الإنسان الحديث والمدينة – ديمتري أڤييرينوس

الإنسان الحديث والمدينة

خواطر مقتضبة في تشخيص أزمة الإنسان المدني*

ديمتري أڤييرينوس**

إلى يوسف عبه جي

يرى أفلاطون بأن المدينة تنشأ أصلاً من عجز الفرد عن الاكتفاء بنفسه في سد حاجاته المتنامية، فيجتمع في مكان واحد عدد من الشركاء المتعاونين يشكِّلون مجتمعًا يُطلَق عليه اسم "مدينة" polis ويجري فيه الأخذ والعطاء، بحيث يعتقد كلٌّ منهم أن التبادل يعود عليه بالنفع. بذلك يعزو أفلاطون نشأة المدينة إلى ضرورة تلبية حاجات الإنسان المادية والمعنوية، مع كل ما يتفرع عنها. ومنه، إذا سلمنا بصحة كلام أفلاطون، كانت المدينة بنت الحاجة إليها.

بيد أن اجتماع الإنسان إلى الإنسان ليس مجرد ضم كمٍّ إلى كم. لذا ظلت المدينة، تاريخيًّا، مكان التفاعل وموضع اللقاء بالآخر. فهي، إذن، أول فضاء حر يتيح للإنسان التحقق بالبعد الاجتماعي الكامن فيه، بما يميِّزه من كائنات الطبيعة إجمالاً ومن التجمع البشري بمعناه الفج خصوصًا. فمع تمايُز الإنسان عن الطبيعة وعن العشيرة الضيقة، ومع انقطاعه، إلى حدٍّ ما، عن التماس المباشر مع البيئة الطبيعية، حاول أن يفتش عن تعويض مادي ونفسي في تماس من نوع جديد مع أنداده من البشر: تماس تفاعلي يؤدي، من ناحية، إلى نموه وتعزيز خصوصيته كشخص شرع في التفرُّد، وإلى إيجاد وعي إنساني جديد يتجاوز الأشخاص بما هم أشخاص، من ناحية أخرى. هذا ما يُسمى "الحضارة" (وضدها في السياق العربي "البداوة") أو "المدنية" civilization – عكس اللاتمايز والانكفاء على الجماعة الضيقة، القَبَلية أو العشائرية.

في المجتمع الجديد، تفتحت ملَكة معرفية جديدة نَمَتْ في الإنسان الفرد مع تمايزه عن الطبيعة، ألا وهي العقل: العقل يغذي الخبرة الإنسانية، يُنضِجُها، ويدفع بها إلى العودة إلى الطبيعة في مآل اكتمالها، غنيةً بخبرة "عمودية"، إذا جاز التعبير، بالإضافة إلى الخبرة "الأفقية" السابقة. في البداية، كان الإنسان متماهيًا identified مع الطبيعة، غائبًا فيها؛ ومع الخبرة العقلية الجديدة، بات في وسع الإنسان أن ينفصل عن الطبيعة – مرحليًّا – ليكتشف ما يتعداها، أي ليكتشف في نفسه بُعدًا كليًّا يتجاوزه كفرد، ويتجاوز الطبيعة أيضًا، ويوحِّد فيما بينهما في آن معًا.

لذا كانت هندسة المدن القديمة تجعل للمدينة مركزًا ومحيطًا، وتعتمد المربع أساسًا لها، من حيث إن شكل المدينة المربع – بما أنها كانت ترمز، من أحد الوجوه، إلى تحضُّر الرُّحَّل من الشعوب – يرمز إلى الثبات والرسوخ والتعيُّن، في مقابل خيام الرُّحَّل أو مخيماتهم الدائرية التي ترمز إلى الحركة وعدم التمايز. وبحسب علم النفس التحليلي، تشكِّل المدينة أحد رموز "الأم" في مظهريها: الحامي والمعيِّن؛ وهي من نَسَق المبدأ المؤنث. المدينة، بحسب كارل يونگ أيضًا، رمز إلى الكلِّية Totality والتكامل الداخلي: دخول البطل المدينة، في الأساطير والقصص والأحلام، وبلوغه مركزها المتمثل بالحَرَم الديني (الهيكل أو المَقْدِس) يشير إلى التكامل الداخلي وتحقُّق قوى النفس الإنسانية بممكناتها كافة ("سيرورة التفردن" individuation process).

