أرشيف التصنيف: قراءات

فلسفة اللاعنف (ديڤيد مكرينولدز) – دارين أحمد

فلسفة اللاعنف*

دارين أحمد**

ليس اللاعنف وليد الحاضر فقط، بل هو، كما يؤكد اللاعنفيون الكبار، قديم قِدَمَ البشرية. غير أنه انتقل على صعيد الواقع، بدءًا من التجربة الگاندهية في تحرير الهند، من الأنساق الضيقة إلى النسق الرحب، أي تحول من مجرد حالات فردية أو جماعية، إلا أنها متفرقة وذات أثر محدود في التاريخ، إلى عامل مهم في صنع التاريخ. بعبارة أخرى، لا يزال النزاع هو العامل المحرك لمسيرة التاريخ، إلا أن إدارة النزاع اتخذت بُعدًا جديدًا، أكثر إنسانية، مع دخول اللاعنف كإستراتيجية فعالة للوصول إلى حل.

قبل أن نستعرض الكتاب محور المقال[1]، سنعرج على بعض المغالطات في فهم اللاعنف التي تشكل عقبة كبيرة تحول دون انتشار هذا التجديد الفكري-الواقعي في نظرتنا إلى مشكلاتنا المحلِّية والعالمية وفي علاقتنا معها. ويمكن لنا تلخيص هذه المغالطات في نقاط ثلاث:

– الأولى، لافعالية اللاعنف: لا يزال يُنظَر إلى اللاعنف على أنه انسحاب من الفعل، انسحاب "سلبي" قوامه العجز والضعف. ومن أسباب انتشار هذه النظرة نذكر:

1. التاريخ الذي مجَّد العنف على حساب السِّلْم والذي تستلهمه الآن مجتمعاتنا المتهالكة كمنبع وحيد لإحيائها.

2. الإعلام، بمنافذه كلها، مساهمٌ أساسي في توكيد العنف وتجاهُل التجارب اللاعنفية.

3. طريقة تفكير "أبيض-أسود" التي تقسم الواقع إلى حيزين متعارضين لا يمكن الجمع بينهما، وتلصق صفات أزلية دائمة بكل حيز منهما، بحيث يغدو من المتعذر رؤية العلاقة بينهما أو فهمها إلا بعين التناحر الأبدي؛ هذا إلى الترافق مع نحوها – أي طريقة التفكير هذه – إلى الاختزال أكثر وأكثر: فالشجاعة والقوة والجسارة والإقدام قد تُختزل إلى "التدميرية" التي توسَم بالإيجاب، فيما التنازل والصبر والتحمل والرقة والمسالمة تُختزل إلى الضعف الذي يوسَم بالسلب[2].

4. استبدال "العدو" بـ"الخصم": ففي حين يُعَدُّ الخصمُ إنسانًا أو دولة صاحب مصالح متعارضة مع مصالحنا وينبغي لكلينا محاولة التوصل إلى تسوية، يُعَدُّ العدو "شيئًا" لاأخلاقيًّا لا يمكن، بالمطلق، التعامل معه إلا بتدميره.

– الثانية، اللاعنف والمثالية: لا يزال اللاعنف، خاصة في ثقافتنا العربية، مرادفًا للمقولة المثالية المسيحية: "مَن لطمك على خدِّك الأيمن فحوِّل له الآخر". ولهذا الترادف مساوئ تتمثل أساسًا في نقطتين اثنتين:

1. الأولى في أنه يقصِر اللاعنف على دين واحد في ثقافة لا يزال فيها الدين هو عامل الهوية الرئيسي، وهي ثقافة تحملها أغلبية ديموغرافية مسلمة، في واقع يُعَدُّ فيه الإسلامُ (الأصولي) أحد منابع العنف الفكرية. المشكلة الأساسية في هذا القَصْر هي في تناقُضه مع واحدة من أهم ميزات اللاعنف: إنه مكان مفتوح للجميع، أطفالاً وشبانًا وشيبًا، نساءً ورجالاً، أقوياء وضعفاء، أصحاء وسقيمين، على العكس من العنف الذي يتغذى على شباب وصحة و"ذكورة" المنافحين عنه.

بهذا المعنى، يمثل اللاعنف نقلة على المستوى الإنساني: فمن التراتب البطريركي الذي يفرضه العنف عبر الأدوار الموكولة إلى أشياعه، إلى المساواة التي يقدِّمها اللاعنف للمشاركين فيه؛ إذ يستطيع كل شخص أن يكون فعالاً على قدر إمكانه، وعلى المستوى نفسه، دون أية تمييزات جندرية أو عمرية أو ثقافية.

2. الثانية في تناقُض مثالية المقولة المسيحية مع واقعية اللاعنف: فاللاعنف، كما يقول ديڤيد مكرينولدز، لا يُعرف إلا على محك الواقع؛ وهو ليس نظرية فلسفية أو أخلاقية فقط، على الرغم من ارتباطه الوثيق بالفلسفة والأخلاق، بل هو، أيضًا، إستراتيجية واقعية قد تنجح وقد تخفق بحسب ظروف استعمالها، إلا أنها – وهذه ميزة أساسية أيضًا من ميزات اللاعنف – توحِّد بين الغاية والوسيلة، مما يساهم، حتى في حال إخفاق حركة لاعنفية ما في الوصول إلى الهدف المحدد آنيًّا، في التأسيس لمجتمع أفضل هو الغاية النهائية للفعل الإنساني.

3. ثالثًا: اللاعنف و"التقنية": اللاعنف ليس تقنية أو إستراتيجية معزولة عن الهدف المطلوب. طبعًا من الممكن استعمال تقنية اللاعنف ضمن تقنيات أخرى عنفية، لكن اللاعنف يفقد بذلك فعاليته الإستراتيجية. بهذا الصدد يقول جان-ماري مولِّر، أحد المفكرين اللاعنفيين الذين يجوز أن نطلق عليهم صفة "پراغماتيين"، إن نشاطًا فيه 90% لاعنف و10% عنف هو نشاط عنيف استُعمِلَتْ فيه تقنيات لاعنفية! وهذا ما ينزع عن اللاعنف، في حال اعتماده كإستراتيجية نضال، فعالية أثره التي ينبغي له أن يوقعها في الخصم وفي الرأي العام وفي المشاركين فيها كذلك.

إن تجاوز المغالطات السابقة شديد الأهمية عند الرغبة في التعرف إلى الفكر اللاعنفي الذي يقدم هذا الكتاب الذي بين أيدينا بعضًا منه.

philosophy_of_nonviolence

يتحدث الكتاب عن اللاعنف من منطلق تجربة حية خاضها المؤلف، مركزًا على مجمل القناعات التي تشكلت من الواقع كما ومن قراءات متعددة، فيبدأ من افتراض أساسي يقتضيه اللاعنف، وهو نسبية رؤية الإنسان للحق، أي عدم قدرة أي إنسان على الوثوق ثقة مطلقة بأنه على حق ونفي هذه الثقة عن الآخر "الخصم". الواقع في تغيُّر دائم، وهذا التغير يتم عبر النزاع، مما يعني وجودًا دائمًا للخصم. الجديد الذي يقدِّمه اللاعنف هو إدارة جديدة للنزاع، إدارة أكثر إنسانية تأخذ بعين الاعتبار فرادة الكائن الإنساني – الذي هو الخصم أيضًا.

تغيير الواقع لا يمكن له أن يتم من دون ألم. لكننا، في المقابل، لن نتحول إلى ممجِّدين للألم، حتى لو كان ذلك باسم "العدالة". وهنا يتناول مكرينولدز مفهوم العدالة، مميزًا بينها وبين الثأر: فالعدالة ليست هي الثأر أبدًا، وإذا كنا نريد التغيير فيجب أن نتحرك نحو الأمام، لا أن ندور في الحلقة المغلقة للثأر[3]. هذا التحرك لا يمكن له أن يحدث من دون تجاوُز، على الرغم من أن التجاوز قد ينقض العدالة في أبسط مفاهيمها. في اختصار، العدالة هي سعينا في تحقيق شروط أكثر إنسانية لحياة البشر، هي إصلاح ما أفسده غيرنا، لا في المزيد من الإفساد المقابل.

