لماذا “معابر”؟*
ديمتري أڤييرينوس
إلى روح أكرم أنطاكي الذي أحبَّ هذا النص
لماذا مجلة جديدة؟ ولماذا مجلة جديدة على الإنترنت حصرًا؟ ألا يلبي الحشد الحالي من المطبوعات الصادرة دوريًّا بالعربية، من المحيط إلى الخليج، الحاجات الثقافية والفكرية للمثقف العربي؟ ألا تكفي الصحف والمجلات الحالية لـ”تنوير” القارئ العربي وإحاطته علمًا بكل ما يجري في ميادين السياسة والاقتصاد والاجتماع والثقافة في البلدان العربية وفي العالم، ولاستيعاب النتاج “الإبداعي” للأدباء والمفكرين الناطقين بالعربية؟ أي خطاب يمكن أن يكون لدى فريق معابر (على افتراض أن لديهم خطابًا ما أصلاً)، وبِمَ يختلف خطابهم عن الخطابات المطروحة حاليًّا في “سوق الفكر”؟
لسنا هنا في صدد تقديم بيان نظري حول المنحى الفكري والثقافي الذي يتبنَّاه لفيف من الأصدقاء المتقاربين في أشواقهم وتطلعاتهم الإنسانية والروحية – على اختلافهم في قليل أو كثير من التفاصيل؛ كما أننا لا نزعم أن كل مَن شارك أو سيشارك في معابر سوف يتبنى هذا المنحى بحذافيره. كل ما يمكن لنا قوله هو إن معابر وليدة حاجة قديمة، عميقة لدى فريقها الحالي، إلى التواصل مع “الآخر”، المختلف بالضرورة، وإلى مشاركته خلاصة تأملاتهم وتبصُّراتهم ورؤاهم وفهمهم المتواضع للحياة بأبعادها كافة: السياسية (بالمعنى الأرسطي النبيل) والاجتماعية والثقافية والروحية إلخ، دون أي ادِّعاء بامتلاك الحقيقة، ولا حتى على الصعيد النسبي، وبالتالي، دون أي رغبة في الإقناع من أي نوع.
* * *
لقد وجد كلٌّ من هؤلاء الأصدقاء نفسه ذات يوم، وقد أراد أن يحقق إنسانيته، ضائعًا وسط حشد هائل من المتناقضات، عاجزًا عن الاستيقان من كل ما يطوِّقه من أفكار ومعتقدات ومذاهب ومناهج. لقد كان كلٌّ منهم – على اختلاف الخبرات والتجارب الفردية التي خوَّض فيها –، كلما تبيَّنت له معالمُ طريق ما، سرعان ما يتحول عنه، إذ لا يجد فيه، في التحليل النهائي، إلا التحجر والانغلاق والتعصب.
يومذاك، أدرك هؤلاء، كلٌّ بطريقته، علَّة مأساة الإنسان، وعرف أن الإنسان غالبًا ما يستسهل تقييد نفسه بالمعتقدات والمذاهب التي ينشأ عليها، ويستعذب الجمود في قوالب جاهزة تعفيه من مجهود التفكير الإبداعي ومن مشقة الاختبار الفردي. يُشرِطه المجتمع (طائفةً أو فئةً أو طبقة) بأحكامه وبالتربية الخاضعة لهذه الأحكام – تلك التربية الرهيبة المدمِّرة التي تبذر في الإنسان، منذ الصغر، كل الأنا المنتفخة للمجتمع، فلا يلبث، مهما كان رصيده الشخصي من انفتاح الذهن وقابليته للتفتح على إيقاعه الخاص، أن يصير حاملاً حيًّا-ميتًا لقيود مجتمعه وإشراطاته، متأهبًا، عند استنفاره، لتنفيذ أحكام الطائفة أو المذهب أو الفئة التي “ينتمي” إليها، مهما كانت تتناقض وشعورَه الإنساني العميق – حتى التدمير والقتل!
* * *
وشاهد الأصدقاء المشاركة السياسية والاجتماعية لغالبية الناس تقوم، في ذروتها، على تفويض الوهم الذي تحرص على تغذيته بخصوص مكانتها إلى أشخاص غير مسؤولين غالبًا، يستهويهم “عُصاب السلطان”، فيستعملونه باسم “الأغلبية”، لا في سبيل الخير العام، بل في سبيل مصلحتهم الخاصة و/أو مصلحة الفئة أو الطائفة أو المذهب أو اللوبي الذي يمثلون.
