الاتزان الداخلي – ديمتري أڤييرينوس

الاتِّــزان الداخـلي

ديمتري أڤييرينوس

ديمتري أڤييرينوس

 

اليوگي المنضبط الذهن والمتَّحد بـالذات، محافظًا على اتِّزانه
دومًا، يصل إلى السلام، النرڤانا الأقصى، مقيمًا فيَّ.

حقًّا إن هذا اليوگا ليس لِمَن يفرط في الأكل أو يفرط في الصوم،
ولا هو، يا أرجونا، لِمَن يفرط في النوم أو يفرط في السهر.

أما المعتدل في الأكل وفي الراحة، المعتدل في تأدية الأعمال، المعتدل
في النوم وفي اليقظة، فنصيبه اليوگا الذي يخلِّص من كل شقاء.

عندما يرسخ ذهنُه المنضبط في الذات وحدها، متحررًا
من أغراض الرغبة كافة، إذ ذاك يقال عنه إنه متَّزن.

كما المصباح الذي في منأى [من الريح] لا تتراقص شعلته،
كذلك ذهن اليوگي المنضبط لا يحيد عن يوگا الذات.

بهگڤدگيتا، 6: 15-19

 

ونحن نطأ درب الحياة الروحية، ترانا في أمس الحاجة إلى الاتِّزان. ولعل الأصح من هذا قولنا إننا في حاجة إلى الاتِّزان التام؛ إذ وحدها حال اتِّزان داخلي مستتب تفسح في المجال لرؤية كل ما نواجه في الحياة رؤية موضوعية وتتيح لنا إمكان العمل السليم. تصرِّح الـبهگڤدگيتا – كتاب الحكمة الهندي الذي كثيرًا ما نقتبس منه في مقالاتنا لأنه منجم نفيس من مناجم الحياة الروحية –، على لسان كرشنا، بأن “الاتِّزان هو اليوگا”. فمن دون اتِّزان، يغيم الإدراك ويفتقر إلى الوضوح، فنصير نهبًا للبلبلة والقلق والحيرة، وتسوء أمور حياتنا من جراء ذلك، ولا نفهم لماذا! أسفار الأوپنشاد تتكلم هي الأخرى على الدرب “الشبيه بحدِّ الموسى”، والإنجيل يذكر “الباب الضيق”، وفاتحة القرآن الكريم تطلب الهداية إلى “الصراط المستقيم” – وكلها عبارات تشير إلى المفهوم ذاته.

حتى ما يُسمى “فضائل” لا بدَّ فيه من الاتِّزان؛ إذ إن الإفراط في فضيلة ما لا يلبث أن ينقلب إلى ضدِّه ويصير تفريطًا: فلنتخيل شخصًا، من فرط كرمه، يوزع ماله يمنة ويسرة، فلا يستبقي لنفسه وعياله شيئًا يقوم بأودهم، حتى يصير عالة على الآخرين ويرهق مواردهم. لا مناص إذن، بالضرورة، من الجمع بين كرم النفس وبين حسٍّ يقظ بـ”الانتهازية”، معقول ومتجرد من المصلحة الشخصية. الاتِّزان الحقيقي ليس التأرجح ذات اليمين وذات الشمال بين الجذب والدفع. فكما تشير الـبهگڤدگيتا، ليس الحكيم صاحب “الذهن المستقر” (ستهتا-پرجنا sthita-prajñā) مضطربًا ولا منفعلاً، ولا هو ينجذب إلى شيء وينفر من شيء؛ إنه دومًا “راسخ في الذات” (آتمن Ātman)، وبالتالي، غير مضطرب داخليًّا، بل هادئ، حتى وهو منهمك في غمرة العمل.