هل يتطلب اللاعنف خصمًا إنسانيًّا؟ ويتساءل مكرينولدز في صيغة أخرى: "ولكن ماذا عن هتلر؟" ويجيب بأنه لا يمكن معرفة أثر اللاعنف في مواجهة مثل هذا الخصم؛ فاليهود لم يكونوا لاعنفيين، بل سلبيون. كما أن هناك توثيقات مهمة لانتصارات لاعنفية عديدة في أوروبا على النازية: ففي النرويج حصل إضراب ناجح للمعلِّمين ضد تدريس الإيديولوجيا النازية؛ وفي بلغاريا حالت المقاومة المدنية العفوية دون ترحيل اليهود خارج البلاد.

ويبين مكرينولدز أن الإنكليز والأمريكيين في الجنوب لم يكونوا باللطف المزعوم عنهم في صراعهم مع الهنود أو مع "حركة الحقوق المدنية" على التوالي. صحيح أن الظروف ساعدت على إنجاح الثورة اللاعنفية في كلا المكانين وأفشلتْها في أماكن كثيرة أخرى، إلا أنه لا مناص من أن يُفهَم أن اللاعنف قد يخسر أيضًا، مثله كمثل العنف تمامًا، إلا أنه يتميز بأن هدفه النهائي ليس النصر فقط، بل تغيير الواقع نفسه؛ وهو ما ينجح فيه، حتى لو لم يحقق غايته الآنية، عبر "البرنامج البنَّاء" الذي لا يكتمل النشاط اللاعنفي من دونه.

غاية النشاط اللاعنفي متضمَّنة في وسيلته: گاندهي لم يسعَ إلى خروج الإنكليز من الهند "فقط"، بل ألح على استقلال الهنود أنفسهم أولاً، مؤكدًا عليه ومجاهدًا في سبيله (مسيرة الملح ودولاب الغزل مثالان رائعان على ذلك)؛ سيزار تشاڤير كان أول مؤسِّس لنقابة للعمال الزراعيين في الولايات المتحدة، وقد عمل على توعية العمال بحقوقهم وبمخاطر المبيدات الحشرية، بالإضافة إلى أنه أعاد إليهم الأمل بقدرتهم على إحداث أثر؛ مارتن لوثر كينگ فعل ذلك أيضًا من خلال فعل شديد البساطة كالمشي.

اللاعنف يبني غايته، إذن، عبر أنشطته ذاتها؛ وهو بذلك يتميز عن العنف الذي يضيف إلى الخسارات خسارات جديدة، ويرجئ الإيجابية إلى زمن مجهول غالبًا ما تضيع فيه الإيجابية ذاتها، كما يؤكد التاريخ.


* عن موقع الأوان: http://www.alawan.org.

** شاعرة سورية، محرِّرة في مجلة معابر (www.maaber.org).

[1] ديڤيد مكرينولدز، فلسفة اللاعنف، بترجمة ديمتري أڤييرينوس، معابر للنشر، دمشق، 2009.

[2] الضعيف، في هذا الفكر، عنيف كامن: إذ إن "سِلْمه" ليس ناتجًا من قوته، كما يفترض اللاعنف، بل ناتج من نقص إمكانات العنف لديه؛ فمتى تغيرت ظروف هذه الإمكانات تبادَلَ الأدوار مع التدميري في سهولة لا تخفى على أحد.

[3] راجع: جان ماري-مولِّر، "الانتقام ليس حقًّا من حقوق الإنسان!"، http://samawat.org/articles/vengeance_no_human_right_muller. (المحرِّر)

الإمام الثاني عشر (هنري كوربان) – بلال لزيق

الإمام الثاني عشر[1]

العالم الموازي

بلال لزِّيق

في افتتاح القول، لا مناص لنا من ذكر أن مقاربة العرفان الشيعي، موضوعاتٍ ورجالاتٍ ومنطلقاتٍ وتبريرًا وغايةً – كان، ولا يزال، مغمورًا، محدودًا بنطاقات ضيقة في مجال الإسلاميات، بل حتى في المجال الشيعي بالأخص. ومَن تناولَه بحقٍّ وموضوعية من المستشرقين لا يتجاوز عددُهم عدد أصابع اليدين، كأمثال لوي ماسينيون وهنري كوربان وأنِّه-ماري شيمِّل ووليم تْشِتِّك وتوشيهيكو إيزوتسو، – حتى إن الأخير، على سبيل المثال، غير مذكور البتة في موسوعة المستشرقين لعبد الرحمن بدوي، مع أن له العديد من المؤلفات والأبحاث القيِّمة في مجال التصوف الإسلامي، الشيعي تحديدًا[2] – وهذا أمر غريب حقًّا ومدعاة للتساؤل!

خاتم الولاية المحمدية

ثم إنه لا بدَّ من الإشارة إلى أن جُلَّ القول في هذا المقام – إن لم يكن كله – يتناول وقائع حقيقية، لكنها ليست مادية، بل روحية؛ وهذه الوقائع، على الرغم من روحيتها، واقعية. لكن «واقعيتها» ليست من نوع واقعية الوقائع التاريخية الخارجية؛ إذ هي لا تتخذ مكانًا لها في سلسلة التوالي الزمني الخارجي. إن تفسير أية حقيقة روحية انطلاقًا من تاريخ إعلانها على الملأ هو ما يُطلَق عليه اسمُ «التاريخانية» historicisme، الأمر الذي طالما أدى إلى وقوع التباس بين زمان النفس وبين الزمان الواقع في التاريخ.

استنادًا إلى القول السابق، فإن السؤال المحوري يصير: إذا كان الوحي قد خُتِمَ، وإذا كان عصر البعثات الإلهية قد تم، وإذا كان محمد «خاتم النبيين» ولم يعد من بعده نبي آخر («لا نبي بعدي») وكانت رسالته «خاتمة الرسالات»، فهل يستبطن هذا «الختم» للبعثة النبوية أن الصلة بين عالمَي اللاهوت والملكوت، بين الله والإنسان، قد انقطعت؟ وهل إن الفيض الإلهي على الإنسان قد وصل إلى مداه الأخير، بحيث يصح أن نطلق على هذا الإنسان بأنه «الإنسان الأخير» بالمعنى اللاهوتي؟

إن ما انقضى ولم يعد ممكنًا هو أن تكون هناك شريعة أو «رسالة تشريعية» جديدة؛ إنما لا بدَّ من أن يكون «في أمتي عبادٌ ليسوا بأنبياء ولكن يغبطهم النبيون». هاهنا أدرك

[…] التراث الشيعي مؤشِّر افتتاح دائرة جديدة، دائرة الولاية، دائرة الهداية الروحية. لقد أدرك التشيع كمَن تردَّد فيه الصدى العميق لواقع أليم يتمثل في أن الناس في عُسْرها لم يعد لها نبي تنتظره بعد خاتم المرسلين. لذلك فإن أكثر الناس قد أوقفت نفسها تعصبًا على حراسة الرسالة المقفلة، وتصبح فكرة خاتم النبوة علامة على مأساة بشر انغلقوا في ماض لا مستقبل له. (ص 214)

… ماض لا مستقبل له في عمره المديد!

twelfth_imam

العدد التام للأئمة هو اثنا عشر. ومن دون استكمال هذا العدد تكون الإمامة ناقصة وغير مكتملة. لذا إذا كان الإمام الحادي عشر، الحسن العسكري، قد استشهد في العام 260 للهجرة، من جهة أولى، وإذا كانت الأرض لا تخلو من حجة-إمام، ظاهرًا كان أو باطنًا، لأن من دونه لن يكون بمقدور الإنسانية أن تحافظ على كينونتها، إذ هو السبب الوحيد المتصل بين السماء والأرض بعد أفول نجم نبوة التشريع، من جهة ثانية، فكيف للإمام الثاني عشر أن يغطي تمام الزمان حتى يوم القيامة؟ كيف للإنسان أن يحيا تلك الحياة الطويلة التي امتدت قرونًا دون أن يتسلل إليها الفساد والتلاشي والموت؟ هل ثمة «في البين» معجزة أو كرامة أو عمل استثنائي مباشر لليد الإلهية في الأمر؟!

