“الماديَّة الروحيَّة” والروحانيَّة
ديمتري أڤييرينوس
الأنا المادية والذات الروحية لا يمكن لهما أن تلتقيا أبدًا،
وعلى إحداهما أن تتوارى، لأنه لا مكان ثمة لاثنين.
هـ.پ. بلاڤاتسكيا، صوت الصمت
لا بدَّ أن بعضنا قد تناهى إلى سمعه التصريح المنسوب إلى الكاتب وذوَّاقة الفن أندريه مالرو في أواخر ستينيات القرن الفائت: “القرن الحادي والعشرون سوف يكون روحيًّا spirituel (وبعضهم ينقل عنه قوله: “صوفيًّا” mystique) أو لن يكون!” فما مقدار معقولية نبوءة المفكر الفرنسي، بقطع النظر عن صحة نسبتها إليه؟ وماذا ترانا نعاين في واقع عالم اليوم، نحن الذين حَبَتْهُم الأقدارُ أن يكونوا من أبناء هذا القرن الوليد؟
إذا تفحَّصنا جادِّين مجريات الأمور في العالم إجمالاً، لا مناص لنا من الاعتراف بأن الأمل المعقود على العلم والتكنولوجيا قد خاب خيبة مروعة. فعلى الرغم من التقدم الباهر الحاصل في هذا المضمار، ولاسيما في مجال تقنيات الاتصال، وعلى الرغم من التحسن الملحوظ في متوسط مستوى المعيشة لدى مجتمعات بلدان الشمال (في مقابل تراجُع مساوٍ فيه لدى مجتمعات بلدان الجنوب)، وبصرف النظر عن الأزمة الاقتصادية الحالية، من المؤكد أن العلم والتكنولوجيا لم يفيا بالوعود التي لوَّح بها أصحاب المذهب العلموي scientism، فلم يمنحا البشر السعادة المنشودة، ولم يلبِّيا حتى الهاجس الأمني الذي لا تزال تهجس به غالبية الدول – بحيث إن العالم، بعد أن شهد شططًا في اتباع المذهب العقلاني rationalism، بات يشهد طامة لاعقلانية irrationality تُطلَق عليها اليوم، بكل صفاقة، تسميةُ “روحانية” spirituality!
لا يجوز لنا إنكار ظهور تيار روحي قوي بين أبناء هذا الجيل. لكن هذا التيار، في الغالب الأعم، إما يُجيَّر لصالح الطائفية والتعصب الأعمى (بالأخص لدى الفئات الفقيرة المهمَّشة من المجتمع التي يسهل على “الكبار” التلاعب بغرائزها)، وإما يُحرَف عن مساره حرفًا حاذقًا نحو ما أسماه المعلم البوذي التيبتي تشوگيام ترُنْگپا “المادية الروحية” spiritual materialism، قاصدًا بها تفتيش الناس، في نوع من التديُّن الرخو والشغف المَرَضي بالغيبيات، عن الراحة النفسية والأمان اللذين عجزوا عن العثور عليهما في الترف المادي.
كل إنسان فهو لا يني يسعى إلى السعادة، فيجعل منها دينه وديدنه. إنه، إذ لا يعي أن الغبطة هي كنه طبيعة الإنسان الأصلية، تراه يفتش عنها خارج ذاته: في تكديس الخيرات المادية، في السلطان وما يرافقه من نفوذ، في مراكمة المعلومات، في استدرار تقدير الآخرين وعطفهم، إلخ. إن مثل هذا المسعى لا يُرضي صاحبَه أبدًا، لأن المرء فيه قلما يكتفي بما عنده، فلا ينفك يطلب المزيد[1]: المزيد من الثروة والجاه، المزيد من النفوذ، المزيد من المعلومات، المزيد من العطف، إلخ. مهما يكن من أمر، لا مناص من الاعتراف بأن الموقف المبطِّن للمسعى السابق موقف مادي (= نفعي). إذ إن المعرفة، حتى الفلسفية منها، مثلها كمثل الثروة والنفوذ، باتت تُعامَل معاملة “الشيء”، أي ما يمكن اكتسابه والاستئثار به؛ بالمثل، يمكن لوالد أو صديق أو عشيق أن يصير على هذا النحو، من حيث لا نعي، محلَّ استئثار.