جاء في كتاب الحكيم الهندي پتنجلي آيات اليوگا Yoga-Sūtra (الذي كان أبو الريحان البيروني أول مَن عرَّبه عن السنسكريتية مباشرة) أن الجذب (راگا rāga) والدفع (دڤِشا dwesha؛ يقال باللهجة الشامية: دفش، أي “دفع”)، الانجذاب إلى شيء والنفور من شيء، هما في عداد “البلايا” (علل الشقاء) الخمس (2: 3). أصل المشكلة إذن في النفس، لا خارجها. الكون المتجلي بأسره أشبه بمجال تظهر فيه مختلف الأغراض التي تجذب وتدفع: إنها لعبة الروح والمادة، الذكر والأنثى، الحق والباطل، الخير والشر، وسائر الأضداد. الناس تجذبهم الأشياء التي يظنونها صالحة، كما تدفعهم الأشياء التي تبدو لهم طالحة. فمَن يهتم بكسب الماديات يظن أن في اقتناء الأشياء صلاح أمره؛ فكما قال بعض فلاسفة الإغريق، لا يعي مقترف الشر أنه يسيء الفعل، بل يظن أن فعلته ستنوِّله ما يصلح له – لكن مشكلته هي جهله أصلاً بالتمييز بين الصالح له وبين الطالح. في أشواط معينة من الحياة البشرية، ينجذب الذهن إلى الماديات، وفي شوط لاحق، يكون جذب الروحانيات أشد. لكن الحياة الروحية الحق تبدأ فعلاً حين يكف كل انجذاب إلى الأشياء والملذات، “مادية” كانت أم “روحية”، فيتشوق المرء إلى اختبار الحقيقة لوجه الحقيقة وحده.

* * *

في السنوات السابقة لإشراقه، ألزم البوذا نفسَه نظامًا تقشفيًّا شديد الصرامة، راجيًا منه بلوغ الانعتاق الروحي النهائي. غير أن الرياضات الزهدية القاسية التي انصرف إليها ما لبثت أن أنهكتْه، حتى هَزُلَ جسمه وخارت قواه. وذات يوم، بينما هو جالس على جانب الطريق متفكرًا في ما ينبغي له أن يفعل، أقبلت ثلة من المغنين والراقصين. وفجأة، غنَّت امرأة، يرافقها عازف سِتار (آلة وترية هندية)، هذه الكلمات القَدَرية (المقبوس من كتاب نور آسيا لإدوين أرنولد، سيرة البوذا المنظومة شعرًا):

ما أجمل الرقص حين يكون الستار موقَّعًا!
وقِّعْ لنا الستار لا في القرار ولا في الجواب،
فنرقِّص قلوب البشر.

الوتر المفرط الشدِّ ينقطع والموسيقى تتلاشى،
والوتر الرخو أبكم والموسيقى تموت.
وقِّعْ لنا الستار لا في القرار ولا في الجواب.

سمع البوذا في هذه الأبيات من فوره رسالة أتتْه في أوانها لتنبِّهه إلى الخطر الكامن في غلوِّه، فبانت له ضرورة الاعتدال في كل شيء، حتى في السلوك نحو الإشراق الداخلي؛ وهذا الموقف المتَّزن حيال مآتي الحياة هو ما أطلق عليه فيما بعد اسم “الطريق الوسط”: لا الانقياد الأعمى لشهوات الجسد والحواس، ولا قهر الجسم وتعذيبه. ونجد الفكرة نفسها في كتيِّب عند قدمي السيد الذي ينصح بمعاملة الجسم معاملة الجواد الكريم: لا إهماله، ولا تركه ينفر إلى الحال البرِّية!

يصرُّ بعض كتب الزهد على نهي الناس عن طلب الملذات الحسية بإعطائهم “وصفات” قهرية للجسد. معلوم أنه ما إنْ يموت الجسم حتى تبدأ أعضاؤه بالتفسخ ويزول جماله. ففي الجسم الحي – أكان جسم إنسان أو حصان أو حتى عصفور – لا يختلف اثنان أن العينين من بين أجمل العناصر، من حيث قدرتهما التعبيرية الآسرة؛ ولكنْ حين تفارقه الحياة، تبدو العينان إيَّاهما كامدتين وتعدمان كل بريق وفتنة. أعضاء الجسم الأخرى أقل فتنة من العينين؛ ولذلك فإن “الوصفات” السابقة تلفت النظر إلى الأحشاء وغيرها من المظاهر المنفرة (جاء في المأثور: “أوَّلُك نطفة مَدِرَة وآخِرُك جيفة قذرة…”!) بدعوى الحض على التواضع وعدم الاستكبار. لكن هذه نظرة متطرفة، محدودة، لا تحترم شرف الإنسان ومنزلته الفريدة من الطبيعة والكون. في المقابل، يقول بعض اللاهوتيين المشرقيين بأن مرتبة الإنسان أعلى من مرتبة الملائكة، لا لشيء إلا لأن له جسمًا!

