ثمانية حوارات: 7 من 8 – ج. كريشنامورتي

ثمانية حوارات*
الحوار السابع

ج ك، ثمانية حوارات

سائل: أنا في نزاع حول أمور كثيرة جدًّا، لا على صعيد الخارج وحسب، بل وعلى صعيد الداخل أيضًا. بوُسعي نوعًا ما أن أتعامل مع النزاعات الخارجية، لكني أريد أن أعرف كيف أقدر أن أنهي النزاع، تلك المعركة المتواصلة في نفسي معظم الوقت. أريد أن أنتهي منه. أريد، بطريقة أو بأخرى، أن أتحرَّر من هذا العراك كلِّه. فماذا ينبغي لي أن أفعل؟ يبدو لي أحيانًا أنَّ النزاع أمر محتوم: أراه في الصراع على البقاء، حيث الكبير يقتات بالصغير، والعقل الكبير يسيطر على العقول الأصغر، والمعتقدات يقهر بعضها بعضًا ويحلُّ محلَّه، والأمم يحكم بعضها بعضًا، وهكذا دواليك إلى ما لا نهاية. أرى هذا وأتقبَّله، لكنَّه بطريقة ما لا يبدو لي صوابًا؛ لا يبدو أنَّه يتصف بأيِّ خاصية مَحبَّة، وأشعر أني إذا أمكنني أن أنهي هذا العراك في نفسي فقد يتمخض هذا الإنهاء عن المحبة. لكني في ريبة شديدة، في لبس شديد من الأمر كلِّه. جميع المعلِّمين العظام قالوا بأنَّ على المرء أن يجاهد، بأنَّ الطريق إلى إيجاد الحق، أو الله، يمرُّ عبر الانضباط والسيطرة والتضحية. وهذه المعركة، بشكل أو بآخر، يُضفى عليها التقديس. وها أنت ذا تقول بأنَّ النزاع هو جذر الفوضى بعينه. فكيف لي أن أعرف ما هي حقيقة النزاع؟

كريشنامورتي: النزاع، أيًّا كان شكله، يشوِّه الذهن. هذه واقعة، وليست رأيًا أو حُكمًا ما يُطلَق من غير تروٍّ. إنَّ أيَّ نزاعٍ بين شخصين يحول دون تفاهُمهما. فالنزاع يحول دون الإدراك. لذا فإنَّ فهم الموجود هو وحده الشيء المهم، لا صياغة ما يجب أن يكون. وهذا التقسيم بين الموجود وبين ما يجب أن يكون هو أصل النزاع. كذلك فإنَّ الفاصلة بين الفكرة والعمل تولِّد النزاع هي الأخرى. الواقعة والصورة أمران مختلفان. السعي وراء الصورة يقود إلى مختلف أشكال النزاع والوهم والنفاق، بينما فهم الموجود – وهو الشيء الوحيد الذي في حوزتنا حقًّا – يقود إلى حالٍ ذهنية مختلفة تمامًا.

الدوافع المتناقضة تسبِّب النزاع؛ معارضةُ الإرادة الواحدة لشكلٍ آخر من أشكال الرغبة هي نزاع. ذكرى الذي كان، إذ تُعارض الموجود، هي نزاع – وهذا هو الزمن. الصيرورة، الإنجاز، نزاع – وهذا هو الزمن. المحاكاة، الامتثال، الطاعة، التزام نذر، الندم، الكبت – هذا كلُّه يجلب النزاع بدرجات متفاوتة. إنَّ بنية المخ نفسها، التي تطلب الأمن والأمان، التي تتنبَّه للخطر، هي مصدر النزاع. لا يوجد شيء اسمه “أمن” أو “ديمومة”. ومنه فإنَّ كياننا برمَّته، علاقاتنا، نشاطاتنا، أفكارنا، أسلوب حياتنا، كلُّها مولِّد للصراع، للنزاع، للعراك. وها أنت ذا تسألني كيف يمكن لهذا أن ينتهي. القديس والراهب والـسنياسي [الزاهد الجوال] يحاولون التهرب من النزاع، لكنَّهم لا يزالون في النزاع. إنَّ كلَّ علاقة، كما نعلم، هي نزاع – نزاع بين الصورة والواقع. ليس هناك علاقة بين شخصين، ولا حتى بين الصورتين اللتين يشكِّلانهما كلٌّ عن الآخر. يعيش كلٌّ منهما في عزلته، والعلاقة عبارة عن مجرَّد اختلاس نظر من فوق الجدار. وإذن فأينما نظر المرء، سواء نظر نظرةً سطحيةً أم نظرةً عميقةً جدًّا جدًّا، وَجَدَ عذاب العراك والوجع هذا. إنَّ حقل الذهن برمَّته، في أشواقه، في رغبته في التغير، في تقبُّله الموجود وفي إرادته تخطِّيه، هو في حدِّ ذاته نزاع. ومنه فإنَّ الذهن نفسه نزاع، الفكر نزاع؛ وحين يقول الفكر: “لن أفكر” فهذا أيضًا نزاع. كلُّ نشاط من نشاطات الذهن والمشاعر – وهي جزء من الذهن – نزاع. وحين تسأل كيف تقدر أن تنهي النزاع فأنت تسأل حقًّا كيف تقدر أن توقف التفكير، كيف يمكن لذهنك أن يتخدَّر ليهدأ؟

