليوم، بل يقتضي انفتاحًا غير مشروط على العالم. لعل مفهومَي دُكها dukkha وسُكها sukha أكثر تنويرًا بهذا الصدد: كلمة دُكها تعني "الشقاء" أو "الألم"، أو بتعبير أدق، "العجلة التي تَصُرُّ ولا تدور دورانًا سلسًا". وعلى الضد من دُكها، نجد مصطلح سُكها الذي يُترجَم بـ"السعادة"، أو بتعبير أدق، "الغبطة"، إنما الذي يدل على حركة العجلة حركة حرة وسلسة. الشقاء هو أول "الحقائق الشريفة الأربع" في مذهب البوذا، كما عرضه في الموعظة الأولى التي ألقاها في بنارس، وفيها يعاين البوذا أن كل شيء شقاء: الولادة، المرض، الشيخوخة، الموت، الاجتماع بما لا نحب، أو بالعكس، الافتراق عما نحب. وهذه المعاينة لا تقود إلى أي يأس، إلى أي تشاؤم بتاتًا، بل هي نقطة انطلاق لـ"تأليب الحياة" ameuter la vie، بحسب تعبير أنتونان أرتو[5] الجميل جدًّا. البوذية تبين أنه بالإقرار بواقعية الشقاء – لا بإنكاره البتة – يصير اكتشاف "الغبطة" ممكنًا. والالتزام الروحي وممارسة التأمل يرميان، في المقام الأول، إلى تعليمنا عقد صلة مع وجودنا أكثر انفتاحًا وحيوية، أكثر فضولاً وفطنة.

ع.م.: إن فكرة أن السعادة تقتضي نوعًا من الرياضة الروحية موجودة كذلك في القلب من الفكر الإسلامي. فالسعادة تُتصوَّر بوصفها مصاحِبة للحقيقة. وهذا الارتباط بين السعادة والحقيقة قد يبدو لنا اليوم باليًا بعض الشيء، لكنْ هذا لأننا نتصور الحقيقة تصورًا نظريًّا بحتًا، فنختزلها إلى علم، إلى جدل عقلاني صرف. غير أن البحث الفلسفي، كما بيَّن ذلك پيار هادو، كان يُتصوَّر أصلاً كأسلوب حياة يتضمن رياضات روحية لتنقية النفس وأخلاقًا[6]. كان هذا مدار الفلسفة عند الإغريق، لكنه كان كذلك عند الفلاسفة المسلمين في العصر الوسيط أيضًا.

ف.م.: مع مراعاة الفوارق، يصح قولنا إن التأمل البوذي هو كذلك أسلوب حياة فلسفي، رياضة تأملية. ويدهشني أن القوم لا يشددون على البوذية تشديدًا أكبر بوصفها مذهبًا بطوليًّا، إذ إن هذا هو اللب من تعليمها: إنها لا تستهدف إطلاقًا حمايتنا، بل انفتاحنا على الواقع، حتى إذا كان ذلك غير مريح أو مؤلمًا. العبارة الفصل فيها هي: "انظرْ إلى الأشياء كما هي". اعتناق البوذية هو أبعد ما يكون عن "الارتياح" être zen بالمعنى الدارج الذي يفهمه أهل الغرب! فالزنْ Zen من مذاهب البوذية واحد من أشدها زهدًا وتقشفًا، وليس بتاتًا طريقة يكون المرء فيها "مسترخيًا" être cool… لا مناص من القطع مع "البوذية المخففة"، وهي نسخة عنها مزيفة. فالبوذية لا ترمي إلى أي طمأنينة، بل إلى تنمية أكثر ما يمكن من الصفاء المتوقد – حتى إن البوذا عارض جميع معلِّمي الحكمة في زمانه حول هذه النقطة بالذات. فالحقيقة التي بشَّر بها هي مساعدة البشر على الفكاك من أسْر صلة هاربة وجزئية مع الواقع وعلى الاضطلاع بألم الوجود. ومنه، فإن التأمل ليس الاتصاف بصفات الضفدع، بل شحذ سيف التمييز الذي وحده يحرر من الجهل.

ع.م.: ألا يوجد فارق لا يلتئم بين المشاهدة الفلسفية للحقيقة التي وعد بها سقراط تلامذته وبين الطمأنينة التي يعد بها التأمل البوذي؟

ف.م.: البوذية لا تعد بأي طمأنينة، بل على العكس تمامًا: إنها طريقة صارمة، متشددة حتى. كان ترونْگپا يؤكد أن الكلمة الفصل في النهج البوذي هي "اللاأمل"، التي كان يميزها عن اليأس. فالتأمل البوذي، في الواقع، ليس عبارة عن تأمل في شيء بعينه، بل هو حال انتباه للهنا-الآن، حال حضور للذات، حال تيقُّظ. يجب عدم طلب أي شيء والتخلي عن كل وعود. فوحده هذا الصفاء المتوقد من شأنه أن يحررنا من انغلاق الجهل. الفارق بين البوذية وبين فكر سقراط متأتٍّ من أن البوذية تشدد على بُعد الحضور غير التصوري، على الفطنة الحدسية، لا على الديالكتيكا [الجدل].

المعلم التبتي تشوگيم ترونگپا رنپوتشه

ع.م.: لقد كتب ابن طفيل – أحد فلاسفة الأندلس المسلمين، حامي ابن رشد ومقدِّمه للأمير – رواية فلسفية، يصح أن نقارنها برواية روبنسون كروزو، هي بعنوان حي بن يقظان[7]. والعنوان ذو مغزى: إذ يبدو أن الـ"حي" مرتبط بنوع من الانتباه التأملي إلى العالم. إنها قصة الطفل حي، الذي تركته أمه بعد ولادته في جزيرة غير مأهولة من جزائر الهند، فربَّته ظبية. وهو، إذ انتزع نفسه من الشرط الحيواني بقواه العقلية الخاصة، وجد السعادة في تأمل الكوسموس بوصفه تناغمًا كونيًّا.

ف.م.: التأمل ينمِّي فطنة هي أقرب ما تكون إلى الحدس الخالص؛ والمقصود هو الذهول عن النفس لترك الـ"ما هو" يظهر. وبهذا المعنى، تكون البوذية أقرب إلى الفينومينولوجيا[8] منها إلى الفكر الميتافيزيقي المنهجي.

فابريس ميدال

ع.م.: لعل هاهنا نقطة الافتراق بين البوذية والفلسفة. فعند الفلاسفة أن طلب الحقيقة يأتي أولاً، فيسمو على الخُلُق أو الاعتقاد، اللذين يجب عليه في الوقت نفسه أن يأتلف معهما. بين القرنين السابع والثاني عشر، حين انصهرت، من بغداد إلى قرطبة، المنقولات اليونانية والفارسية والهندية في بوتقة اللسان العربي، ارتسمت ثلاثة تصورات للحياة السعيدة. وفق التصور الأول، تلعب شخصية سقراط دور الأسوة الحسنة، وتتماثل السعادة مع مشاهدة الحق والإله. أما التصور الثاني، الأكثر جماعية، فقد برز مع الفيلسوف العربي اللسان والتركي الأصل أبي نصر الفارابي، الذي كيَّف الفكرة اليوطوپية لـجمهورية أفلاطون مع السياق الإسلامي، مبتكرًا "مدينته الفاضلة"[9]. وعنده أن النبوة تصدر عن الحقيقة نفسها [العقل الفعال] التي تعبِّر عنها الفلسفة؛ ولكنْ في حين أن الفلسفة تستعمل خطابًا تقنيًّا وجدليًّا، تلتمس النبوة نصًّا أغنى بالصور، يُعتقَد أنه أقدر على نشر هذه الحقيقة بين عامة الناس. يتقاطع في مدينة الفارابي الفاضلة ملكوت الدنيا مع ملكوت الآخرة، المشروع السقراطي، حيث يبلغ كل فرد مشاهدة الحقيقة بفضل رياضة النفس، مع حُكم المدينة. فالرئاسة الفاضلة تقود الأمة إلى نيل السعادة والخلاص. وكردِّ فعل على هذه الرؤية الدينية والجماعية، برز من بعدُ تعريف ثالث بالسعادة، جذري الفردية والتوحد. لقد وصلتنا من أواخر القرن العاشر موسوعة بديعة الجمال، مؤلفة من اثنتين وخمسين رسالة كتبها إخوان الصفاء؛ وهؤلاء المؤلفون – فيثاغورثيو الإسلام – يُرسون أسس السعادة في سلوك محض فردي، نجد في اللب منه مفهوم التصفية catharsis المستلهَم من الفكر اليوناني، الفيثاغورثي، والهندي. وهذه عبارة عن رياضة معنوية للتطهر ترمي إلى تحرير النفس، حبيسة جسم يُنظَر إليه بوصفه سجنًا.

ف.م.: لا يتفق التأمل البوذي مع هذا التصور، المتفرع عن الأفلاطونية، عن جسم يعاش كسجن. بلوغ اليقظة لا يتم بالفكاك من أسْر الجسم، بل بالتكامل بين الروح والجسم، باستعادة وحدتهما الجوهرية. ففي المنظور البوذي أن العالم ليس مشطورًا، بل "واحد"، والروحانية لا تنفصل عن عمل يكاد أن يكون "نحتيًّا" على الهنا-الآن – كما يبيِّنه مبدأ الـمندل[10]. فالاعتقاد بأن التأمل يفصل عن العالم والجسم إنْ هو إلا حكم مسبق غربي نمطي!

مندل تبتي.

ع.م.: في الفلسفة الإسلامية، يمكن لطلب السعادة أن يفضي إلى قطيعة مع العالم. إنها الطريقة "المونادية" التي دشنها في القرن الثاني عشر الفيلسوف ابن باجة السرقسطي، الذي يعرفه الأوروبيون أكثر باسم Avempace المحرف إلى اللاتينية. ففي رسالته تدبير المتوحد[11]، تراه يماثل بين طلب السعادة وبين مشروع توحدي، يكاد أن يكون استباقًا لـ"مونادولوجيا" لايبنتس[12]: فقط في معزل عن المدينة برمتها، وفي سبيل الفرد، يمكن لطلب السعادة أن يكون ذا معنى.