على الضدِّ من تلك النظرة المزدرية، يورد العلم البراهين تلو البراهين على الروعة المتجلية في الجينات وجزيئات الپروتين والخلايا الحية وسائر أعضاء الجسم. هناك أجهزة لا عدَّ لها، مرئية وغير مرئية، تعمل سوية في تناغم وفطنة دقيقين لإنجاز وظائف الجسم ككلٍّ واحد منسجم. فكيف تعرف هذه الأجهزة كيف تعمل سوية على هذا النحو المتسق الدقيق؟!

وإذن، فإن الجسم، في وضعه الراهن، هو محصلة كلا هذين الوجهين معًا: تراه يتلف تلفًا متواصلاً، ما يعني أن جذر الهرم والبلى موجود فيه، حتى عندما يبدو في صحة طيبة – إنه فعل الإنتروپيا entropy المبدِّد، وفقًا لقانون الثرموديناميكا الثاني الذي ينسحب على الطبيعة إجمالاً؛ وفي الوقت نفسه، هناك جمال خارق في اتساق أجزاء بنيان الجسم وفي سرِّ سلوكها الذكي والتناغم فيما بينها (وهذا لا يسري على الجسم البشري المعقد وحسب، بل وحتى على جسم البعوضة أو البرغوث الضئيل). مَن يمارسون التقشف يحسون بنفور من الجانب “المقزز” من الجسم، بينما يبلغ سواهم من الافتتان بجماله حدَّ اختزاله إلى مشكل جنسي حصرًا.

بالمثل، فإن الذهن يبدي هو الآخر جوانب منفرة حين يكون فريسة الغضب أو الشهوة الجنسية الجامحة أو الأنانية. غير أن هذا الذهن إيَّاه قادر أيضًا على استقبال كشوف فهمية ثاقبة؛ لا بل إن في مستطاعه حتى أن يعكس حكمة عالية. وقل الشيء نفسه في العاطفة ورغباتها: حين تكون متَّزنة، تراها تعكس المشاعر النبيلة الراقية، وحين تكون غير ذلك، تتحول مشاعرها السوية إلى انفعالات ورغباتها المعتدلة إلى شهوات.

شعور المرء أنه واقع تحت سلطان “المعصية” أو “الخطيئة” يغذِّيه بعض الأديان التي تحض على “الندم”، وذلك لكي تبقي المتديِّن خاضعًا لمرجعية رجال الدين الذين يحرصون على احتكار البتِّ في مسائل الأخلاق! ومنه، فقد اعتبر اسپينوزا الندم “خطيئة” في حق الحياة الإنسانية، فقال في كتابه الأخلاق إن “النادم على ما فعل يشقى مرتين” (4: 54)، لا لأن انفعال الندم ليست له قيمة أخلاقية وحسب، بل ولأنه يخفف عن “ضمير” النادم، بإيهامه أنه أصلح خطأه، فيبقيه في حال من الغم والإحساس بالعجز وفقدان المبادرة، بما يحول بينه وبين التمتع ببهجة الحياة الحرة وفاعليتها بإرشاد من العقل، ميزان الفضيلة الحق بنظر الفيلسوف الكبير. لكن هذا الانفعال السلبي (الندم) لا يتولد أصلاً إلا كردِّ فعل على أسوأ جوانب العاطفة، حين يغالى فيها، أو تستأثر بالمعطوف عليه، أو ترتبط بمصلحة معينة (كما يبيِّن أستاذنا ندره اليازجي)، في حين أن الواعي أبعادَ العاطفة وطبيعةَ صلتها بالإنسان الباطن وإمكاناتِها العظيمة يراها من منظار مختلف، إيجابي.