وشاهد الأصدقاء أيضًا فئة أخرى من البشر، وقد هالها المشهدُ المروِّع للبشرية المتخبِّطة في شقائها، تنفعل به وتشهق ألمًا. لكنها سرعان ما تحاول التملُّص من هذا الألم، أو ستْرَه، أو الاحتيال عليه، بالانخراط في جماعة ما ناشطة في وضع برامج للإصلاح أو التخطيط للثورة.
لقد أدرك الأصدقاء أن جلَّ ما يؤدي إليه مثل هذا الانخراط هو عزل الأفراد عن الواقع الحي، والتهدئة من روعهم، والحؤول دون وقوف كل منهم وقفة صدق مع نفسه من شأنها أن تُشعِره بحصَّته من المسؤولية عما وصلت إليه حالُ العالم ككل.
أدرك الأصدقاء، إذن، أن التماهي مع جماعة – أي جماعة – هو بمثابة “مخدِّر معنوي” (التعبير لميخائيل نعيمه) يغيِّب المشكلة نفسها، ويوهم أن الحلَّ بات “قاب قوسين أو أدنى”، فيدفع المتماهين مع عقيدة الجماعة إلى الدَّوس، بكلِّ تفانٍ وإخلاص، على كل ما و/أو كل مَن يذكِّرهم بلاجدوى مساعيهم، متدثِّرين بيوطوپياتهم، مشيِّدين الصروح السياسية والاقتصادية والاجتماعية والعقائدية التي يتوهمونها غير قابلة للصدأ، لكي يقفزوا منها، يومًا ما، إلى “أرضهم الموعودة”. بيد أن هؤلاء، إذ يشعرون بالشك يقف لهم دومًا بالمرصاد، مختبئًا بين ثنايا حلولهم الوهمية، يبذلون ما في وسعهم لـ”تقنينه” أو يُعْمِلون أدمغتهم في ابتكار أنجع الوسائل وأسرعها لتناسيه أو الهرب منه. وهل من وسيلة للهرب من الشك أنجع من تدعيم الصرح المتداعي لليقينيات الواهية والممتلكات الزائلة والأمن المزيف؟!
هكذا خرج كل واحد من أصدقاء معابر بنتيجة مفادها أن البحث عن مخرج أو عن خلاص من هذا الوضع الاختزالي للكيان الإنساني متعذر مع بقاء هذه القيود والإشراطات، خاصة بوجود هذا السيل المتراكم من المعلومات التي تبقى للأكثرية الساحقة من البشر المصدر الرئيس لقراءة الواقع وفهمه، والتي كثيرًا ما تكرِّس الانغلاق والتعصب والتحجر.
* * *
لكن الإنصاف يدعو هؤلاء الأصدقاء إلى الشهادة لوجود “سلالة” جديدة من البشر، يتمتع بعضهم بعلم واسع، بينما لم يدخل بعضهم الآخر مدرسة – بشر بسطاء القلب، يحيون في قلب هذا العالم، لا يميِّزهم عن سواهم غير قلب نقي ووجه وضَّاح مشرق بنور الألوهة، يشعرون بألم هذا العالم شعورًا يجعلهم يغوصون فيه حتى الجذور، واعين أن ما من يوطوپيا، ما من منهج جاهز، ما من معتقد، ما من مذهب، ما من مخدِّر إيديولوجي، ما من مفرٍّ “صوفي”، من شأنه أن يروي ظمأهم إلى الفهم والعمل. وبدلاً من أن يحلموا بوصفة عجائبية تبدِّل واقع حالهم، أي ألمهم، إلى ما “ينبغي” أن يكون، أي سعادة البشرية الموهومة؛ بدلاً من أن يلجأوا إلى مثال من بنات مخيِّلتهم ويتعبدوا له، وبالتالي لأنفسهم؛ بدلاً من أن يندبوا مصيرهم ومصير البشرية التعس؛ بدلاً من ذلك كلِّه، يجلس هؤلاء البشر، بهدوء وبروية، ويتفكرون…
أجل، يتفكرون، منطلقين في الرحلة الكبرى، رحلة استكشاف مضامين وعيهم وجذور ألمهم، مسترشدين بمكتشفات الآخرين حينًا، متجاهلينها أحيانًا، مناقشين المذاهب كلها، والمحرَّمات كلها، والمقدسات كلها، والأنبياء والمعلِّمين كلهم، ضاربين عرض الحائط بالوصفات الجاهزة جميعًا، السياسية منها والفلسفية والأخلاقية والدينية، غير مكتفين بـ”الحقائق” الممضوغة المستهلَكة، رافضين كل سلطة – ما خلا سلطة الروح، معتذرين عن ممارسة أي سلطة – ما عدا سلطة الضمير الحي. هذه الحفنة من “المساكين”، الموسومين غالبًا بالجنون، هي “ملح الأرض”، هي خميرة عالمٍ جديد، عالمٍ بلا حدود، بلا مصالح، بلا طبقات، بلا عنصريات، بلا قوميات، بلا مذاهب، بلا تحزُّبات، عالمٍ خالٍ من العنف، تبلغ فيه الإنسانية سنَّ رشدها.
