اطلبوا الملكوت… – ديمتري أڤييرينوس

اطلبوا الملكوت…

ديمتري أڤييرينوس 

ديمتري أڤييرينوس

 

لا تكنزوا لأنفسكم كنوزًا في الأرض، حيث يُفسِد السوس
والعث وينقب السارقون فيسرقون، بل اكنزوا لأنفسكم
كنوزًا في السماء، حيث لا يُفسِد السوس والعث ولا
ينقب السارقون فيسرقوا. فحيث يكون كنزك يكون قلبك.
إنجيل متى 6: 19-21

ماذا ينفع الإنسان لو ربح العالم كلَّه وخسر نفسه؟
إنجيل متى 16: 26

 

نتذكر صديقًا علَّق ذات يوم على زيارته “جنة العريف”، أحد متنزَّهات قصر الحمراء بغرناطة، بقوله: “أحسست بأني في الجنة فعلاً!” بيد أن السماء والأرض كلتيهما فينا. حين يقول أحدهم مجازًا: “أنا في الجنة!” أو “صوت فلانة ملائكي!” إلخ، فهو يعني بذلك أن ما يختبره من الروعة بحيث يُشعِرُه بنشوة غير اعتيادية. هذه الخبرة، في الواقع، إنما هي حال وعي، لأن جميع المشاعر الذاتية، سواء كانت فرحًا أو سلامًا، خوفًا أو عذابًا، منطلقها الوعي ومستقرُّها الوعي. لماذا يوصف حقلٌ قانٍ من شقائق النعمان في الربيع بأنه “سماوي”، مع أنه مزهر على الأرض بكل تأكيد، إذا لم تكن الخاصية “السماوية” فيه هي حال الوعي لدى رؤيته؟ ومنه، فإن ما يُسمَّى “الجنة” إنما هو حال وجودٍ باطنية، وليس موقعًا على مرتبة وجودية أخرى أو مكانًا آخر بعينه.

قد لا يكون بعض القراء مطَّلعًا على مَثَل الغني الذي ضربه المعلِّم الناصري، لذا نورده كما جاء في إنجيل لوقا:

رجل غني أخصبت أرضه، فقال في نفسه: “ماذا أعمل؟ فليس لي موضع أخزن فيه غلالي.” ثم قال: “أعمل هذا: أهدم أهرائي وأبني أكبر منها، فأخزن فيها جميع قمحي وأرزاقي، وأقول لنفسي: يا نفسُ، لك أرزاق وافرة تكفيك مؤونة سنين كثيرة، فاستريحي وكُلي واشربي وتنعَّمي.” فقال له الله: “يا أحمق! في هذه الليلة تُسترَدُّ نفسُك منك، فلمَنْ يكون ما أعددتَه؟” فهكذا يكون مصير مَن يكنز لنفسه ولا يغتني عند الله. (12: 16-21)

ثم قال لحَوارييه، تعليقًا على المثل، هذه العبارات البديعة:

لذلك أقول لكم: لا يُهمَّكم للعيش ما تأكلون، ولا للجسد ما تلبسون. أليست الحياة أعظم من الطعام، والجسد أعظم من اللباس؟ انظروا إلى الغربان كيف لا تزرع ولا تحصد ولا تخزن في الأهراء، وأبوكم السماوي يرزقها – وكم أنتم أثمن من الطيور! ومَن منكم يستطيع، إذا اهتمَّ، أن يضيف إلى حياته مقدار ذراع واحدة؟ فإذا كنتم لا تستطيعون ولا إلى القليل سبيلاً، فلماذا تكونون في همٍّ من سائر الأمور؟

ولماذا يُهمُّكم اللباس؟ اعتبروا بزنابق الحقل كيف تنمو، فلا تجهد ولا تغزل ولا تنسج. أقول لكم إن سليمان نفسه، في كل مجده، لم يلبس مثل واحدة منها! فإذا كان عشب الحقل – وهو يوجد اليوم ويُطرح غدًا في التنور – يُلبِسه الله هكذا، فما أحراكم بأن يُلبِسكم، يا قليلي الإيمان؟!