ف.م.: يميل القوم إلى الظن بأن العمل على النفس هو انشغال بالنفس، لكنه في الحقيقة محاولة للتوافق مع الخارج توافقًا أفضل. ففي البوذية، شخصية الـبودهستڤا bodhisattva، "البطل في سبيل اليقظة"، إنما هي شخصية كائن تدفعه الرحمة إلى العمل في سبيل خلاص الإنسانية ككل[13]. ويمكن تقريب ذلك من طريقة الفروسية[14] كما بسطتْها، على سبيل المثال، سِيَرُ فرسان كريتيان دُه تروا[15] في القرن الثاني عشر: الفارس يشتغل في آن معًا على نفسه وفي سبيل خير الجميع؛ فالبطولة التي يحاول إظهارها في كلٍّ من المواقف التي يواجهها لا تنفصل عن إرادة مساعدة الأمة جمعاء[16].

غلاف كتاب ميدال "طريق الفارس: تجاوز النفس والروحانية والعمل".

ع.م.: برأيي أن التصوف هو، أغلب الظن، مكان التقارب الأشد بين الإسلام والبوذية. ففي تصوف كليهما، على كل حال، ترتسم فكرة واحدة عن السعادة. أود أن أقرأ لك قصيدة صوفية لأبي مدين الغوث، الصوفي الأندلسي من القرن الثاني عشر والمولود في نواحي إشبيلية، تشهد على هذا التقارب. فالشاعر الصوفي يتغنى فيها بحال السكر المرتبطة بنشوة التجلِّي – تجلِّي عالم الغيب في عالم الشهادة. قد يبدو هذا مفاجئًا إذا علمنا أن الإسلام يحرِّم شرب الخمر. فالواقع أن المحظورات تشجع على شهوة المعصية؛ والإسلام، بتحريمه للخمر، ولَّد شاعرية باخوسية[17] باذخة. إليك هذه القصيدة التي تجوز قراءتها بوصفها ترجمة صوفية لمفهوم النرڤانا البوذي:

طابت أوقـاتي بمحبـوب لنا * حـبُّــه ذخــــري
نرغب مَن لا لنا عنه الغنى * في صلاح أمري

أنا هو شيخ الشراب، ساقي الملاحْ * لُذَّ لي التمزيقْ
ابســطـوا ســجــادتــي راحًــا بـراحْ * قـرِّبـوا الإبـريـقْ
احـملـوا تـفـريـدي فـي الاصـطـلاحْ * يا ذوي التحقيقْ

يـا أنـا مَـنْـهُ أنــا حتى أنـا * هِمْتُ في سُكري
سمِّعوني طيـِّب ألحان الغنا * فـعسـى نـدري

كي نفيق، يـا فُقَـرا، من سـكرتي * نقِّـروا في العـودْ
واحـملــوني فـوق عرش كـرمتـي * عاشـق مفقـودْ
واجـعلـوا مـن مـائـها فـي قبـلتـي * واعصروا العنقودْ

واجعلـوا أوراقهـا لي كفنــا * ماؤهـا طهـري
فوق أو من تحت أو ميمَنـا * احفـروا قبــري

بعـتُ دنفـاسـي ودلفـي والإزارْ * وبقـيـت عريــانْ
ومـشــيتُ بين دوحـات الديـــارْ * وأنـــا نشــــوانْ
بــيــن خُــلان وأكـــواس تُـــدارْ * تسـحر الأذهـانْ

ليس لي عن الشرب غنى * والهوى سكري
وأنـتـمُ، يـا فُـقَـرا، يـا أمَنـــا * اكـتُـمُـوا ســرِّي

كــان ظـنِّـي أنَّنـي نعـشــقـه * وهـو لـي يعشـقْ
أنــا نـبـعـد، وهــو يـقــرب لــي * صــار بـي أرفــقْ
أنـا مُغـربٌ، وهو في مشـرقي * وهو ليس يشرقْ

تجلَّى الحب، تدلَّى، فدنى * سـاعة الذِّكـر
فمحتْ أحـداثُـنـا أزمـانَنــا * واختفى سـرِّي

فسهـام البيـن دَعْ ترشــقـنـي * سـلِّـمـوا ما لـي
أنــا نهــواه وهــو يعـشــقـنــي * سـلِّمـوا حـالـي
ســاقنـي لمَّـا بـدى أنشـقنـي * نَشْــدَه الغـالـي

وهو لي روحٌ أقـام البدنـا * هو في سـرِّي
لا تعُـمْ تغـرقْ في بحرنـا * ذاك هو بحـري

ف.م.: هذا بديع!

ع.م.: بذل النفس كليًّا للراح، للمحظور بوصفه سرًّا – أي جرأة خارقة! والاستفاقة بفضل السكر! فكأن المحرَّم هو فاتح الفضاء للسر، ينبوع السعادة واليقظة.

ف.م.: أنت على حق. التصوف حليف السر. ففي البوذية التنترية bouddhisme tantrique، المسماة أيضًا ڤجْرَيانا، مفهوم التصوف هذا مفهوم مركزي: إنه طريقة لاعتناق الكل. كأن ذلك أشبه بالكحول، الذي يمكن له أن يُغرقنا في أشد أنواع البلبلة، إنما يمكن له أيضًا أن يحررنا من الذهنية الخوافة المتمركزة على الأنية. ففي التنترا Tantra، لا مندوحة لنا من أن ننعتق من نقاط علامنا المثبتة مسبقًا للدخول في شساعة الحرية، للمجازفة بحياتنا من جديد. في الكثير من التمثيلات التنترية، نجد آلهة عجيبة تحمل بيدها، لهذا السبب بالذات، كأسًا من الخمر: إنها تريد للذهن الوضيع والضيق أن يثمل. هناك جانب مترع بالبهجة والحياة في هذا الفرع من البوذية: فهو يشدد في المقام الأول على الحب واتقاده؛ وتحرير هذا الحب يقتضي سيرورة دائبة، تصفها القصيدة التي قرأتَها أحسن الوصف. إنه التجرد من الخوف والخشية، القفز في الشساعة. وفي ذلك، لا غنى أيضًا عن شيء من المرونة حيال الشريعة؛ وفكرة "الحكمة المجنونة" تبيِّن ذلك. فالحكمة الاتفاقية غالبًا ما تكون مذهبًا أخلاقيًّا ضيقًا، غُلاً، سجنًا. لذا لا بدَّ للمرء من المجازفة في سبيل حريته، من أخذ الغلو فيها على عاتقه. و"الحكمة المجنونة"، على ما يبدو لي، واحدة من ذروات الفكر البوذي الشاهقة[18].

ع.م.: عند الغرب، هذه أقرب إلى الجمع بين نقيضين oxymore؛ أما في التصوف البوذي أو الإسلامي، فهو تعريف جيد بالسعادة…

سجَّل الحوار: مارتن لوگرو

المترجم عن الفرنسية: ديمتري أڤييرينوس


* « Une autre idée du bonheur », dialogue entre Abdelwahab Meddeb et Fabrice Midal, propos recueillis par Martin Legros, Philosophie Magazine, numéro 29, mai 2009, pp. 30-35.

[1] Cf. Abdelwahab Meddeb, La maladie de l’Islam (Seuil, 2002) ; Contre-Prêches (Seuil, 2006) ; Sortir de la malédiction : l’islam entre civilisation et barbarie (Seuil, 2008).

[2] هو تشوگِيَمْ ترونْگپا رنپوتْشِه (1939-1987): علامة وشاعر، أستاذ في التأمل بحسب أهم طُرُق البوذية التبتية الباطنية، ومؤسس طريقة شمبهلا؛ نقل تعاليم الـڤجْرَيانا Vajrayāna ("المركبة الماسية") إلى الغرب وجسَّد في حياته مثال "الحكمة المجنونة" (راجع آخر الحوار) في المنقول التبتي. (المحرِّر)

[3] Cf. Fabrice Midal, Quel Bouddhisme pour l’Occident ? (Seuil, 2006) ; Petit traité de la modernité dans l’art (Pocket, 2007) ; Risquer la liberté : vivre dans un monde sans repères (Seuil, 2009).

[4] ما بين معقوفتين […] من إضافة المترجم توضيحًا للمقصود. (المحرِّر)

[5] أنتونان أرتو (1896-1948): كاتب وشاعر فرنسي، أثر تأثيرًا عميقًا في الأدب المعاصر، سواء من خلال مغامرته الداخلية، التي انتهت به إلى الجنون، أو من خلال تصوره لـ"مسرح القسوة". (المحرِّر)

[6] Cf. Pierre Hadot, Qu’est-ce que la philosophie antique ?, Gallimard, Paris, 2005.

[7] راجع: ابن طفيل، حي بن يقظان، بتقديم وتحقيق فاروق سعد، دار الآفاق الجديدة، بيروت، طب 3: 1980. (المحرِّر)

[8] هي، بالعربية، "الظواهرية" phénoménologie: نهج فلسفي يستهدف، بالعودة إلى معطيات الوعي المباشرة، إدراك البُنى المتعالية لهذا الوعي وماهيات الموجودات. (المحرِّر)

[9] راجع: أبو نصر الفارابي، كتاب آراء أهل المدينة الفاضلة، بتقديم وتعليق ألبير نصري نادر، دار المشرق، بيروت، طب 5: 1985. (المحرِّر)

[10] الـمندل mandala: طارة أو دائرة سحرية؛ رسم تخطيطي يشتمل على دائرة تحيط بأشكال هندسية، كالمربعات والمثلثات، وفي مركزها يستوي الإله أو ما يرمز إليه. والمندل، الذي يرمز إلى المقايسة بين العالم الأكبر والعالم الأصغر، يعين المريد على تركيز خواطره وتثبيتها على موضوع تأمله. (المحرِّر)

[11] راجعها في: رسائل ابن باجة الإلهية، بتحقيق وتقديم ماجد فخري، دار النهار، بيروت، طب 2: 1991، ص 35-96. (المحرِّر)

[12] المونادولوجيا monadologie نظرية وضعها الفيلسوف الألماني ڤولفگنگ ڤلهلم لايبنِتْس (1646-1716)، مفادها أن الكون مكوَّن من مونادات monades؛ والمونادات (من اليونانية: مونوس monos، "متوحد") جواهر بسيطة، فعالة، غير منقسمة، لانهائية العدد، تتألف منها الموجودات كلها. (المحرِّر)

[13] See: Shāntideva, The Way of the Bodhisattva: a translation of the Bodhicharyāvatāra, Translated from the Tibetan by the Padmakara Translation Group, Forward by the Dalai Lama, Rev. ed., Shambhala, Boston & London, 2006.