ويدرك الأصدقاء، كلٌّ بخصوصيته، أنْ وحده الإنسان الواقف بمفرده، وقد نفض عنه أوهامه القتَّالة كلها، عميق الثورية وعميق التديُّن؛ وحده الإنسان المتجرِّد من كل انتماء عقائدي ضيق، من كل تماهٍ نفسي مع الممتلكات المادية والإيديولوجية والمذهبية، إنسان قادر على المشاركة الحقيقية في خطِّ مسيرة الإنسانية. وإن البشرية اليوم، أكثر من أي يوم مضى، لفي أمسِّ الحاجة إلى مثل هذا الإنسان وإلى مثل تلك المشاركة.
* * *
ويلوح أيضًا للأصدقاء أن ميدان الحرب الممتد، بواسطة وسائل الدمار الفائقة التطور، على وجه المسكونة بأسرها هو محصلة الإسقاط الخارجي لصراعاتنا الداخلية، لمخاوفنا، لبحثنا عن أمان زائف، لطموحنا الذي ليس إلا اسمًا آخر للجشع، لشهواتنا التي لا تعرف الشبع، لكراهيتنا وكبريائنا وغباوتنا، إلخ – وبذلك يدركون أن كل واحد منهم مسؤول شخصيًّا عما يجري في العالم. إنهم يعون الآن أنهم، ماداموا لم يفهموا هذا المسؤولية الشاملة ويتحمَّلوها، وماداموا لم يشعروا بما تنطوي عليه أفعالهم وخياراتهم الأنانية من نتائج، ومادامت أسس سلوكهم نفسها لم تتصدع من جراء هذا الوعي وتلك المسؤولية، فيحيوا، على هديهما، بمحبة وبفطنة – فطنة القلب، لا الذهن –، ماداموا لم يفهموا، ولم يشعروا، ولم يتحمَّلوا مسؤوليتهم، ستبقى الأدوية كلها أسوأ من الداء نفسه!
* * *
هكذا أراد لفيف الأصدقاء، ورفاق لهم، عربًا وغير عرب، أن يُشركوا قارئهم الافتراضي في نتائج بحثهم – المؤقتة – في ميادين اهتمامهم المختلفة، من فلسفة وعلم وأسطورة وبيئة ودين وطب وشعر وقصة إلخ، محاولين، كلٌّ بحساسيَّته الخاصة، أن يعبِّر عن خبرته الشخصية وذائقته الخاصة وسعيه الفردي إلى التكامل الداخلي والفهم. لكن القارئ الأريب لا بدَّ له أن يلحظ أن هناك، فيما يتعدى التعبيرات والخبرات والذائقات المختلفة، خيطًا خفيًّا ينتظم خرزات معابر، بحيث يخرج زائر الموقع بانطباع إجمالي نأمل أن يكون واحدًا – وواضحًا – يكون له زادًا على طريقه الشخصي، الفريد، في الحياة.
هذا “الخيط”، لن نحدِّده الآن، بل سنترك للزائر تلك المهمَّة.
* * *
أخيرًا، نجيب عن السؤال: لماذا على الإنترنت حصرًا؟ – ببساطة، لأن استخدام الفضاء السيبري cyberspace يتيح اليوم حرية في الانتشار لا تتيحها الطريقة التقليدية في النشر – هذا أولاً؛ وثانيًا، لأن الإمكانات المادية للأصدقاء لا ولن تسمح لهم بأكثر من هذا، في المستقبل المنظور على الأقل.
* * *
يبقى أن نشكر الأصدقاء والرفاق الذين أسهموا بجهدهم الفكري والفني في إخراج هذا الإصدار إلى النور، ولاسيما الصديق أكرم أنطاكي الذي تجشم بمحبة مشقة بناء الموقع نفسه.
* افتتاحية إصدار معابر (www.maaber.org) الأول، تشرين الثاني 2000.