فلا تهتموا فتقولوا: ماذا نأكل؟ أو ماذا نشرب؟ أو ماذا نلبس؟ ولا تكونوا في قلق – فهذا كله يسعى إليه وثنيو هذا العالم. وأبوكم السماوي يعلم أنكم تحتاجون إلى هذا كله. فاطلبوا أولاً ملكوته وبرَّه تُزادوا هذا كله. لا يُهمَّكم أمرُ الغد، فالغد يهتمُّ بنفسه، ولكل يوم من العناء ما يكفيه. (إنجيل لوقا 12: 22-31؛ إنجيل متى 6: 25-34)

يهتم بعض الباحثين الروحيين بالدراسة المقارنة للأديان؛ وهي دراسة لا تجدي نفعًا إذا اقتصرت على التفاصيل وحسب – تفاصيل التقاليد والأعراف، تفاصيل العقائد والطقوس الفرعية المفرغة من مضامينها. إلى ذلك، فإن العديد من الكتب الشريفة قد طرأ عليها تحريف عبر القرون، مما يجعل تأويلها أبعد ما يكون عن اليسر؛ كما أن الأحاديث المنسوبة إلى الأنبياء والحكماء الكبار قيلت في لغات قديمة قد يصعب التكهن بجميع مدلولات كلماتها اليوم. لكننا إذا وقعنا على التعليم نفسه في عدة مصادر كبرى فهو دليل قطعًا على أصالته ومعناه الروحي. جاء في الـدهمَّپدا، كتاب صحيح أحاديث البوذا:

يشكو الأحمق: “عندي بنون، عندي مال!” هو الذي لا يملك حتى نفسه في الواقع، كيف يمكن أن يكون ذا بنين ومال؟! (الأحمق، 62)

يُنقَل كذلك عن البوذا أنه كلَّم رجلاً أراد أن يخبِّئ كنزه في حفرة عميقة، فقال له إن هذا الحرص لن يفيده بتاتًا لأن الكنز يمكن له أن يختفي أو يُسرَق، كما يمكن لانتباهه أن يشرد فينسى أين خبأه، إلخ؛ ثم خلص إلى القول للرهبان من تلاميذه:

إن كنزًا يُدفَن في حفرة عميقة لا يجدي نفعًا، وما أسهل ما يضيع! أما الكنز الحقيقي الذي يُجمَع بالإحسان والورع، بالاعتدال أو ضبط النفس أو الأعمال الصالحة، فهو كنز مأمون عليه لا يزول. إنه لا يُكنَز أبدًا بسلب الآخرين أو الإساءة إليهم، وليس بمقدور أي سارق أن يسرقه. المرء، عندما تحين ساعة موته، يترك غنى العالم الزائل لا محالة، أما هذا الكنز من الأعمال الفاضلة فيأخذه معه. فليعمل العقلاء أعمالاً صالحة، فهي كنز لا يضيع أبدًا. (پول كارو، إنجيل البوذا)

عبارات البوذا هذه تكافئ قول المعلِّم الناصري الذي استهللنا به هذا المقال: “لا تكنزوا لأنفسكم كنوزًا في الأرض…”، كما تكافئ تعليم القرآن الكريم:

ألهاكم التكاثر (1) حتى زُرتُم المقابر (2) (سورة التكاثر).

مَن كان يريد حَرْثَ الآخرة نَزِدْ له في حَرْثه ومَن كان يريد حَرْثَ الدنيا نُؤتِه منها وما له في الآخرة من نصيب (20) فما أوتيتم من شيء فمَتاع الحياة الدنيا وما عند الله خيرٌ وأبقى للَّذين آمنوا وعلى ربِّهم يتوكلون (36) (سورة الشورى).

كذلك، جاء في الـطاو-تُه-كنگ، “كتاب الطريق والاستقامة” المنسوب إلى الحكيم الصيني لاو-تسُه:

الحكيم لا يكنز شيئًا:
إنه، إذ يستعمل ما عنده من أجل سواه،
يحصل على المزيد؛
وإذ يهب ما عنده لسواه،
يبقى عنده ما هو أعظم. (81)

بالمثل، ينصح الكتيِّب الثيوصوفي الكلاسيكي نور على الدرب للمريد بما يلي:

(15) ارغبْ في الممتلكات فوق كل شيء. (16) لكن تلك الممتلكات يجب أن تنتمي إلى النفس النقية وحدها، فتملكها جميع النفوس النقية على حدٍّ سواء، وتكون بذلك ملكًا مشاعًا لها جميعًا حين تتحد وحسب. اشتهِ من الممتلكات ما بوسع النفس النقية أن تقتنيه حتى تُغْني به روحَ الحياة الجامعة تلك التي هي وحدها ذاتك الحق.

