في الحرِّية العميقة 1
موسى د. الخوري*
1
تُختَبَرُ الحرية في مواجهة التساؤلات الكبرى، وفي مواجهة النقد الفكري والعلمي الذي يشكِّل مرآة القدرة على التطور والانفتاح والمشاركة.
فعندما نكون أحرارًا في الداخل – في العمق – تتحقَّق الحرية الخارجية كنتيجة للحرية الداخلية. ينطبق ذلك على الفرد، كما ينطبق على الجماعة عندما يزداد عدد الأحرار في ذواتهم، فينهضون بالمجتمع ويحرِّرونه.
والحرية الداخلية هي كينونة متطوِّرة، وليست مجرَّد “إسقاط” لتصوُّرنا عنها. لذا فإنها تُختَبَرُ عندما نواجهها بسؤال متجدِّد حول قضية فكرية أو اجتماعية أو سياسية إلخ، فيكون جوابها ناجمًا عن عدم الانخراط في ظلال السؤال، ظلال الإجابات المسبقة والأفكار الجاهزة.
2
تنشأ الحرية الداخلية من مقاربة التساؤلات الوجودية في معزل عن الإجابات المتوقَّعة أو المفروضة. فهذه المقاربة تتألَّق بنور الارتحال في عوالم التفتُّح اللامتناهي، وهي تبني عوالمها على لاتعيُّن المسارات وعلى عدم وجود أهداف، مسبقة كانت أو غير مسبقة.
ولدنا جميعًا في بيئات مختلفة. البيئة الصغيرة تؤثِّر في تنشئتنا، كما البيئة الكبيرة. هكذا يتشرَّب الإنسان الكثير من أفكاره وعقائده ورؤاه من بيئته. حتى يواجه منعطف التساؤلات الوجودية العميقة؛ فإما يتجاهلها ويستمر في بنيته المتشكِّلة وفق مسارات تحديدية فرضتْها بيئته، وإنْ بدرجات متفاوتة، فيكتفي بالأجوبة التي تعلَّمها، ويسارع ليضيف عليها زركشاته الخاصة، معتقدًا أنه جاء بإيضاح أو فهم أعمق، وإما يتأمل فيها ويستغرق بحثًا عن إجابة، مخلصًا وصادقًا في إرادته الوصول إلى جلاء ما أشكل عليه فهمه ولم تقنعه الإجابات الجاهزة والمسبقة في تفسيره.
إنها بداية تحقيقه لحرِّيته الداخلية.
3
تتعمَّق الحرية الداخلية في البداية كلما تجاوزتْ حاجزًا من الحواجز المقامة على حدود العقيدة والتقليد. لكنها ما إن تصبح على حافة الخروج من ردهات الشرائع والموروث، وتطلُّ على منحدر يكاد يشبه الهاوية لثقل انفتاحه على اللامحدود، حتى ترتبك؛ وتبدأ مرحلة جديدة من محاولة الثبات في التأمل العميق، دون خوف من المجهول، ودون التهلُّل للانتصارات الصغيرة التي كانت قد حقَّقتها حتى الآن.
لكن أين السبيل!
هل كانت جميع خطوات التحرُّر السابقة من الأفكار والتقاليد والعقائد مجرَّد خطوات في دهاليز هذه الإجابات المسبقة؟ وإلا، كيف وصلت الآن إلى حافة خطرة يكاد يكون من المستحيل تجاوُزها للعبور إلى أفق جديد؟ تكاد الحرية الداخلية الوليدة لا تصدِّق هذا الموقف! الجبال البعيدة الممتدة أمامها تخفي وراءها، لا شك، عوالم جديدة، وهناك وراء اللون القاتم للهاوية نور شفيف يصل من عالم أبعد. لكن لا سبيل إلى قطع هذه المخاطر المترامية أمامها.
فهل تلقي بنفسها في هذه اللجَّة السحيقة؟ أم تعود إلى الوراء؟ هل قطعت فعلاً خيوط العودة كافة؟ أم أنها لا تزال تحتفظ بروابط بعض هذه الخيوط التي سترشدها في متاهات السراديب الآمنة؟! لا، لم تقطع بعدُ الكثير من روابطها مع عوالم بُنِيَتْ عبر القرون. خطوة إلى الوراء ستكفي. التفاتة واحدة ستغيِّر المشهد.
