عن قطاف أزهار البرتقال – يوسف عبجي

عن قطاف أزهار البرتقال
في التربية المتكاملة

يوسف عبجي

يوسف عبجي*

 

لو وُجِدَتْ مدرسةُ حياة، كتلك المدارس الشائعة في مصر القديمة، مدرسةٌ تتأسَّس على الجانب العملي من الحياة وحده (كأنْ تجعل من فكِّ رموز الحروف وتدوينها فنًّا قائمًا بذاته)، لكانت حصَّة فجر اليوم الدَّرْسية مخصَّصة لقطاف أزهار البرتقال ولتمييز أصوات الطيور، ولَمَا تخلَّلتْها كلمةٌ واحدة – ولعلَّها مهمَّة شاقة بنظر أغلب أبناء المدن الحديثة!

أهمُّ شيء في التربية هو تعلُّم فنِّ الإصغاء وفنِّ الرصد – وكلُّ ماعدا ذلك تفصيل ثانوي! على المدرسة أن توفِّر خاصية رهبانية نسكية يتمتع فيها ذهنُ المرء بحرية التجوال وحده في الخارج وفي الداخل. إذ إن التطبيق “القسري” للاتِّزان الداخلي المطلوب للإصغاء والرصد لا ينفع، بل ينقلب إلى انضباط جامد، لا يلبث بذلك أن يتحول إلى قمع/إحباط، بحيث إن القدرة على التعلُّم تتعطَّل والطاقة الداخلية تُهدَر وتتحول إلى فوضى مطبقة.

على المدرسة أن تكتفي بتوفير جوٍّ مؤاتٍ يكون فيه المعلِّم والمتعلِّم في حالٍ من التناغم، فيتشاركا “التعلُّم” عبر رصدٍ مجرَّدٍ من الأحكام المسبقة، بحيث يجري رصد الأذهان وهي تُصارع لتصير شيئًا آخر غير ما هي (تشتُّت) بدلاً من أن تكون حاضرة في اللحظة الراهنة.

جميع حقول الحياة مقدسة، وليس مجرَّد فنِّ فكِّ الحرف ورسمه. فقد يكون هذا الفنُّ مجرَّد مهنة ضرورية لا يجيدها إلا القلَّة، في حين يبقى باقي العالم على ما هو عليه من حيث “الأمِّية” – على الرغم من أن بعضهم يزعم أن “محو الأمية” يدرأ عن الأفراد المستضعَفين خطرَ الاستغلال في عالم لا تفعل فيه المجتمعات شيئًا سوى استغلال المصادر الطبيعية والمجتمعات المشلولة؛ إذ إن أغلب الحكومات قائمة لا لشيء إلا لفرض منظومات تشلُّ إرادة محكوميها لتعزيز سلطة حكَّامها المستبدِّين.

من شأن العالم قطعًا أن يصبح مكانًا أفضل إذا توفَّرتْ فيه فرصُ العمل للمزارعين الموهوبين، للنجَّارين الفخورين بعملهم، للنسَّاجين والخزَّافين المتقنين صنعتَهم، للاختصاصيين في الطاقة الشمسية، للمكتشفين طاقةً جديدةً مجانية، للصنَّاع الفنِّيين، لقَطَّاعي الحجر والبنَّائين المهرة، لصانعي أكوام السماد الطبيعي، للعاملين في مصانع إعادة التدوير، للشرطة “الخضراء”، لحرَّاس الغابات، لسكَّان الصحراء، لحفَّاري الآبار، لجميع أشكال التجارة غير الاستغلالية، للتكنولوجيات المتقدِّمة غير الملوِّثة التي تستهدف توفير فيض من الخيرات للجميع – مع حرص شديد على صون البيئة – والتي ترمي أساسًا إلى تأمين الصحة البدنية والذهنية للمواطنين.

مجتمعاتنا مريضة بدنيًّا، محمومة، فوضوية، وقائمة على مُثُل قديمة معلَّبة أخفقت إخفاقًا فاضحًا في إحداث تغيير أخلاقي في العالم، لا بل تركتْه أكثر توحُّشًا من أيِّ وقت مضى في التاريخ. وترانا عالقين في هذا الأنموذج، عاجزين عن التجدُّد أو عن تحرير أنفسنا من شبكة منظومة فاسدة ومُفسِدة. وتعود إلى ذهننا “المتعلِّم” المشروط بَلِيَّةُ تطبُّعنا على الإذعان والخنوع. فليتنا نرى ذلك كلَّه – كيف أننا نعيش في ضبابة غائمة، في غياهب منسيَّة، آملين أن تأتينا ذات يوم نفحةٌ من سماء صافية في مستقبل لا يأتي أبدًا، أو متمنِّين استمرار ماضٍ متكيِّف تعلَّقنا به، مع الشعور الحالي باليأس حيال الأحداث كما هي.

نحن عالقون، لكنْ بإرادتنا الحرَّة وحدها. ويعود إلى كلٍّ منَّا – وخصوصًا الآن – أن يعكس وجهة تركيزه إلى الداخل ويبدأ بتفكيك ما تعلَّم، بصرف النظر عن الآخرين! وبكلمة أخيرة: تنطوي مدرسة حياة على حالٍ دائمة من تفكيك المعلومات، لكنْ مع تعلُّم الصنائع، أيًّا كانت، تعلُّمًا ماهرًا!


* يوسف عبجي ( -2014) أنثروپولوجي ورسام ومصمِّم غرافيكي وكاتب ومعمار بيئي مصري؛ من اهتماماته العديدة: المصريات والمبادئ الرياضية للهندسة القديمة والزراعة البيولوجية.