هذه “المادية الروحية” – وهي روحانية كاذبة – عبارة عن ثباتٍ على هذا الموقف النفعي إيَّاه من القيم الروحية أيضًا، وبالتالي، سعي إلى “اكتساب” الحكمة والاستنارة وكأنهما شيئان خارجيان ليسا فينا أصلاً؛ وعكسها الروحانية الحق، التي هي، بكل بساطة، التخلِّي عن شهوة الاستئثار بأي شيء كان، التخلِّي عن كل تعلُّق attachment، مهما كان نوعه. فعدم التعلق هو من الروحانية الحق أسُّها وأساسها. فماذا نقصد هنا بعدم التعلق أو لنقل جوازًا: “اللاتعلق” detachment؟
على المرء أن يطهِّر نفسه، أن يصفِّي طبيعته البشرية من كل ما ينتمي إلى الحياة المادية الدنيوية، وذلك برؤيتها على ما هي عليه وعدم التعلق بها. لكن الحياة المادية الدنيوية ليست مجرد التَّماس الحسِّي أو الذهني مع الأشياء المادية؛ فالمادة في كل مكان، وهي قوام الجسم البشري، وليس منها مهرب. ومنه، فإن الحياة الدنيوية ليست التَّماس مع المادة بحدِّ ذاته، بل موقف التعلق وشهوة الاستئثار. هناك فارق شاسع بين العلاقة التي نعقدها مع الأغراض والأفكار والأشخاص في حال وجود شهوة الاستئثار بها وبهم وبين هذه العلاقة عينها في حال غياب هذه الشهوة. ومنه، لا بدَّ للمرء من اجتثاث شهوة التملك والاستئثار هذه من جذورها إنْ هو شاء أن يمضي من موقف دنيوي نفعي إلى الموقف الروحاني الخالص من كل تعلُّق.
صفوة القول، إذن، إن اللاتعلق ليس التحول عن الأشياء التي توصف بأنها “مادية” لصالح أشياء غير مادية أو “روحية” مزعومة. بعبارة أخرى، إذا لم يجد الإنسان سعادة مستديمة في ثروته المادية فهذا ليس بسبب خاصيَّتها “المادية”، بل بسبب استئثاره بها ووَهْمِه بأنه “يمتلكها”. لذا ليس من الضروري بتاتًا الإصرار على الزهد والتجرد: لا غضاضة البتة في العيش عيشًا معقولاً، إنْ من حيث وسائل الراحة (وهي غير الترف) في المسكن، وإنْ من حيث جودة المأكل والملبس؛ كما أن المقصود ليس ذمَّ العلم والتكنولوجيا اللذين أصبحا جزءًا لا يتجزأ من حياتنا اليومية الثقافية والمهنية، ولا، بطبيعة الحال، ذمَّ التفكر الفلسفي العملي، الضروري لتأهيل العقل على التمييز الدائم بين الصالح والطالح وبين الحقيقة والوهم؛ كذلك، ليس مطلوبًا من أحد إبطال حساسيَّته حيال مودة الآخرين، ولا تمجيد الفقر والعيش عيش النسَّاك – بل إن موقف الاعتدال المتَّزن هو الموقف الأصح دومًا[2].
لا يحدُّ المرءُ من تعلُّقه بإزالة موضوعات التعلق من حياته – فهذا موقف لا يدلُّ على نضج داخلي –، بل يحدُّ منه بالنظر إلى كل شيء من دون شهوة امتلاكه أو الاستئثار به، سواء تعلَّق الأمر بالتعامل مع أغراض الاستهلاك اليومي، أو مع البشر الذين يحيطون بنا (من الأقارب كانوا أم من الأباعد)، أو مع المنزلة الاجتماعية والمهنية، أو مع التعليم الروحي بالذات؛ وبعبارة موجزة، وحده التجمُّل بخصلة الكرم أو الإيثار يحدُّ من التعلق والاستئثار وينمِّي فينا الزهد الحقيقي.
لتحقيق ذلك، لا بدَّ من إدراك أن جميع الأغراض الأثيرة إلى نفوسنا إنْ هي إلا استطالات خارجية لحسِّ الأنيَّة ego. فالأنيَّة تنتفخ بالثروة، بالسلطان وما يستتبع من نفوذ، بسعة المعلومات، بالمودة التي تستدرُّها من الآخرين؛ وهي تنتفخ أيضًا من جراء مساعيها المحمومة إلى الاستيلاء على ما تظنُّه من قبيل “الروحانية”، وهو ليس من الروحانية الحق في شيء. الذات الإلهية في الإنسان ليست قطعًا “أنا فائقة” مضخمة! فجميع الحكماء والمعلمين الروحيين الكبار، بلا استثناء، قالوا بأن الروحانية هي ما يتجلَّى في الإنسان عندما يهمَّش حسُّ الأنيَّة لديه، فلا تتعدى منزلتها من الذات الحق منزلة المرآة من الصورة الأصلية أو منزلة القمر من الشمس إذ يعكس نورَها صافيًا بكل تواضع: “لا يدخل الجنَّة مَن كان في قلبه مثقال ذرة من كِبَر” (حديث شريف).