وحتى على الصعيد الاجتماعي، كانت أبعاد المجتمع بأسره – بفئاته كافة – تتكامل في المدينة: المقدس، الذي يضمن نقل الثقافة والقيم؛ السلطة، بفرعيها المدني والعسكري؛ والسوق باستطالاته الحِرَفية. ذلك أن المدينة كانت تُبنى قديمًا بحيث يعكس مخططُها البنية الباطنية المثلثة للإنسان، القلب (أو الروح) والنفس والجسم: القلب يقع في المركز من الكائن الإنساني، ويرمز إليه الهيكل؛ ومنه تتفرع الشرايين (الشوارع) التي تغذي بالدم الأعضاء النبيلة (المدارس والمكتبات = العقل) وما تبقى من المدينة: الهيئة الحاكمة التي ترمز إلى النفس، والأسواق، بحوانيتها وحماماتها ومختلف نشاطاتها الاقتصادية، التي ترمز إلى سائر أطراف البدن ووظائفه؛ أما أبواب المدينة، التي غالبًا ما كانت سبعة، فكانت ترمز إلى حواس الإنسان الخمس الكثيفة والحاستين اللطيفتين (الحدس والعقل) أو، كوسمولوجيًّا، إلى الكواكب الخمسة والنيِّرين (الشمس والقمر).

وجودُ المدينة، في حدِّ ذاته، مفارقة، من حيث هي تؤدي إلى انقطاع الإنسان جزئيًّا عن محيطه الطبيعي وعشيرته، لكنها تعوِّض هذا النقص باللقاء مع الآخر المختلف:

1. المدينة، في مرحلة أولى، مكان يؤمُّه الإنسان قابلاً أن يفقد شيئًا من هويته العشائرية الجماعية ليتفرد؛

2. والمدينة، في مرحلة ثانية، مكان تفاعل الأفراد لإبداع "حضارة" تتخطاهم وتعكس "كلِّيتهم" (وليس مجموعهم الحسابي وحسب)؛

3. والمدينة، في مرحلة ثالثة، إذ تتطور، تصبح المكان المنفتح على العالم ككل، المكان الشبيه بالميناء الذي تتحرك فيه البضائع والثقافات في حرية تامة – مكان التفاعل العالمي الشامل.

لكلِّ ما سبق، اتصفت المدينة تاريخيًّا بصفات حافِظة، كأن تكون ملجأ الناس أيام الحرب؛ وبالتالي، كان يكفي لاحتلال أراضي بلد ما الاستيلاءُ على المدينة (من هنا أهمية حصار المدن في التاريخ).

* * *

أما اليوم، فقد اختفى هذا المعيار لأن الأسباب الرئيسية لنشأة المدينة قد انعدمت. حتى التجارة، مع حَوْسَبتها المتزايدة، بات في إمكانها الاستغناء عن المدينة – فما بالك بالبُعد الثقافي-الحضاري؟! الساحة العامة – الأغورا agora (ونموذجها المصغر سوق عكاظ في مكة قبل الإسلام) –، حيث يبلغ التفاعل الثقافي والتبادل التجاري أوْجَه، لم يعد لها من معنى مع تطور وسائل الإعلام وانتشارها الأفقي (الإنترنت أوضح مثال على ذلك). وبذلك قد لا تكون مدن العالم الكبرى اليوم سوى "واجهة" خارجية تقنِّع وجه الاستهلاك القبيح. حتى في الحرب الحديثة، لم تعد المدينة ذلك المكان الإستراتيجي الذي كانتْه في الماضي (ليست للمدن الحديثة أسوار ولا تحصينات).

لقد زال المفهوم القديم للمدينة، لكن الناس ما برحوا يَفِدُون على المدن ويتكتَّلون فيها؛ لا بل إن مصير البشرية ككل أمسى "مدنيًّا" – على الأقل في الأفق المنظور. وبذلك زالت الحاجة إلى المدينة، وحلَّتْ محلَّها الرغبة في المدينة (من هنا الهجرة الكثيفة من الريف إليها).

واليوم، لم يعد للمدن مراكز (كما في أمريكا الشمالية بوجه خاص)، مما أدى إلى أزمة هوية – وهذا ليس لأسباب عمرانية أو اقتصادية صرف. لقد أضحت المدن الكبرى محيطًا بلا مركز (مما يعكس غياب شعور الإنسان بمركزه الداخلي)، ولم يعد لمركز المدينة من مدلول إلا المدلول "الجمالي" وحسب. صار الناس في المدن الكبرى يعيشون في المحيط، غائبين عن مركزهم، تسحقهم المسافات الاجتماعية والجغرافية.