بذا فإن التعاليم الواردة في مختلف الموروثات الكبرى، في مختلف الأزمان، تُجمِع على وجود “كنوز روحية” لا يمكن الوقوع عليها في “متاع الدنيا”، بل هي “عند الله”، عند الذات الإلهية الحق التي هي ذات الجميع.

كم من “المتديِّنين”، على اختلاف أديانهم ومذاهبهم، يأخذون هذه التعاليم على محمل الجد؟ كم منهم، على غرار نَتشِكيتاس في أوپنشاد كاتها، يزهدون في الدنيويات للفوز بالخلود؟ لقد عرض ياما، ربُّ الموت، على نَتشِكيتاس ممالك واسعة، أموالاً لا تأكلها النيران، قصرًا فارهًا، ملذات من مختلف الصنوف، لكن ذلك كله لم يُغْرِه. كذلك…

يحكى بأن أحد السواح الأميركيين زار الرباني الپولوني الشهير حافظ حاييم [القرن 19]. ولكم كانت دهشته عظيمة عندما رأى أن منزل الرباني كان عبارة عن غرفة بسيطة مملوءة كتبًا وأثاثها منضدة ومقعد ليس غير. سأل السائح: “رابي، أين أثاثك؟” أجابه حافظ: “وأين أثاثك أنت؟” تعجَّب السائح: “أثاثي؟! ما أنا إلا سائح هنا!” فقال الرباني: “وأنا كذلك.”

أجل، تأتي ساعة على الدرب الروحي لا مناص فيها، على غرار نَتشِكيتاس وحافظ حاييم وسواهما، من الزهد في كل لذة عابرة يمكن للدنيا أن تقدِّمها، وذلك في سبيل حياة الروح. لكن هذا ليس بالأمر السهل لأن أغلب الناس – وهم من “وثنيي هذا العالم”! – يتعلقون بأشياء الدنيا الزائلة، مع أن ياما ينتظرهم لا محالة عند منعطف الطريق!

لكن كثيرين من هؤلاء الناس أنفسهم يتشوقون في الآخرة إلى “الجنة”، إلى بلوغ فردوس يأملون أن يكون “نسخة محسَّنة” عن الدنيا! ومنه، تراهم يؤمنون بأوصاف للجنة فيها الحور العين، والجنان المزدانة بأشجار مطعَّمة بالجواهر، وأنهار اللبن والعسل والخمر، وسائر الأشياء التي من شأنها أن تشبع شهواتهم، فيحرمون أنفسهم جزئيًّا من مُتَع الدنيا، مؤمِّلين أنفسهم بنوال مُتَع أكبر في الآخرة! لكن المشكلة هي في كيفية بلوغ هذه “الجنة” المتخيَّلة. وحتى الناس الذين يقتنعون فكريًّا بسذاجة التصور المادي للجنة لا يتخلصون منه نفسيًّا، فترى الكثيرين منهم، بحُكْم خوفهم من الموت، يقعون في حبائل “مرشدين” و”وسطاء” يزعمون أنهم يستطيعون إرشادهم إلى الطريق. ليس هذا الاستغلال جزءًا من التنظيمات الدينية المعاصرة إلا لأن الهاجس الذي يستبدُّ بالقوم هو كيفية استمرارهم في التمتع، بعد موت الجسم، بما يكافئ تصوراتهم للملذات الدنيوية.

