عن التسامح والعولمة وأشياء أخرى… – ديمتري أڤييرينوس

عن التسامح والعولمة وأشياء أخرى…*

ديمتري أڤييرينوس

ديمتري أڤييرينوس

 

إلى روح الحاج حسين مدخنة

 

كثيرًا ما يجري الحديث في هذه الآونة عن مفاهيم من نحو “التسامح”، “التعايش”، “التجاور السلمي”، إلخ، وكأن احترام التعددية وقبول الآخر المختلف صارا من تقاليدنا الثقافية الراسخة حتى بتنا نحيا جنَّة التفاهم في العالم العربي وعلى الكرة الأرضية بأسرها!

ينطوي الاستعمال الدارج لكلمة “تسامُح”، في الخطاب الثقافي بعامة والديني بخاصة، على رياء مبطَّن. فكأن الأطراف المعنيَّة بهذا الخطاب لا ينفك بعضها “يخطئ” في حقِّ بعضها الآخر، فلا يلبث هذا البعض، على مضض شديد، أن “يسامحه” على خطئه، وكأن شيئًا لم يكن! لكن من الواضح للغاية أن منطق المراءاة هذا غير سليم، ولا يمكن له أن يظل ساري المفعول على المدى الطويل.

لا تُباعِد بين المنظومات الدينية للبشرية عناصر إيمانية جوهرية، بل تُباعِد بينها منظومات لاهوتية وكلامية معقدة، متوسَّع فيها حتى التخمة، يحكمها منطق إقصائي مؤداه: “حتى أكون على صواب يجب أن يكون الآخر بالضرورة على خطأ”. لكأننا بالبشر الذين كدحوا معًا، وتألموا معًا، وماتوا معًا، باتت تفصل بينهم نقاط فقهية شقاقية تدفع بهم إلى التناحر – حتى القتل في أحيان كثيرة! وكأن الدِّين، الذي يُفترَض فيه أن يؤدي وظيفة التأليف بين قلوب البشر، بات دوره التاريخي الأساسي يقتصر على تسويغ استعلاء الإنسان على الإنسان، بَذْر الشقاق بين الإنسان والإنسان، فَتْك الإنسان بالإنسان…

لن يكون هناك إسلام، على سبيل المثال، مادام مسلمون يعتقدون باحتكارهم الحقيقة الدينية المطلقة، وبأنهم “خير أمة” بالمعنى الحصري للعبارة؛ ولن تكون مسيحية في وجود خمسمئة طائفة “مسيحية” تتبارى في رفع الحواجز العقائدية فيما بينها، من ناحية، وفيما بينها وبين الأديان الأخرى، من ناحية ثانية، ولا تزال تتوهم أن “لا خلاص خارج كنيستي”؛ ولن تكون إسرائيلية ما ظل أبناء دين عريق يختزلون دينهم إلى دولة قومية عنصرية، عمادها فكرة “شعب مختار” – وقِسْ على ذلك سائر الملل والنحل التي تغصُّ بها كرتنا الأرضية.

كذلك لن يكون ثمة تسامُح ديني، أو حتى تسامُح عمومًا (بالمعنى غير المنافق للكلمة)، والأديان العالمية الكبرى تجهل (أو تتجاهل) وحدة تطلعاتها الروحية، مصرَّة فقط على اختلافاتها العقائدية وخلافاتها المذهبية. قطعًا ليس مطلوبًا – وليس مستحبًّا حتى – أن تذيب الأديان المختلفة، التي تلبي حاجات مختلف الأمم، النفسية منها والثقافية، هوياتها وتنوعاتها في نوع من المؤسسة المشتركة – ولاسيما أن التسامح الحقيقي يقع قطعًا خارج نطاق المؤسسات التي لا تهمها بالدرجة الأولى سوى ديمومتها الزمنية –؛ لكن من الجوهري قطعًا، من أجل نجاة الدافع الديني الأصيل في النفس الإنسانية، أن ترتقي المؤسسات الدينية فوق الخلافات السطحية التي تجزؤها وتُباعِد فيما بينها، فتسعى في التلاقي لصياغة ميثاق مشترك بالمبادئ الروحية والأخلاقية والاجتماعية والثقافية.

