على خطى غاندي (حوارات) – لنا عبد الرحمن

على خـطـى غـانـدي

حوارات مع مناضلين روحيين اجتماعيين

بحثًا عن الحقيقة والحرية والسلام

لنا عبد الرحمن

عن دار "معابر للنشر" صدر كتابُ على خطى غاندي[*]، ضامًّا بين دفَّتيه مجموعة "حوارات مع مناضلين روحيين اجتماعيين" – كتابٌ أقل ما يوصف به أنه "ملهِم" لكلِّ مَن يبحث في هذه الحياة عن الحقيقة والحرية والسلام.

on_the_footsteps_of_gandhi

أجرت الحوارات الصحافيةُ الأمريكيةُ كاثرين إنغرام؛ وهي صحافية مختصة في الصحافة الروحية، دأبت خلال عملها على إعداد تقارير حول الشخصيات الكبرى والحركات الروحية والاجتماعية، وبالأخص حول مسألة محورية هي حقوق اللاجئين. من هنا قادتْها هذه القناعات إلى الطواف حول العالم للتحاور مع أصحاب الأسماء الواردة في الكتاب، بغضِّ النظر عن عروقهم وانتماءاتهم؛ لكنْ يظل المشترك بينهم، كما يبين من عنوان الكتاب، هو أن حياة المهاتما غاندي ونضاله وكتاباته كانت منارةً ملهِمة لهم جميعًا.

في مقدمتها للكتاب، تتحدث كاثرين إنغرام عن الظرف الزماني والمكاني الذي دفعها لإجراء هذه الحوارات ثم جمْعِها في كتاب. لم يكن من اليسير صدورُه على الإطلاق، لأن مثل هذه النوعية من الكتب الزاخمة بالمعرفة تحتاج أيضًا إلى نوعية معينة من القراء، سواء في الغرب أو في الشرق؛ لذا توجِّه كلمة شكر لناشر الكتاب ولكلِّ مَن ساعد على ظهوره. وتقول في مقدمتها:

إبان السنوات التالية، وأنا أواصل البحث، حاورتُ معلِّمين روحيين ومناضلين يجسِّدون حالةً من اليقظة بقدر ما يجسِّدون التزام التخفيف من ألم العالم.
[…] إننا نعيش عصرًا خطرًا. إن جهلنا وجشعنا […] قد باتا حليفين لقدرتنا على تدمير أنفسنا، لا نحن وحسب، بل البيئة التي نعيش فيها جميعًا على الكوكب. لم يعد يجوز لنا أن نسمح لأنفسنا بعقود أخرى من الوفرة على حساب فقراء الأرض. (ص 12، 14)

بيد أن الكاتبة لا تكتفي بالحوارات التي تجريها، بل تقوم بجهد بحثي، تمثَّل في جمع مادة وافية عن حياة كلِّ شخصية من الشخصيات التي تُحاورها، ظروف نشأتها، المكونات الاجتماعية، ودوافع التحول نحو العمل الروحي. وهذه المقدمة البحثية المسهبة قبل كلِّ حوار ضرورية جدًّا لأنها تقدم للقارئ جوانب شخصية لا تَرِدُ في الحوار، لكنها أساسية في إلقاء ضوء كافٍ على شخصية المُحاوَر ونضاله.

مسار الحوارات في هذا الكتاب ينبش عميقًا تحت المجرى المعتاد للعمق؛ بل إن الأكثر تميزًا هو أن مسار الحوارات كلها يتوضع على المستوى ذاته من العمق، بحيث لا يمكن المفاضلة فيما بينها. فالمحاوِرة تمكنت، في ذكاء شديد، من اختيار النقاط المحورية في حواراتها مع كلِّ شخصية على حدة، ومن إبراز الجانب الذي تحقَّق فيه نضالُ هذه الشخصية. فهي، في حين تناقش الدالاي لاما في جوهر ممارسته الروحية وارتباطها بالتزامه الاجتماعي والسياسي مبدأ اللاعنف، تحكي مع المناضل الفلسطيني مبارك عوض عن رؤيته للاحتلال الإسرائيلي، بينما تتحدث مع المغنية الأمريكية جوان بيز عن أثر الفن في نضالها ضد العنف.

تناقش حوارات كتاب على خطى غاندي، بلا مواربة ولا التفاف، أفكارًا وسياسات خطيرة هزت العالم، غيرت اتجاهاته، وتركت آثارها السلبية على سكان هذا الكوكب، على بيئتهم، حياتهم، مرضهم، وموتهم. إنها الحروب، القنابل النووية، سباق التسلح، الأسمدة الكيميائية، الاستعباد، الفقر، الجوع، الظلم، الاضطهاد، عمالة الأطفال، وغيرها من إساءات البشر بعضهم لبعض – كل ذلك يحضر في مقابل وعي أناس آخرين يطالبون بسياسة اللاعنف في مواجهة عنف العالم، جنونه، وغفلته.