في روحانيات الشرق، لا يُعَدُّ بلوغ الجنة هدفًا راقيًا. ففي الميثولوجيا الهندية، مثلاً، حتى الآلهة يمكن لها أن تسقط من عليائها على الأرض إذا ما اتفق لها أن تقترف إثمًا! أما الجنة الحقيقية – تلك التي لا توصف غبطتُها – فهي في باطن الذات، في كهف القلب. لذا يجدر بنا أن نتعلم التحول إلى الباطن، حتى ونحن لا نزال على الأرض. الأرض، بالطبع، ليست شرًّا بحدِّ ذاتها – فما أجملها وما أجمل كائناتها! –، لكن الطمع الناتج عن التَّماس مع الأشياء الأرضية، شهوة الاستئثار بها، تصوُّر الآخرة على غرارها، هو الذي يُفقِر ولا يغْني. والمجتمع الفاسد، بكل أسف، يُشرِط الناس على طلب الملذات المادية: برامج الشاشة الصغيرة والحملات الدعائية المحمومة، ناهيكم عن مواقع الإنترنت الإباحية، تشجِّعهم على السعي وراء إشباع المطامع والشهوات، وراء الاستئثار والملاهي.

لقد أشار البوذا إلى أن الحواس، حين تكون على تماسٍ مع أغراض الحسِّ، والأفكار، حين تكون على تماسٍ مع أغراض الفكر، فإن نار الظمأ (تنها tanhā، الرغبة) تتَّقد من جديد. لكن حياتنا اللامبالية، في أغلب الأحيان، تنصرف من غير أن نرصد كيف يقع الذهن في الفخ ويفسد. وحده الدأب على الرصد الهادئ يبيِّن لنا كيف تلوِّث أغراضُ الحسِّ والخواطرُ الشاردةُ الذهنَ، خصوصًا بعد أن “يعالجها” المخزون من الذاكرة، فتوقِد من جديد نيران الشهوة والطموح. جاء في كتاب صوت الصمت:

حذارِ من المدح، أيها المريد. فالمدح يؤدي إلى خداع النفس. جسمك ليس ذاتًا، وذاتك بحدِّ ذاتها لا جسم لها، فلا المدح ولا الذم يؤثران فيها. (المقطع 2: الطريقان)

كيف ذلك؟ المدح، كالذم، يساهم في تشكيل صورة عن النفس من بنات المخيِّلة، فيتعلق بها الذهن ويرفع من حولها سورًا واقيًا يحجب عنها شساعة الحياة. وهذا الاهتمام بالصورة الوهمية يتغذى بالقيمة الزائفة التي نضفيها على صفات وممتلكات زائلة، كالجمال الجسماني أو المواهب المزعومة أو المكانة الاجتماعية، وغيرها مئات من الصور التي يخلعها الذهن. لذا جاء في صوت الصمت أيضًا:

حذارِ من الجهل، وبالأخص، حذارِ من الوهم. حوِّلْ وجهَك عن أضاليل العالم؛ لا تثقْ بحواسك، فهي مضلِّلة. لكنْ في باطن جسمك – مقرِّ الأحاسيس – نقِّبْ في اللاشخصي عن “الإنسان القديم”؛ وإذ تجدُّ في طلبه، انظرْ إلى الداخل: أنت بوذا [“مستنير”]. (المقطع 2: الطريقان)

أما وأننا نعيش في عالم ممتلئ بأغراض الحسِّ، هل بوسعنا يا ترى أن نبقى غير متأثرين، أحرارًا داخليًّا من الرغبة؟ الحرية تعني أن ندرك بأن أصل الشقاء هو الرغبة في الاستئثار بالأغراض، سواء كانت ذهنية أو مادية. كل لذة فلها ما يقابلها من ألم؛ كل استثارة، كل أمل، يجلب ما يقابله من الإحباط والخيبة. وهكذا نتأرجح بين الأضداد. وعي ذلك، كما يلحُّ ج. كريشنامورتي، وليس مجرد التفكير فيه وفهمه ذهنيًّا فقط، يولد من التفكُّر العميق والرصد الهادئ الدؤوب.