* * *

ليس “الإنسان الديِّن” Homo religiosus مجرد فرد ينتسب إلى منظومة عقائدية لاهوتية وحسب. فالدِّين، وإنْ كان تعويضًا “معقولاً” عن غياب خبرة روحية كونية مركوزة في أعماق روح الإنسان، إلا أنه أيضًا، على صعيد الحياة الاجتماعية، محاولة لتطبيق المثالية في العمل، لـ”أمْثَلَة” العمل الإنساني، إذا جاز التعبير. الإنسان الديِّن إنسان يتبنى شرعة أسمى من شرعة الشهوة البهيمية، فيسعى في الحياة وفقًا لهذه الشرعة، رافعًا سوية اهتماماته من مستوى الحاجة البيولوجية البحتة إلى مستوى “الأنْسَنَة” humanization.

على الإنسان الفرد المتوسط، الضائع وسط الحجج المتباينة والمتناقضة والمتلاغية لألف مذهب ومذهب، أن يجابه اليوم مشكلة القيم الروحية. هذا الإنسان، أيًّا كان دينه و/أو مذهبه، يتحرق في أعماقه شوقًا إلى حياة ملؤها الفطنة والصدق وحسن المعشر؛ لكن هذه القيم الإنسانية البسيطة يعتِّم عليها، بل يغيِّبها تمامًا، الإسفاف الكلامي واللاهوتي، إلى حدِّ أن الغالبية الساحقة من البشر أمسوا يعانون حالة يرثى لها من البلبلة والخواء الروحي.

بيد أن عصر التباري المذهبي، شأنه شأن عصر التباري الصناعي، يدنو من خاتمته على ما يبدو. إن مسألة أيِّ المناسك الدينية “مَرْضي عند الله” مسألة ثانوية جدًّا – هذا إنْ كانت تؤخذ على محمل الجد أصلاً! المسألة الجوهرية هي بالأحرى: أيُّ هذه المناسك يُدني أكثر من سواه من ممارسة المبادئ الروحية في الحياة الاجتماعية. فمَن “يعمل بمشيئة الآب” مخلصًا هو الأكثر قبولاً عند الآب: “إن أكرمكم عند الله أتقاكم” (القرآن، سورة الحجرات 13). فالأديان ليست عظيمة بتعقيد عقائدها، ولا بالعدد الغفير من أتباعها، ولا بغنى أوقافها، وقطعًا لا بوجاهة رجالاتها. الأديان لا تكون عظيمة حقًّا ما لم يعمل معتنقوها على تطبيق المبادئ والقيم الروحية الأزلية على المشكلات المادية التي تواجه جنسنا البشري، فيساهموا مساهمة مخلصة وفعالة في النمو الأخلاقي والتلاقي العقلي واليقظة الروحية للإنسانية.

كلما أوغلنا في الفحص عن هذه المبادئ والقيم، ازددنا قناعة بإمكانية الوحدة الدينية. فالفوارق التي ظهرت في الكلام واللاهوت لم تكن موجودة في الوحي الأصلي، بل تسللت خلسة عبر اجتهادات المفسرين والشارحين التابعين؛ ضيق الأفق العقلي الماثل في مختلف المعتقدات غير صادر بالضرورة عن المؤسِّسين، بل لقد كرَّسه فيما بعد أتباع غيارى على الدِّين، لكنهم متعصِّبون، فاتهم فهمُ الرؤيا التأسيسية للتراث الذي وصلهم نقلاً، وما كان في الأصل ضرورة “ظرفية” عملية بات بنظرهم جزءًا لا يتجزأ من الدِّين.

كلما جلس الگورو للصلاة في المساء، جاءت قطة الأشرم وسط المصلين وألْهتهم عن صلاتهم. لذا أمر الگورو بربط القطة في أثناء صلاة العشاء.

وبعد وفاة الگورو، ظل القوم على ربطهم القطة في أثناء صلاة العشاء. وعندما نفقت القطة، جيء بقطة أخرى إلى الأشرم حتى تُربَط على ما ينبغي طوال مدة الصلاة.

وبعد ذلك بقرون، كتب علماء من أتباع الگورو رسائل فقهية مفصلة في المعنى الشعائري لربط قطة في أثناء إقامة الصلاة!