لكن لا! فمَن ذاق جمال النور في ضيائه خلف الجبل لن يلتفت إلى الوراء.
تخطو الحرية الداخلية خطوة واحدة إلى الأمام. نحو الهاوية. نحو النور. تتقطَّع الخيوط التي لا تزال تشدُّها إلى حافة الأسوار القديمة، وترمي بنفسها في عبق السرِّ الفريد، أن لا شيء يتجاذبنا بعد الآن. فإذا بها تحلِّق فوق ضباب الهاوية، فإذا بها تطير نحو الأفق الجديد…
4
تحكمنا منذ ولادتنا صفات مورثية. إنَّ وجودنا يحتفل بإمكانات لا تنتهي. مع ذلك، فإن تحديدية صارمة تضغط على خياراتنا، قد تزيدها البيئة صعوبة، أو قد تفتح أمامها فرصًا تخفِّف من ضعفنا. في الحالتين، يمثِّل احتكاكنا ببيئات مختلفة تغييرات وتعديلات مستمرة على بنيتنا الجسدية والنفسية والعقلية.
تقع إدراكاتنا كافة ضمن هذين القوسين: الشرط الطبيعي والشرط المجتمعي. وهما شرطان قاسيان بما يكفي، بحيث إننا قبلنا عبر التاريخ حلولاً مرتجلة للتخفيف من هذه القسوة أو لطرح تفسيرات تحمل لنا بعض الطمأنينة. حلول تُوِّجت بالديانات والآلهة والعقائد المختلفة.
لم تستطع هذه الحلول أن تُمِدَّنا براحة حقيقية، بل على العكس تمامًا، زادت من تعقيد بنية مجتمعاتنا وصراعاتها. لقد كرَّست العقائد المختلفة عبر التاريخ الانقسام الإنساني والتفتُّت المجتمعي. وبدلاً من أن تبني رؤيا تشارُكية لتطوُّرنا، كرَّست الصراع العنفي سبيلاً إلى التفوُّق وإثبات الذات.
تتأسَّس مواجهةُ تحديدية المورِّثات على التربية المنفتحة والمشتركة. ويتأسَّس تفاعلنا الاجتماعي على تحقيق إنسانيَّتنا وبناء مجتمع قابل للتعاضد والتفاعل والتطور مع الحياة المتفتِّحة والوعي المتنوِّر.
تتحقق مواجهة هذين الشرطين الوجوديين بالحرية الداخلية، الحرية من الحلول العقائدية كافة.
5
يشكِّل تطوُّرنا النفسي والعقلي سمة من سمات تطوُّر فهمنا للألوهة. وتشكِّل الألوهة أيضًا مرآة عاكسة لتطورنا النفسي والعقلي.
كان مفهوم الإله مفهومًا متطورًا عبر العصور القديمة. وقد عكس، بالتالي، تطوُّر إدراكنا المعرفي نفسيًّا وعقليًّا. فمقاربتنا للطبيعة تحولت من خوف إلى تقرُّب، ومقاربتنا لأنفسنا تحولت من انفصال عن الألوهة إلى توحُّد معها.
مع ذلك، فقد توقَّف تطوُّر مفهوم الألوهة في معظم الديانات القديمة. لكنه لم يتوقف في منحى آخر، جديد، مع أنه لا يمتُّ بصلة إلى الجانب الظاهر من تطوُّر مفهوم الألوهة. وهذا المنحى هو العلم.
فالعلم أعاد لتطوُّرنا النفسي والعقلي سمة العلاقة التبادلية، وسمة التفاعل والتقرُّب من الطبيعة ومن الذات، وسمة التعمُّق في البحث عن المعنى العميق للوجود ومعرفة الألوهة الكامنة فيه!
ليس العلم ديانة جديدة، لكن معيار تمييز تطوُّر مفهوم الألوهة يرتبط ارتباطًا أساسيًّا بإدراك مدى حرِّيتنا الداخلية في تمثُّلها، وهو ما يفتح لنا العلم أبوابًا جديدة لولوجها!