[14] تقابلها الفتوة في التصوف الإسلامي. (المحرِّر)

[15] كريتيان دُه تروا (1135-1183): شاعر فرنسي يُعدُّ مؤسِّس "أدب الكياسة" littérature courtoise؛ كتب العديد من سير الفرسان، أشهرها: پرسڤال أو سيرة الگرآﻝ. (المحرِّر)

[16] Cf. Fabrice Midal, La voie du Chevalier : dépassement de soi, spiritualité et action, Petite Bibliothèque Payot, Paris, 2009.

[17] نسبة إلى باخوس (ذيونيسوس): إله النبات، ولاسيما الكرمة والخمر والنشوة، عند الإغريق والرومان. (المحرِّر)

[18] See: Geshe Chaphu, The Divine Madman: The Sublime Life and Songs of Drukpa Kunley, Translation and introduction by Keith Dowman, Preface by Dugu Choegyal Gyamtso, 2nd ed., Dawn Horse Press, Middletown, California, 1998.

في سفري الكوني – لورا بوسي وترين كسوان طوان

في سَفَري الكوني*

ماذا لو أن مخططًا كونيًّا هو الذي جعل ظهور الإنسان ضروريًّا؟ وماذا لو أن فكرة النفس هي التي تفسر تعضِّي الكائنات الحية؟ يرى كلٌّ من عالمة الأعصاب لاورا بوسِّي وعالم فيزياء النجوم ترينْ كسْوان طوان بأن هذا النوع من الأسئلة الميتافيزيقية بات اليوم يبرز في العلم.

هو ذا حوار أقل ما يقال فيه إنه غير متوقع، على أقل تقدير بين عالِمين محترمين[1]. ففي أجواء "لقاءات فاس" شبه السحرية، المخصص معظمها هذا العام [2009][2] للصلات بين العلوم والروحانيات، يوغل عالمُ فلك وعالمةُ أعصاب في تخوم اختصاص كلٍّ منهما. وهما، بعيدًا، بل بعيدًا جدًّا عن المذهبين الوضعي positivisme والعلموي scientisme، لا يترددان في الاستشهاد بالبوذية والمسيحية، بالقديس توما [الأكويني] وپسكال.

منذ سنين وترينْ كسْوان طوان يُنعم النظر في قبة النجوم. إنه يستكشف شَساعة الكون؛ يرصد ضوءًا ولد مع الانفجار الأعظم، لكنه لم يصل إلينا إلا اليوم؛ يحلل تحولات كيميائية مادية جرت منذ مليارات السنين وآلت إلى استيلاد الحياة والإنسان؛ تراه ذاهلاً عن نفسه أمام جمال الكوسموس. أما لاورا بوسِّي فتفضل، من ناحيتها، خفض بصرها إلى مستوى الأرض. فهي، وقد درست البيولوجيا، تنتشي أمام تنوع الكائنات الحية اللانهائي؛ وبوصفها عالمة أعصاب، تراها تعاين غنى الحياة البشرية الذي لا ينضب – حياة هي، في آن معًا، حيوانية ومخية.

تراهما معًا يتخذان موقف بليز پسكال وهو يتأمل خاشعًا، عند بدايات العلم الحديث، اللانهائي في الكِبَر واللانهائي في الصِّغَر؛ مثله، يحاولان الربط بين الأبحاث الأكثر مُعاصَرة وبين الاستفسارات الوجودية؛ ومثله أيضًا، يراهنان على المعنى. فحتى لا تكون عالمة الأعصاب مضطرة إلى تكبُّد دكتاتورية المخ، تراها تردُّ الاعتبار إلى مفهوم النفس القديم؛ أما فيزيائي النجوم، فلا يخشى تأويل التناغم الكوني بعبارات ميتافيزيقية.

dico_amoureux_ciel_etoiles

histoire_naturelle_ame

ترينْ كسْوان طوان، أستاذ علم الفلك في جامعة ڤرجينيا بالولايات المتحدة، هو مؤلف كتب عديدة في التبسيط العلمي وفي التأمل الكوسمولوجي، نذكر منها: اللحن السري (1988)، سُبُل النور: فيزياء المضيء-المظلم وميتافيزياؤه (2007)، معجم عشاق السماء والنجوم (2009)[3]. أما لاورا بوسِّي، الاختصاصية في الصرع وفي الأمراض العصبية التنكسية، منظِّمة المعارض، مؤرخة العلوم، فهي واضعة كتاب جريء في التاريخ الطبيعي للنفس (2003)[4]. وهما معًا، على الرغم من خلافاتهما، لا يترددان في تجديد التحالف القديم بين الإنسان والكون، بين العلوم والمعتقدات.

* * *

لاورا بوسِّي: مسعيانا العلميان متعاكسان ويدرسان موضوعين متعارضين. أتصور أنك في طفولتك كنت تعشق النظر إلى النجوم. أما أنا فكنت أيبِّس نباتات في كتب عن الأعشاب وأصرف الساعات الطوال في المروج راصدةً أشكال الحشرات المذهلة التنوع، عجيج الحياة ذاك. التساؤل الفلسفي عند البيولوجي مختلف عنه عند الفيزيائي: بينما تنطلقون أنتم من الوحدة، ننطلق نحن من التنوع؛ أنت تنظر إلى الكون ينحو نحو الواحد الفرد l’Un، أما أنا فأنكب على الفريد l’Unique بوصفه مختلفًا عن سائر الآخرين جميعًا.

ترينْ كسْوان طوان: أما أنا، فعلى العكس، بوصفي أستروفيزيائيًّا، حينما أحلل إلكترونًا أو پروتونًا، أكون قد فهمت جميع إلكترونات الكون وپروتوناته – إذ إنها تتصف بالخواص نفسها.

ل.ب.: إله الفيزيائيين، بالفعل، يركز على الواحد والسرمدي، بينما يرمي إله البيولوجيين الكريم إلى التنوع، الكثرة، المدة، التغير الدائم: إنه يخلق التفرُّد individuation، أي ما يجعل كل كائن حيٍّ مطلق الفرادة، وفي الوقت نفسه مشابهًا لغيره من أفراد نوعه؛ إنه يبتكر التمايز différenciation، أي ما يجعل البيضة الملقحة تتفتق عن متعضِّية organisme، مؤلفة من أعضاء مترابط بعضها مع بعضها الآخر و"عضوية" organisé في أدق أجزائها؛ إنه ينبسط في تراتبية من الأشكال الحية، من درجات التفرُّد، حيث الإنسان، واعيًا تاريخَه ومالكًا موهبةَ اللغة، هو أكثر الأفراد فردية.

ت.ك.ط.: لا أظن أن هناك تناقضًا. فاختصاصانا يلتقيان كلما اندهش فرد، في أعمق أعماق كيانه، وهو يعاين جمال الكون وتناغُمه. فالكون، من غير راصد يعاينه، لا معنى له. في الأستروفيزياء [فيزياء النجوم]، باتت مسألة موضع الإنسان في الكون تتلقى إضاءة جديدة منذ بعض الوقت. ولنذكِّر بأن الفلك والكوسمولوجيا كانا، على مرِّ القرون، قد اختزلا تدريجيًّا نصيب الإنسان من الكوسموس. فمع كوپرنيكوس وگاليليه، في القرنين السادس عشر والسابع عشر، كانت الأرض قد فقدت موقعها المركزي من الكون ونُحيت إلى رتبة مجرد كوكب يدور حول الشمس. وفي القرنين التاسع عشر والعشرين، فهم الأستروفيزيائيون أن شمسنا ليست إلا نجمًا واحدًا من بين مئات مليارات النجوم الأخرى التي تؤلف درب التبانة، مجرتنا، وأن هذه، بدورها، ليست إلا مجرة واحدة من بين مئات مليارات المجرات الأخرى التي يكتظ بها الكون القابل للرصد.

لكن المفارقة هي أن موضع الإنسان، منذ بضعة عقود، قد رُدَّ الاعتبارُ إليه، لا بفضل خطابات أخلاقية أو دينية، بل بفضل العلم نفسه. ففي الخمسينيات، اكتشف الأستروفيزيائيون أننا مجبولون من غبار النجوم، وأنه يوجد فعلاً تحالف عميق بين الإنسان والكون. فهم، إذ درسوا التحولات الكيميائية التي حصلت منذ الانفجار الأعظم Big Bang، منذ حوالى 14 مليار سنة، تبين لهم أن هذا الانفجار ما كان ليستطيع أن يصنِّع بالاندماج النووي غير الهدروجين والهليوم، وهما عنصران أبسط بكثير من أن تستطيع الحياة والوعي أن ينشآ منهما. فمن حسن الحظ أن الكون ابتكر النجوم؛ فقد استأنفت النجوم سيرورة الاندماج النووي، التي كانت قد انقطعت عند الانفجار الأعظم، وانتهت إلى توليد سائر عُدة العناصر التي تؤلف العالم، بما في ذلك الكائنات الحية. هناك استمرارية فعلاً بين الأشياء والكائنات: الكون مهدنا، وليس فضاء غريبًا ومعاديًا.