أجل، لقد أمست أدياننا كشوفًا شوهاء، يلتبس فيها الجوهري بالثانوي. لذا بات وجود ميثاق روحي عالمي من قبيل الضرورة القدرية من أجل لمِّ شتات المعتقدات والمذاهب، التي لم تكن منقسمة جوهريًّا في الأصل، وغربلتها لفرز الجوهر فيها من المظهر.

* * *

الكلمات كائنات ذهنية خطرة للغاية. فالجهلة بين إخواننا البشر يضلِّلهم مظهرُ الجزالة والأهمية الذي تتشح به الكلمات. “القاموس المحيط”، بهذه المثابة، أساس لسوء التفاهم: كلما ازداد عدد الكلمات التي بحوزتنا، اتسعت الإمكانية المتاحة لنا إنْ لإساءة فهم غيرنا وإنْ لإساءة بيان ما نقصد. إننا نلفق خطابات لا تنتهي، وكلماتنا، بكل أسف، هي التي تغدو الأساس في حجَّتنا، لا خبرتنا الروحية الحية. ترانا مثلاً، بكل صلف، ندعو عابد برهما “كافرًا”، وعابد الروح العظمى “وثنيًّا”، إلخ، بينما عابد الله على طريقتنا وحده مؤمن حق! بيد أن كلمة “الله”، في ذهن الإنسان المتوسط العادي، غدت في أيامنا كلمة عديمة المعنى، من حيث إنها لم تعد تنقل فهمًا حاذقًا عميقًا لأيٍّ من مظاهر الألوهة الشاملة الكلية الحضور. الفضيلة الوحيدة التي تتصف بها هذه الكلمة (إنْ صحت تسميتها “فضيلة”!) هي أنها، بحُكْم شيوع استعمالها، لا تزال محل إجماع ويألفها الجميع. إن تديُّننا، بمعنى من المعاني، باطل، وذلك لأننا نخفق في إدراك أن برهما والروح العظمى والله ليست آلهة مختلفة، بل أسماء متنوعة لمسمى واحد: الذات الإلهية المطلقة، لكن المقيدة بنسبية تأويل اللغة الخاصة بكل دين. بذا فإن جهلنا يغرينا أن نكرِّس الفوارق حيث لا فوارق، بحيث أمسى الدين، بوصفه قوة روحية فاعلة في المجتمع، عاجزًا عن التأثير.

* * *

فاصلة:

عندما رست سفينة المطران يومًا واحدًا عند شاطئ جزيرة نائية، قرر أن يستغل الوقت بأفضل ما يمكن من النفع. وبينما كان يتنزه على شاطئ البحر، مرَّ بثلاثة صيادين يصلحون شباكهم. وقد شرح له هؤلاء، بإنكليزية رطنة، أن قومهم تنصَّروا منذ قرون على يد الإرساليات. “نحن مسيحي!” قالوا، يشير كلٌّ منهم إلى رفيقيه فخورًا.

تأثر المطران بكلامهم. أتراهم يعرفون صلاة الرب؟ لم يسمعوا بها قط؟! صُدِمَ المطران!

– ماذا تقولون إذن عندما تصلون؟
– نرفع عيون إلى سماء. نصلي: “نحن ثلاثة، أنت ثلاثة، ارحمنا.”

هالت المطران طبيعة صلاتهم البدائية، الصريحة الزندقة، فصرف النهار كله يلقنهم صلاة الرب. كان الصيادون قليلي الاستيعاب، لكنهم بذلوا قصارى جهدهم، وقبل أن يتابع المطران سفره في اليوم التالي كان بالغ الارتياح لسماعهم يتلون الدعاء كاملاً دون أي غلط.

ثم اتفق لسفينة المطران، بعد شهور، أن مرت مرة أخرى على مقربة من تلك الجزائر، وإذ كان المطران يذرع ظهر السفينة جيئة وذهابًا مرددًا صلواته المسائية، تذكر مسرورًا الرجال الثلاثة في تلك الجزيرة النائية الذين باتوا قادرين أن يصلُّوا بفضل جهده الصبور. وبينما هو مستغرق في الفكرة، اتفق له أن رفع نظره، فلحظ بقعة ضوء آتية من الشرق.

واصل الضوء الاقتراب من السفينة. وإذا بالمطران، وهو يحدق مذهولاً، يرى ثلاثة أخيلة تمشي على الماء! أوقف القبطان السفينة وانحنى الجميع على الدرابزين ليحدقوا إلى المشهد.