6
ليست الألوهة فكرة ثابتة أو بنية قابلة للتتويج على عرش كون تحديدي أو معرفة نهائية.
إن معرفتنا لله تنبع من شعورنا الداخلي بتفتُّح الألوهة فينا وفي الكون. فالله ليس كينونة ماثلة في عالم خارجي أو داخلي، كينونة محدودة ومعرَّفة في أُطُر العقائد أو التجارب الروحية، لأن تطوُّر الكون والحياة والوعي لا ينتهي…
إن مثال الألوهة هو مثال جاذب، بل هو مثال محرِّك ودافع أنبتْناه في أعماق كياننا لأننا نحتاج إلى هذا المثال الكلِّي في ذاته. مع ذلك، لا يمكن لهذا المثال أن يكون جامدًا، متواطئًا مع عطالة تطوُّرية تكبح الحياة نفسَها في تفتُّحها وتعتِّم الوعي المستنير في تألُّقه.
إن مفهوم الله يكتسب معناه الأعمق عندما نحرِّره من البرج السماوي التخيُّلي الذي أسكنَّاه فيه وحدَّدناه به! إذا لم نحرِّر الإله من الأديان والشرائع والطقوس والأفكار التي نسبناها إليه كلِّها فنحن إنما نحدِّد حريتنا الداخلية، ونجازف بحَجْب النور الذي أضاءته الحياة فينا عبر عصورها الطويلة.
إن حرِّيتنا العميقة هي تحرير الإله فينا من حُجُبنا.
7
ما الذي يحدِّد صِلاتنا مع حرِّيتنا العميقة؟
إن الطقوس والعادات والتقاليد تشكِّل نسيجًا متوارَثًا نرفع من قيمته كلما ازداد قِدَمًا، دون أن ندرك أنه يلتف حولنا مشكِّلاً غلالة سميكة من الأفكار الثابتة التي نصبح سجناء لها.
تترسَّخ هذه العادات فيما هو أبعد من التراكم التاريخي. فمنشؤها هو بحثنا الجمعي عن حلول مزعومة لعلاقتنا مع المجاهيل الكثيرة بالنسبة إلينا في هذا العالم.
غالبًا ما تركَّزت هذه الحلول في منظومات تشريعية نسبناها إلى الإله. بل وأكثر من ذلك، فقد حمَّلنا الإله مسؤولية تحديدية، ألا وهي أن يضع لنا نظامًا دقيقًا من الشرائع التي تضبط حياتنا اليومية، من صلوات وفروض والتزامات. ومع أن التطور المجتمعي عبر العصور فرض تفسيراتٍ كثيرةً لهذه التشريعات الإلهية، بحيث نختلف اليوم على تفسيرها وتطبيقها، فإننا لا نزال نتمسَّك بها كأسلوب حياة ينظِّم تطوُّرنا الفردي والجمعي.
تتناقض فكرة الألوهة مع الحلول التشريعية، لأن ألوهة تضع المواثيق والشرائع والفرائض هي ألوهة خاضعة لأنماطنا التحديدية، أي لضعفنا وجهلنا في مواجهة المجهول الفريد.
إن تطوُّرنا النفسي لا يمكن أن يرتكز على تحديدات إلهية المصدر، بل على حرِّيتنا العميقة التي لا تخضع لأيِّ نوع من الشرائع…
فهي حرية إلهية حقَّة.
* كاتب ومفكر ومحاضر ومترجم سوري، باحث في العلوم الفيزيائية والفلسفة والتاريخ والأرخيولوجيا، نائب رئيس الجمعية الكونية السورية. من مؤلَّفاته العديدة: قصة الأرقام عبر حضارات الشرق القديم (2002)؛ وللناشئة: قصة الكون والحياة والإنسان كما يرويها العلم الحديث (2009)؛ أوغاريت، حضارة الأبجدية الأولى (2011). ومن مترجَماته الغزيرة: مخطوطات قمران – البحر الميت، 3 مج (1998-1999)؛ جاك كوڤان، الألوهية والزراعة (1999)؛ إيليا پريغوجين وإيزابيل ستنغرز، بين الزمن والأبدية (1999)؛ ميشيل بتبول، القرب المُعمي من الواقع، اللاواقعية وشبه الواقعية في الفيزياء (2014).