في المرج الكبير – ألان

في المرج الكبير*

ألان

ألان**

 

لدى أفلاطون قصصٌ كحكايات العجائز، تشبه من هذا القبيل جميع حكايات العجائز، لكنها، عبر كلمات صغيرة بعينها يلقيها كما لو تلميحًا، تراها تدوِّي في أعماق نفوسنا وتضيء منها بغتة خبايا مجهولة. من هذه القصص قصة رجل يدعى إرْ Er، كان قد حُسِبَ في عداد القتلى بعد إحدى المعارك، ثم عاد من عالم الموتى[1] حالما تبيَّن الغلط، فروى ما رأى هناك.

هو ذا الامتحان الأكثر هولاً: تُقتاد النفوسُ، أو “الظلال”، أو ما شئتم، إلى مرج كبير، فتُلقى أمامها أكياسٌ فيها مصائر تُخيَّر فيما بينها. لا تزال هذه النفوس تتذكر حياتها الماضية، فتختار بحسب رغباتها وحسراتها. فمَن رغب منها في المال أكثر من أي شيء سواه يختار مصيرًا مملوءًا مالاً؛ ومَن أصاب الكثير منه يطلب المزيد أيضًا. يطلب الشهوانيون أكياسًا مملوءةً بالملذات؛ أصحاب الطموح يطلبون مصير مَلِكٍ. وفي آخر المطاف، يجد كلٌّ منهم ما يلزمه، ثم يقصدون، وعلى عاتق كلٍّ منهم قَدَرُه الجديد، نهر ليثي Léthé – الذي يعني نهر النسيان –، فيشربون من مائه، ثم ينصرفون إلى أرض البشر من جديد ليعيش كلٌّ منهم بحسب اختياره[2].

هو ذا امتحان عجيب من نوعه وعقاب غريب، لكنه أكثر هولاً مما يبدو عليه. إذ إنهم قليل بين الناس مَن يتفكرون في الأسباب الحقيقية للسعادة والشقاء. فأولئك يتقصَّون الأسباب حتى منبعها، أي حتى الرغبات الطاغية التي تحبط عمل العقل. أولئك يحترسون من الثروات لأنها تغري بالتبجُّح وتصمُّ الآذان عن الأشقياء؛ يحترسون من السلطان لأنه يجعل، كثيرًا أو قليلاً، جميعَ أصحابه من الباغين؛ يحترسون من الملذات لأنها تُخْبي سراج الفطنة وتنتهي إلى إخماد نوره. هؤلاء الحكماء سوف يقلِّبون إذن في حذرٍ أكثرَ من كيسٍ ذي مظهر أخَّاذ، حريصين دومًا على عدم فقد توازنهم وعلى عدم المقامرة، في مصير برَّاق، بالقليل من حسِّ الاستقامة الذي اكتسبوه وحافظوا عليه بكثير من المشقَّة. سوف يحمل هؤلاء على عاتقهم مصيرًا مغمورًا ما، يأبى الجميع أن يتنكَّبوه.

أما الآخرون، الذين هرولوا طوال حياتهم وراء رغبتهم، متلذِّذين بما بدا لهم طيبًا، من غير أن ينظروا إلى أبعد من القصعة، ماذا لأولئك أن يختاروا يا ترى، اللهم إلا المزيد من العمى، المزيد من الجهل، المزيد من الكذب والبغي؟ وبهذا يعاقبون أنفسهم بأنفسهم عقابًا أشد من أي عقاب قد يُنزِله بهم أي قاضٍ. لعل هذا المليونير الآن في المرج الكبير – فماذا تراه سيختار؟ ولكنْ دعنا من الاستعارات؛ فأفلاطون لا يزال أقرب إلينا مما نظن بكثير. أنا ما عندي أي خبرة عن حياة جديدة بعد الموت؛ لذا فإن قولي إني لا أؤمن بالآخرة هو من قبيل الحشو، والأصح منه قولي إن لا رأي لي في الأمر بتاتًا. أقول بالأَوْلى بأن الحياة الآتية، حيث نعاقَب بحسب خيارنا نحن، وحتى وفقًا لقانوننا نحن، هي هذا المستقبل بعينه الذي لا ننفك نمضي فيه والذي يفضُّ فيه كلٌّ منا غلاف الصرَّة التي اختارها. والصحيح أيضًا أننا لا ننفك نشرب من نهر النسيان، لائمين الآلهة والقَدَر. فمَن اختار الطموح لم يحسَب أنه اختار التزلف الوضيع، الحسد، البغي؛ لكنها كانت من جملة محتويات الصرَّة!

5 حزيران 1909


* Alain, « Dans la grande prairie », in Propos sur le bonheur (1928), Gallimard, coll. « Idées », 1964, pp. 83-85.

** لقب أستاذ الفلسفة الفرنسي إميل شارتييه (1868-1951). كاتب مقالة لامع، تفصح مقالاته القصار – وهي جنس أدبي-فلسفي برع فيه – عن مذهب إنساني روحي تتخلَّله السخرية الرفيعة والملاحظة الدقيقة. قال بضرورة مزاولة الفيلسوف العملَ اليدوي وبضرورة اطِّلاعه على العلوم حتى لا تفارق الفلسفةُ الحياةَ العملية، كما أدان الحرب بكل أشكالها. قيل إن كتاباته أنقذت العديد من القراء من اليأس.

[1] في الأصل الفرنسي les Enfers: هو، بحسب اعتقاد الإغريق، عالم هاذِس Hadès أو پلوتون Pluton، إله العالم السفلي الذي تذهب إليه النفوس بعد موتها. (المحرِّر)

[2] يمكن للقارئ الرجوع إلى الجمهورية (الكتاب العاشر) للاطلاع على وصف أفلاطون الشائق لمغامرة إرْ. (المحرِّر)