الآخر – ديمتري أڤييرينوس

الآخر؟ ولكن… هل هناك “آخر”؟!*

ديمتري أڤييرينوس

ديمتري أڤييرينوس

 

بدايةً، أشكر مجلة شباب لك على مبادرتها إلى طرح هذه المسألة الهامة: مسألة الآخر من منظار الذات.

منذ أن وعيت ذاتي وسط هذا العالم الغريب والرائع، وسؤالٌ ما انفك يطرق عقلي ووجداني طَرْقًا ملحًّا: “مَن أنا؟” ولا أبالغ إذا قلت إن قوام وعيي الشخصي لا يزال حتى اليوم مجبولاً بهذا السؤال!

لا ريب أن ثقافتي الأصلية المزدوجة (ولدت من أم سورية وأب يوناني) لعبت دورًا في تنبيهي إلى ضرورة تجنب الوقوع في فخ الإجابات الجاهزة عن مسألة الهوية والانتماء، فهيأتْني لحسمها سريعًا في نفسي. وقد قادتني تأملاتي، مدعمةً بمسح عام شامل للتراث الثقافي العالمي، الفلسفي والأدبي والفني والروحي، إلى إدراك وحدة جوهر الطبيعة الإنسانية فيما يتعدى تنوع مظاهرها اللانهائي.

يتصف جميع البشر، إذا قمنا بتشريح أجسامهم، بالبنية المادية نفسها؛ جميعهم تلدهم أمهاتُهم بعد حمل يدوم تسعة أشهر ومخاض عسير؛ جميعهم يولدون ويكدحون ثم يموتون؛ جميعهم ينامون ويستيقظون؛ جميعهم يَخبَرون طيف العواطف والمشاعر نفسه: يفرحون ويترحون، يحبون ويكرهون، يؤثرون ويتأثرون… كذلك الأمر على صعيد الأخلاق والقيم: فيما يتعدى الآداب الوضعية المكتسَبة محليًّا، ثمة منظومة أخلاقية إنسانية شاملة يتوافق عليها البشر (منها مبدأ الصدق، مثلاً لا حصرًا). وقل الشيء نفسه في نظرية المعرفة التي أسهمت فيها الحضارات جميعًا، متوصلةً، مثلاً، إلى المبادئ الرياضية نفسها: البرهان الرياضي هو الفيصل بين عالِمين في الرياضيات، مهما اختلف انتماؤهما الثقافي أو القومي.

هذا الاستقراء الشامل للمعرفة الإنسانية قادني بالطبيعة إلى اعتناق مفهوم المواطَنة العالمية الذي نادت به الفلسفة الرواقية منذ أكثر من ألفي عام: “المواطن الصالح” في بلده، الذي يريد الخير لهذا البلد، مواطن صالح في كل بلد، يريد الخير لكل إنسان. وقد عززتْ خبرة السفر هذا المفهوم عندي، إذ لم أجد نفسي “غريبًا” عن أي بلد زرته، بل وجدتُني أعقد صداقات متينة مع بشر من مختلف الجنسيات والثقافات، أرى فيهم جميعًا ذاتي في صور أخرى. من هنا، ليس هناك “آخر” في نظري، بل صورة أخرى للذات: “الصديقُ آخرٌ هو أنت”، كما يقول أبو حيان التوحيدي.

قراري بالبقاء في سورية جاء بمحض المصادفة عندما أتيحت لي فرصة عمل دائم فيها كمدرس للغة الفرنسية. ولما كنت أعتبر نفسي مواطنًا عالميًّا، كان الأحرى بي أن أكون مواطنًا صالحًا في البلد الذي يستضيفني (وبمعنى أوسع، جميعنا “ضيوف” على هذا الكوكب!). لذا لست، في نظر نفسي على الأقل، أقل “سوريةً” من أي سوري؛ وبالمعنى الثقافي الإنساني، لست أقل “عروبة” من أي عربي. لكني، في الآن نفسه، يوناني وهندي، فرنسي وألماني، صيني وروسي، بمقدار ما تمثلتُ في نفسي وعقلي من العناصر الإنسانية الخلاقة في الثقافات اليونانية والهندية والصينية والروسية إلخ. “أجد نفسي” في صحن دار دمشقية بمقدار ما أجدها متجولاً بين حارات حي پلاكا التاريخي في أثينا أو أمام كاثدرائية نوتردام في باريس إلخ؛ كذلك، أراني أغتبط لسماع موسيقى باخ بمقدار ما أتذوق عزف الأستاذ ولاية خان على آلة السيتار الهندية أو الأستاذ التركي قدسي إرگونر على الناي إلخ.