وعندما صارت المسافة تتيح الكلام، تعرف المطران إلى أصدقائه الصيادين الثلاثة الذين نادوا معًا: “مطران! يا مطران! نسمع سفينتك يمر قرب جزيرة فنأتي سريعًا سريعًا للقائك.”

– ماذا تبغون؟ سأل المطران مذهولاً.
– يا مطران، قالوا، نحن آسف جدًّا جدًّا. نحن ننسى صلاة لطيفة. نقول: “أبانا الذي في السموات، ليتقدس اسمُك، ليأتِ ملكوتك…” ثم ننسى. نرجوك تقول لنا صلاة ثانية.

شعر المطران بالتواضع وقال: “عودوا إلى بيوتكم، يا أصدقائي، وكلما صلَّيتم قولوا: “نحن ثلاثة، أنت ثلاثة، ارحمنا!”

يصلي البشر لآلهتهم، مكثرين الكلام غالبًا؛ وصلواتهم، في أكثر الأحيان، تصريحات مفصَّلة على رغباتهم المحدودة: تراهم يتوسلون إلى الإله أن يخصَّهم بالرعاية، وينصرهم على خصومهم، ويرفع مصالحهم الصغيرة فوق الخير العام. أجل، إن صلوات البشر، في معظمها، صروح شامخة من الأنانية وسوء الفهم وضيق النظر! ففي الأمور الروحية لا نزال ضحايا الكلمات والعبارات الاصطلاحية التي تحجب الحقائق البسيطة.

لذا يتعين علينا، في أمور الدِّين، أن نغادر بيداء الكلمات وندخل رياض الصمت. فلنشعر بالقيم الروحية، ولنستشعرها عند سوانا، برفاقية وحدة المقصد ووحدة المصير. إن مصافحة بسيطة صادقة لتنقل من الدِّين والسلوى الروحية أكثر بكثير من مئة خطبة أو موعظة مطنبة في الكلام؛ والتضامن المخلص نحو الغاية المشتركة هو أفرَض ما يجب على الدِّين اليوم أن يدعو إليه عالمنا المتألم. فوحده هذا الشعور الحميم بالتضامن من شأنه أن ينقلنا من “التسامح” tolerance، حيث أودُّ الآخر على الرغم من اختلافه عني، إلى “القبول” acceptance، حيث أودُّه لأنه مختلف عني.

* * *

اقتُرح في الأمم المتحدة ذات يوم أن تراجَع الكتب الشريفة، فيُحذَف منها كلُّ ما يؤدي إلى التعصب و/أو العنف ويُتلَف كلُّ ما يسيء إلى كرامة الإنسان. لكنْ هيهات، والكتب التي وُجِدت أصلاً من أجل الإنسان باتت أهم بكثير من الإنسان!

قال أحدهم للبوذا: “الأمور التي تعلِّمها، سيدي، لم أجدها في الكتب الشريفة.”
“ضِفْها عليها إذن”، قال البوذا.
وبعد هنيهة صمت حَرِج، أردف الرجل قائلاً: “هل لي أن أجترأ عليك، سيدي، فأقول إن بعض الأمور التي تعلِّمها يناقض الكتب الشريفة فعلاً؟”
فقال البوذا: “تحتاج الكتب إذن إلى بعض التصويب.”

* * *

في بداية هذه السنة [2001]، ودَّعنا قرنًا نَدَرَ فيه، في الظاهر على الأقل، ما يجيز لنا استشفاف بارقة أمل في القرن الذي أقبلنا عليه. زماننا الموسوم بإيديولوجيات حلَّقت بالفظاعة البشرية إلى ذرى ما كان الإنسان لِيحلمَ ببلوغها من قبل – زماننا هذا، نقول، يود أن يرى في النواحي الإيجابية للعولمة (الثقافية والروحية بالدرجة الأولى، التي تتجسد فيها عالمية الإنسان، بأبعادها العبرسياسية والعبرثقافية والعبردينية – وكلُّها انعكاسات للعقل الإنساني الواحد) عربونًا لعالم أكثر تضامنًا ووحدة. وكجواب عن فتوح “التكنولوجيا العدوانية” (ندره اليازجي) التي تسببت في العقود الأخيرة في أكثر المآسي هولاً، يأمل زماننا من الثورة الجينية صباحًا أكثر إشراقًا. هو نوع من الحلم الپروميثي بالسيطرة على القدر، لا بل، عند بعضهم، باكتناه سرِّ الحياة؛ وكذلك، أمل بالسيطرة على تبعات النمو لضمان كوكب أكثر أمانًا للجميع. فهل يحق لنا أن نحلم؟