الحياة، كما سبق أن ذكرنا، لا تتوقف على وفرة الأشياء التي نملكها: “ماذا ينفع الإنسان لو ربح العالم كله وخسر نفسه؟” الأشياء الزائلة كلها غير حقيقية. غير أن ما نختبر، في كل شوط من أشواط حياتنا، يبدو لنا حقيقيًّا بإطلاق. ومنه، فإن اليقظة يجب أن تتم قبل أن يُدرَك أن ما كان يبدو حقيقيًّا ليس حقيقيًّا، بل وهمي. عندما يتفق لنا أن نشعر بسعادة غامرة قد تكون “حقيقية” إلى حدٍّ ما يجدر بنا أن نتساءل: هل هذه السعادة متَّكلة على غرض خارجي، على صحبة أحدهم، على امتلاك شيء، على منزلة مرموقة؟ فالسعادة المشروطة، المتَّكلة على غرض ما (خارجي أو داخلي)، لا تدوم، وبالتالي، لا تستحق أن نتعلق بها. يقول البوذا:

لا لذة ثمة حتى في أغراض الرغبات السماوية. القضاء على الظمأ: ذاك وحده ما يلذُّ لتلميذ اليَقِظ يقظةً كاملة. (دهمَّپدا، اليقظ، 187)

أعجب ما في الذهن أنه يطلب الدوام والثبات في الأشياء التي هي، بحُكْم طبيعتها، غير دائمة وغير ثابتة. لذا لا مناص لنا من إرخاء قبضتنا. فالزهد في الملذات الدنيوية (الكلمة السنسكريتية الدالة على الزهد، ڤيراجيا vairāgya، تعني “عدم التلون”، عدم الإذعان للرغبة في الأغراض) هو وحده الطريق إلى الجنَّة الحق. على فرخ البط أن يغادر الضفة ليسبح، وعلى العصفور الصغير أن يفلت من الغصن ويصفق بجناحيه، حتى من غير أن يدري إذا كان يقوى على الطيران! والزهد الحقيقي ليس مصارعة الرغبة للتغلب عليها، الأمر الذي يولد نزاعًا مريرًا في النفس، بل هو العمل ببساطة انطلاقًا من فطرتنا الأصلية الحرة، من الـ”بوذا” فينا. يقول كريشنامورتي:

أنا واقف على هذه الضفة من النهر. طوال قرون، تعبدتُ لآلهة على الضفة الأخرى. وتراني أرى أن ذلك ميؤوس منه. وبذا أرى أنني يجب أن أعمل اعتبارًا من الضفة الأخرى [مباشرة]. التساؤل عن كيفية بلوغها هو المقاربة النقلية. [لذا] على الذهن أن يقف على الضفة الأخرى وقد تخلَّى عن كل فعل على هذه الضفة.

“على هذه الضفة”، أي على الأرض، عندما يستسلم القلب للغواية ثم يندم، ربما اعتمل في الذهن قلقٌ معذِّبٌ هو ما تواضع الناس على تسميته “جهنم”! إذ إن من المحال التقدم في اتجاهين متعاكسين في الوقت نفسه. أما التفكر الجدي، الحوار، التساؤل، فهي، على النقيض من التحسر أو التندُّم، عوامل مؤهِّبة لانبثاق الوضوح بخصوص الاتجاه الواجب اتِّباعه. ألم يقل المعلِّم الناصري: “لا تكونوا في قلق”؟ علينا أن نتساءل بلا هوادة: ماذا أطلب؟ ما معنى حياتي؟ وهل أطلبه في أشياء حقيقية؟ وعندما يتضح الطريق يتبلور العزم، ويحدث عند ذاك الانعطاف الداخلي غير المشروط نحو ما تواضعت الأديان على تسميته “الله”، الأساس الأزلي للسعادة الحقيقية. تصير الأديان مضلِّلة حين تخفق في إلهام الناس اكتشافَ أن ثمة اتجاهًا داخليًّا واحدًا ليس غير: عدم عزو أي فضل إلى الأنيَّة ووعي أن الذات الإلهية الواحدة هي وحدها الفاعلة بواسطتها. يقول شري كرشنا لأرجونا:

أعمالك، مأكلك، أضاحيك، عطاياك، مناسكك – هذه كلها، يا ابن كُنتي [أرجونا]، أدِّها تقدمةً لي. (بهگڤدگيتا 9: 27)

وفي القرآن الكريم أيضًا جاء:

قُلْ إن صلاتي ونُسُكي ومَحياي ومماتي لله ربِّ العالمين (سورة الأعراف 162).