مافتئ العلماء عبر العصور يجهدون في تسويغ هذا العمر المديد للإمام بقولهم بأنه يمكن للمرء، إذا ما اعتمد نظامًا غذائيًّا نباتيًّا معينًا، أن يمتد به العمر آمادًا طويلة، ويمثلون لذلك بالأنبياء نوح والخضر وإدريس، متناسين أو متجاهلين أو غافلين عن أن السؤال يبقى مطروحًا: إذ كيف لهؤلاء أيضًا أن يطول بهم العمر إلى هذه المدة؟!

في العالمين المادي والمثالي

بعد أن يصف هنري كوربان هذا الوعي بـ«السذاجة»، يجد أن الحل يكمن بالتسليم بوجود عالم المثال mundus imaginalis؛ إذ ثمة خشية مفادها، إذا لم يتم التسليم بهذا «العالم الموازي» لعالمنا، أن كل تعليل لن يؤدي سوى إلى تدمير موضوعه:

إن الحضور المستتر للإمام ومعاصرته المستمرة بين الأزمان ليسا قطعًا استعارة أخلاقية أو تمثيلاً أسطوريًّا، بل هما واقعية عالم المثال الذي فرضت فلسفته النبوية نفسها على السهروردي والأفلاطونيين الفرس، لأنهم علموا أنه من دون وجود هذا العالم ما كان لهم أن يفهموا واقعية الأحداث الروحية الغيبية فوق الطبيعية. (ص 82-83)

وهكذا تُفهَمُ القدرةُ التي يرفض بها الوعي الشيعي أن يتيه في ضلالين مميتين: ضلال العجز – عجز غير المؤهَّلين لإدراك التجلِّيات الإلهية، بتشديدهم الركيك على أن الإمام الآتي لم يولد بعد؛ أو ضلال أبعد، هو اعتراض المشكِّكين: لقد ولد الإمام، لكنه توفي في حياة والده. لذا كان

[…] من المستحيل على الوعي الشيعي أن يتخيل قبولاً ما بأمر ما يكون صدًى أو استباقًا لـ«الرب مات» [قول نيتشه في هكذا تكلم زرادشت: «لقد مات الله»]، وذلك لأن الإمام الثاني عشر هو شخصية تُقدِّم نمطًا عن التطلعات العميقة، كالتطلعات المقابلة في المسيحية، مع خريستولوجيا الجسد الروحاني للمسيح. (ص 84)

إذًا، لا يمكن الولوج في الحديث عن الإمام المنتظَر، زمانًا ومكانًا وغيبةً ورؤيةً ووظيفة، دون الارتكاز بداهةً إلى الإيمان بوجود عالمين: المادي والمثالي، المُلْكي والملكوتي، البدني والنفسي. فمن دون تخطِّي، أو بالأحرى تطوير العالم الأمپيري (عالم المحسوسات) وتصعيده لنصل إلى ذلك العالم المثالي، الأغنى صورًا والأوسع وجودًا والأبقى حياةً من عالمنا هذا، لا يمكن الركون إلى نظرية «الإمام المنتظَر»، الحاضر ملكوتًا والغائب مُلكًا، والاطمئنان إليها؛ ولن يكون ثمة إمكان للإقرار بذلك العالم أو تأويل لـ«الغيبة الكبرى» للإمام دون الإقرار بهذا «العالم الموازي» لعالمنا – عالم «تتجسَّم فيه الأرواح وتتروَّح فيه الأجسام»، وفقًا لتعبير الفيض الكاشاني.

وعلى الرغم من روحية هذا العالم، فإنه عالم متحقق وحقيقي، وليس وهمًا أو غير واقعي. والقوة التي بها يوصَل إلى تلك العوالم الروحية والواقعية معًا يطلق عليها عرفاؤنا مصطلح «القوة المتخيِّلة»، لكنْ لا بمعنى غير حقيقي ولاواقعي imaginaire، بل بالمعنى المثالي imaginal. وهذا الالتباس الذي وقع فيه الفكر الغربي

[…] يفترض مسبقًا تدنِّي القوة المتخيِّلة نفسها، وتدنِّي موضوعها، وتدنِّي وظيفتها المتعلقة. وإذا ما جرت مماهاةُ ذلك مع الاستيهام، حصل الأدهى؛ فيصير العالمُ الذي رسمتْ هيئتَه تلك القوةُ يوطوپيًّا، ويصير الإنسان الواثق بهذه الجارحة صاحب نزعة يوطوپية ومصابًا بذُهان الاضطهاد، مهلوِسًا، منفصم الشخصية. (ص 140-141)

إن إدراكات هذه الجارحة اللطيفة ليست استيهامات ولا أوهامًا؛ إذ إن الأحداث الحقيقية التي تتاح معايشتُها ليست من الأسطورة (في شيء) ولا من التاريخ (ص 139).

في التاريخ القدسي

لذا فقد أمكن القول إن عالم النفس، عالم الملكوت، موجود في كل محل وليس في أي محل. وهذا يعني أن في أرجاء عالمنا المحسوس كلها يمكن أن يدهم الملكوت، وأنه يمكن للملكوت اختراق كل ناحية من أنحاء عالمنا، دون أن يكون الملكوت جزءًا من العالم المحسوس (ص 139).

من هنا كان تاريخ الإمام الغائب – التاريخ المستسر – والتاريخ القدسي تاريخًا وزمانًا وسيطًا «بين الأزمان». وكل حدث يقع في هذا الزمان المستسر يمثل قطيعةً في التاريخ العام لأنه لا يدخل في التاريخ الذي يخضع للسببية التاريخية. إن التاريخ المستسر للإمام الثاني عشر يتناقض مع

[…] وسواس التاريخانية المادية للوقائع، ومن دونه لا يمكن لنا أن نتصور أن ثمة وقائع واقعية. […] ومع ذلك، فهو يسود الوعي الديني الشيعي منذ أكثر من عشرة قرون؛ بل إنه هو تاريخ هذا الوعي الذي يحياه التشيع في صحبة الحضور الغائب للإمام الثاني عشر، في تفانٍ وشغف، منذ قرون نافت على العشرة. (ص 76)

لا يمكن شرح التاريخ الغيبي للإمام الثاني عشر بآلية قوانين السببية التاريخية. إنه يقع على الجهة المقابلة لجهة اللاهوتيين والفلاسفة الذين «يبحثون عن الربِّ في التاريخ»:

إن تاريخ الإمام الثاني عشر هو تخلُّص من التاريخ (بالمعنى السائد). وإذا لم نفهم ذلك فلن نستطيع الدخول إلى عالم الإمام، وسنلجأ إلى تعليلات «علمية» قد تكون نتيجتها الأجلى إلغاء ما نسعى إلى تعليله. (ص 92)

وليس هذا من الأسطورة في شيء، كما قد يُظَن، بل إنه يمكن لنا القول بأنه يقع في مكان ما فوق التاريخ ودون الأسطورة.