ترين كسوان طوان

وفي السبعينيات، ظهر واقع مبلبل جديد، حوَّل هو الآخر رؤيتنا لموضع الإنسان في الكون. فقد تبين أن الكون عُوير، منذ ولادته، معايرة دقيقة للغاية، مع ثوابت فيزيائية، مثل سرعة الضوء وكتلة الإلكترون وثابتة پلانك (التي تعيِّن مقاييس الذرة)، ومع شروط ابتدائية، مثل نسبة تمدُّد الكون ومحتواه من الكتلة والطاقة إلخ. والحال، لو كانت هذه الثوابت وهذه الشروط الابتدائية مختلفة، وإنْ بمقدار ضئيل جدًّا، لكانت ولادة النجوم وكيمياؤها النووية وظهور الحياة، وبالتالي الإنسان، ضربًا من المحال المحض، ولما كنا هنا أصلاً للكلام عليها!

ل.ب.: هذا ما يُسمى "المبدأ الأنثروپي" principe anthropique…

ت.ك.ط.: نعم، لكن بالإمكان فهم هذا المبدأ بطريقتين. فبحسب صيغة ضعيفة للمبدأ الأنثروپي[5]، تكتفي بمعاينة ائتلاف الكون والحياة، الكون مصنوع بحيث جُعِلَت الحياةُ ممكنةً فيه. أما أنا فأراهن على الصيغة القوية للمبدأ الأنثروپي: لقد عُوير الكون منذ البدء لكي يظهر الإنسان (أو أي شكل آخر من أشكال الوعي خارج الأرض)؛ لقد كان الكون "يعلم" على نحو ما بأن الإنسان قادم لا محالة.

فما قولنا في هذه المعايرة الدقيقة للغاية؟ قد نعزوها إلى المصادفة. وفي هذه الحالة، لا بدَّ من التسليم بوجود "أكوان متعددة" multivers: ماعدا كوننا، توجد لانهاية من الأكوان الموازية له، وكلها يتصف بتوليفة للثوابت الفيزيائية وللشروط الابتدائية خاسرة، بحيث تكون عديمة الراصدين، ماعدا كوننا نحن، الذي منه، بمحض المصادفة، خرجت التوليفة الرابحة، وكأننا نحن "جائزة اليانصيب الكبرى"، إذا جاز التعبير. أما إذا استبعدنا فكرة الأكوان المتعددة (وهي فكرة لا يمكن التحقق من صحتها لأننا لن نستطيع أبدًا رصد أكوان أخرى)، وافترضنا أنه لا يوجد إلا كون واحد، كوننا، لا مناص لنا من التذرع بمبدأ خالق عاير الثوابت الفيزيائية والشروط الابتدائية للكون منذ أصله. وأنا هنا لا أتكلم على الإله الملتحي لهذا الدين أو ذاك، بل على مبدأ حبا الكونَ راصدًا يعاين جماله وتناغُمه. إذ إن كونًا فارغًا وعقيمًا كون عديم المعنى. وعندي أن هذا المبدأ الخالق يتجلى في القوانين الفيزيائية التي أرصدها وأدرسها في الطبيعة. إنها رؤية حلولية panthéiste على طريقة اسپينوزا وأينشتاين. فأنا أراهن على الضرورة، وبالتالي على المعنى والرجاء، لا على المصادفة. وآخر المكتشفات العلمية، بدلاً من أن تحرِّم علي ذلك، تشجعني على المضي في هذا الاتجاه.

ل.ب.: مسعيانا، مرة أخرى، يفترقان. أنت تدرك في تناغم الكون مبدأ خالقًا، إلهًا غير شخصي، ليس غير واحد مع العالم. أما أنا فأتساءل عما هو أكثر ذاتية، شخصية، فرادة، مع أننا نشترك فيه جميعًا: الحياة، الموت، الوعي، هذه المظاهر المختلفة التي كانت في الماضي مجتمعة في فكرة "النفس"؛ وهذا التصور عن النفس هو بالضبط ما أردت أن أردَّ الاعتبار إليه. فهذا المفهوم بالفعل قد طواه النسيان: نسيه العلماء طبعًا – سواء كانوا بيولوجيين أو علماء أعصاب أو علماء نفس –، كما نسيه فقهاء الدين. بيد أن مفهوم النفس ظل تصورًا رائدًا للفكر والعلم الغربيين، منذ أفلاطون حتى القرن التاسع عشر. ولقد تساءلت مطولاً عن خسوف النفس هذا الذي يخفي شيئًا ما، وتبين لي أننا، إذ تخلينا عن هذا المفهوم، فقد أوصدنا بابنا دون فهم مفاهيم الجسم والحيوان والحياة والموت والشخص.

لاورا بوسي

لقد طرح كل من أفلاطون وأرسطو نموذج النفس المثلثة، وحذا حذوهما في ذلك جالينوس والمنقول الطبي برمته: نفس نباتية، يشترك فيها النبات والحيوان، متوضعة في الكبد ومسئولة عن التغذية، نفس حساسة أو شهوانية، موضعها القلب، نشترك فيها مع الحيوان، ونفس مفكرة وعاقلة، تقيم في المخ. وعلى أساس هذه النفوس (أو قوى النفس) الثلاث التي تتداخل تداخُل الدمى الروسية، تصور القوم تناغمًا للكون برمته، يختصره سلَّم الكائنات، من الحجر إلى الإنسان وفق تدرجات غير محسوسة.

نموذج النفوس الثلاث هذا – وهو أقل سذاجة مما يبدو عليه – لا يزال يتخلل إلى حدٍّ كبير طُرُقنا في التفكير. فنحن نتكلم فعلاً على أشخاص "في حالة نباتية"[6]، لا يُعترَف لديهم إلا بالنفس الدنيا؛ وحين دخلتْ على الطب أولى فنون الإنعاش réanimation – عملية "نفث النفْس من جديد"[7] –، بُدئ بالعمل على القلب. وأخيرًا، فإن نموذج النفوس الثلاث يؤكده علم الجنين المعاصر، الذي يميز ثلاث وريقات إنتاشية، يتشكل منها جهاز الهضم (الأدمة الباطنة endoderme)، الجهاز القلبي-الدوراني والجهاز الحركي [العضلات] (الأدمة المتوسطة mésoderme)، والجهاز العصبي والجلد (الأدمة الظاهرة ectoderme). وإني لأشعر بالضيق حيال إنكار "النفوس الدنيا" الذي يمارَس اليوم، كأنْ نعيِّن موضع النفس كلها، الحياة كلها، في المخ، كما نفعل، على سبيل المثال، حينما نستعمل معايير "الموت المخي". فهذا النموذج المخي المركزي encéphalocentrique للنفس، الذي مافتئ ينتشر منذ الخمسينيات في أعقاب ظهور زرع الأعضاء، شديد المثنوية ويعزو دور البطولة إلى إنسان-آلة يتوضع نَفَسُ الحياة الوحيد لديه في المخ. فما إن "ينطفئ" المخ حتى يسارع القوم إلى استعمال أعضاء الجسم الأخرى كقطع تبديل، فتُزرع في جسم مريض ذي مخٍّ لا يزال يعمل. أما مفهوم النفس المثلثة القديم فيتيح لنا، على العكس، ألا نتنكر لحيوانيتنا، كما يتيح توسيع مفهوم الشخص البشري ليشمل جسمه الحي برمته، بدلاً من أن نختزله إلى مخِّه، وحتى إلى قشر مخِّه cortex فحسب.

ت.ك.ط.: لا ريب بتاتًا أن أعقد أشياء الكون وأكثرها غموضًا هو هذه الكتلة الرمادية الواقعة بين أذنينا. فالمخ شيء أكثر تعقيدًا بما لا يقاس من نجم أو مجرة، يمكن لقوانين بسيطة نسبيًّا أن تصف عملهما. هذا المخ هو محل النفس – وأسميها الوعي – المسئولة عن خيارنا الحر، عن كوننا نفكر ونحب ونخلق بطريقة مختلفة دومًا.

ل.ب.: مع أني أوافقكَ بالطبع على دور المخ بوصفه العضو الرئيس للتفرد، أود أن أذكِّر بأن المخ جزء لا يتجزأ من متعضِّية حية وأن الذات الحية، الموهوبة الحريةَ والغائية، تقيم في المتعضِّية ككل، لا في مخ موضوع داخل مرطبان! فأنا مصرة على معارضة مثنوية "نفس-جسم" من النمط الديكارتي، وعلى التصدي للمقاربة الاختزالية réductionniste والآلوية mécaniste للحي. وحتى إذا لم يكن هناك ارتباط مباشر بين عمل العالِم وبين الخطاب الديني، ربما كان البيولوجي أقرب بكثير مما يظن عمومًا من المنقول المسيحي الذي يتأسس على مفهومَي التجسد والقيامة. كان القديس توما، اللاهوتي الكبير، يصف النفس بأنها "صورة غاطسة في المادة". من هذا المنظار، فإن الإنسان برمته، في وحدته النفسجسمية، هو الذي يجب أن يُحلَّل، وليس روحًا غير مادي أو برنامج كمپيوتر. فالبيولوجيا وعلم الوراثة الحديث يؤكدان أن كل إنسان كائن فرد، غير قابل للاستبدال، فريد حتى في بنية كل خلية من خلاياه، في جينومه[8]. الاتساق الحي للمتعضِّية ليس آليًّا، بل ينبسط في الزمن وفي تفاعل معقد مع العالم.

ت.ك.ط.: بصفتي بوذيًّا، أعتبر مثلكِ أن جوهر الإنسان ليس خلاياه العصبية وأن ثمة شيئًا غير المادة الصرف. إنه حدس، لكنْ لا شيء في العلم الحالي يمنعني من تصديقه. يصعب علي أن أتصور أن المحبة التي نكنُّها لأولادنا أو الانفعال الذي يعتمل فيَّ وأنا أمام تلسكوپي في مواجهة جمال الكون لا ينتجان إلا عن تيارات كهربائية وكيميائية. لكني أبقى علميًّا، وإذا برهن العلم ذات يوم أن الفكر والانفعالات والمحبة مشتقة من تيارات كهركيميائية فسوف أتقبل حُكمه.

