ثمانية حوارات*
الحوار الثامن
سائل: لقد غادرتُ العالم – عالم احتراف الكتابة الذي يخصُّني – لأني أردتُ أن أحيا حياةً روحية. هجرتُ جميع شهواتي ومطامحي إلى الشهرة، مع أني كنت أملك الموهبة الضرورية، وجئتك آمِلًا أن أجد الأسمى وأحقِّقه. لقد مكثتُ تحت شجرة البَنْيان [تين البنگال] العظيمة هذه طوال خمس سنوات حتى الآن، وأجدني فجأةً بليدًا، مستنزَفًا، مستوحِشًا في الداخل، ونوعًا ما بائسًا. أستيقظ في الصباح لأجد أني لم أحقق شيئًا البتة، لأجد أني كنت، ربما، في حالٍ أفضل منِّي الآن قبل حوالى سنتين، يوم كان عندي بعدُ شيءٌ من الحَمِيَّة الدينية القوية. والآن لم يبقَ عندي من الحَمِيَّة شيء، وإذ ضحَّيتُ بأمور الدنيا لأجد الله، أجدُني عديم كليهما. أشعر كأني برتقالة معتصَرة. فما هو المُلام – التعاليم، أنت، بيئتك؟ – أم تراني عديم القدرة على هذا الأمر، تراني لم أجد الشرخ في الجدار الذي سوف يكشف عن السماء؟ أم أنَّ الأمر ببساطة هو أنَّ هذا المسعى كلَّه، من أوَّله إلى آخره، محض سراب، وأنَّه كان من الخير لي لو أني لم أفكر في الدين قط، بل تمسَّكت بالملموس، بالإنجازات اليومية لحياتي السابقة؟ أين الخطأ، وماذا يتعيَّن عليَّ أن أفعل الآن؟ هل أتخلَّى عن الأمر كلِّه؟ وإذا فعلت فمن أجل ماذا؟
كريشنامورتي: هل تشعر بأنَّ حياتك تحت شجرة البَنْيان هذه، أو أيِّ شجرة أخرى، تدمِّرك، تمنعك من الفهم، من الرؤية؟ هل هذه البيئة هي التي تدمِّرك؟ إذا غادرتَ هذا العالم وعدتَ إلى ما كنت تفعل قبلئذٍ – عالم الكتابة وأمور الحياة اليومية كلِّها – أَلن تدمِّرك أمورُ تلك الحياة وتبلِّدك وتعتصرك حتى الجفاف هناك أيضًا؟ أنت ترى هذه السيرورة المدمِّرة تتواصل في كلِّ مكان لدى الناس الذين يطلبون النجاح، أيًّا كان ما يفعلونه، ولأيِّ سبب كان؛ تراها في الطبيب، في رجل السياسة، في العالِم، في الفنان. هل ينجو أيُّ واحدٍ في أيِّ مكان من هذا التدمير أصلًا؟
السائل: أجل، أرى أنَّ الجميع يُعتصَرون حتى الجفاف. قد يتمتعون بالشهرة وبالثراء، لكنهم إذا نظروا إلى أنفسهم نظرةً موضوعيةً لا مناص لهم من الإقرار بأنهم فعليًّا ليسوا شيئًا أكثر من واجهة مبهرجة من الأعمال والكلمات والصيغ والمفاهيم والمواقف والتفاهات والآمال والمخاوف – وتحتها يوجد الفراغ والبلبلة، الهرم ومرارة الفشل.
كريشنامورتي: وهل ترى أيضًا أنَّ المتديِّنين الذين هجروا الدنيا، على حدِّ زعمهم، لا يزالون حقًّا فيها لأنَّ سلوكهم محكوم بالمطامح نفسها، بالدافع نفسه إلى الإنجاز، إلى الصيرورة، إلى التحقيق، إلى الوصول، إلى الإمساك والتمسُّك؟ أغراض هذا الدافع توصف بأنها “روحية”، فتبدو وكأنها مختلفة عن أغراض الدافع في الدنيا، لكنَّها ليست مختلفة البتة لأنَّ الدافع إليها هو الحركة نفسها بالضبط. هؤلاء المتديِّنون عالقون هم أيضًا في الصيغ والمُثُل والخيال والآمال واليقينيَّات المبهمة، التي ليست إلا معتقدات وحسب، وهم أيضًا يشيخون ويصيرون قبيحين ومجوَّفين. وإذن فالعالم ألف الذي غادروه هو عينه العالم باء – عالم الحياة الروحية المزعومة – بالضبط: ألف هو باء، وباء هو ألف. ففي هذا العالم الروحي المزعوم أنت مدمَّر تمامًا كما كنتَ مدمَّرًا في العالم اليومي الآخر ذاك.
فهل تظن أنَّ هذا المَوات، هذا التدمير، آتٍ من بيئتك أم من نفسك؟ هل هو آتٍ من سواك أم منك؟ هل هو أمر يُفعَل بك أم هو أمر تفعله أنت؟
السائل: كنت أظن أنَّ هذا المَوات، هذا الدمار، كان نتيجة بيئتي، لكنك وقد بيَّنت كيف أنه يحصل في البيئات كلِّها، في كلِّ مكان، ويستمر حتى عندما تغيِّر البيئة من ألف إلى باء، أو رجوعًا من باء إلى ألف من جديد، أجدني قد بدأت أرى أنَّ هذا الدمار ليس نتيجة البيئة. هذا المَوات تدميرٌ ذاتي. إنَّه شيء أفعله بنفسي. أنا الذي أفعله، أنا هو المسؤول، وهو لا يمتُّ بصِلة إلى الناس ولا إلى البيئة.
