ثمانية حوارات: 6 من 8 – ج. كريشنامورتي

ثمانية حوارات*
الحوار السادس

ج ك، ثمانية حوارات

سائل: جئتك لأتبيَّن لماذا يوجد انقسام، فَصْل، بين الذات وبين كلِّ شيء آخر، وحتى بين زوجة المرء وأولاده وبينه. حيثما يذهب المرء يجد هذا الفصل، ليس في ذاته وحسب، بل وفي كلِّ واحدٍ آخر. يسهب الناس الكلام على الوحدة والإخاء، لكني أتساءل إنْ كان من الممكن أصلًا التحرُّر حقًّا من هذا الانقسام، من هذا الفصل الموجع. بوُسعي، عقليًّا، أن أدَّعي بأنَّه لا يوجد فصل حقيقي؛ أستطيع أن أعلِّل لنفسي أسباب هذه الانقسامات، – ليس بين الإنسان والإنسان وحسب، بل وبين النظريات ومذاهب اللاهوت والحكومات أيضًا، – لكني أعرف فعليًّا، في نفسي، أنَّه يوجد هذا الانقسام الذي لا يُحَلُّ، هذه الهوَّة الواسعة التي تفصلني عن الآخر. أشعر دومًا بأني واقف على هذه الضفة وبأنَّ الآخرين جميعًا واقفون على الضفة الأخرى، وهناك هذه المياه العميقة الفاصلة بيننا. وتلك هي مشكلتي: لماذا توجد فجوة الفصل هذه؟

كريشنامورتي: لقد نسيتَ أن تذكر الفرق، التناقض، الفجوة، بين الفكرة الواحدة والأخرى، بين الشعور الواحد والآخر، التناقض بين الأفعال، الانقسام بين الحياة والموت، دهليز الأضداد الذي لا ينتهي. وبعد تقرير هذا كلِّه يكون سؤالنا: لماذا يوجد هذا الانقسام، هذه الشقَّة بين الموجود وبين ما كان أو ما يجب أن يكون؟ نحن نسأل: لماذا عاش الإنسان في هذه الحالة الثنوية، لماذا فتَّتَ الحياة إلى قِطَع متنوعة؟ وهل نحن نسأل لنجد العلَّة أم أننا نحاول أن نتخطَّى العلَّة والمعلول معًا؟ هل هي سيرورة تحليلية أم هو إدراك أو فهمٌ لحالٍ ذهنية لا يعود فيها الانقسام موجودًا؟ حتى نفهم حالًا ذهنيةً كهذه لا بدَّ لنا من النظر إلى بداية الفكر. يجب علينا أن نعي الفكر وهو ينشأ، كما يجب أن نعي منشأه أيضًا. ينشأ الفكر من الماضي. الماضي هو الفكر. وحين نقول إننا يجب أن نعي الفكر وهو ينشأ نعني أننا يجب أن نعي المعنى الفعلي للفكر، لا مجرَّد واقعة حصول التفكير. إنَّ معنى الفكر هو الماضي. لا يوجد فكر مجرَّد من معناه. الفكرة أشبه بخيط في قطعة قماش. لكنَّ أكثرنا غير واعين للقماش كلِّه – وهو الذهن ككل –، فنحاول أن نسيطر على معنى خيط واحد – وهو فكرة –، أو أن نشكِّله، أو أن نفهمه. علامَ يقوم نسيج الأفكار ككل؟ هل يقوم على جوهر ما؟ وإذا صحَّ ذلك ما هو ذاك الجوهر؟ هل يقوم على فكر أعمق أم لا يقوم على شيء بتاتًا؟ وما خامة هذا النسيج؟

السائل: أنت تكثر من طرح الأسئلة. لم يخطر ببالي شيء من هذا من قبل، لذا عليَّ أن أتأنَّى نوعًا ما.

كريشنامورتي: هل الفكر هو سبب كلِّ تقسيم، سبب كلِّ تجزئة في الحياة؟ ممَّ الفكر مصنوع؟ ما هو جوهر قِطَع الخيوط تلك المنسوجة في ذلك القماش المركَّب الذي نسمِّيه الذهن؟ الفكر مادة، وهو على الأرجح قابل للقياس. إنَّه حصيلة الذاكرة المتراكمة – وهي مادة – المختزَنة في المخ. يستمد الفكر أصله من الماضي، القريب أو البعيد. فهل بوُسع المرء أن يعي الفكر وهو ينشأ من الماضي، من ذكريات الماضي، أفعال الماضي؟ وهل بوُسع المرء أن يعي فيما يتعدَّى الماضي، وراء جدار الماضي؟ وهذا لا يعني التوغل رجوعًا في الزمن، بل يعني المساحة التي لم يمْسَسْها الزمن أو الذاكرة. فإلى أن نكتشف هذا الأمر لا يمكن للذهن أن يرى ذاته بلغة أيِّ شيء آخر غير الفكر، وهو الزمن. أنت لا تستطيع أن تنظر إلى الفكر بالفكر، ولا تستطيع أن تنظر إلى الزمن بالزمن. ومنه فإنَّ أيًّا ما كان يفعله الفكر، أو أيًّا ما كان ينفيه، فهو لا يزال ضمن حدوده القابلة للقياس.