ل.ب.: أعتقد أن العلم لن يتوصل أبدًا إلى تفسير المخ تفسيرًا تامًّا – ولا إلى تفسير الكون أيضًا. العلم سيرورة متواصلة: يقترب المرء ولا يبلغ أبدًا. كلما توصل إلى إجابات ترى أسئلة أخرى تنطرح. نفي تعقيد الأشياء التي لا نعرفها، كما يفعل العديد من العلماء الاختزاليين، يبدو لي من قبيل الضلال. يدهشني فقرُ النظريات في علوم الحياة في القرنين العشرين والواحد والعشرين بالمقارنة مع النظريات التي طُرحت في القرن التاسع عشر. إذ ليس من الممكن، ولا من المفيد، تفسير الفن والروحانيات بالعلوم العصبية.

ت.ك.ط.: الحوار بين العلم والدين لا يزال يتلمس سبيله. لكن خطوة حاسمة تم اجتيازها، منذ بضعة عقود، حين اكتشف العلم الجامد والآخذ بالحتمية déterministe للقرن التاسع عشر حدوده نفسها. وبذا أعيدَ إطلاقُ الاستفسار الوجودي حول مآل الإنسان وإمكان وجود مبدأ خالق، وهو ليس وشيك الانطفاء.

سجَّل الحوار: ميشال إلتشانينوف

المترجم عن الفرنسية: ديمتري أڤييرينوس


* « Dans mon Cosmic Trip », dialogue entre Laura Bossi et Trinh Xuan Thuan, propos recueillis par Michel Eltchaninoff, Philosophie Magazine, numéro 33, octobre 2009, pp. 28-31.

[1] مبالغة "إعلامية" لا نجد أي مسوغ لها! إذ إن هذا النوع من اللقاءات بين علماء ينتمون إلى اختصاصات ومناهج مختلفة للتباحث في رؤاهم وآمالهم بات شائعًا، بل شائع جدًّا، منذ بداية الثمانينيات – ناهيكم عن اللقاءات الدورية بين علماء وفلاسفة وفنانين وممثلين عن مختلف الأديان. الجديد في الأمر، بنظرنا، أن مدينة فاس المغربية هي التي باتت تستضيف سنويًّا لقاءات من هذا المستوى الراقي. أفلا يحق لنا أن نتطلع إلى أن تكون دمشق وحلب واللاذقية موئلاً للقاءات مماثلة؟ (المحرِّر)

[2] ما بين معقوفتين […] من إضافة المترجم توضيحًا للمقصود. (المحرِّر)

[3] Cf. Trinh Xuan Thuan, La Mélodie secrète (Fayard, 1988) ; Les Voies de la lumière : Physique et métaphysique du clairobscur (Fayard, 2007) ; Dictionnaire amoureux du ciel et des étoiles (Plon, Fayard, 2009).

[4] Cf. Laura Bossi, Histoire naturelle de l’âme (PUF, 2003).

[5] من كلمة أنثروپوس anthropos اليونانية التي تعني "الإنسان". (المحرِّر)

[6] المقصودون هم الأشخاص الداخلون، لأسباب مختلفة، في غيبوبة أو سبات عميق coma يتصف بفقدانهم وظائف العلاقة (الوعي، الحركة، الحساسية)، مع احتفاظهم بوظائف الحياة النباتية (التنفس، الدوران). (المحرِّر)

[7] من اللاتينية: re، "مرة ثانية"، و anima، "نفْس"؛ والمقصودة هي الوسائل الطبية المختصة بإعادة توازن الوظائف الحيوية السوية (التنفس، الدوران، نظم القلب، إلخ) وبالحفاظ عليها. (المحرِّر)

[8] "الجينوم" génome هو مجموع الجينات gènes التي تحملها الجسيمات الصبغية chromosomes الخاصة بنوع بعينه. (المحرِّر)

الإنسان الحديث والمدينة – ديمتري أڤييرينوس

الإنسان الحديث والمدينة

خواطر مقتضبة في تشخيص أزمة الإنسان المدني*

ديمتري أڤييرينوس**

إلى يوسف عبه جي

يرى أفلاطون بأن المدينة تنشأ أصلاً من عجز الفرد عن الاكتفاء بنفسه في سد حاجاته المتنامية، فيجتمع في مكان واحد عدد من الشركاء المتعاونين يشكِّلون مجتمعًا يُطلَق عليه اسم "مدينة" polis ويجري فيه الأخذ والعطاء، بحيث يعتقد كلٌّ منهم أن التبادل يعود عليه بالنفع. بذلك يعزو أفلاطون نشأة المدينة إلى ضرورة تلبية حاجات الإنسان المادية والمعنوية، مع كل ما يتفرع عنها. ومنه، إذا سلمنا بصحة كلام أفلاطون، كانت المدينة بنت الحاجة إليها.

بيد أن اجتماع الإنسان إلى الإنسان ليس مجرد ضم كمٍّ إلى كم. لذا ظلت المدينة، تاريخيًّا، مكان التفاعل وموضع اللقاء بالآخر. فهي، إذن، أول فضاء حر يتيح للإنسان التحقق بالبعد الاجتماعي الكامن فيه، بما يميِّزه من كائنات الطبيعة إجمالاً ومن التجمع البشري بمعناه الفج خصوصًا. فمع تمايُز الإنسان عن الطبيعة وعن العشيرة الضيقة، ومع انقطاعه، إلى حدٍّ ما، عن التماس المباشر مع البيئة الطبيعية، حاول أن يفتش عن تعويض مادي ونفسي في تماس من نوع جديد مع أنداده من البشر: تماس تفاعلي يؤدي، من ناحية، إلى نموه وتعزيز خصوصيته كشخص شرع في التفرُّد، وإلى إيجاد وعي إنساني جديد يتجاوز الأشخاص بما هم أشخاص، من ناحية أخرى. هذا ما يُسمى "الحضارة" (وضدها في السياق العربي "البداوة") أو "المدنية" civilization – عكس اللاتمايز والانكفاء على الجماعة الضيقة، القَبَلية أو العشائرية.

في المجتمع الجديد، تفتحت ملَكة معرفية جديدة نَمَتْ في الإنسان الفرد مع تمايزه عن الطبيعة، ألا وهي العقل: العقل يغذي الخبرة الإنسانية، يُنضِجُها، ويدفع بها إلى العودة إلى الطبيعة في مآل اكتمالها، غنيةً بخبرة "عمودية"، إذا جاز التعبير، بالإضافة إلى الخبرة "الأفقية" السابقة. في البداية، كان الإنسان متماهيًا identified مع الطبيعة، غائبًا فيها؛ ومع الخبرة العقلية الجديدة، بات في وسع الإنسان أن ينفصل عن الطبيعة – مرحليًّا – ليكتشف ما يتعداها، أي ليكتشف في نفسه بُعدًا كليًّا يتجاوزه كفرد، ويتجاوز الطبيعة أيضًا، ويوحِّد فيما بينهما في آن معًا.

لذا كانت هندسة المدن القديمة تجعل للمدينة مركزًا ومحيطًا، وتعتمد المربع أساسًا لها، من حيث إن شكل المدينة المربع – بما أنها كانت ترمز، من أحد الوجوه، إلى تحضُّر الرُّحَّل من الشعوب – يرمز إلى الثبات والرسوخ والتعيُّن، في مقابل خيام الرُّحَّل أو مخيماتهم الدائرية التي ترمز إلى الحركة وعدم التمايز. وبحسب علم النفس التحليلي، تشكِّل المدينة أحد رموز "الأم" في مظهريها: الحامي والمعيِّن؛ وهي من نَسَق المبدأ المؤنث. المدينة، بحسب كارل يونگ أيضًا، رمز إلى الكلِّية Totality والتكامل الداخلي: دخول البطل المدينة، في الأساطير والقصص والأحلام، وبلوغه مركزها المتمثل بالحَرَم الديني (الهيكل أو المَقْدِس) يشير إلى التكامل الداخلي وتحقُّق قوى النفس الإنسانية بممكناتها كافة ("سيرورة التفردن" individuation process).

وحتى على الصعيد الاجتماعي، كانت أبعاد المجتمع بأسره – بفئاته كافة – تتكامل في المدينة: المقدس، الذي يضمن نقل الثقافة والقيم؛ السلطة، بفرعيها المدني والعسكري؛ والسوق باستطالاته الحِرَفية. ذلك أن المدينة كانت تُبنى قديمًا بحيث يعكس مخططُها البنية الباطنية المثلثة للإنسان، القلب (أو الروح) والنفس والجسم: القلب يقع في المركز من الكائن الإنساني، ويرمز إليه الهيكل؛ ومنه تتفرع الشرايين (الشوارع) التي تغذي بالدم الأعضاء النبيلة (المدارس والمكتبات = العقل) وما تبقى من المدينة: الهيئة الحاكمة التي ترمز إلى النفس، والأسواق، بحوانيتها وحماماتها ومختلف نشاطاتها الاقتصادية، التي ترمز إلى سائر أطراف البدن ووظائفه؛ أما أبواب المدينة، التي غالبًا ما كانت سبعة، فكانت ترمز إلى حواس الإنسان الخمس الكثيفة والحاستين اللطيفتين (الحدس والعقل) أو، كوسمولوجيًّا، إلى الكواكب الخمسة والنيِّرين (الشمس والقمر).

وجودُ المدينة، في حدِّ ذاته، مفارقة، من حيث هي تؤدي إلى انقطاع الإنسان جزئيًّا عن محيطه الطبيعي وعشيرته، لكنها تعوِّض هذا النقص باللقاء مع الآخر المختلف:

1. المدينة، في مرحلة أولى، مكان يؤمُّه الإنسان قابلاً أن يفقد شيئًا من هويته العشائرية الجماعية ليتفرد؛

2. والمدينة، في مرحلة ثانية، مكان تفاعل الأفراد لإبداع "حضارة" تتخطاهم وتعكس "كلِّيتهم" (وليس مجموعهم الحسابي وحسب)؛

3. والمدينة، في مرحلة ثالثة، إذ تتطور، تصبح المكان المنفتح على العالم ككل، المكان الشبيه بالميناء الذي تتحرك فيه البضائع والثقافات في حرية تامة – مكان التفاعل العالمي الشامل.