فهل لنا أن ننظر إلى ملَكات الإنسان وجوارحه من غير تحيُّز؟ يبدأ الفهم الحقيقي من خلال رصد دائم، غير منحاز، للجسم الجُرمي، بأحاسيسه، وللجسم الرغائبي، بمشاعره، وللجسم الذهني، بخواطره، وللتفاعل المتواصل بين ثلاثتها. بوسعنا عندئذٍ أن نرى، في آنٍ معًا ومن غير إدانة، الجوانب الجاذبة والمنفرة عند الأصدقاء والغرباء، في الملذات (المزعومة) أو في المُلمَّات (المزعومة أيضًا) على حدٍّ سواء – وعندئذ فقط نبدأ في رؤية الكل واحدًا غير مجزأ.

* * *

للحياة على الأرض، هي الأخرى، مظهران. ففيها الكثير الكثير من الوقائع المؤلمة: كأنْ ينقضَّ الغراب على السنجاب ويُعمِل فيه منقاره حتى ينفق الحيوان الصغير المسكين؛ كأنْ يربض الهر أمام الفأرة، فيشلها رعبًا ويلاعبها قبل أن يقتلها؛ إلخ – وهذا كله جزء من مظاهر الحياة التي تقتات بذاتها. يقال إن البوذا عاين في شبابه أن جميع المخلوقات يقتتل بعضها مع بعض. فـ”الصراع على البقاء” (بالمعنى الدارْوني)، من جانب، يغرس في وعي المخلوقات (الغريزة) الوحشيةَ والتنافسَ وسواهما من الصفات “المكروهة” من وجهة النظر البشرية؛ ويبدو أننا، معشر الآدميين، ورثناها في جيناتنا عن أصولنا الحيوانية، حتى انتهت إلى ما يُعرف عند علماء الاجتماع بـ”الدارْونية الاجتماعية”!

غير أن للحياة وجهًا آخر أيضًا: جمال الطبيعة الخارق – الأزهار والنباتات والأشجار، الدواب والطيور، الأسماك والحيتان، الجبال والوديان، الأنهار والبحار، حركة الفصول، تشكيلات الغيوم عند شروق الشمس والغروب، السماء الليلية المرصَّعة بالكواكب والمجرات، إلخ – وهذه كلها تذهلنا عن أنفسنا حتى الانخطاف! هناك في الطبيعة جانب هو من الشساعة ومن الجمال الفائق للخيال بحيث إن منبع ذلك كله ممجَّد في العديد من القصائد والأناشيد الملهمة. ولما كان مظهرا الحياة هذان موجودين كليهما، فإننا إما أن نتفجع حين نبصر منظومة هي بكل هذا القهر للضعيف، وإما أن نشعر بالتسامي أمام تلك الخوارق المذهلة.

* * *

وعي الإنسان العادي، نتيجة تركيزه على الثنائية، يتنازعه هذا النوسان بين المرغوب والمكروه؛ وهذا من شأنه أن يوقعه في الحيرة واضطراب النفس. لكن الوعي المتَّزن راسخ في مستوى عميق يُدرَك منه كلُّ شيء بوصفه جزءًا لا يتجزأ من كلٍّ واحد غير منقسم. ذاك المستوى هو مستوى الحقيقة الكلية الذي ينعدم فيه التضاد بين الحق والباطل، بين الخير والشر، إلخ. كل ما هو حق، مطلقًا، خيِّر؛ والمطلق أبعد من مطال هذه التصنيفات الضدِّية الضيقة. والسير على الدرب “الشبيه بحدِّ الموسى” يعني التوجُّه الحثيث نحو عمق الوعي هذا – إنه، في المآل، درب من السكينة العميقة المطمئنة التي هي أبعد ما تكون عن الهدوء السطحي القلق الكئيب.

فهل لنا أن نتعلم التقليل من تأثُّرنا بحركتَي الجذب والدفع اللتين تسيِّران عالم الثنائية، وصولاً إلى الاتِّزان الداخلي؟ والسؤال الأهم هنا هو: هل هاتان الحركتان موجودتان في العالم أصلاً، أم أنهما مجرَّد انعكاس للإدراك الواهم لذهن قلق منقسم على نفسه؟

سؤال نترك الإجابة عنه للقارئ…