الإمام الثاني عشر (هنري كوربان) – بلال لزيق

الإمام الثاني عشر[1]

العالم الموازي

بلال لزِّيق

في افتتاح القول، لا مناص لنا من ذكر أن مقاربة العرفان الشيعي، موضوعاتٍ ورجالاتٍ ومنطلقاتٍ وتبريرًا وغايةً – كان، ولا يزال، مغمورًا، محدودًا بنطاقات ضيقة في مجال الإسلاميات، بل حتى في المجال الشيعي بالأخص. ومَن تناولَه بحقٍّ وموضوعية من المستشرقين لا يتجاوز عددُهم عدد أصابع اليدين، كأمثال لوي ماسينيون وهنري كوربان وأنِّه-ماري شيمِّل ووليم تْشِتِّك وتوشيهيكو إيزوتسو، – حتى إن الأخير، على سبيل المثال، غير مذكور البتة في موسوعة المستشرقين لعبد الرحمن بدوي، مع أن له العديد من المؤلفات والأبحاث القيِّمة في مجال التصوف الإسلامي، الشيعي تحديدًا[2] – وهذا أمر غريب حقًّا ومدعاة للتساؤل!

خاتم الولاية المحمدية

ثم إنه لا بدَّ من الإشارة إلى أن جُلَّ القول في هذا المقام – إن لم يكن كله – يتناول وقائع حقيقية، لكنها ليست مادية، بل روحية؛ وهذه الوقائع، على الرغم من روحيتها، واقعية. لكن «واقعيتها» ليست من نوع واقعية الوقائع التاريخية الخارجية؛ إذ هي لا تتخذ مكانًا لها في سلسلة التوالي الزمني الخارجي. إن تفسير أية حقيقة روحية انطلاقًا من تاريخ إعلانها على الملأ هو ما يُطلَق عليه اسمُ «التاريخانية» historicisme، الأمر الذي طالما أدى إلى وقوع التباس بين زمان النفس وبين الزمان الواقع في التاريخ.

استنادًا إلى القول السابق، فإن السؤال المحوري يصير: إذا كان الوحي قد خُتِمَ، وإذا كان عصر البعثات الإلهية قد تم، وإذا كان محمد «خاتم النبيين» ولم يعد من بعده نبي آخر («لا نبي بعدي») وكانت رسالته «خاتمة الرسالات»، فهل يستبطن هذا «الختم» للبعثة النبوية أن الصلة بين عالمَي اللاهوت والملكوت، بين الله والإنسان، قد انقطعت؟ وهل إن الفيض الإلهي على الإنسان قد وصل إلى مداه الأخير، بحيث يصح أن نطلق على هذا الإنسان بأنه «الإنسان الأخير» بالمعنى اللاهوتي؟

إن ما انقضى ولم يعد ممكنًا هو أن تكون هناك شريعة أو «رسالة تشريعية» جديدة؛ إنما لا بدَّ من أن يكون «في أمتي عبادٌ ليسوا بأنبياء ولكن يغبطهم النبيون». هاهنا أدرك

[…] التراث الشيعي مؤشِّر افتتاح دائرة جديدة، دائرة الولاية، دائرة الهداية الروحية. لقد أدرك التشيع كمَن تردَّد فيه الصدى العميق لواقع أليم يتمثل في أن الناس في عُسْرها لم يعد لها نبي تنتظره بعد خاتم المرسلين. لذلك فإن أكثر الناس قد أوقفت نفسها تعصبًا على حراسة الرسالة المقفلة، وتصبح فكرة خاتم النبوة علامة على مأساة بشر انغلقوا في ماض لا مستقبل له. (ص 214)

… ماض لا مستقبل له في عمره المديد!

twelfth_imam

العدد التام للأئمة هو اثنا عشر. ومن دون استكمال هذا العدد تكون الإمامة ناقصة وغير مكتملة. لذا إذا كان الإمام الحادي عشر، الحسن العسكري، قد استشهد في العام 260 للهجرة، من جهة أولى، وإذا كانت الأرض لا تخلو من حجة-إمام، ظاهرًا كان أو باطنًا، لأن من دونه لن يكون بمقدور الإنسانية أن تحافظ على كينونتها، إذ هو السبب الوحيد المتصل بين السماء والأرض بعد أفول نجم نبوة التشريع، من جهة ثانية، فكيف للإمام الثاني عشر أن يغطي تمام الزمان حتى يوم القيامة؟ كيف للإنسان أن يحيا تلك الحياة الطويلة التي امتدت قرونًا دون أن يتسلل إليها الفساد والتلاشي والموت؟ هل ثمة «في البين» معجزة أو كرامة أو عمل استثنائي مباشر لليد الإلهية في الأمر؟!