واليوم أيضًا – وهذه مفارقة أخرى – زال مفهوم المدينة نفسه، على الرغم من توسع المدن توسعًا سرطانيًّا، وذلك لأن المدينة أمست مكان العزلة والتجمُّع، لا مكان اللقاء والاجتماع (التمييز بين "التجمع" و"الاجتماع" للفيلسوف ندره اليازجي). ومع الإمعان في هذه السيرورة، سيصير الإنسان المدني، في مستقبل ليس ببعيد، – مع علمه آنيًّا بما يحصل في بقاع أخرى من العالم من أحداث وحوادث، – كيانًا منقطعًا عن العالم، معرفيًّا وإنسانيًّا، ومعزولاً وجدانيًّا.

تقوم فكرة المدينة أساسًا على كونها مكان المعرفة والأسرار، مكان الزوايا والخبايا والاشتباك الحياتي المذهل. لكن تبنِّي فكرة التطور، بمعنى التقدم الخطِّي المتواصل إلى الأمام، انعكس على تخطيط المدن، فظهر بعد الثورة الصناعية مفهوم المدينة الحديثة، "المُعَقْلنة" rationalized، الشاقولية، وتوحدت معايير البناء، متحررة و"محرِّرة" من كل خصوصية ثقافية. وهذا المفهوم "الشاقولي" للمدينة، إذا جاز التعبير، مع كل ما وفَّره من أسباب الرفاهية ومع الرواج الذي لاقاه، لم تؤخذ عواقبُه بالحسبان إلا بعد فوات الأوان. لقد أخذ المنظِّرين له الحماس؛ وهم، في رغبتهم المحمومة في "خدمة" المجتمع، وجدوا أن الأصلح له هو تجزئة حياة الناس إلى قطاعات أو "حجرات" (من "الحَجْر")، فأوجدوا أماكن للعمل، وأخرى للسكن، وأخرى للترفيه، وأخرى للاستهلاك (وهذا بالطبع ناجم في الأساس عن تصوُّر للعالم كأجزاء منفصلة، وعن تصور الإنسان كمجرد حزمة دوافع كمية). هناك قطاع للنوم: المناطق السكنية؛ قطاع للعمل: المكتب والمصنع؛ قطاع للاستهلاك: السوپرماركت والمول؛ قطاع للتسلية: مركز المدينة الافتراضي (وبذلك تغيرت وظيفة هذا الأخير من مكان التفاعل الثقافي إلى مكان "الترويح عن النفس")؛ وتصل بين هذه القطاعات طُرُق عريضة لكسب الوقت.

اختفت "الحارة" القديمة، بكل مظاهر اشتباك الحياة فيها وبكل أسرارها، وحلت محلها أماكن مسطحة، لا هوية لها، تتعالى فيها أعمدة إسمنتية لا تنطوي على أي سر – وفي ظن أولئك المنظِّرين أن هذا كله يؤدي إلى السعادة رأسًا! (لقد تبيَّن أن العكس هو الصحيح؛ فمن الآثار السلبية نفسيًّا للحياة في المدينة: الأمراض النفسية، من قلق وحَصْر وإنهاك عصبي، نتيجة العمل الشاق والضجيج المستمرين، ناهيك عن التلوث القاتل، لا يعوضها تماسٌ مرمِّم مع الطبيعة؛ وهذا كله بالطبع يترجَم إلى ارتفاع طردي في نِسَبِ الإجرام وجنوح الأحداث.) غير أنهم نسوا الحياة، تجاهلوها، وأغفلوا أن المكان تعبير عن الثقافة. تعقيد الحياة، في اشتباك مظاهر تحولاتها، اختُزل إلى تعقيد شبكات الاتصال والمعلومات وإلى تعقيد العلاقات الهرمية في الاقتصاد والسياسة.

* * *

لقد كان "ملعونو الأرض" (ماركس) يحلمون في المدينة بعالم يصيرون فيه ملوكًا. فبمَ يحلم أبناؤهم اليوم؟ الواقع أن "الثورة" الوحيدة التي يتشوق هؤلاء إلى إعلانها هي ثورة الاستهلاك!

فهل لنا اليوم أن نبدع مفهومًا جديدًا، أصيلاً، لحياتنا في المدينة؟


* صياغة نهائية لمداخلة ألقِيَتْ ضمن ندوة حول المدينة عقدتها "الجمعية الكونية السورية" في أواسط التسعينيات.

** كاتب ومترجم؛ محرِّر في مجلة معابر: www.maaber.org.