لم يستطع القرن العشرون الموسوم، في الفلسفة المحرِّكة له، بعصر الأنوار الأوروبي، أن يحُول دون تكرار مجازر مروِّعة في أماكن أخرى بعد بضع سنوات من وقوعها. لكأن الثقافة والهمجية فرسا رهان: صور العنف نفسها تتكرر يومًا بعد يوم، وكأنها قضاء مبرم. والحصيلة مرعبة، ما في ذلك ريب. ذلك أن “التقدم”، مستوى المعيشة، الاستهلاك، الديمقراطية – هذه المعايير الحديثة المزعومة التي يقيَّم بها مستوى المدنية في بلد ما –، لم يحدث قط أن وُزِّعت بهذا المقدار الفاحش من الظلم: الاستهلاك الجماهيري المحموم يسير جنبًا إلى جنب مع البؤس المستشري؛ الشقة بين عدد الأغنياء والميسورين، المتناقص في دول الشمال، وبين عدد الفقراء المُعدَمين، المتزايد في دول الجنوب، مافتئت في اتساع؛ الإنترنت – رمز عولمة التلاقح الثقافي والتبادل التجاري المنتصرة، التي لولاها لما أمكن لكاتب هذه السطور أن يخاطبك بهذه السهولة – يتجاهل تمامًا مناطق وأقاليم شاسعة ملقاة في غياهب النسيان؛ حتى موت الإيديولوجيات يترك الباب مفتوحًا على مصراعيه لاجتياح نوع من الفكر الموحَّد الشامل، لانتصار نموذج فكري أحادي يواصل، بلا كلل، تسطيح التضاريس الثقافية كلها، وتوحيد الأزياء الروحية كلها، لصالح دين جديد تؤدى فيه فروضُ العبادة والطاعة المطلقة لـ”أمير هذا العالم” الذي لن نسمِّيه!

حقًّا إنها لصورة قاتمة، تحبط آمال الحالمين بعالم جديد أفضل، بقدر ما ينتشي بها مَن توَّجوا أنفسهم سادةً لهذا الكوكب و”شرطة” عليه!

مع ذلك، ففي قلب هذا الرصد القاتم للتهديد الأرعن باستعمال أكثر وسائل التدمير سطوة في تاريخ البشر يمكن للرجاء أن يعشِّش – هشًّا قطعًا، لكنه حقيقي. يكمن الأمل في وعي مصيرنا المشترك على هذا الكوكب الأزرق الوادع وفي إدراك وحدتنا الجوهرية… لأنه في هذا العالم الذي تدانت أقاصيه، وتوحَّدت مشاربه، وشفَّت لعبته الكونية، أصبح ممكنًا لكل ما يصدر عن جهة ما – دولة، مؤسسة، باحث فرد، هم، هنَّ، أنت، أنا – أن يبلغ الآخر، فإما أن يساعده أو يسعفه، وإما أن يمعن في إغراقه؛ ولأنه في عالم يقدم بلا هوادة للـ”أنا”، للـ”شخص”، أكثر من أي وقت مضى، ألعابًا أكثر، أعيادًا أكثر، لحظات مُسْكِرة مشتركة أكثر، غدا يخترق الخواءَ الروحيَّ المُعاصرَ – “متلازمة الجماعة” الحمقاء هذه! –، وكأنه البرق الساطع في ظلام دامس، انعكاسٌ باهتٌ لهويتنا الحقيقية المشتركة القابعة في أغوار نفوسنا.

يكمن الأمل، إذن، في صحوة بعضهم على هذه الهوية الواحدة. ألعله ضرب من ضروب التمنِّي الساذج أو الحلم المستحيل؟ ربما.

لكنْ… ألم يقل الشهيد مارتن لوثر كينگ ذات يوم عصيب من تاريخ بلاده: “أنا عندي حلم…”؟!


* صياغة منقحة لافتتاحية العدد الرابع من مجلة معابر: www.maaber.org.