إن جميع التعليلات الاجتماعية والسياسية التي حاولت شرح التشيع على مستوى قوانين السببية التاريخية (فقط) هي تعليلات تُجانِب ما يكوِّن ماهية الوعي الشيعي وموضوعه، لأن زمان الإمامة يظل «بين الأزمان»:

لا يتعلق الأمر بمشروعية سياسية ولا بيوطوپيا اجتماعية، ولكن بما يكوِّن مغزى الإمامة الذي بدأ مع فجر الإنسانية مع شيث بن آدم، كأول إمام (وصي) لأول نبي، وينتهي مع ظهوره أو مجيء آخر وصيٍّ لآخر نبي. لقد بتنا نستطيع فهم ما يحرك الإمامية، في حميَّة وورع واجتهاد، نحو شخص الإمام الثاني عشر. (ص 81)

في الرؤية والغيبة

ولأن الأمر كذلك فإن إدراك الإمام، أو بالأحرى رؤيته، لا تتم بأدوات مادية، كالحواس المادية التي بها تُدرَك الأشياءُ في عالمنا هذا وتُرى. إن أداة الإدراك، هاهنا، هي «عين النفس التي لا تنام»، كما قال فيلون الإسكندري وكما وافق عليه عرفاؤنا أيضًا. إن شخصية الإمام، في ظهوره واستتاره، لا تخضع للقوانين الفيزيائية والأحيائية والمادية التاريخية:

فمَن لم يستطع أن يرى بغير الطريقة التي يدرك بها أيَّ موضوع في العالم الخارجي لن يرى الإمام الغائب عن الإدراك الحسي، حتى لو كان الإمام ماثلاً أمامه. لذا فإن ظهور الإمام، رجعته، لا تحصل ما لم يستيقظ وعي الناس؛ إنه لا يتحقق في «ما بين الأزمان» إلا لعدد قليل ممَّن يختارهم الإمام بنفسه ممَّن لديهم الوعي الروحي، لا مجرد العلم الظاهري الذي يقدر عليه حتى الحيوان. (ص 57)

إن وعي الناس هو المحدِّد الحقيقي والمفصل الواقعي لرؤية الإمام أو عدمها. فظهوره وغيبته متوقف على مستوى الوعي الروحي للناس: إذا كان الإمام غائبًا فلأن الناس غير قادرين على رؤيته، غير مؤهَّلين لها؛ فهم مَن «غابوا» عنه، وليس هو مَن «غاب» عنهم!

وفي النتيجة، ينتهي كوربان إلى خلاصتين أساسيتين:

– الأولى: إن

[…] التشيع يرفض أن يكون مستقبله وراءه: فبخلاف الإسلام السنِّي الأكثري الذي لم يعد للإنسانية في نظره، بعد النبي الأخير، من جديدٍ تنتظره، يحافظ التشيع على المستقبل مفتوحًا، بإعلانه أنه حتى بعد مجيء خاتم الأنبياء، ثمة أمور بعدُ للانتظار، أي إظهار المعنى الروحي للرسالات التي أتى بها الأنبياء الكبار. تلك كانت المهمة التأويلية التي تولاها الأئمة الأطهار. […] لكن هذا الإدراك الروحي لن يكون كاملاً إلا في نهاية عصرنا، عند ظهور الإمام الثاني عشر، الإمام الغائب في الوقت الحاضر والقطب العرفاني لهذا العالم.[3]

– الثانية: إنه يجب على الفكر الغربي، من الآن فصاعدًا، ألا يستبعد أو يستغرب أو يقصي من أبحاثه ودراساته فكرةَ شخص كونيٍّ منتظَر، سواء سُمِّيَ "الإمام" أو "المخلِّص" أو "المصلح" أو "المسيح":

إن كل ما ظهر ويستمر في الظهور على الوعي الشيعي في صورة الإمام الثاني عشر وأحداث سيرته: ولادته، غيبته، ظهوراته، مجيئه كفارقليط – إن ذلك كله ينبغي له، من الآن فصاعدًا، أن يكون له معنى عند الغربي، ومن الآن فصاعدًا، ينبغي ألا يكون الطرح الشيعي عن الإمام الغائب قصيًّا عن دراساتنا [الغربية] في الميتافيزيقا الأخروية. (ص 239)

زبدة القول إن كتاب كوربان الإمام الثاني عشر نصٌّ لا غنى عنه لكل راغب حقًّا في فهم سرِّ حضور الإله في التاريخ.


[1] هنري كوربان، الإمام الثاني عشر (في الإسلام الإيراني – مشاهد روحية وفلسفية للإسلام، الكتاب السابع)، بترجمة نواف محمود الموسوي، دار الهادي، بيروت، 2007.

[2] صدرتْ مؤخرًا ترجمة لكتابه الإنسان في القرآن في مقاربة لسانية إبداعية؛ ونحن بصدد ترجمةٍ وتعليق على مؤلَّف له قيِّم عن فلسفة الملا هادي السبزاوري.

[3] هنري كوربان، عن الإسلام في إيران – مشاهد روحية وفلسفية، دار النهار، بيروت، 2000، ج 1، ص 27.

التقمص (ديمتري أڤييرينوس) – هڤال يوسف

مقالة في التقمُّص

قراءة نقدية

هڤال يوسف*

صدر الكتاب الثاني من سلسلة "الحكمة"[1] التي يقوم عليها الباحث ديمتري أڤييرينوس بعنوان مقالة في التقمص[2]. يحوي الكتاب، بالإضافة إلى "مقالة في التقمص بحسب التعاليم الثيوصوفية"، ثلاثة نصوص للمفكر الثيوصوفي وليم ك. دجدج تحمل عناوين "العَوْد للتجسُّد" و"كَرْمى" و"حِكَم في كَرْمى"، ترجمَها إلى العربية توفيق شمس وديمتري أڤييرينوس.

reincarnation

موضوع البحث، في حقيقته، يتجاوز سؤال التقمُّص، الشائك والعسير، وذلك لأن قضية كهذه لا يمكن فصلها عن مجمل الأسئلة والأسرار الوجودية حول حقيقة الإنسان وماهيته، حول الحياة – معنًى وغايةً –، وحول الوجود بكلِّيته وما يكتنفه من مجاهل معرفية لا تزال تحتفظ بعذريتها بعيدًا عن متناول الفضول الإنساني.

يتماس التقمُّص مباشرة مع الموت وما يفرزه من تساؤلات وقضايا شغلت معظم الفلاسفة والعلماء والمفكرين على مرِّ العصور. يقول الراحل دَگْ همِّرشولد، الأمين العام الأسبق للأمم المتحدة:

لو ذهبنا حتى جذر الموضوع فإن فكرتنا عن الموت هي التي تقرِّر إجاباتنا عن جميع الأسئلة التي تطرحها الحياة.[3]

في محاولته لتجاوز الموت، وفي أثناء بحثه عن ينبوع الحياة والخلود والأبدي، طرح الإنسان إجابات عدة بقيت محل جدل طويل. بعض تلك المذاهب والأفكار لا يزال محتفظًا بحيويته في وقتنا الراهن، وخاصة تلك التي اعتمدت مفهوم التقمص أو "العَوْد للتجسد" reincarnation لبنةً أساسيةً في بناء منظوماتها العقائدية والفكرية.

يرتبط التقمُّص ارتباطًا وثيقًا بعلم الأخرويات أو "النشوريات" eschatology، أي الاعتقاد باستمرار الحياة بعد الموت، أو بالحري، اعتبار الموت سيرورة من سيرورات الوجود؛ فهو، بالتالي، تحوُّل وانتقال، لا إلى عالم آخر مفارق، بل إلى حالة أخرى – ذلك لأن من المبادئ الأساسية للثيوصوفيا Theosophy، التي ينطلق منها المؤلف في دراسته للتقمُّص، النظر إلى الكون بوصفه كائنًا واحدًا لا يتجزأ، لا يولد ولا يموت، أزليًّا غير محدود (ص 16).

بالعودة إلى الكتاب الذي بين أيدينا، لا يحاول المؤلف مَنْطَقَةَ آرائه أو "فَكْرَنتها"، وذلك لأنه يتناول ما يتجاوز حدود المنطق والفكر، ولأن الكلام على المطلق واللاتناهي والأزل والأبد إلخ يقع خارج حدود التذهُّن والتصوُّر. يؤكد ذلك الحسين بن المنصور الحلاج في "طاسين الفهم"، إذ يقول:

أفهام الخلائق لا تتعلق بالحقيقة، والحقيقة لا تليق بالخليقة. الخواطر علائق، وعلائق الخلائق لا تصل إلى الحقائق.[4]

من هذا المنطلق، فإن المؤلف، عبر شرحه للمبادئ الأساسية التي يقوم عليها "دين الحكمة" (الثيوصوفيا)، لا يحاول إقناعنا بقدر ما يحاول تعريفنا بهذه العقيدة التي ترى الكون كائنًا واحدًا لا يتجزأ: "حي وعاقل – ككل وفي كل جزء من أجزائه. وهو، في كلِّيته، تجلٍّ لمكوِّنه الذي هو الله أو الواحد أو المطلق" (ص 16). لا خوف هنا من الوقوع في الإشكالية الأرسطية حول حدوث العالم أو قِدَمِه، لأن "الله، من هذا المنظور، ليس كائنًا مستعليًا transcendent على الكون" (ص 16). بيد أننا نقع هنا في المحذور، حيث يجب اجتناب كل محاولة لتقديم تعريف، وذلك لأن أية محاولة للتعريف بـ"الله" بوصفه خالقًا تقود لا محالة إلى التعريف بما ليس هو "الله". ولقد نبَّه ديونيسوس الأريوپاغي إلى هذا الأمر حين قال:

ليس لأحد ممَّن يحبون الله فوق كل حق أن يجوز له تمجيد جوهر الألوهية السامي – الذي هو الوجود الأعلى والخير الأسمى – على أنه كلمة أو عقل أو حياة أو ماهية، بل على أنه مفارق لكل وصف وحركة وخيال وتخمين ولفظ وفكر وتصوُّر وماهية ووضع وثبات ووحدة وحدود ونهائية، بل وبأي شيء آخر على الإطلاق[5]

– الكلام الذي ينسجم مع القول الهندوسي: "ليس هذا، ليس ذاك". ولكن، كما أسلفنا، لا يحاول المؤلف إقناعنا، الأمر الذي يدفعه إلى الحديث عن خلود الكون، حيث "كل ذرة حية فهي لا تفنى، لكنها في تطور (تفتُّح) أبدي" (ص 17). فالخلود، بمعنى سرمدية أزلية-أبدية، مفهوم نظري غير قابل للتذهُّن؛ وبالتالي، فإنه ينضوي تحت المحتوى الإيماني، لا المعرفي. وفي الحقيقة، إن كونًا لامتناهيًا، مكانًا وزمانًا، هو شيء غير معقول. لكن الثيوصوفيا، باعتبارها هذه الوحدة بين "الله" والكون، لا تتناقض مع ذاتها، وذلك لأن "القوانين سارية في كل شيء، من الذرة إلى المجرة. […] تناغُم الكل تناغُم واحد غير منقسم" (ص 17).

أحد هذه القوانين هو قانون كرمى karma الذي سنعود إليه لاحقًا. غير أننا نجد أنفسنا هنا أمام معضلة غير قابلة للحل في العلاقة بين الـ"كائن"، الذي هو "شعاع Ray في الكل ومنه" والذي "ينطوي بالقوَّة in potentia على صفات الكل ومقوِّماته كافة" (ص 17)، وبين هذا "الكل"، وذلك لأن كون "الشعاع" ينطوي بالقوَّة على صفات الكل لا يعني البتة أنه يساوي الكل أو أنه قادر على أن يكون كلاًّ بذاته. فاللامتناهي لا يُدرَك، وإنما يُتناهى إليه؛ الأمر الذي بيَّنه ابن عربي في شرحه على مقولة سهل التُّسْتَري حين قال: "إن للألوهية سرًّا، لو ظَهَرَ، لبَطُلَتِ الألوهية"؛ إذ قال الشيخ الأكبر: "الألوهية مرتبة للذات لا يستحقها إلا الله"[6].

ترى الثيوصوفيا في الحياة مدرسة يتعلم فيها المرء من أجل

[…] بلوغ مستوى من الوعي هو الوعي المنعكس على ذاته، أي وعي الوعي […]. وعندما يخترق "المدرك" حدود ظاهر الأشياء إلى بواطنها يتعرف، كشفًا، وجود العاقلة الصادرة عن أصل الوجود – في نفسه وفي غيره من البشر الفانين الذين يتجلَّى من خلالهم الإنسان الخالد. (ص 18-19)

ولأنه "لا حدود للحكمة وللتعلم" (ص 19)، فالإنسان في حاجة إلى حيوات عديدة لحصول هذا التجلِّي. بيد أننا نسأل من منطلق "لاحدِّية" الحكمة أو لامحدوديتها: هل يتوقف التطور عند "الإنسان الخالد" أم يستمر؟ والإجابة سوف تكون طبعًا: يستمر! عندئذٍ نتساءل: ماذا بعد الكمال؟!

في البحث عن الأصول الكتابية الأولى لعقيدة التقمُّص، يعود بنا ألبرت شڤايتْسِر إلى الأسطورة القمرية القديمة التي تقول:

كل أولئك الذين يغادرون هذه الأرض يذهبون إلى القمر. فنفوسهم تملأ البدر، والهلال المتناقص يجعلهم يولدون من جديد. إن القمر باب السماء، وعندما يعرف المرء كيف يرد عليه يترككم تمرون. ومَن لا يعرف الجواب يحيله إلى ماء ويعيده مطرًا إلى الأرض. وهناك، [يثاب] بحسب ما قدَّمتْ يداه وبحسب ما يملك من معرفة. […] والحقيقة أنكم عندما تصلون إلى القمر يسألكم: "من أنت"؟ عند ذلك يجب أن تجيبوا: "أنا أنت". وكل مَن يقدم هذا الجواب يتركه القمر يمر.[7]

ويعيد شڤايتْسِر أصل هذه الأسطورة تاريخيًّا إلى سكان الهند السابقين للفتح الآري، حيث يؤكد عدم وجود أي أثر لها في الأناشيد الڤيدية، إلى كونها تبدو غريبة عن التصوف البرهمني.

كذلك نرى أن أزلية الوجود هي من ضمن تعاليم كرشنا لأرجونا في البهگڤدگيتا Bhagavadgītā، حيث يقول: "غير أني لم أكن غير موجود، ولا أنت ولا أولئك الرجال الحكماء، ولن يتوقف أي منا أن يوجد هنا"[8]. ويقول في موضع آخر: "لا وجود لما لم يوجد، أما ما هو حقيقي فإنه لن يكون غير موجود"[9]. أما بخصوص التقمُّص فيقول كرشنا: "كما يتخلص المرء من ملابسه ويلبس ملابس جديدة، كذلك الروح المتجسِّدة تتخلص من الأجساد وتدخل أجسادًا جديدة"[10]. وأما عن دورة الولادة والموت فيقول: "حيث إن الموت مؤكد لمن يولد فإن الولادة مؤكدة لمن يموت"[11].

وبالعودة إلى الكتاب قيد القراءة، نرى المؤلف يستنتج "بالقياس العقلي" أن "الكون […] صادر عن المطلق" (ص 19). وعلى الرغم من أنه لم يشرح كيفية هذا "الصدور"، يمكن لنا مقارنة مفهوم هذه الكلمة مع مفهوم "الفيض" الأفلوطيني. ولكن، ألا يفترض هذا الصدور عن المطلق مبتدأ زمانيًّا، وبالتالي، منتهًى زمانيًّا أيضًا؟ الثيوصوفيا تقول: لا، لأن المطلق ليس مفارقًا للكون، ولأن الكون قابع أصلاً في كمون المطلق، ولأن مادة الكون "مجلى من مجالي واحدية ما بعد الروح الذي يمكن لنا أيضًا أن نسميه الحياة" (ص 20). وبما أن المادة والروح تجلِّيان للمطلق الكلِّي الخالد، فهما غير قابلين للفناء؛ وبالتالي، فإن "الحياة كلِّية الحضور omnipresent […] غير قابلة للزوال" (ص 21).

ويرى المؤلف أن الحياة طاقة، وأن الطاقة تخضع لقوانين طبيعية. من هذه القوانين الراحة والنشاط. وبالتالي، وبما أن كل فعل هو طاقة، فإن هذه الطاقة سترتد علينا مساويةً لفعلنا، مما يعني توازنًا وتناغمًا وتواكلاً "بين كل واحدات الحياة المتساوقة في التطور" (ص 22)؛ الأمر الذي ينفي "المصادفة" أو "الحظ"، ليحل محلَّه القانون الكوني الذي هو قانون "لا يخطئ وغير شخصي impersonal" (ص 23). هنا يقع المؤلف في تناقض حين يقول: "من هنا ليس لأي صلاة أو التماس مرفوع لإله أو شفيع أن يمنع القانون من السريان" – نقول "تناقُض" لأن الصلاة أيضًا "فعل"؛ فإنْ كانت الصلاة "صالحة" فلِمَ لا تعود على صاحبها بالخير؟ أليس هذا هو القانون؟!