السائل: لكني لا أريد ذهنًا مخدَّرًا، غبيًّا. أريده أن يكون عالي النشاط، مفعمًا بالطاقة، شغوفًا. فهل يتعيَّن عليه أن يكون إما مخدَّرًا وإما في نزاع؟

كريشنامورتي: تريده أن يكون نشيطًا، مفعمًا بالطاقة، شغوفًا، وتريد مع ذلك أن تنهي النزاع؟

السائل: بالضبط، فحين يوجد نزاع فإنَّه لا يكون نشيطًا ولا شغوفًا. حين يوجد نزاع فكأنَّ الذهن يتأذى من جراء نشاطه ويفقد حساسيَّته.

كريشنامورتي: وإذن فقد بات واضحًا أنَّ النزاع يدمِّر الشغف والطاقة والحساسية.

السائل: لا حاجة لك إلى إقناعي. فأنا أعرف ذلك، لكنَّ معرفتي لا تمضي بي شوطًا أبعد.

كريشنامورتي: ماذا تعني بـ”المعرفة”؟

السائل: أعني أنَّ حقيقة ما قلتَ بيِّنة، لكن هذا لا يمضي بالمرء شوطًا أبعد.

كريشنامورتي: هل تدرك حقيقة الأمر، أم تراك تدرك بنيته اللفظية فقط؟ أتدرك الواقعة الفعلية أم التفسير؟ لا بدَّ لنا من استجلاء هذا الأمر لأنَّ التفسير ليس الواقعة، الوصف ليس الموصوف؛ وحين تقول “أعرف” قد يكون أنك لا تدرك إلا الوصف.

السائل: لا.

كريشنامورتي: رجاءً، لا تكن بهذا التسرُّع ونفاد الصبر! إنْ لم يكن الوصف متطابقًا مع الموصوف فليس هناك عندئذٍ غير الموصوف. والموصوف هو واقعة أنَّ الشغف والحساسية والطاقة تضيع حين يوجد نزاع. والنزاع هو كلِّية التفكير والشعور، وهي الذهن برمَّته. الذهن كلُّه عبارة عن استحسان واستهجان، أحكام، تحامُل، إدانة، تبريرات، وهكذا. وواحد من نشاطات الذهن المهمَّة جدًّا هو الوصف الذي يعلق الذهنُ في شِراكه: يرى الذهنُ وصفَه ويعلق في شِراكه، فيظن أنَّه يرى الواقعة، بينما هو في الواقع محتجَز في نطاق حركته هو. وإذن، أين نحن الآن، حين لا يوجد إلا الموجود وليس الوصف؟

السائل: كنت تقول إنَّ هناك النزاع، وهو أعمال الذهن كلُّها؛ وهذا النزاع يدمِّر حساسية الذهن نفسه وطاقته وشغفه. وبذا يتبلَّد الذهن بالنزاع، بالعمل ضدَّ نفسه.

كريشنامورتي: فسؤالك إذًا يصبح: كيف يمكن للذهن أن يكفَّ عن العمل ضدَّ نفسه؟

السائل: أجل.

كريشنامورتي: هل هذا السؤال إدانة، تبرير، مهرب إضافي آخر، نشاط آخر من نشاطات الذهن المقحَمة هذه التي تجعله يعمل ضدَّ نفسه؟ إنْ كان كذلك فهو إذًا مولِّد للنزاع. هل هذا السؤال محاولة للتخلص من النزاع؟ إنْ كان كذلك فهو مزيد من النزاع، وأنت باقٍ إلى الأبد في هذه الحلقة المفرغة. ومنه فإنَّ السؤال الصحيح ليس عن كيفية إنهاء النزاع، بل رؤية حقيقةِ أنَّه حيثما يوجد الشغف والحساسية يغيب النزاع. هل ترى هذا؟

السائل: نعم.

كريشنامورتي: وإذن فلم يعد يهمُّك إنهاء النزاع؛ فهو سوف يذوي من تلقاء ذاته. لكنَّه لن يذوي أبدًا مادام الفكر يغذيه. فما يهمُّ هو الشغف والحساسية، وليس إنهاء النزاع.

السائل: أرى هذا، لكنَّه لا يعني أنَّ عندي الشغف؛ لا يعني أني أنهيت النزاع.

كريشنامورتي: إذا رأيت هذا حقًّا فإنَّ فعل الرؤية ذاك هو الشغف، الحساسية، الطاقة. وفي هذه الرؤية ينعدم النزاع.


* J. Krishnamurti, Eight Conversations. Copyright ©1969 Krishnamurti Foundation Trust, England.