كريشنامورتي: هذه أهم نقطة ينبغي إدراكها. هذا التدمير يأتي منك، ولا يأتي من أحد أو من شيء آخر، لا من بيئتك، لا من الناس، لا من الأحداث أو الظروف. أنت المسؤول عن تدمير نفسك وعن بؤسك، عن وحشتك، عن مزاجياتك، عن خوائك الأجوف. وعندما تدرك هذا تصير إما مريرًا وإما متبلِّد الحسِّ بالأمر كلِّه، مدَّعيًا بأنَّ كلَّ شيء على ما يرام؛ أو تصير عصابيًّا، تتأرجح بين ألف وباء، ظنًّا منك أنَّ هناك فرقًا ما بينهما؛ أو تراك تدمن على الشراب أو المخدرات، كما فعل أناس كثيرون جدًّا.
السائل: أظنني أفهم هذا الآن.
كريشنامورتي: في تلك الحالة ستهجر كلَّ أمل في إيجاد حلٍّ بمجرَّد تغيير بيئة حياتك الخارجية، بمجرَّد التغيير من باء رجوعًا إلى ألف، لأنك ستعلم أنَّ ألف وباء متماثلان: ففي كليهما توجد الرغبة في الإنجاز، في الوصول، في الفوز باللذة القصوى، سواء في الاستنارة المزعومة، في الله، في الحقيقة، في الحب، في رصيد مصرفي دسم، أم في أيِّ شكل آخر من أشكال الأمان.
السائل: أرى هذا، ولكن ماذا يتعيَّن عليَّ أن أفعل؟ فأنا لا أزال أموت، لا أزال أدمِّر نفسي. أشعر بأني معتصَر حتى الجفاف، فارغ، عديم النفع. لقد فقدت كلَّ ما كان عندي ولم أكسب مقابله شيئًا.
كريشنامورتي: فأنت لم تفهم إذن! مادمت تشعر بذلك وتقوله فأنت لا تزال تسلك الطريق نفسه الذي تكلَّمنا عليه، طريق الإنجاز الذاتي ذاك في أيٍّ من ألف أو باء. ذاك الطريق هو مقتل النفس، ذاك الطريق هو عامل المَوات. شعورك بأنك فقدت كلَّ شيء ولم تكسب مقابله شيئًا هو سلوكك ذاك الطريق؛ ذاك الطريق هو الدمار: الطريق بالذات هو غاية نفسه، وهي دمار النفس، الإحباط، الوحشة، عدم النضج. وإذن فإنَّ السؤال الآن هو: هل أدرتَ ظهرك حقًّا لذاك الطريق؟
السائل: كيف لي أن أعلم إنْ كنت أدرت ظهري له أم لا؟
كريشنامورتي: ليس لك أن تعلم، لكنك إذا رأيت ماهية ذاك الطريق فعليًّا، لا نهايته وحسب، بل بدايته – وهي مثل نهايته –، إذ ذاك فمُحال عليك أن تسلكه. قد يتفق لك، وأنت تعلم خطورته، أن تشرد أحيانًا عليه في لحظة عدم انتباه، ثم تباغت نفسك وأنت عليه. لكنَّ رؤية الطريق وإقفاره هي إنهاء لذاك الطريق – وهذا هو الفعل الأوحد. لا تقل: “أنا لا أفهم الأمر، يجب أن أفكر فيه، يجب أن أشتغل عليه، يجب أن أتمرَّن على الوعي، يجب أن أكتشف ماهية الانتباه، يجب أن أتأمل وأتوغل فيه”، بل تبيَّنْ أنَّ كلَّ حركةِ تحقُّق أو إنجاز أو اتِّكال في الحياة هي ذاك الطريق. إنَّ رؤيتك هذا الأمر هي هجرٌ لذاك الطريق. حينما ترى الخطر فأنت لا تلغط كثيرًا محاولًا أن تحسم أمرك حول ما يجب عليك فعلُه بخصوصه. إذا قلت، وأنت تواجه الخطر، “يجب أن أتأمل فيه، أن أعيه، أن أتوغل فيه، أن أفهمه” فأنت هالك، وقد فات الأوان. وإذن فما يجب عليك فعلُه ببساطة هو رؤية هذا الطريق، ماهيَّته، إلى أين يؤدي، وما تشعر حياله، فتكون أصلًا سالكًا في اتجاه مختلف.
هذا ما نعنيه حين نتكلَّم على الوعي: نعني وعي الطريق ومغزى ذاك الطريق كلِّه، وعي ألوف حركات الحياة المختلفة التي توجد على الطريق نفسه. إذا حاولت أن ترى “الطريق الآخر” أو تسلكه فأنت لا تزال على الطريق القديم نفسه.
السائل: فكيف أقدر أن أتأكد من أني أرى ما ينبغي فعلُه؟
كريشنامورتي: لا تقدر أن ترى ما ينبغي فعلُه، بل تقدر فقط أن ترى ما ينبغي عدم فعله. إنَّ نفي ذاك الطريق كليًّا هو البداية الجديدة، الطريق الآخر. وهذا الطريق الآخر ليس على الخارطة، بل لا يمكن وضعه على أيِّ خارطة أصلًا. كلُّ خارطة فهي خارطة الطريق الخاطئ، الطريق القديم.
* J. Krishnamurti, Eight Conversations. Copyright ©1969 Krishnamurti Foundation Trust, England.