لكلِّ ما سبق، اتصفت المدينة تاريخيًّا بصفات حافِظة، كأن تكون ملجأ الناس أيام الحرب؛ وبالتالي، كان يكفي لاحتلال أراضي بلد ما الاستيلاءُ على المدينة (من هنا أهمية حصار المدن في التاريخ).

* * *

أما اليوم، فقد اختفى هذا المعيار لأن الأسباب الرئيسية لنشأة المدينة قد انعدمت. حتى التجارة، مع حَوْسَبتها المتزايدة، بات في إمكانها الاستغناء عن المدينة – فما بالك بالبُعد الثقافي-الحضاري؟! الساحة العامة – الأغورا agora (ونموذجها المصغر سوق عكاظ في مكة قبل الإسلام) –، حيث يبلغ التفاعل الثقافي والتبادل التجاري أوْجَه، لم يعد لها من معنى مع تطور وسائل الإعلام وانتشارها الأفقي (الإنترنت أوضح مثال على ذلك). وبذلك قد لا تكون مدن العالم الكبرى اليوم سوى "واجهة" خارجية تقنِّع وجه الاستهلاك القبيح. حتى في الحرب الحديثة، لم تعد المدينة ذلك المكان الإستراتيجي الذي كانتْه في الماضي (ليست للمدن الحديثة أسوار ولا تحصينات).

لقد زال المفهوم القديم للمدينة، لكن الناس ما برحوا يَفِدُون على المدن ويتكتَّلون فيها؛ لا بل إن مصير البشرية ككل أمسى "مدنيًّا" – على الأقل في الأفق المنظور. وبذلك زالت الحاجة إلى المدينة، وحلَّتْ محلَّها الرغبة في المدينة (من هنا الهجرة الكثيفة من الريف إليها).

واليوم، لم يعد للمدن مراكز (كما في أمريكا الشمالية بوجه خاص)، مما أدى إلى أزمة هوية – وهذا ليس لأسباب عمرانية أو اقتصادية صرف. لقد أضحت المدن الكبرى محيطًا بلا مركز (مما يعكس غياب شعور الإنسان بمركزه الداخلي)، ولم يعد لمركز المدينة من مدلول إلا المدلول "الجمالي" وحسب. صار الناس في المدن الكبرى يعيشون في المحيط، غائبين عن مركزهم، تسحقهم المسافات الاجتماعية والجغرافية.

واليوم أيضًا – وهذه مفارقة أخرى – زال مفهوم المدينة نفسه، على الرغم من توسع المدن توسعًا سرطانيًّا، وذلك لأن المدينة أمست مكان العزلة والتجمُّع، لا مكان اللقاء والاجتماع (التمييز بين "التجمع" و"الاجتماع" للفيلسوف ندره اليازجي). ومع الإمعان في هذه السيرورة، سيصير الإنسان المدني، في مستقبل ليس ببعيد، – مع علمه آنيًّا بما يحصل في بقاع أخرى من العالم من أحداث وحوادث، – كيانًا منقطعًا عن العالم، معرفيًّا وإنسانيًّا، ومعزولاً وجدانيًّا.

تقوم فكرة المدينة أساسًا على كونها مكان المعرفة والأسرار، مكان الزوايا والخبايا والاشتباك الحياتي المذهل. لكن تبنِّي فكرة التطور، بمعنى التقدم الخطِّي المتواصل إلى الأمام، انعكس على تخطيط المدن، فظهر بعد الثورة الصناعية مفهوم المدينة الحديثة، "المُعَقْلنة" rationalized، الشاقولية، وتوحدت معايير البناء، متحررة و"محرِّرة" من كل خصوصية ثقافية. وهذا المفهوم "الشاقولي" للمدينة، إذا جاز التعبير، مع كل ما وفَّره من أسباب الرفاهية ومع الرواج الذي لاقاه، لم تؤخذ عواقبُه بالحسبان إلا بعد فوات الأوان. لقد أخذ المنظِّرين له الحماس؛ وهم، في رغبتهم المحمومة في "خدمة" المجتمع، وجدوا أن الأصلح له هو تجزئة حياة الناس إلى قطاعات أو "حجرات" (من "الحَجْر")، فأوجدوا أماكن للعمل، وأخرى للسكن، وأخرى للترفيه، وأخرى للاستهلاك (وهذا بالطبع ناجم في الأساس عن تصوُّر للعالم كأجزاء منفصلة، وعن تصور الإنسان كمجرد حزمة دوافع كمية). هناك قطاع للنوم: المناطق السكنية؛ قطاع للعمل: المكتب والمصنع؛ قطاع للاستهلاك: السوپرماركت والمول؛ قطاع للتسلية: مركز المدينة الافتراضي (وبذلك تغيرت وظيفة هذا الأخير من مكان التفاعل الثقافي إلى مكان "الترويح عن النفس")؛ وتصل بين هذه القطاعات طُرُق عريضة لكسب الوقت.

اختفت "الحارة" القديمة، بكل مظاهر اشتباك الحياة فيها وبكل أسرارها، وحلت محلها أماكن مسطحة، لا هوية لها، تتعالى فيها أعمدة إسمنتية لا تنطوي على أي سر – وفي ظن أولئك المنظِّرين أن هذا كله يؤدي إلى السعادة رأسًا! (لقد تبيَّن أن العكس هو الصحيح؛ فمن الآثار السلبية نفسيًّا للحياة في المدينة: الأمراض النفسية، من قلق وحَصْر وإنهاك عصبي، نتيجة العمل الشاق والضجيج المستمرين، ناهيك عن التلوث القاتل، لا يعوضها تماسٌ مرمِّم مع الطبيعة؛ وهذا كله بالطبع يترجَم إلى ارتفاع طردي في نِسَبِ الإجرام وجنوح الأحداث.) غير أنهم نسوا الحياة، تجاهلوها، وأغفلوا أن المكان تعبير عن الثقافة. تعقيد الحياة، في اشتباك مظاهر تحولاتها، اختُزل إلى تعقيد شبكات الاتصال والمعلومات وإلى تعقيد العلاقات الهرمية في الاقتصاد والسياسة.

* * *

لقد كان "ملعونو الأرض" (ماركس) يحلمون في المدينة بعالم يصيرون فيه ملوكًا. فبمَ يحلم أبناؤهم اليوم؟ الواقع أن "الثورة" الوحيدة التي يتشوق هؤلاء إلى إعلانها هي ثورة الاستهلاك!

فهل لنا اليوم أن نبدع مفهومًا جديدًا، أصيلاً، لحياتنا في المدينة؟


* صياغة نهائية لمداخلة ألقِيَتْ ضمن ندوة حول المدينة عقدتها "الجمعية الكونية السورية" في أواسط التسعينيات.

** كاتب ومترجم؛ محرِّر في مجلة معابر: www.maaber.org.

الشيطان رمز إلى حرية الإنسان – فراس السواح

الشيطان رمز

إلى حرية الإنسان*

الفلسفة حكمة شخص بعينه أما الدين فهو حكمة شعب بأكمله / الأديان كلها متساوية ولا وجود لأديان حقيقية وأخرى زائفة

فراس السواح

يرى المفكر السوري فراس السواح أن الفلسفة تتلخص في كونها "حكمة" شخص بعينه، وهي برأيه نابعة من تكوين نفسي فردي وتربية ومحيط اجتماعي ووسط فكري؛ في حين يرى أن الدين هو حكمة شعب وثقافة بكاملها، تعاونت على صياغتها مغامرات فكرية وخبرات روحية كابدَها عدد كبير من الأفراد والأجيال المتتابعة.

فراس السواح

ويعتبر السواح أن ظاهرة الأديان، التي أسس لها أفراد مميزون وطبعوها بطابعهم، هي ظاهرة حديثة نسبيًّا في تاريخ "دين الإنسان"، لا تعود بتاريخها إلى ما قبل أواسط الألف الأول ق م، عندما ظهر زرادشت في فارس وبوذا في الهند، مشيرًا إلى أن الأديان كلها تقف على قدم المساواة، وتتمتع بدرجة واحدة من المشروعية، حيث لا وجود لأديان "حقيقية" وأخرى "زائفة"، ولا لأديان "بدائية" وأخرى "متطورة".

ح.س.

حسن سلمان: شهدتْ مسيرتك الفكرية منعطفَين أساسيين تنقَّلتَ خلالهما بين الفلسفة ودراسة الأسطورة وتاريخ الأديان، لتستقر في النهاية على المحور الثاني. فما الذي دفعك في البداية إلى دراسة الفلسفة؟ ثم ما سبب لجوئك فيما بعد إلى دراسة الأسطورة والدين؟

فراس السواح: يولد الإنسان ومعه دافع طبيعي إلى التساؤل. هذا الدافع يخبو لدى معظم الناس تحت ضغط الشروط المادية للحياة اليومية، بينما يبقى متأججًا لدى القلة. وأنا من هذه "القلة" التي بقيت أمينة على التساؤل، حتى بعدما رأت أن الأسئلة الكبرى لا جواب عنها، وتحوَّل لديها السؤال إلى ما يشبه الجواب!

ومَن يبقى "أمينًا على السؤال" يبحثْ حوله عن "المتسائلين" من أمثاله، لعله يجد لديهم ما يُعينه على حيرته العقلية والروحية. وهذا ما دفعني في سنوات الفتوة الأولى إلى دراسة الفلسفة، بعد أن تبيَّن لي أن الفيلسوف لا يجيب عن أسئلة متفرقة منعزلة، وإنما عن عدد من الأسئلة الأساسية التي تقود الإجابة عنها إلى تشكيل نظرة كلِّية إلى العالم والإنسان والحياة.