لقد كان من أبرز “أعمال” البطل الإغريقي هرقل في الميثولوجيا اليونانية ذبح الهيدرة اللايرنية Lærnean Hydra، الثعبان ذي الرؤوس التسعة التي يتصف أحدها بالخلود ويرمز إلى حسِّ الأنيَّة باستطالاته الثمانية (الشهوات الثماني الأساسية). وتروي القصة، من غير الدخول في مقدِّماتها، أن هرقل (“مجد هيرا”، النظر العقلي)، ما إن سحق أحد رؤوس الوحش بهراوته حتى نبت مكانه رأسان اثنان، وهكذا دواليك؛ فلم يتمكن من قتل الهيدرة أخيرًا إلا بمعونة ابن أخيه إيولاوس (“فراشة”، الذهن العملي)، رفيقه المخلص الذي كلما قطع عمُّه أحد الرؤوس الثمانية بادر هو إلى كيِّ أصله حتى لا ينبت من جديد؛ ثم قام الاثنان بدفن الرأس التاسع الخالد تحت صخرة ضخمة[3]. ولعمري، إنها قصة جديرة بالتفكر في رموزها مطولاً!
يعتمل في أعماق كلٍّ منا شوقٌ لافحٌ مشروعٌ إلى تحقيق الألوهية فينا الذي هو جوهر الروحانية؛ إذ إن النفس البشرية مفطورة على محبة الحق والخير والجمال (صفات الإله عند أفلاطون)، وتشوُّقنا إلى ما هو حق وخيِّر وجميل دليل على أن الإلهي كامن فينا أصلاً، مثلما أن وجود دافع الجوع البيولوجي فينا دليل على وجود الطعام (ميخائيل نعيمه). غير أننا غالبًا ما نستنكف من التخلِّي عن حسِّ الأنيَّة، أي عن مركزية الأنا egocentricity في حياتنا، فترانا نوهم أنفسنا بأننا إذا تبنَّينا لغةً روحيةً في التعبير ووضعنا على وجوهنا قناع الروحانية فهذا حسبنا لكي نكون “روحانيين” (ما أكثر أبناء جيلنا الذين يتشدقون بأنهم “متصوفون”!)؛ لكن هذا اللَّبْس الفادح ليس من شأنه إلا أن يعسِّر “يقظة الفطنة” (ج. كريشنامورتي) فينا، بل أن يجعلها متعذرة حتى.
يتلخص عمل الباحث عن الحقيقة أو طالب الحكمة في السلوك المخلص على الدرب الذي يقود إلى نكران النفس في سبيل الكل. لقد قالت السيدة بلاڤاتسكيا بما لا يدع مجالاً لأي لبس: “الثيوصوفيا [الحكمة الإلهية] الحق هي الزهد الأكبر في النفس”.
من شأن نكران النفس أن ينتج منه، بكل بساطة ومن غير بذل أي جهد، عدم التعلق بالأغراض الخارجية؛ وعكسه غير صحيح: إذ إن “الزهد” الذي نفرضه على أنفسنا قسرًا قد يكون نوعًا من تضخيم الأنا. التوجُّه إلى الحق من غير تخلٍّ عن مركزية الأنا، أو توهُّم المرء أصلاً أن بوسعه أن يتوجَّه إلى الحق من غير التخلِّي عن هذه المركزية – تلكم هي “المادية الروحية”، وهي قطعًا طريق مسدود؛ ناهيكم أن آثارها علينا مُفسِدة لا محالة، وذلك لأنها تستبقينا في وهم الانفصال عن ألوهيتنا الأصلية. لذا لا مناص لنا من فضح هذا الوهم والتحرر منه لنضع الأساس للروحانية الحق، وذلك بالتصدي لجذر ما يستبقينا في وهم الانفصال ذاك: الأنيَّة، أمُّ شهوة الاستئثار وسائر أشكال التعلق، بكل ما ينجم عنه من شقاء.
إن جميع النزاعات والصراعات التي تبلبل العالم – أيًّا كان مستواها: النفسانية الفردية منها، والجماعية المسلَّحة، وما بينهما – تضرب بجذورها في تربة التعلق وشهوة الاستئثار. ومنه، فإن حلَّ جميع النزاعات يكمن في زوال مركزية الأنا، لأن زوال مركزية الأنا هو بعينه نهاية التعلق والخطوة الأولى – والأخيرة – على درب الروحانية الحق.
[1] راجع: ألان، “في المرج الكبير”، سماوات جديدة: http://www.samawat-jadidah.org/articles/philosophical/dans_la_grande_prairie-alain.
[2] راجع مقالنا بعنوان “الاتزان الداخلي”، سماوات جديدة: http://www.samawat-jadidah.org/articles/spiritual/inner_balance-dna.
[3] Bulfinch’s Complete Mythology, Chancellor Press, London, 2000, p. 105.