هذا الوعي هو ثمرة التوق الحارق إلى الانعتاق (بالسنسكريتية: مُمكشُتڤا mumukshutva)، إلى تحقيق الذات الواحدة (آتمن ātman)، وهو من الخصال الأساسية التي يجب على المريد أن يتحلَّى بها على الدرب الروحي. ومنه، ليس الاتجاه واحدًا وحسب، بل والمطلوب واحد ما له ثانٍ: الحق العلي، القيوم السرمدي، ذو الحضور الكلِّي أبدًا. تقول السيدة بلاڤاتسكيا:

الكون ليس فقط الثوب الظاهر، اللباس الوهمي للألوهية، الحاضرة مع ذلك في كلِّ واحدة من ذراته، بل هو الألوهية بالذات.

ترانا نتخيل أن هناك أشياء مطلوبة كثيرة، لكن لا مناص لنا من تغيير منظارنا إلى الأمور. فكما يقول كرشنا، الذي يشخِّص الذات الكلِّية:

ثبِّتْ ذهنك فيَّ؛ انذرْ نفسك لي؛ قدِّمْ نفسك لي قربانًا؛ أكرِمْني. بذا، وقد استجمعتَ نفسَك، ستُرجَع إليَّ، أنا غايتك الأسمى. (بهگڤدگيتا 9: 34)

يروي كاتب إنجيل لوقا الحادثة التالية:

وبينما هم سائرون، دخل قرية فأضافتْه امرأة اسمها مرتا. وكان لها أخت تدعى مريم، جلست عند قدمَي السيد تستمع إلى كلامه. وكانت مرتا مشغولة بأمور كثيرة من الخدمة، فأقبلت وقالت: “يا سيد، أما تبالي أن أختي تركتْني أخدم وحدي؟! فمُرْها أن تساعدني!” فأجابها السيد: “مرتا، مرتا! إنك في همٍّ وارتباك بأمور كثيرة، مع أن الحاجة إلى أمر واحد! فقد اختارت مريم النصيب الأفضل، ولن يُنزَع منها.” (10: 38-42)

إذا تكاثرت الأهداف لن نصل إلى أي مكان. أما إذا كنَّا نطلب ملكوت الله، ولا شيء سواه، فنحن بالغونَه لا محالة. لكن “الملكوت” ليس غرضًا نطلبه كما نطلب أغراض الحسِّ والذهن؛ وبالتالي، لا “مكان” نذهب إليه لبلوغه:

لا يأتي ملكوت الله على وجه يراقَب. ولن يقال: ها هو ذا هنا أو ها هو ذا هناك. فملكوت الله فيكم. (إنجيل لوقا 17: 21)

ويقول لاو-تسُه أيضًا:

من دون أن تجتاز عتبة بابك
تستطيع أن تعرف العالم بأسره.
من دون أن تنظر من نافذتك
تستطيع أن تلمح طريق السماء.
كلما أوغلتَ في البُعد قلَّتْ معرفتُك.
(
طاو-تُه-كنگ، 47)

ويقول البوذا أيضًا وأيضًا:

هو الذي لا يقوى أي ظمأ آسر، خالب، على اقتياده إلى أي مكان، ذاك اليَقِظ، صاحب الإدراك غير المحدود، بأيِّ أثر تقتادونه، هو الذي لا طريق له البتة؟ (دهمَّپدا، اليقظ، 180)

أغراض الحسِّ والذهن تستثير الطموح وتوقد حسَّ الأنيَّة، بحيث إنه ما من خاطر، ما من شعور، ما من كلمة، من شأنها أن تقودنا إلى الغبطة. ماذا نفعل إذن؟ يجيب توكارام، الصوفي الهندي والعاشق الإلهي:

بمقياس الحبِّ ألاقي اللانهاية.
لا سبيل آخر، فطبيعة الله أبعد من غاية الكلام والفكر.

جنَّة الله، إذن، متعذرة البلوغ من غير الحب. ومحبة الله هي محبة الكل. عندما يمتلئ قلبنا بالمحبة تنعكس الآية فتصير: “حيث يكون قلبك يكون كنزك”! والذهن الهادئ، الساكن، إذ يزهد في كل شيء، يعي وحدته مع كلِّ موجود، مع كلِّ حياة، مع كلِّ شيء، فيخشع… عابدًا، مُحبًّا، خادمًا متفانيًا. إذ ذاك، يتجلَّى الله مخترقًا حجاب الأنيَّة ويفيض على الوعي بفرح لانهائي.

ذاك هو الملكوت…