في المذهب والتمذهب – يوسف عبجي

في المذهب والتَّمَذْهُب
هل المذهب مرآتنا؟

يوسف عبجي

يوسف عبجي*

 

اختيار الفكاك من المذهب الذي ننشأ عليه ليس مجرَّد قضية نظرية، بل هو تطبيق عملي في المقام الأول. علينا، أولاً، أن ندرك إلى أيِّ حدٍّ تشدُّنا آمالنا وأشواقنا ومخاوفنا من المستقبل إلى ذلك المذهب؛ إذ إن أملنا بأن تتحقق أشواقنا عبر الامتثال للمذهب يقودنا إلى حياة من الانتظار تنحو أكثر فأكثر إلى الإحباط؛ والإحباط المقموع يعتمل وينفجر على هيئة لَهْوٍ اجتماعي قهري وإدماني.

بذا فإن تنامي صناعة التسلية والألعاب، وتعاطي الكحول والرياضة وصلاة الجماعة، وإعادة النِّحَل الجديدة فبركة التراث القديم، أو حتى الممارسات الجنسية الغرائبية، واختراع ترسانة كاملة من الحبوب المنشِّطة التي تلبِّي الأوقات والأمزجة والمقاصد كافة، إنما هي أمور تتركنا في آخر النهار فارغين فراغَنا حين شرعنا في تعاطيها، فتحرِّض فينا الرغبة في التكرار.

لقد أوجدتْ رتابة الحياة ضمن المذهب سأمًا لا نجرؤ على مواجهته، فنغطِّيه، رعبًا من السأم (يا للسخرية!)، بالانشغال الدائم. وبذا نكون قد اخترعنا عُصابًا يدعى “ما عندي وقت!” – صانعين مجتمعًا من ساعات، سرعان ما تؤدي تكتكتها العصيبة إلى تحطيم الأعصاب.

للبدء في الفكاك من هذا الفخ علينا أن نرى – بحذافيرها – الصورة الكلِّية للعلاقة بين الفرد والكلِّ وبين الكلِّ والفرد، فندرك أن حيلة “الخروج” من هذا المأزق المثنَّى الذي نوقع أنفسنا فيه هي بـ”الولوج” عميقًا إلى الداخل، عميقًا جدًّا إلى صمت جَوَّاني شاسع، حيث لا يريد المرء شيئًا، لا يبحث عن شيء، يكون لاشيء، فيجد نفسه، بالتالي، آنيًّا ومن غير جهد، خارج جميع المذاهب.

هذا اللافعل هو الفعل الثوري الأوحد خارج المذهب. بعضهم يسميه “التأمل”، فيسارع إلى تحويله إلى مذهب!


* يوسف عبجي ( -2014) أنثروپولوجي ورسام ومصمِّم غرافيكي وكاتب ومعمار بيئي مصري؛ من اهتماماته العديدة: المصريات والمبادئ الرياضية للهندسة القديمة والزراعة البيولوجية.