ينطلق المؤلف، بعد ذلك، راصدًا الحركة الدائرية أو اللولبية في الطبيعة، ليصل إلى إثبات سريان هذا التواتر في الإنسان عبر مفهومي التقمُّص وكرمى – موضوعَي الكتاب.

في إطار شرحه لـكرمى يوضح المؤلف أن "الجذر السنسكريتي كْر kri يتضمن معنى "الفعل" ويدل ضمنًا على دورة العلَّة والمعلول. كرمى هو قانون الدينامية الروحية law of spiritual dynamics" (ص 24). وهو يستشهد بالطبيعة وظواهرها، كتعاقب الليل والنهار والفصول وأطوار القمر إلخ، ليدل على دورية التطور الكوني وليصل، بالتالي، إلى أن هذه الدورية تستوجب الولادة بعد الموت بهدف الوصول بالإنسان إلى غايته الأسمى: الألوهة (ص 25-27). وبالتالي، فإن الكون "مدرسة شاسعة" (ص 28)، والبشر فيها تلاميذ يتعلمون ويختبرون، وتستمر دورات الولادة والموت حتى التخرُّج من مدرسة الكون. وهكذا فإن قانون العلة والمعلول "سار أبدًا، سواء وعيناه أم لم نعِه؛ وبسريانه تصاغ مصائر الأشياء" (ص 30)؛ الأمر الذي قد يقودنا إلى أن النتيجة معروفة مسبقًا، فيما ذهب إليه الجبريون. لكن المؤلف يبيِّن أن هذا "السريان المتواصل للقانون يتولد من إرادة الإنسان الحرة وحدها ويتوقف عليها" (ص 30)؛ وبالتالي، فكل علة هي "معلول معلولها"، على حدِّ قول ابن عربي. وبذلك يبدو كرمى قانونًا لاجبريًّا، يعتمد على سيرورة أفعال الشخص الاختيارية.

لكننا نعود إلى الاختلاف مع المؤلف في حديثه عن المعجزات التي ينفي وجودها، وذلك لأن "كل شيء […] واقع تحت حُكم القانون. [و]هذا يعني بالضرورة أن الله لا يستطيع خرق قوانينه" (ص 33). وهذه الفكرة تقترب من عقيدة المعتزلة والفكر الأرسطي حول ضرورة الفعل الإلهي تبعًا للقانون. ولكن، هل يمكن الحديث عن "إله" مقيَّد الإرادة بقانونه؟!

وباعتبار أن جميع القضايا الآنفة الذكر تعتمد في معالجتها على السؤال المركزي: "ما هو الإنسان؟" فإن المؤلف يتحدث عن الإنسان بوصفه كائنًا سبعي البنيان من حيث تكوينه؛ لكنه يقتصر في نقاشه على أبعاد ثلاثة، ألا وهي الجسم والنفس والروح (ص 36-37). ولأن النفس هي ما يجعل الإنسان بشرًا، فإنه يوضح هذه الفكرة بقوله: "النفس […] نفسان: نفس دنيا […] زائلة […] تسمِّيها الثيوصوفيا أنيَّة الشخصية personal ego […]؛ ونفس عليا […] تتصف بالديمومة […] يُصطلَح على تسميتها بأنيَّة الفردية individual Ego" (ص 37). وبطبيعة الحال، فالنفس الأبدية، أي "أنيَّة الفردية أو الذات الواعية للإنسان قبل الولادة"، هي التي تتجسَّد، وهي التي تبقى بعد الموت (ص 39).

انطلاقًا من التعريف السابق للإنسان، فإن "الإنسان السوي [يعمل] في ثلاثة عوالم – الجسماني والنفساني والذهني" (ص 39) في الوقت نفسه. ويتم الانعتاق من إسار القانون عندما يبلغ الإنسان بوعيه مرتبة الروح. يحتاج الإنسان للعديد من الدورات الحياتية للوصول إلى هذه المرتبة؛ وبالتالي، فإن دورات التقمُّص هي "الامتداد الزمني الضروري لسريان قانون السببية law of causality" (ص 43). والسؤال هنا هو: كيف؟ ولماذا؟

يقول الكتاب: "تشتمل الولادة على سرٍّ مزدوج: […] سر نموِّ المضغة […]. وهناك، ثانيًا، اتحاد النفس بالبدن" (ص 55). ولذلك يؤكد على ضرورة تأمين محيط مناسب لنمو الطفل لأن "الجسم العاجز قد يحوي نفسًا أينعت حكمة" (ص 58). إنما يجب على هذه النفس المولودة أن تحقق استقلالها عن المحيط بأن تصبح قادرة على تحقيق كموناتها تحقيقًا حرًّا (ص 59).

تجري الحياة في تيارين عبر المسار الإنساني: "أولهما جريان النفس (العليا) الخالدة عبر أجسام متعاقبة […]؛ وثانيهما جريان الحياة من جيل إلى جيل" (ص 59)، تحقيقًا لهدف الإنسانية في التطور وصولاً إلى الكمال: "العودة إلى بيت الآب"، بحسب تعبير المؤلف المقتبس عن الإنجيل (ص 60) – التطور الذي يواصل عمله، مؤكدًا على الأخوَّة الكونية بين الموجودات، من خلال قانون النمو، وذلك لأننا "ننمو بوحدتنا مع كلِّ شيء" (ص 35). فالصلاح، في هذا السياق، هو "القيام بالأعمال المتناغمة مع التناغم العام للكون" (ص 34)، بينما الطلاح هو "الأفعال والخواطر والمشاعر غير المتناغمة" (ص 35). وبالتالي، فالقانون "ينسحب على الصعيد الأخلاقي بمقدار ما ينسحب على الصعيد الجسماني" (ص 35). ويتم هذا النمو عبر دورات الولادة والموت.

تميِّز الثيوصوفيا بين النوم والموت، على الرغم من أن "الموت ليس مختلفًا جدًّا عن النوم" (ص 60): فالنوم انسحاب مؤقت للوعي، بينما الموت يعني مفارقة الجسم نهائيًّا. وتؤكد هذه التعاليم أن الموت الفعلي يحصل قبل الموت الظاهري بمدة طويلة، وذلك حين تتبيَّن الذات العليا انتهاء مهمة "شعاعها" في البدن (ص 61).

ويسير بنا الكتاب في رحلة يصف خلالها حوادث ما بعد الموت، دون براهين بطبيعة الحال، إنما بالاعتماد على التعاليم الثيوصوفية وخبرات الحكمة القديمة، وصولاً إلى تصفية الحساب مع الطبيعة، ليتم التطهُّر من الرغبات والمنازع الشريرة، ولتكون النفس قادرة على مصاحبة الذات العليا للسمو إلى "أرض الآلهة" Devachan (ص 64)، حيث يتحدَّد مستوى الـديڤاخان الذي ستقيم فيه النفسُ طردًا مع مستوى الوعي الذي بلغتْه على الأرض (ص 64). وهكذا يتحدَّد نعيم المرء أو جحيمه بحسب ما قدَّم فيما سلف. ويتم التأكيد صراحة على أن الفردوس وجهنم حالتان، وليسا مكانين. ويقول المؤلف، في جرأة يُحسَد عليها: "تلكم هي قدرة الفكر" (ص 64).

أما مسيرة ما بعد الموت، فتتم عبر مراحل من التأملات، ابتداءً بالأشكال والصور، وصولاً إلى معاينة "الذات" وجهًا لوجه (ص 65). ويحاول المؤلف الإفادة من حالات "الموت السريري المؤقت" (ص 67) للتدليل على صحة هذه الفكرة وصوابها، لكني لا أعتقد أن الأمر بهذا الوضوح وبهذه البساطة. واستنادًا إلى ما سبق، يوصي المؤلف بضرورة مساعدة المحتضر على الانسحاب من جسمه وبعدم إطالة مدة الحداد عليه (ص 68).

