الذهن والفطنة – ج. كريشنامورتي

الذهن والفطنة*

ج. كريشنامورتي

ج. كريشنامورتي

 

نحن نتحادث حول طبيعة الذهن وقدراته الخارقة. إذ مافتئنا، نحن البشر، طوال الآلاف تلو الآلاف من السنين، نختزل هذه القدرة إلى حقل ضيق ومحدود للغاية. لقد اخترعتْ هذه الطاقة الذهنية الهائلة أشياء مدهشة من الناحية التكنولوجية: لقد ذهب الناس إلى القمر، واستكشفوا أعماق البحر، واخترعوا أكثر الأشياء شيطانية؛ وقد جلبوا كذلك منافع جمَّة في مجال الطب والجراحة. لكن هذه الطاقة الهائلة مافتئت تُقلَّص، يُحَدُّ منها، يُضيَّق عليها، حتى باتت حياتنا أساسًا – إذا رصدَها المرءُ عن كثب – حقل صراع، حقل نزاع، منطقة يتعادى فيها البشر، يدمِّرون بعضهم بعضًا؛ وهم لم يدمِّروا بشرًا وحسب، بل تراهم يسخِّرون الأرض والبحار أيضًا. فعل سخَّر يعني استخدام الآخر قهرًا للمنفعة الشخصية. وهذا التسخير يستمر في كل حقل من حقول الحياة.

ويتساءل المرء لماذا يعيش البشر بالطريقة التي نعيش بها: العراك، النزاع، البلبلة، البؤس التام والأسى، واللذة والأفراح التي سرعان ما تتلاشى. ترانا متروكين صِفْر الأيدي، مريرين، متهكمين، لا نؤمن بشيء، أو نلوذ بالتقليد. ولكن حتى ذلك التقليد بات الآن يفقد إحكام قبضته؛ وإذا اتفق لك أن ترصد عن كثب شديد، لرأيت الذهن يعيش الآن، ليس فيزيائيًّا وحسب بل أكثر بكثير نفسانيًّا، على الشروح والكتب والأسفار المقدسة، كالتوراة والإنجيل والقرآن. فماذا يحدث لذهن يعيش على الكتب، ليس في المدارس والمعاهد والجامعات وحسب، لكنْ دينيًّا أيضًا؟ (أستعمل كلمة ديني هنا بالمعنى العادي للكلمة.) عندما يعيش المرء بحسب الكتاب، تراه يقتات بالكلمات، بالنظريات حول ما سبق للآخرين أن قالوه. وعندما يعيش المرء على هذا النحو، لا بدَّ للتدهور أن يقع حتمًا. تراك تعود إلى الكتاب، كما تفعل الأديان المنظمة، وتستعمله بوصفه مرجعية – فظة، عقائدية، قاسية، مدمِّرة. تراك تعيش بحسب الكتاب، حسبما قاله الآخرون وتقبَّلتَه: الشروح، والشروح على الشروح، إلخ إلخ إلخ! وعندما تواجه هذه الحضارةَ، التي مضى على وجودها ربما ثلاثة آلاف سنة أو تزيد، أزماتٌ، فإنها تنهار. يقع التدهور والفساد على جميع أصعدة الحياة – گورو [معلِّمو] العصر الصناعي، رجال السياسة، رجال الأعمال، رجال الدين – والصرح برمَّته ينهار.

لقد سأل المرء مختلف الناس عن سبب هذا التلف، هذا التدهور، ولم يجد عندهم أيَّ جواب حقيقي. إنهم يعطونك أمثلة على التدهور، لكنْ على الرغم من أن المرء ناقش الأمر مع مختلف الپَنْدِت [الأساتذة] والاختصاصيين والعلماء، لا يبدو عليهم أنهم وجدوا جذر هذا التلف. لا أدري إنْ كنتم قد فكرتم في الأمر. فإذا كنتم خصصتموه بشيء من التفكير الجدي، ألا يصح القول إنكم عشتم على أفكار غيركم من الناس، مذاهب غيركم من الناس، معتقدات غيركم من الناس؟ وإذن، فالنتيجة، على ما يبدو، هي أنك حينما تعيش حياة مستعمَلة – حياة قائمة على الكلمات والأفكار والمعتقدات – فإن ذهنك، كلية ذهنك، تضمر بطبيعة الحال. وبكلمة ذهن هذه نعني جميع الحواس الفاعلة بردود فعلها العصبية، جميع الانفعالات، جميع الرغبات، المعرفة التكنولوجية، وتنمية الذاكرة، وهي مقدرة التفكير تفكيرًا واضحًا أو مشوشًا.