مافتئ العلماء عبر العصور يجهدون في تسويغ هذا العمر المديد للإمام بقولهم بأنه يمكن للمرء، إذا ما اعتمد نظامًا غذائيًّا نباتيًّا معينًا، أن يمتد به العمر آمادًا طويلة، ويمثلون لذلك بالأنبياء نوح والخضر وإدريس، متناسين أو متجاهلين أو غافلين عن أن السؤال يبقى مطروحًا: إذ كيف لهؤلاء أيضًا أن يطول بهم العمر إلى هذه المدة؟!

في العالمين المادي والمثالي

بعد أن يصف هنري كوربان هذا الوعي بـ«السذاجة»، يجد أن الحل يكمن بالتسليم بوجود عالم المثال mundus imaginalis؛ إذ ثمة خشية مفادها، إذا لم يتم التسليم بهذا «العالم الموازي» لعالمنا، أن كل تعليل لن يؤدي سوى إلى تدمير موضوعه:

إن الحضور المستتر للإمام ومعاصرته المستمرة بين الأزمان ليسا قطعًا استعارة أخلاقية أو تمثيلاً أسطوريًّا، بل هما واقعية عالم المثال الذي فرضت فلسفته النبوية نفسها على السهروردي والأفلاطونيين الفرس، لأنهم علموا أنه من دون وجود هذا العالم ما كان لهم أن يفهموا واقعية الأحداث الروحية الغيبية فوق الطبيعية. (ص 82-83)

وهكذا تُفهَمُ القدرةُ التي يرفض بها الوعي الشيعي أن يتيه في ضلالين مميتين: ضلال العجز – عجز غير المؤهَّلين لإدراك التجلِّيات الإلهية، بتشديدهم الركيك على أن الإمام الآتي لم يولد بعد؛ أو ضلال أبعد، هو اعتراض المشكِّكين: لقد ولد الإمام، لكنه توفي في حياة والده. لذا كان

[…] من المستحيل على الوعي الشيعي أن يتخيل قبولاً ما بأمر ما يكون صدًى أو استباقًا لـ«الرب مات» [قول نيتشه في هكذا تكلم زرادشت: «لقد مات الله»]، وذلك لأن الإمام الثاني عشر هو شخصية تُقدِّم نمطًا عن التطلعات العميقة، كالتطلعات المقابلة في المسيحية، مع خريستولوجيا الجسد الروحاني للمسيح. (ص 84)

إذًا، لا يمكن الولوج في الحديث عن الإمام المنتظَر، زمانًا ومكانًا وغيبةً ورؤيةً ووظيفة، دون الارتكاز بداهةً إلى الإيمان بوجود عالمين: المادي والمثالي، المُلْكي والملكوتي، البدني والنفسي. فمن دون تخطِّي، أو بالأحرى تطوير العالم الأمپيري (عالم المحسوسات) وتصعيده لنصل إلى ذلك العالم المثالي، الأغنى صورًا والأوسع وجودًا والأبقى حياةً من عالمنا هذا، لا يمكن الركون إلى نظرية «الإمام المنتظَر»، الحاضر ملكوتًا والغائب مُلكًا، والاطمئنان إليها؛ ولن يكون ثمة إمكان للإقرار بذلك العالم أو تأويل لـ«الغيبة الكبرى» للإمام دون الإقرار بهذا «العالم الموازي» لعالمنا – عالم «تتجسَّم فيه الأرواح وتتروَّح فيه الأجسام»، وفقًا لتعبير الفيض الكاشاني.