للإجابة عن جميع الأسئلة التي طرحنا لا بدَّ لنا من طرح سؤال إضافي: ما هو المفكِّر؟ هل المفكِّر منفصل عن الفكر؟ هل المختبِر مختلف عن الشيء الذي يختبره؟ هل الراصد مختلف عن الشيء الذي يرصده؟ إنْ كان الراصد مختلفًا عن الشيء الذي يرصده، عندئذٍ سيوجد دومًا انقسام، فَصْل، ومن ثَمَّ نزاع. فحتى نتخطَّى هذه الشقَّة علينا أن نفهم ماهية الراصد. من الواضح أنَّه هو الذي يصطنع هذا الانقسام. أنت، مَن يرصد، مفتعِل هذا الانقسام، سواء كان بينك وبين زوجتك، أو الشجرة، أو أيِّ شيء آخر. فما هو هذا الراصد، أو المفكِّر، أو المختبِر؟ الراصد هو الكيان الحي الذي لا يني يتحرك، يعمل، الذي يعي الأشياء، ويعي وجوده هو. وهذا الوجود الذي يعيه هو علاقته بالأشياء، وبالناس، وبالأفكار. هذا الراصد هو آلية الفكر برمَّتها، وهو الرصد أيضًا، وهو الجهاز العصبي والإدراك الحسِّي أيضًا. الراصد هو اسم الراصد، إشراطه، وهو العلاقة بين ذاك الإشراط وبين الحياة. هذا كلُّه هو الراصد. وهو فكرته عن ذاته أيضًا – وهي صورة مبنيَّة هي الأخرى من الإشراط، من الماضي، من الموروث. الراصد يفكِّر ويعمل، وعمله يجري دومًا وفقًا لصورته عن ذاته ولصورته عن العالم. وعمل الراصد هذا، في العلاقة، يولِّد الانقسام. هذا العمل هو العلاقة الوحيدة التي نعرفها. وهذا العمل ليس منفصلًا عن الراصد، بل هو الراصد بالذات. إنَّ الراصد هو الذي يتحدث عن العالم وعن ذاته في العلاقة، فيخفق في رؤية أنَّ علاقته هي عمله هو، ومن ثَمَّ فهي هو بالذات. ومنه فإنَّ علَّة الانقسام كلِّه هو عمل الراصد. الراصد نفسه هو العمل الذي يقسم الحياة إلى الشيء المرصود وإليه هو [الراصد] كشيء منفصل عن المرصود. هي ذي العلَّة الأساسية للانقسام، ومن ثَمَّ النزاع.

الانقسام في حياتنا هو بنية الفكر التي هي عمل الراصد الذي يظن نفسه منفصلًا. وهو، فوق ذلك، يفكِّر في نفسه بوصفه المفكِّر، بوصفه شيئًا مختلفًا عن فكره. لكنْ ليس من فكرة من غير المفكِّر، ولا من مفكِّر من غير الفكرة – وإذن فالاثنان في الواقع واحد. وهو المختبِر أيضًا، وهو كذلك يفصل نفسه عن الشيء الذي يختبره. الراصد، المفكِّر، المختبِر، ليسوا مختلفين عن المرصود، عن الفكر، عن المختبَر. وهذا ليس استنتاجًا لفظيًّا. فلو كان استنتاجًا فهو عندئذٍ فكرة أخرى تصطنع الانقسام مجدَّدًا بين الاستنتاج وبين العمل الذي يُفترَض فيه أن يتبع ذلك الاستنتاج. حين يرى الذهن واقعية هذا الأمر فإنَّ الانقسام لا يمكن له أن يستمر من بعدُ. هذا هو مؤدَّى كلامنا كلِّه. كلُّ نزاع فهو العراك بين الراصد والمرصود. وهذا أعظم شيء متاح فهمه. الآن فقط يمكن لنا أن نجيب عن أسئلتنا؛ الآن فقط بوُسعنا أن نتخطَّى جدار الزمن والذاكرة – وهي الفكر – لأنَّه فقط الآن يؤول الفكر إلى الانتهاء؛ إذ إنَّه الآن فقط لا يمكن للفكر أن يولِّد الانقسام. أما الفكر الذي بوُسعه أن يعمل من أجل التواصل، من أجل الفعل، من أجل العمل، فهو نوع آخر من الفكر لا يولِّد الانقسام في العلاقة. الاستقامة هي الحياة من غير العمل الفاصل للراصد.

السائل: فما هو إذن، أين هو إذن ذلك الشيء الذي يقوم به وجودُ نسيج الفكر؟

كريشنامورتي: إنَّه ذلك الشيء الذي ليس من عمل الراصد. وإدراك هذه الحقيقة هي المحبة العظيمة. وهذا الإدراك ممكن فقط حين تفهم أنَّ الراصد ذاته هو المرصود – وذاك هو التأمل.


* J. Krishnamurti, Eight Conversations. Copyright ©1969 Krishnamurti Foundation Trust, England.