سورية بلد ينطوي على كمون روحي وثقافي مذهل، لا يزال ينتظر مَن ينقب فيه ويستخرج مكنوناته وينقلها إلى طور الفاعلية المبدعة، بعيدًا عن التغني الببغائي بالتراث الماضي. الشعب السوري، مهما قيل ويقال، شعب طيب في صميمه؛ وهذه الطيبة الأصيلة هي ثمرة تفاعُل قديم قِدَمَ تاريخه الغني بالتلاقح الحضاري الإنساني. إنها ميزة هائلة قلما ينتبه إليها المثقفون خارج الإطار الإعلامي السطحي.

تمر الحضارات، في صيرورتها، بأطوار من المدِّ والجَزْر – وهذا أمر طبيعي في منطق التاريخ. لكن ما أعيبه على السوريين – وهنا أجيز لنفسي النقدَ كـ”سوري” – هو ما يُعاب على حَمَلةِ أية حضارة أو ثقافة في طور من أطوار جَزْرها: هناك، عمومًا، تقاعُس عن الانفتاح على الحضارة الإنسانية الشاملة وارتكاس إلى التراث في قشوره، لا في جوهره. وهذا عائد جزئيًّا إلى الخوف من الذوبان في بوتقة العولمة (وأسُسها اقتصادية في التحليل النهائي) التي من شأنها أن تسطِّح تضاريس الخصوصيات الثقافية تسهيلاً لعبور مفاهيم موحَّدة تخاطب في الإنسان أشد ما فيه ضحالة على الصعيدين النفسي والفكري. لا بدَّ، إذن، من التمييز بين “العولمة” و”العالمية”: في العالمية تتلاقى الثقافات وتتفاعل، ويثري بعضُها بعضًا في العمق الإنساني الواحد، في منأى عن كل تلفيق أو توحيد ضحل.

من هنا فإن الرد الحقيقي على العولمة لا يكون بالانكفاء على الذات، ولا بالذوبان الأرعن، بل بالتنقيب في الثقافة الخاصة عما يخاطب فيها الإنسان – كلَّ إنسان – و/أو بإبداع ثقافة جديدة، عالمية من حيث عناصرُها، لكنها ذات لون محلي خاص. فكما أننا لا نستطيع أن نكون عالميين، إنسانيين، ما لم نسعَ إلى الكشف عما هو عالمي، إنساني، فينا، كذلك ثقافتنا، لا يمكن لها أن تكون إنسانية، عالمية، إلا باكتشاف ما هو إنساني، عالمي، فيها.

مأخذي الثاني على السوريين هو قصور وعيهم المدني. الإنسان السوري ذكي وناجح جدًّا في مبادراته الفردية، لكنه، عمومًا، فاشل على صعيد العمل المدني الجماعي. وهذا ناجم أساسًا عن عدم تبلور شعوره بالمواطَنة التي لا تكتفي، بالتعريف، بالخير الفردي، بل تسعى في تعميمه على المجتمع: المدنية من المجتمع كالفضيلة من الفلسفة. خارج ردود الفعل الانفعالية الناتجة عن استفزاز أو عدوان خارجي أو عن أولوية الانتماء إلى الأسرة أو الطائفة/المذهب، لا يزال السوري ضعيف الانتماء إلى وطنه ككل، قليل الحرص على نهضته وازدهاره. الشعب السوري، من غير تعميم، ليس كريمًا (ولا أعني هنا “الكرم” المادي): “كباره” لا يحيطون الشباب بالرعاية والتشجيع إلا فيما ندر، بل يحاولون تثبيط المواهب لدى سواهم، يُفسِدون إنجازاتهم بالتشبث بها وعدم تمريرها لأخلافهم، إلخ.

لكن الأمل معقود على تغيير جذري في مبادئ التربية السائدة – وأعني العمل على بناء جيل من المواطنين الشباب الواعين، المتجذِّرين في ثقافتهم الخاصة، المسلحين بثقافة عالمية حقيقية، والقادرين، بالتالي، على التفاعل مع أعمق وأجمل وأنبل ما يبدعه “الآخرون” وعلى الاستفادة منه ورفد خصوصيتهم به.

تماسُك أي مجتمع من تماسُك “عقده الاجتماعي” (روسو). ووحدهم الشباب السوريون الواعون، على ما أرى، قادرون على تدوين عقد اجتماعي جديد، على أسُس جديدة، من أجل وطنهم – وطني – سورية.

أخيرًا، لا يسعني إلا أن أتمثل في نفسي مقولة تيرنس القرطاجي، العبد السابق والكاتب المسرحي من القرن الثاني ق م: “أنا إنسان، ولا شيء إنساني غريب عني”!


* نُشِرَ هذا “الرأي”، بعد حذف بضع فقرات منه، في استفتاء أجرته مجلة شباب لك، العدد 14، حزيران 2006.