وعلى الرغم من روحية هذا العالم، فإنه عالم متحقق وحقيقي، وليس وهمًا أو غير واقعي. والقوة التي بها يوصَل إلى تلك العوالم الروحية والواقعية معًا يطلق عليها عرفاؤنا مصطلح «القوة المتخيِّلة»، لكنْ لا بمعنى غير حقيقي ولاواقعي imaginaire، بل بالمعنى المثالي imaginal. وهذا الالتباس الذي وقع فيه الفكر الغربي

[…] يفترض مسبقًا تدنِّي القوة المتخيِّلة نفسها، وتدنِّي موضوعها، وتدنِّي وظيفتها المتعلقة. وإذا ما جرت مماهاةُ ذلك مع الاستيهام، حصل الأدهى؛ فيصير العالمُ الذي رسمتْ هيئتَه تلك القوةُ يوطوپيًّا، ويصير الإنسان الواثق بهذه الجارحة صاحب نزعة يوطوپية ومصابًا بذُهان الاضطهاد، مهلوِسًا، منفصم الشخصية. (ص 140-141)

إن إدراكات هذه الجارحة اللطيفة ليست استيهامات ولا أوهامًا؛ إذ إن الأحداث الحقيقية التي تتاح معايشتُها ليست من الأسطورة (في شيء) ولا من التاريخ (ص 139).

في التاريخ القدسي

لذا فقد أمكن القول إن عالم النفس، عالم الملكوت، موجود في كل محل وليس في أي محل. وهذا يعني أن في أرجاء عالمنا المحسوس كلها يمكن أن يدهم الملكوت، وأنه يمكن للملكوت اختراق كل ناحية من أنحاء عالمنا، دون أن يكون الملكوت جزءًا من العالم المحسوس (ص 139).

من هنا كان تاريخ الإمام الغائب – التاريخ المستسر – والتاريخ القدسي تاريخًا وزمانًا وسيطًا «بين الأزمان». وكل حدث يقع في هذا الزمان المستسر يمثل قطيعةً في التاريخ العام لأنه لا يدخل في التاريخ الذي يخضع للسببية التاريخية. إن التاريخ المستسر للإمام الثاني عشر يتناقض مع

[…] وسواس التاريخانية المادية للوقائع، ومن دونه لا يمكن لنا أن نتصور أن ثمة وقائع واقعية. […] ومع ذلك، فهو يسود الوعي الديني الشيعي منذ أكثر من عشرة قرون؛ بل إنه هو تاريخ هذا الوعي الذي يحياه التشيع في صحبة الحضور الغائب للإمام الثاني عشر، في تفانٍ وشغف، منذ قرون نافت على العشرة. (ص 76)

لا يمكن شرح التاريخ الغيبي للإمام الثاني عشر بآلية قوانين السببية التاريخية. إنه يقع على الجهة المقابلة لجهة اللاهوتيين والفلاسفة الذين «يبحثون عن الربِّ في التاريخ»:

إن تاريخ الإمام الثاني عشر هو تخلُّص من التاريخ (بالمعنى السائد). وإذا لم نفهم ذلك فلن نستطيع الدخول إلى عالم الإمام، وسنلجأ إلى تعليلات «علمية» قد تكون نتيجتها الأجلى إلغاء ما نسعى إلى تعليله. (ص 92)

وليس هذا من الأسطورة في شيء، كما قد يُظَن، بل إنه يمكن لنا القول بأنه يقع في مكان ما فوق التاريخ ودون الأسطورة.

إن جميع التعليلات الاجتماعية والسياسية التي حاولت شرح التشيع على مستوى قوانين السببية التاريخية (فقط) هي تعليلات تُجانِب ما يكوِّن ماهية الوعي الشيعي وموضوعه، لأن زمان الإمامة يظل «بين الأزمان»:

لا يتعلق الأمر بمشروعية سياسية ولا بيوطوپيا اجتماعية، ولكن بما يكوِّن مغزى الإمامة الذي بدأ مع فجر الإنسانية مع شيث بن آدم، كأول إمام (وصي) لأول نبي، وينتهي مع ظهوره أو مجيء آخر وصيٍّ لآخر نبي. لقد بتنا نستطيع فهم ما يحرك الإمامية، في حميَّة وورع واجتهاد، نحو شخص الإمام الثاني عشر. (ص 81)