على أني ما لبثت أن ضقت ذرعًا باختلاف الفلسفات وتعارُضها، وتبيَّن لي أن تاريخ الفلسفة قد ترك لنا من الفلسفات عددًا مساويًا لعدد مَن ظهر من الفلاسفة، وأن كل فلسفة تدَّعي لنفسها امتلاك الحقيقة وتهدم ما بنتْه الفلسفات السابقة، وأن كل فيلسوف يعمل على تفنيد مَن سبقوه ليقع بعد ذلك ضحية تفنيد مَن يأتون بعده!

وفي اختصار، فقد تركتْني دراسة الفلسفة في حيرة لا تقل عن حيرتي قبل دراستها، وتلاشى حلمي بفلسفة إنسانية متسقة، تعمل عقول البشر على بنائها في تعاوُن وتناغُم وتجاوُز مبدع، بحيث يكمل كل جيل من حيث انتهى الجيل السابق – وهو حلم مغرق في الرومانسية على كل حال! خيبة الأمل هذه هي التي دفعتْني في اتجاه دراسة تاريخ الأديان.

ح.س.: في السياق ذاته، تقول في أحد الحوارات معك: "الفلسفة هي نتاج فكري لشخص بعينه، سواء كان ديكارت أم كانط أم هيگل أم ابن رشد؛ أما الدين فيمثل حكمة ثقافة بأكملها. فإذا أردنا فهم الإنسان علينا أن نفهم أدبياته الدينية قبل أدبياته الفلسفية." حبذا توضيحك هذه الفكرة.

ف.س.: الدين والفلسفة صنوان من حيث إثارتُهما للأسئلة الأساسية وادعاؤهما تقديم أجوبة نهائية عنها. ولكن ما يميز الدين عن الفلسفة هو أن الفلسفة حكمة شخص بعينه، تحكم نظرتَه شروط ذاتية خاصة، من تكوين نفسي فردي وتربية ومحيط اجتماعي ووسط فكري وما إلى ذلك. أما الدين فهو حكمة شعب وثقافة بكاملها، تعاونتْ على صياغتها مغامرات فكرية وخبرات روحية كابدَها عدد كبير من الأفراد والأجيال المتتابعة.

الدين، من حيث نشأتُه وأصلُه، لا ينطلق من أفكار شخص بعينه في زمان أو مكان محدد. فديانات العالم القديم – مصرية وسورية ورافدينية ويونانية إلخ – لا "مؤسِّس" لها؛ وسؤالك لشخص ما من ذلك العصر عن "البدايات" الأولى لديانته، أو عن عهد "مؤسِّس" تلك الديانة، قد يبدو له بلا معنى، لأن ديانته موجودة منذ البدايات الأولى لظهور الإنسان. وينطبق هذا على العديد من الديانات القديمة التي لا تزال حية إلى اليوم، مثل الهندوسية في الهند والشنتوية في اليابان. فالهندوسي اليوم، مهما أعمل تفكيرَه وتأمل في الماضي، لا يستطيع أن يحدد تاريخًا ما لظهور الهندوسية كديانة تامة التكوين أو أن يعزو تأسيسها إلى شخص بعينه.

إن ظاهرة الأديان التي أسَّس لها أفراد مميزون وطبعوها بطابعهم هي ظاهرة حديثة نسبيًّا في تاريخ دين الإنسان، ولا تعود بتاريخها إلى ما قبل أواسط الألفية الأولى قبل الميلاد، عندما ظهر زرادشت في فارس وبوذا في الهند. ومع ذلك، فإن بوذا أو زرادشت، لو بُعِثَ حيًّا بيننا اليوم، لَما استطاع التعرف إلى تعاليمه الأولى في الديانة المنسوبة إليه! فلقد تعاونت بعدهما عقول أتباعهما على إغناء الموروث القديم وتطويره والإضافة إليه. وتبدو حركية الدين في شكل أوضح عندما ينتقل إلى خارج بيئته الأصلية التي ولد فيها: فبوذية شري لنكا اليوم هي غير بوذية الصين، وهذه غيرها في كوريا أو اليابان.

هذه الخاصية الحركية للدين تنسحب أيضًا على ما اصطُلِح على تسميته بـ"أديان الوحي" أو "الأديان السماوية": فكتاب التوراة يشف عن مستويات متراكِبة من الخبرة الدينية، بحيث نرى أن دين إبراهيم هو غير دين موسى، ودين عصر القضاة مختلف عن دين عصر الملوك؛ وهذا ينطبق على دين ما قبل السبي [البابلي] ودين ما بعده. وفي النهاية، نجد أن يهودية اليوم لا تقوم على أسُس توراتية بقدر قيامها على أسُس تلمودية. فإذا انتقلنا إلى المسيحية، وجدنا أنها مدينة لتعاليم بولس الرسول أكثر منها لتعاليم يسوع الأصلية. كما عبَّر الدين الإسلامي عن حركية لا تقل عن غيره من الأديان، وذلك من خلال المذاهب الفقهية ومدارس علم الكلام والصيغ المتنوعة للطوائف والمذاهب الإسلامية والطرق الصوفية.

وهذا يقودني إلى القول بأن النص المقدس لا يتحكم في مسيرة الفكر اللاحق عليه بقدر ما يقع هو نفسه تحت سلطة ذلك الفكر، من خلال تفسيره وتأويله وفرض معاني جديدة عليه نابعة من سياق التطور التاريخي. ففي حين يبقى النص قابعًا وراء ستارة من القداسة السكونية، فإن الواقع يتجاوزه من خلال فكر دينامي يعلن عدم الإذعان له.

ح.س.: يرى بعضهم أن كتابك مغامرة العقل الأولى[1]، الذي يُعتبَر أحد نماذج نقد الفكر الديني، يكمِّل بشكل أو بآخر ما قام له المفكر صادق جلال العظم في كتابه نقد الفكر الديني[2]. فما رأيك في ذلك؟

ف.س.: تمتعت كلمة "نقد" في الثقافة العربية بتاريخ طويل من السمعة السيئة! وهي تعني اليوم، في أذهان الكثيرين، إظهار الجوانب السلبية للظاهرة المدروسة انطلاقًا من حكم مسبق عليها. أما من حيث الأصل، فإنها تعني الدراسة الموضوعية للظاهرة من أجل تبيين ما لها وما عليها.

كتاب صادق جلال العظم ينطبق عليه المعنى الأول للكلمة: فهو ينطلق أصلاً من موقف مُعادٍ للدين. أما أنا فأنطلق من موقف متعاطف مع الدين، موقف مَن يود فهم الظاهرة الدينية، لا إطلاق حكم قيمة عليها. وأنا في ذلك أستعمل منهجًا فينومينولوجيًّا [ظاهراتيًّا] يقوم على الوصف الموضوعي دون التوصل إلى أحكام. وقد كان كتابي مغامرة العقل الأولى بمثابة الخطوة الأولى في هذا المنهج الذي لم أحِدْ عنه فيما بعد، وبلغ حدَّ النضج في كتابي دين الإنسان[3].

ح.س.: ما الفرق بين الأسطورة والدين؟ وأيهما سبق الآخر؟ وكيف يتبادلان التأثير؟

ف.س.: إن النظرة الفاحصة إلى تاريخ أديان الإنسان تكشف لنا عن بنية موحدة للدين، أنَّى التقينا به كظاهرة ثقافية رائدة ومتى. وهذه البنية تقوم على عدد من المكونات الأساسية التي لا نستطيع التعرف إلى هذه البنية من دونها، وهي: المعتقد والطقس والأسطورة.

يتألف المعتقد من عدد من الأفكار الواضحة والمباشرة، تعمل على رسم صورة ذهنية لعالم المقدسات، وتوضح الصلة بينه وبين عالم الإنسان. وغالبًا ما تصاغ هذه المعتقدات في شكل صلوات وتراتيل.

ولكن الأفكار وحدها لا تصنع دينًا إلا عندما تدفعنا إلى سلوك وفعل، فننتقل من التأمل إلى الحركة، من التفكير في العوالم القدسية إلى اتخاذ مواقف عملية منها، فنتقرب منها أو نسترضيها، نسخِّر قواها لمصلحتنا أو ندرأ غضبها عنا – وهذا هو الطقس. فإذا كان المعتقد حالة ذهنية فإن الطقس هو حالة فعل من شأنها إحداث رابطة: فمن خلال الطقس نقتحم على المقدس "حرمته"، إذا صحَّ التعبير، ونفتح قنوات اتصال معه.

أما الأسطورة فهي، من حيث الشكل، قصة تحكُمُها مبادئ السرد القصصي، من حوادث وحبكة درامية وعقدة وشخصيات وما إليها، وغالبًا ما تجري صياغتها في قالب شعري يساعد على ترتيلها في المناسبات الطقسية وتداوُلها شفاهًا. أما من حيث مضمونُها، فإنها تُعنى برسم صورة للآلهة، توضح شخصياتها ووظائفها ومهماتها وعلائقها بعضها مع بعض ومع عالم الإنسان ومع الطبيعة. فالأسطورة، والحال هذه، تعمل في خدمة الدين وتعمل على توضيح عقائده عن طريق السرد القصصي.

ح.س.: يرى بعضهم صعوبة في التمييز بين مصطلح "الأسطورة" وبين مصطلحات أخرى، مثل "الملحمة" و"الخرافة". فما هو برأيك معيار التفرقة بين هذه المصطلحات؟

ف.س.: هنالك عدة أجناس أدبية شبيهة بالأسطورة، منها الخرافة والحكاية البطولية والحكاية الشعبية والملحمة وحكايات الجن… ولعل الوقت يطول بنا إذا حاولت في هذا المجال الضيق تقديم تعريف بهذه الأجناس؛ لذا سوف أكتفي بإيراد المعيار الأساسي الذي نستطيع من خلاله التمييز بين الأسطورة وغيرها، وهو معيار القداسة.