ما انفك الذهن يطلب تلك الجرثومة التي زرعها الإنسان منذ قديم الزمان والتي لم تتفتح قط: بذرة التدين الحقيقي تلك. فمن دون ذاك النوع من الدين لا يمكن لأيِّ حضارة جديدة أو ثقافة جديدة أن تكون. قد تنوجد منظومات جديدة، فلسفات جديدة، بنى اجتماعية جديدة، لكنْ سيظل النموذج نفسه مكرَّرًا من جديد المرة تلو المرة تلو المرة.

فماذا سنفعل إذن؟ أنت، بوصفك إنسانًا يحيا على هذه الأرض الرائعة، بجبالها ومناظرها الطبيعية الخلابة، ببحارها ومياهها… (وهذا ليس شاعرية، فأنا أشير إلى الأمر فقط.) ماذا بوسعنا أن نفعل معًا لنخترق هذا الوضع؟ أي لئلا نختلق منظومات جديدة: منظومات اجتماعية جديدة، مذاهب دينية جديدة، جُمَلاً جديدة من المعتقدات والمُثُل والعقائد، طقوسًا جديدة، لأن تلك اللعبة نفسها مافتئت تُلعَب من جديد المرة تلو المرة. إن إحداث عالم مختلف – إذا كنتم جديين أصلاً – يتطلب إيجاد صفة الطيبة. كلمة طيب تعني الكلية، عدم التفتت، عدم التجزؤ؛ الإنسان الطيب يتضمن انعدام حسِّ التجزئة فيه: إنه في ذاته تام، كلي، من غير أي حسٍّ بالنزاع.

نحن نستكشف معًا الشيء الذي هو أزمتنا الحالية – لا الأزمة الاقتصادية أو الاجتماعية وحسب، بل الأزمة في وعينا، في كياننا بالذات، لا أزمة منظومة جديدة، لا أزمة الحرب، إلى آخر ما هنالك من أزمات. إنها أزمة في كيان البشرية بالذات. وبأي وسيلة يمكن لهذا الوعي أن يتحول؟

ما الذي سيجعلك تتحول؟ أهي أزمة؟ مصيبة تحلُّ بك؟ الأسى؟ الدموع؟ لقد حدث ذلك كله، في أزمة تلو الأزمة. لقد ذرفنا الدموع بلا انقطاع، وما من شيء يبدو أنه يغير ما بالإنسان لأنكم تتكلون على سواكم للقيام بالعمل – على سادتكم، معلميكم [گورو]، كتبكم، أساتذتكم، على أصحاب النظريات الجديدة من أناسكم الأذكياء الماكرين. لا أحد يقول: “سأحاول أن أكتشف بنفسي.” فمع أن تاريخ الجنس البشري برمَّته موجود فينا، ترانا لا نقرأ كتابنا أبدًا! كل شيء مدوَّن فيه، لكننا لا نكلف أنفسنا المشقة أو نتجمل بالصبر والتقصي الدؤوب. ترانا نفضل أن نعيش في هذه الفوضى، في هذا البؤس.

فماذا سيجعلك تتغير؟ رجاءً، اسألْ نفسك هذا السؤال، احترقْ به، لأننا وقعنا أسرى العادة. بيتك يحترق، لكنك على ما يبدو لا تبالي. فإنْ لم تتغير أنت، سيبقى المجتمع على ما هو عليه. والناس الأذكياء يُقبِلون قائلين إن على المجتمع أن يتغير، ما يعني بنية [اجتماعية] جديدة؛ والبنية عند ذاك تصير أهم من الإنسان، كما برهنت جميع الثورات.

بعد النظر في هذا كله، هل ثمة تعلُّم، هل ثمة يقظة للفطنة، هل ثمة حسٌّ بالنظام في حياتنا، أم ترانا سنعود إلى الروتين نفسه؟ إذا كانت عندكم تلك الفطنة، تلك الطيبة، ذاك الحس بالمحبة العظيمة، إذ ذاك ستبدعون مجتمعًا جديدًا رائعًا تحيون فيه جميعًا حياة سعيدة. الأرض أرضنا، وليست الأرض الهندية أو الأرض الإنكليزية أو الأرض الروسية؛ إنها أرضنا التي بوسعنا أن نحيا عليها حياة سعيدة، ذكية، من غير أن نحزَّ رقاب بعضنا بعضًا! رجاءً، إذن، هَبْ قلبك وذهنك لتكتشف لماذا لا تتغير – حتى في الأمور الصغيرة. رجاءً، تنبَّهْ لحياتك. عندك مقدرات خارقة، وكلها بانتظار فتحك الباب.


* From the transcript of the tape recording of the third public talk in Madras, 29 December 1979, copyright ©1991 Krishnamurti Foundation Trust, Ltd.