ريشة في مهبِّ الريح
ديمتري أڤييرينوس
من المهد إلى اللحد، أطلب العلم والمعرفة والفهم. لكن علمي كله، معرفتي كلها، فهمي كله، ليس، في التحليل النهائي، غير طريقة ناجحة للعيش والارتزاق، وسيلة ناجحة للتكيف مع المجتمع، إنجازات ناجحة في أعين الناس. كل العلم الذي يملأ رأسي وأتشدق به، كل المتاح لي من المعرفة والفهم، قواي الفكرية والذهنية كلها، ذاكرتي برمَّتها التي لا يضيع منها أدنى تفصيل، قدرتي على الانتباه والرصد، … – هذه كلها غير ذات فائدة تُرتجى في اصطحابي إلى ذاتي الأعمق، ينبوع الفرح والسلام.
حتى أحطم جدار الفصل – توهُّم وجودي المنفصل –، محتضنًا الكون بأسره بوصفه ذاتي، حتى أختبر وَجْدَ الوحدة وأشعر بغبطتها، حتى أعرف معرفة مباشرة، دون توسُّط الفكر والذاكرة، بأثرهما المحدِّد والمحرِّف، لا مناص لي من اكتشاف ذاتي الأعمق ومن اعتناقها. يقتضي النهوض لذلك إيمانًا غير محدود، صبرًا لا ينفد، لطفًا وتواضعًا عظيمين. معرفتي عبء؛ ذاكرتي عائق؛ مقتنياتي متاع لا نفع منه؛ رغباتي سلاسل تكبِّلني؛ استئثاري سمٌّ زعاف؛ فكري شبكة مفاهيم أتخبط فيها؛ أحاسيسي حزمة أوهام خادعة؛ شعوري حليف لا يعوَّل عليه؛ حساباتي موروبة؛ توقعاتي يكذِّبها الواقع…
أما استكشاف مضامين وعيي فهو لقاء دائم مع المجهول. وفي هذا اللقاء المتجدِّد، أراني أستشفُّ ذاتي الأعمق وألامِسُها. مع ذلك، ليس ثمة “أنا” تطلب هذا اللقاء وتتذكره بوصفه لها – إذ إن جدار الفصل يسقط، ووَجْدُ الوحدة يُستشعَر مع كل نَفَس.
في هذه الوحدة التي تتخلَّل الكون بأسره، حيث جدار الفصل لا يعود يختلق صراعَ الأنيَّات، محدوديةَ الإدراك، نزاعَ التقسيم، خوفَ التجزئة، … – في هذه الوحدة الخارقة إيَّاها، هل أنا إلا ريشة في مهب الريح؟!
لا أدري من أين أتيت، ولا إلى أين أذهب. مع ذلك، فإن ثمة، في كل لحظة، نورًا وسلامًا غامرين. كل لحظة مترعة بالمحبة، حرَّة من القلق والخوف. ليس ثمة نزاع في ذهني ولا بلبلة؛ ليس ثمة ذاكرة قابعة لغربلة إدراكي للَّحظة الحاضرة واختزاله. ليس بوسع أي نزاع أو كره أن يمسَّ قلبي. ليس ثمة شعور بامتلاك شيء، لكني أختبر كل شيء بوصفه لي. لا أحد غريب عني، لكني لا أستأثر بأحد بتاتًا. أبتسم لفرح الآخر، لكنْ ليس هناك ما أكسبه. أشارك الآخر ترحه، لكنْ ليس عندي ما أخسره.
لا أتشبث بالحياة، ولا أخشى الموت. لا أطلب المجد، ولا أزدريه. يمتثل كلٌّ من جسمي وشعوري لفطرته، فيما يكتفي ذهني برصد الوقائع شاهدًا. لا تهزني الضرَّاء، ولا أنتشي بالسرَّاء. ومع ذلك، هل أنا إلا ريشة في مهب الريح؟!
في صيرورتي واحدًا مع الكون قاطبة، ليس ثمة مقاومة للحياة ولا للموت، ليس ثمة صراع أو تعلُّق. ثمة سهولة لا جهد فيها في الحياة والحب، في العطاء والموت. غير أني، في هذا الوَجْد وهذه الغبطة الهائلين، لست إلا ريشة في مهب الريح.
أصرف سحابة حياتي متعلمًا الصراع في سبيل البقاء. فهل يضمن لي علمي وصراعي البقاء؟! هل أنا، وسط هذه القوى الرهيبة، المعقدة، المحتدمة على كوكب الأرض، وسط المتحولات بغير عدٍّ التي تعيِّن محصلة أي وضع بعينه – هل أنا، وسط هذه كلها، إلا ريشة في مهب الريح؟!
الحياة وعيٌ مطلق واحد، ذات واحدة غير مقيَّدة، لا تهزُّها البأساء ولا الموت. أنا الفطنة اللانهائية، الطليقة من قيود الذاكرة والفكر. أنا الطاقة النابضة في كل قلب والمُحْيِيَة كلَّ نَفَس. ومع ذلك، ما أنا إلا ريشة في مهب الريح.
خبرة الوحدة هذه أبعد من كل طريقة أو نهج أو مسار. إنها تتعدى الكلمات والمعلِّمين، ولا تتحقق بالرغبة أو بالجهد. إنها أبعد من متناول الفكر وخارج قبضة الزمن؛ أبعد من المذاهب والمعتقدات، أبعد من العمل والإنجاز، أبعد من الإرشاد والخرائط، أبعد من الإشارات والتأويلات والتفاسير… أبعد من الأبعد. ومع ذلك، فهي أقرب إليَّ من نفسي لأنها ذاتي الأعمق. لا يمسُّها أعظم الأفراح والأتراح، لكنها منبعها جميعًا. تراها لا تتأثر بالقوة أو بالضعف، لكن كلاهما ينبثق منها. لا يمكن لي إيجادها في أي مكان، لكنها ذاتي الأعمق.
الجبال والأنهار والمحيطات تعكس ذاتي، ضياء الشمس والقمر مجرَّد ومضات في نوري، الكون قاطبة هو ذاتي… لكني، مع ذلك كله، لست إلا… ريشة في مهب الريح!
2005