يختتم المؤلف مقالته قائلاً:

إن العبرة الكبرى من التقمُّص هي أننا ننطوي على قدرات لانهائية، وفرص أبدية، وغاية إلهية. الثيوصوفيا تعلِّمنا أننا شرارات من لهب واحد، صَدَرنا عن المنبع الأصلي للوجود، ولا بدَّ أن "نعود" إليه يومًا […]. (ص 69)

ويضيف في لغة شاعرية: "التقمُّص هو إيقاع الوجود نفسه. […] التقمُّص تأكيد على أن للحياة معنًى وقصدًا. […] التقمُّص هو العاتق العظيم" (ص 70).

أما فيما يتعلق بملاحق الكتاب – وهي عبارة عن دراسات حول كرمى لدجدج، فلم نرَ ضرورةً للتوقف عندها، لأن معظم الأفكار الواردة فيها جاءت في المقالة السابقة، باستثناء ما يتعلق منها بميكانيزم عمل كرمى، الذي هو في حدِّ ذاته موضوع شائك يحتاج إلى دراسة مطوَّلة، آخذين بعين الاعتبار مختلف الآراء والاجتهادات.

فيما عدا ذلك، يحوي الكتاب الكثير من الأفكار الجدية. وقد استطاع المؤلف، بمنطقه الهادئ الدقيق، وصْل الفقرات والآراء بعضها ببعض بدراية وحكمة، مما أعطى الدراسة قيمة حقيقية. أما ما يؤخذ على البحث فهو توجُّهه إلى الخواص دون العوام – وربما كان هذا الأمر ميزة له، لا مأخذًا عليه! – ولكن قد تتوفر إمكانية إيصال المضمون إلى عدد أكبر من الناس.


* كاتب ومترجم ومحرِّر في مجلة معابر (www.maaber.org)؛ صدر من ترجمته عن الروسية مؤخرًا: ليڤ تولستوي، مختارات من كتاباته الفكرية والفلسفية، معابر للنشر، دمشق، 2009.

[1] جاء في تقديم السلسلة: "المقصود بالحكمة ذلك الموروث الروحي الإنساني المشترك الموغل في القِدَم الذي وصلنا بالنقل وبالخبرة بواسطة الوجه الباطن للأديان والفلسفات القديمة، ويعود بإسناده إلى الخبرات الروحية الكبرى التي حققها الجنس البشري عبر مسيرته المضنية باحثًا عن حقيقة وجوده والتي تجسدت، ولا تزال، في حياة وتعاليم حكماء وعارفين من جميع الشعوب والأزمنة."

[2] ديمتري أڤييرينوس، مقالة في التقمص في ضوء التعاليم الثيوصوفية، ويليها مقالان في العود للتجسد وكرمى و"حكم في كرمى" لوليم ك. دجدج، دار مكتبة إيزيس، دمشق، 1998؛ يقع الكتاب في 112 صفحة من القطع المتوسط.

[3] نقلاً عن: ريتشارد شتاينباخ، معنى الحياة والموت، بترجمة هدى موسى، دار الحوار، اللاذقية، ط 2: 1996، ص 31.

[4] الحلاج، الطواسين وبستان المعرفة، من إعداد رضوان السح، دار الينابيع، دمشق، 1994، ص 47.

[5] نقلاً عن جيمس كارس، الموت والوجود، بترجمة بدر الديب، المجلس الأعلى للثقافة بمصر، 1998، ص 81.

[6] ابن عربي، الفتوحات المكية، دار صادر، بيروت، مج 1، ص 42.

[7] ألبير شويتزر، فكر الهند، بترجمة يوسف شلب الشام، دار طلاس، دمشق، ط 1: 1994، ص 47-49. والأسطورة مأخوذة عن أوپنشاد كَوشيتكي 1.

[8] شاكونتالا راو شاستري، الباجاڤادجيتا (كتاب الهند المقدس)، بترجمة رعد عبد الجليل جواد، دار الحوار، اللاذقية، طب 2: 2005، ص 30.

[9] المصدر نفسه، ص 31.

[10] المصدر نفسه، ص 32.

[11] المصدر نفسه، نفس الصفحة.

على خطى غاندي (حوارات) – لنا عبد الرحمن

على خـطـى غـانـدي

حوارات مع مناضلين روحيين اجتماعيين

بحثًا عن الحقيقة والحرية والسلام

لنا عبد الرحمن

عن دار "معابر للنشر" صدر كتابُ على خطى غاندي[*]، ضامًّا بين دفَّتيه مجموعة "حوارات مع مناضلين روحيين اجتماعيين" – كتابٌ أقل ما يوصف به أنه "ملهِم" لكلِّ مَن يبحث في هذه الحياة عن الحقيقة والحرية والسلام.

on_the_footsteps_of_gandhi

أجرت الحوارات الصحافيةُ الأمريكيةُ كاثرين إنغرام؛ وهي صحافية مختصة في الصحافة الروحية، دأبت خلال عملها على إعداد تقارير حول الشخصيات الكبرى والحركات الروحية والاجتماعية، وبالأخص حول مسألة محورية هي حقوق اللاجئين. من هنا قادتْها هذه القناعات إلى الطواف حول العالم للتحاور مع أصحاب الأسماء الواردة في الكتاب، بغضِّ النظر عن عروقهم وانتماءاتهم؛ لكنْ يظل المشترك بينهم، كما يبين من عنوان الكتاب، هو أن حياة المهاتما غاندي ونضاله وكتاباته كانت منارةً ملهِمة لهم جميعًا.

في مقدمتها للكتاب، تتحدث كاثرين إنغرام عن الظرف الزماني والمكاني الذي دفعها لإجراء هذه الحوارات ثم جمْعِها في كتاب. لم يكن من اليسير صدورُه على الإطلاق، لأن مثل هذه النوعية من الكتب الزاخمة بالمعرفة تحتاج أيضًا إلى نوعية معينة من القراء، سواء في الغرب أو في الشرق؛ لذا توجِّه كلمة شكر لناشر الكتاب ولكلِّ مَن ساعد على ظهوره. وتقول في مقدمتها:

إبان السنوات التالية، وأنا أواصل البحث، حاورتُ معلِّمين روحيين ومناضلين يجسِّدون حالةً من اليقظة بقدر ما يجسِّدون التزام التخفيف من ألم العالم.
[…] إننا نعيش عصرًا خطرًا. إن جهلنا وجشعنا […] قد باتا حليفين لقدرتنا على تدمير أنفسنا، لا نحن وحسب، بل البيئة التي نعيش فيها جميعًا على الكوكب. لم يعد يجوز لنا أن نسمح لأنفسنا بعقود أخرى من الوفرة على حساب فقراء الأرض. (ص 12، 14)

بيد أن الكاتبة لا تكتفي بالحوارات التي تجريها، بل تقوم بجهد بحثي، تمثَّل في جمع مادة وافية عن حياة كلِّ شخصية من الشخصيات التي تُحاورها، ظروف نشأتها، المكونات الاجتماعية، ودوافع التحول نحو العمل الروحي. وهذه المقدمة البحثية المسهبة قبل كلِّ حوار ضرورية جدًّا لأنها تقدم للقارئ جوانب شخصية لا تَرِدُ في الحوار، لكنها أساسية في إلقاء ضوء كافٍ على شخصية المُحاوَر ونضاله.

مسار الحوارات في هذا الكتاب ينبش عميقًا تحت المجرى المعتاد للعمق؛ بل إن الأكثر تميزًا هو أن مسار الحوارات كلها يتوضع على المستوى ذاته من العمق، بحيث لا يمكن المفاضلة فيما بينها. فالمحاوِرة تمكنت، في ذكاء شديد، من اختيار النقاط المحورية في حواراتها مع كلِّ شخصية على حدة، ومن إبراز الجانب الذي تحقَّق فيه نضالُ هذه الشخصية. فهي، في حين تناقش الدالاي لاما في جوهر ممارسته الروحية وارتباطها بالتزامه الاجتماعي والسياسي مبدأ اللاعنف، تحكي مع المناضل الفلسطيني مبارك عوض عن رؤيته للاحتلال الإسرائيلي، بينما تتحدث مع المغنية الأمريكية جوان بيز عن أثر الفن في نضالها ضد العنف.