في الرؤية والغيبة

ولأن الأمر كذلك فإن إدراك الإمام، أو بالأحرى رؤيته، لا تتم بأدوات مادية، كالحواس المادية التي بها تُدرَك الأشياءُ في عالمنا هذا وتُرى. إن أداة الإدراك، هاهنا، هي «عين النفس التي لا تنام»، كما قال فيلون الإسكندري وكما وافق عليه عرفاؤنا أيضًا. إن شخصية الإمام، في ظهوره واستتاره، لا تخضع للقوانين الفيزيائية والأحيائية والمادية التاريخية:

فمَن لم يستطع أن يرى بغير الطريقة التي يدرك بها أيَّ موضوع في العالم الخارجي لن يرى الإمام الغائب عن الإدراك الحسي، حتى لو كان الإمام ماثلاً أمامه. لذا فإن ظهور الإمام، رجعته، لا تحصل ما لم يستيقظ وعي الناس؛ إنه لا يتحقق في «ما بين الأزمان» إلا لعدد قليل ممَّن يختارهم الإمام بنفسه ممَّن لديهم الوعي الروحي، لا مجرد العلم الظاهري الذي يقدر عليه حتى الحيوان. (ص 57)

إن وعي الناس هو المحدِّد الحقيقي والمفصل الواقعي لرؤية الإمام أو عدمها. فظهوره وغيبته متوقف على مستوى الوعي الروحي للناس: إذا كان الإمام غائبًا فلأن الناس غير قادرين على رؤيته، غير مؤهَّلين لها؛ فهم مَن «غابوا» عنه، وليس هو مَن «غاب» عنهم!

وفي النتيجة، ينتهي كوربان إلى خلاصتين أساسيتين:

– الأولى: إن

[…] التشيع يرفض أن يكون مستقبله وراءه: فبخلاف الإسلام السنِّي الأكثري الذي لم يعد للإنسانية في نظره، بعد النبي الأخير، من جديدٍ تنتظره، يحافظ التشيع على المستقبل مفتوحًا، بإعلانه أنه حتى بعد مجيء خاتم الأنبياء، ثمة أمور بعدُ للانتظار، أي إظهار المعنى الروحي للرسالات التي أتى بها الأنبياء الكبار. تلك كانت المهمة التأويلية التي تولاها الأئمة الأطهار. […] لكن هذا الإدراك الروحي لن يكون كاملاً إلا في نهاية عصرنا، عند ظهور الإمام الثاني عشر، الإمام الغائب في الوقت الحاضر والقطب العرفاني لهذا العالم.[3]

– الثانية: إنه يجب على الفكر الغربي، من الآن فصاعدًا، ألا يستبعد أو يستغرب أو يقصي من أبحاثه ودراساته فكرةَ شخص كونيٍّ منتظَر، سواء سُمِّيَ "الإمام" أو "المخلِّص" أو "المصلح" أو "المسيح":

إن كل ما ظهر ويستمر في الظهور على الوعي الشيعي في صورة الإمام الثاني عشر وأحداث سيرته: ولادته، غيبته، ظهوراته، مجيئه كفارقليط – إن ذلك كله ينبغي له، من الآن فصاعدًا، أن يكون له معنى عند الغربي، ومن الآن فصاعدًا، ينبغي ألا يكون الطرح الشيعي عن الإمام الغائب قصيًّا عن دراساتنا [الغربية] في الميتافيزيقا الأخروية. (ص 239)

زبدة القول إن كتاب كوربان الإمام الثاني عشر نصٌّ لا غنى عنه لكل راغب حقًّا في فهم سرِّ حضور الإله في التاريخ.


[1] هنري كوربان، الإمام الثاني عشر (في الإسلام الإيراني – مشاهد روحية وفلسفية للإسلام، الكتاب السابع)، بترجمة نواف محمود الموسوي، دار الهادي، بيروت، 2007.

[2] صدرتْ مؤخرًا ترجمة لكتابه الإنسان في القرآن في مقاربة لسانية إبداعية؛ ونحن بصدد ترجمةٍ وتعليق على مؤلَّف له قيِّم عن فلسفة الملا هادي السبزاوري.

[3] هنري كوربان، عن الإسلام في إيران – مشاهد روحية وفلسفية، دار النهار، بيروت، 2000، ج 1، ص 27.