فالأسطورة حكاية مقدسة ذات مضمون عميق يشف عن معانٍ ذات صلة بالكون والوجود وحياة الإنسان. ويؤمن أتباع كل دين بصدق الأحداث التي تقصُّها أساطيره وبصحة ما تحاول تقديمه لهم من مضامين. فالأسطورة ترتبط بنظام ديني معين وتتشابك مع معتقدات ذلك النظام وطقوسه؛ وهي تفقد مقومات وجودها كلها إذا انهار ذلك النظام الديني الذي تنتمي إليه، فتتحول إلى حكاية دنيوية تنتمي إلى نوع آخر من الأنواع الأدبية الشبيهة بالأسطورة.

ح.س.: تكلمت في كتابك دين الإنسان على مسألة وحدة الخبرة الدينية. والسؤال هو: ما الفرق بين هذا الرأي وبين ما ذهب إليه فلاسفة الصوفية من القول بـ"وحدة الأديان"؟

ف.س.: في كتاب دين الإنسان حاولت، انطلاقًا من مقاربة ظاهراتية [فينومينولوجية]، البحث عما هو مشترك وعام بين أديان الإنسانية عبر تاريخها، مبتدئًا من أبعد مرحلة في التاريخ أمكن لنا عندها تبيُّن وجود حياة روحية للإنسان، وهي مرحلة إنسان نياندرتال Homo sapiens nianderthalensis، وذلك من أجل الكشف عن البنية الجوهرية للدين والتوصل إلى تعريف جامع له تنضوي تحته الأديان كلها، من أكثرها بساطة إلى أكثرها تركيبًا وتعقيدًا.

وقد توصلت إلى نتيجة مفادها أن الأديان كلها تقف على قدم المساواة، وتتمتع بدرجة واحدة من المشروعية، حيث لا وجود لأديان "حقيقية" وأخرى "زائفة"، ولا لأديان "بدائية" وأخرى "متطورة". ذلك أن المفهوم الحديث للتطور، الذي سيطر على الفكر الحديث منذ أواسط القرن التاسع عشر، لا ينطبق على حياة الإنسان الروحية والعاطفية.

قد يكون المنكاش الحجري أكثر بدائيةً من المحراث المعدني، وهذا بدوره أكثر بدائيةً من الجرار الحديث، وقد يكون السهم الذي يُطلَق من أنبوبة النفخ أكثر بدائيةً من السهم الذي يُطلَق من القوس، وهذا بدوره أكثر بدائيةً من البندقية الحديثة؛ ولكن مَن يستطيع القول بأن الأديان المتأخرة، التي يمتلئ تاريخها بالتعصب والاضطهاد وملاحقة الهراطقة والحروب الشاملة، هي "أكثر تطورًا" من الأديان "البدائية" التي تتسم بالتسامح مع جميع المعتقدات؟!

فراس السواح

أما عن الصوفية التي أشرتَ إليها في سؤالك، باعتبارها نموذجًا لوحدة الأديان، فإنها – لعمري – كذلك! فالصوفي، سواء كان تاويًّا أو هندوسيًّا أو بوذيًّا أو يهوديًّا أو مسيحيًّا أو مسلمًا، قد اخترق بخبرته الروحية المباشرة الأطُرَ الشكلانية للدين المؤسساتي كلها، وأقام في الحقيقة التي تشترك فيها الأديان كلها.

ح.س.: تشير في كتابك الأسطورة والمعنى[4] إلى وجود نزعة توحيدية واضحة في أديان الشرق القديم، التي يقوم معتقدها على الإيمان بإله واحد أعلى خَلَقَ بقية الآلهة. لكنك تقول في عدة محاضرات ألقيتَها: "إما أن تكون كلُّ الديانات سماويةً أو تكون وضعيةً كلُّها." هل يعني ذلك أنك تساوي بين المعتقدات السماوية والمعتقدات الوثنية؟! وما هو الأساس الذي تعتمده في ذلك؟

ف.س.: لا يوجد في أية ديانة توحيدية مفهوم عن إله منفرد يشغل وحده الحيز الماورائي للوجود. فالإله الخالق، عندما أظهر العالم إلى الوجود وقرر الدخول في تاريخه، خلق مع البشر على الأرض كائنات أخرى في السماء، هي الرهط الذي يحيط به وينفذ أوامره ويكون بمثابة الصلة بينه وبين العالم المادي وكائناته، وجعل لكلٍّ من هذه "الملائكة" مهمة ووظيفة.

هذا التصور القائم لعالم الألوهية هو الذي تقوم عليه الديانات التي ندعوها بـ"الوثنية" أيضًا. فالإله الأزلي القديم، عندما قرر خلق العالم، خلق في الوقت نفسه مجموعةً من الآلهة الأصغر ومنَحَها القوة والسلطان على مظاهر الكون المتنوعة.

إن الإله المتربع على سدة الكون في المعتقدات الوثنية يمثل جوهر الألوهية المطلقة؛ أما بقية الآلهة "المخلوقة" فمنه تستمد الوجود والقدرة: إنها أشبه بالشرارات المنبعثة من جذوة نار أزلية متقدة. وهذا، في رأيي، يجعل الحدَّ الفاصل بين معتقد "التوحيد" ومعتقد "الشرك" على غير ما نشتهي من الوضوح!

أما فيما يتعلق بالشق الثاني من السؤال فأقول: إذا كان الوحي حقيقة قائمة بين الله والناس، فلماذا كان على الله أن ينتظر حتى هذا الوقت المتأخر من تاريخ البشرية لكي يعلن عن نفسه من خلال ثلاثة أديان يحتكر كلٌّ منها لنفسه معرفة الله الحق؟! إذا كان الوحي حقيقة، فقد كان هذا الوحي متصلاً دون انقطاع، والبشر جميعًا عرفوا الله عبر تاريخهم الديني – كل ثقافة بما يتناسب ووضعها في سياق الارتقاء الثقافي.

في هذا الموضوع يقول محيي الدين بن عربي في كتابه فصوص الحكم إن كل المعبودات التي توجَّه إليها البشر، في كل زمان ومكان، لم تكن في واقع الحال غير "مَجالٍ" لأسماء الله، وإن التوجه إليها بالعبادة لم يكن إلا طريقًا إلى معرفة الله الحق، لأن الله قال في كتابه العزيز: "وقضى ربُّك ألا تعبدوا إلاَّ إيَّاه" [سورة الإسراء 23]، ولم يقل "وأمَرَ ربك ألا تعبدوا إلا إياه". فكل "عبادة"، والحال هذه، لغير الله مآلُها في النهاية إليه: "فإن للحق في كل معبود وجهًا يعرفه مَن يعرفه ويجهله مَن يجهله. فما عُبد غيرُ الله في كل معبود" [ابن عربي، الفصوص]. هذا ما أعنيه بقولي بأن الأديان كلها إما أن تكون سماوية أو أن تكون وضعية.

ح.س.: في كتابك الرحمن والشيطان[5]، ثمة مفهوم ملتبس عن الحرية التي تقول إنها "الأمانة" التي حملها الإنسان، في حين أبَتِ السماوات والأرض والجبال حَمْلَها [سورة الأحزاب 72]؛ ثم تقول في موضع آخر إن الشيطان هو "رمز الحرية في الإنسان"، وهو الذي يعطيها المعنى. كيف تحدد العلاقة بين أقانيم ثالوث الرحمن والشيطان والإنسان؟

ف.س.: يقوم الوجود على تناقُض الأضداد وتعاوُنها. كل شيء يُنتج نقيضَه ويتعاون معه على إنتاج حالة تكامُل وتوازُن واستقرار: النور يقابل الظلام، والجاف يقابل الرطب، والحرارة تقابل البرودة، والحركة تقابل السكون، والسماء تقابل الأرض، والذكر يقابل الأنثى، وهكذا دواليك إلى ما لا نهاية.

وعلى المستوى الأخلاقي، فإن الخير يقابل الشر. وكما هي الحال في جميع المتعارضات، فإنه لا خير بلا شر، والعكس صحيح، لأن كلاً منهما يعمل على إظهار الآخر. وقد قام الفكر الديني الثنوي، الذي تمثل له الغنوصية والزرادشتية والمانوية، بتجسيد النوازع الخيرة والنوازع الشريرة في النفس الإنسانية في إلهين: واحد يحض على الخير وآخر يوسوس بالشر؛ وعلى الإنسان أن يستعمل حريته من أجل الاختيار في سلوكه بين الطريقين. فهو الكائن الحر الوحيد، الكائن الذي لا توجِّهه الغرائز الطبيعية وحدها، وإنما ضمير يعي وجود الخير والشر في العالم.

وقد سارت الديانات التوحيدية بعد ذلك على النهج نفسه، لكنها استبدلت بشخصية إله الشر شخصيةَ الشيطان أو إبليس. وهذا معنى قولي إن الشيطان هو رمز إلى حرية الإنسان، لأنه من دون الشيطان لا يوجد خيار، ومن دون الخيار لا توجد حرية، ومن دون الحرية يتحول الإنسان إلى كائن "طبيعاني" غير عاقل، شأنه شأن بقية كائنات الأرض.

التقاه: حسن سلمان


* عن موقع الأوان: http://www.alawan.org.

[1] راجع: فراس السواح، مغامرة العقل الأولى: دراسة في الأسطورة، طب 1: دمشق، 1978.

[2] راجع: صادق جلال العظم، نقد الفكر الديني، طب 7: دار الطليعة، بيروت، 1994.

[3] راجع: فراس السواح، دين الإنسان: بحث في ماهية الدين ومنشأ الدافع الديني، طب 1: دمشق، 1994.

[4] راجع: فراس السواح، الأسطورة والمعنى: دراسات في الميثولوجيا والديانات المشرقية، طب 1: دمشق، 1997.

[5] راجع: فراس السواح، الرحمن والشيطان: الثنوية الكونية ولاهوت التاريخ في الديانات المشرقية، طب 1: دمشق، 2000؛ راجع كذلك سماوات: http://samawat.org/book_reviews/merciful_satan_sawah_dna.