تناقش حوارات كتاب على خطى غاندي، بلا مواربة ولا التفاف، أفكارًا وسياسات خطيرة هزت العالم، غيرت اتجاهاته، وتركت آثارها السلبية على سكان هذا الكوكب، على بيئتهم، حياتهم، مرضهم، وموتهم. إنها الحروب، القنابل النووية، سباق التسلح، الأسمدة الكيميائية، الاستعباد، الفقر، الجوع، الظلم، الاضطهاد، عمالة الأطفال، وغيرها من إساءات البشر بعضهم لبعض – كل ذلك يحضر في مقابل وعي أناس آخرين يطالبون بسياسة اللاعنف في مواجهة عنف العالم، جنونه، وغفلته.

يجمع بين سلسلة الحوارات الموجودة في الكتاب نسيجٌ مشتركٌ حيك من خيط واحد، تُمسِكُ به المحاوِرة بقوة ليمتد بينها وبين أبطال كتابها الذين تصفهم قائلة:

إن الرجال والمرأة الذين حاورتُهم في هذا الكتاب بعضٌ من أبطالي ومن أوليائي الشخصيين لأنهم يجسِّدون المُثل التي تبدو لي الأكثر ضرورة في عالمنا. […] إنهم يخبروننا أيضًا بأن قلبنا يعرف من الآن ما الحق، وبأن عصرًا مضطربًا كالذي نعيشه اليوم هو نداء للإصغاء بانتباه أكبر لهذا "الصوت الخافت" الداخلي والسلوك بمقتضاه. (ص 14-15)

تؤكد مجمل الحوارات أن مشكلات هذا العالم لا ينفصل بعضها عن بعض أبدًا وأننا، بإصرارنا على ممارسة هذا الفصل، نزيد من حدة الأزمة، فيزداد الفقر والتلوث، الجوع والمرض، حيث لا يمكن للعالم أن يتغير من دون أن يُستوعَب أنه لا يوجد بلدٌ في إمكانه أن يعيش معزولاً عن غيره من البلدان؛ وبالتالي، فمن الطبيعي أن تتكل كل دولة، بشكل أو بآخر، على غيرها في العديد من احتياجاتها. هنا لا تكمن الحاجة على المستوى الاقتصادي فقط؛ إذ إن نظرة شمولية تكشف عن أكثر من مفهوم للاحتياج، بما يفرض، بالتالي، التفكير مرارًا قبل إيقاع أيِّ أذًى بالآخر، لأن هذا الأذى سيرتد مع الوقت على فاعله. والأمثلة على ذلك كثيرة في الكتاب، سواء كانت سياسية، مثل حرب أمريكا في ڤيتنام أو حربها على العراق، أم اقتصادية، مثل معرفتنا أن اليابان التي تُعتبَر "معجزة آسيا الاقتصادية" تتكل في احتياجاتها الغذائية على الاستيراد بنسبة 70%. فهل يمكن إذن فصل مشكلات العالم بعضها عن بعض؟!

هناك أيضًا المصالحة بين شقَّي العالم: المادي والروحي. وليس المقصود هنا بكلمة "روحي" غير الجانب القيمي السلوكي من الإنسان، لا الجانب العقائدي، حيث إن القيم العليا هي التي ستؤدي حتمًا إلى شيوع الرحمة والمودة، تقبُّل الآخر، التفكير فيه، فالعمل من أجله، ثم الوصول إلى تخفيف جزء ضئيل من معاناة البشر.

يضم الكتاب كلمة توطئة لرامتشاندرا غاندي، حفيد المهاتما غاندي، يقول فيها:

إنني لواثق من أن المهاتما غاندي، لو كان حيًّا، لبارك العمل الجبار الذي أنجزه الرجال والنساء الأفذاذ الذين حاورتْهم كاثرين إنغرام في هذا الكتاب. (ص 7)

كما يضم الكتاب ثمانية حوارات مع الشخصيات التالية، على التسلسل: قداسة الدالاي لاما، الزعيم الروحي والسياسي للتيبت، مبارك عوض، المناضل اللاعنفي الفلسطيني، جوان بيز، مغنية أمريكية، الراهب البوذي الڤيتنامي تيك نات هَنْه، سيزار تشاڤيز، أول رجل في تاريخ الولايات المتحدة يؤلِّف نقابة للعمال الزراعيين، أهنگمگي تودور آريارتْنِه، مناضل من شري لانكا مسئول عن جمعية تهتم لتنفيذ برامج تخص التربية والصحة والزراعة، الأخ ديڤيد شتايندل راست، الراهب "المسكوني"؛ وآخر الحوارات كان مع أسقف جنوب أفريقيا دزموند توتو.

إن ما ينبغي قوله بشأن هذه الحوارات أن أصحابها قد كرسوا حياتهم لهدف نبيل، صاغوا عمرهم كله في سبيل تحقيقه، من دون أي تردد أو خشية رفض اجتماعي أو سياسي، بل في تحدٍّ وإصرار تام على الاستمرار، على الرغم من كل المكابدات التي تعرضوا لها، وعلى الرغم من أن بعضهم كان مدرِكًا أن نهاية المسار لن تكون نتائجها على يديه وفي زمنه، كما تقول جوان بيز: "[…] لا أعتقد بأني سأرى، خلال حياتي، نتائج كل المعارك التي خضناها […]" (ص 112)؛ وهذا أيضًا ما يوافق عليه الراهب البوذي تيك نات هَنْه حين يقول: "إذا كانت السعادة موجودة هنا حقًّا فسيكون لنا مستقبل" (ص 157)؛ وفي عبارة أخرى: إن مسيرة عملنا فقط هي التي تَعِدُنا بالوصول إلى نتائج.

ملفتٌ في هذا الكتاب الجهدُ الملموسُ الذي قام به المترجم أديب الخوري، سواء على مستوى الترجمة أم في تذييله الكتاب بخاتمة كتبها حول رؤيته لمفهوم اللاعنف وتلامُسه مع الواقع العربي. يقول:

انسحبت أمريكا من ڤيتنام مهزومة، لكنها تمارس اليوم عنفًا لا يقل شراسةً عن عنفها في ڤيتنام، إنْ لم يفقْه، في العراق وأفغانستان، وفي أماكن أخرى أيضًا.
[…] يبدو، إذن، أن "أولي الأمر" في "البلد الأعظم" لم يتعلَّموا شيئًا من درس ڤيتنام […]. فالذين يموتون في أركان العالم الأربعة ليسوا أولادهم، بينما تستمر خزائنهم وأهراؤهم بالامتلاء!
هل يعني هذا أن جهود جوان بيز، وكل مَن ناضل معها، وكل مَن يجاهد اليوم، وكل الملايين التي تظاهرت في عشرات مدن العالم في يوم واحد عشية الحرب على العراق، قد ذهبت عبثًا وأدراج الرياح؟ (ص 280-281)

يحكي أديب الخوري عن كارثة السلاح النووي الذي يسبب تخزينُه مباشرةً إنضاب الموارد الرئيسية للأرض، كما يتناول المخاطر الاجتماعية والأخلاقية للهندسة الوراثية والاستنساخ، ثم يختم كلمته بفكرة "الفداء"، حيث فضيلة التخلي والتنازل، ولو عن وجبة طعام واحدة، قادرة على فعل الكثير، ليس على مستوى الجوع المادي وحسب، بل في منح الروح الانعتاق أيضًا.

هذا الكتاب هو الإصدار الورقي الثالث لدار "معابر للنشر"، بعد إصدارها كتابين متميزين هما: قاموس اللاعنف لجان-ماري مولِّر (بالتعاون مع "الهيئة اللبنانية للحقوق المدنية") والتأمل للحكيم الهندي كريشنامورتي. هذا وقد عُرِفَتْ معابر في العالم العربي عبر الموقع الثقافي الإلكتروني www.maaber.org، الذي يتميز بوجود مكتبة هامة، وبحرصه أيضًا على نشر القضايا التي تتصل مباشرة بجوهر الإنسان وتوازُن علاقته مع الكون.


[*] كاثرين إنغرام، على خطى غاندي: حوارات مع مناضلين روحيين اجتماعيين، بترجمة أديب الخوري ومراجعة ديمتري أڤييرينوس، معابر للنشر، دمشق، 2008.