يجمع بين سلسلة الحوارات الموجودة في الكتاب نسيجٌ مشتركٌ حيك من خيط واحد، تُمسِكُ به المحاوِرة بقوة ليمتد بينها وبين أبطال كتابها الذين تصفهم قائلة:

إن الرجال والمرأة الذين حاورتُهم في هذا الكتاب بعضٌ من أبطالي ومن أوليائي الشخصيين لأنهم يجسِّدون المُثل التي تبدو لي الأكثر ضرورة في عالمنا. […] إنهم يخبروننا أيضًا بأن قلبنا يعرف من الآن ما الحق، وبأن عصرًا مضطربًا كالذي نعيشه اليوم هو نداء للإصغاء بانتباه أكبر لهذا "الصوت الخافت" الداخلي والسلوك بمقتضاه. (ص 14-15)

تؤكد مجمل الحوارات أن مشكلات هذا العالم لا ينفصل بعضها عن بعض أبدًا وأننا، بإصرارنا على ممارسة هذا الفصل، نزيد من حدة الأزمة، فيزداد الفقر والتلوث، الجوع والمرض، حيث لا يمكن للعالم أن يتغير من دون أن يُستوعَب أنه لا يوجد بلدٌ في إمكانه أن يعيش معزولاً عن غيره من البلدان؛ وبالتالي، فمن الطبيعي أن تتكل كل دولة، بشكل أو بآخر، على غيرها في العديد من احتياجاتها. هنا لا تكمن الحاجة على المستوى الاقتصادي فقط؛ إذ إن نظرة شمولية تكشف عن أكثر من مفهوم للاحتياج، بما يفرض، بالتالي، التفكير مرارًا قبل إيقاع أيِّ أذًى بالآخر، لأن هذا الأذى سيرتد مع الوقت على فاعله. والأمثلة على ذلك كثيرة في الكتاب، سواء كانت سياسية، مثل حرب أمريكا في ڤيتنام أو حربها على العراق، أم اقتصادية، مثل معرفتنا أن اليابان التي تُعتبَر "معجزة آسيا الاقتصادية" تتكل في احتياجاتها الغذائية على الاستيراد بنسبة 70%. فهل يمكن إذن فصل مشكلات العالم بعضها عن بعض؟!

هناك أيضًا المصالحة بين شقَّي العالم: المادي والروحي. وليس المقصود هنا بكلمة "روحي" غير الجانب القيمي السلوكي من الإنسان، لا الجانب العقائدي، حيث إن القيم العليا هي التي ستؤدي حتمًا إلى شيوع الرحمة والمودة، تقبُّل الآخر، التفكير فيه، فالعمل من أجله، ثم الوصول إلى تخفيف جزء ضئيل من معاناة البشر.

يضم الكتاب كلمة توطئة لرامتشاندرا غاندي، حفيد المهاتما غاندي، يقول فيها:

إنني لواثق من أن المهاتما غاندي، لو كان حيًّا، لبارك العمل الجبار الذي أنجزه الرجال والنساء الأفذاذ الذين حاورتْهم كاثرين إنغرام في هذا الكتاب. (ص 7)

كما يضم الكتاب ثمانية حوارات مع الشخصيات التالية، على التسلسل: قداسة الدالاي لاما، الزعيم الروحي والسياسي للتيبت، مبارك عوض، المناضل اللاعنفي الفلسطيني، جوان بيز، مغنية أمريكية، الراهب البوذي الڤيتنامي تيك نات هَنْه، سيزار تشاڤيز، أول رجل في تاريخ الولايات المتحدة يؤلِّف نقابة للعمال الزراعيين، أهنگمگي تودور آريارتْنِه، مناضل من شري لانكا مسئول عن جمعية تهتم لتنفيذ برامج تخص التربية والصحة والزراعة، الأخ ديڤيد شتايندل راست، الراهب "المسكوني"؛ وآخر الحوارات كان مع أسقف جنوب أفريقيا دزموند توتو.

إن ما ينبغي قوله بشأن هذه الحوارات أن أصحابها قد كرسوا حياتهم لهدف نبيل، صاغوا عمرهم كله في سبيل تحقيقه، من دون أي تردد أو خشية رفض اجتماعي أو سياسي، بل في تحدٍّ وإصرار تام على الاستمرار، على الرغم من كل المكابدات التي تعرضوا لها، وعلى الرغم من أن بعضهم كان مدرِكًا أن نهاية المسار لن تكون نتائجها على يديه وفي زمنه، كما تقول جوان بيز: "[…] لا أعتقد بأني سأرى، خلال حياتي، نتائج كل المعارك التي خضناها […]" (ص 112)؛ وهذا أيضًا ما يوافق عليه الراهب البوذي تيك نات هَنْه حين يقول: "إذا كانت السعادة موجودة هنا حقًّا فسيكون لنا مستقبل" (ص 157)؛ وفي عبارة أخرى: إن مسيرة عملنا فقط هي التي تَعِدُنا بالوصول إلى نتائج.

ملفتٌ في هذا الكتاب الجهدُ الملموسُ الذي قام به المترجم أديب الخوري، سواء على مستوى الترجمة أم في تذييله الكتاب بخاتمة كتبها حول رؤيته لمفهوم اللاعنف وتلامُسه مع الواقع العربي. يقول:

انسحبت أمريكا من ڤيتنام مهزومة، لكنها تمارس اليوم عنفًا لا يقل شراسةً عن عنفها في ڤيتنام، إنْ لم يفقْه، في العراق وأفغانستان، وفي أماكن أخرى أيضًا.
[…] يبدو، إذن، أن "أولي الأمر" في "البلد الأعظم" لم يتعلَّموا شيئًا من درس ڤيتنام […]. فالذين يموتون في أركان العالم الأربعة ليسوا أولادهم، بينما تستمر خزائنهم وأهراؤهم بالامتلاء!
هل يعني هذا أن جهود جوان بيز، وكل مَن ناضل معها، وكل مَن يجاهد اليوم، وكل الملايين التي تظاهرت في عشرات مدن العالم في يوم واحد عشية الحرب على العراق، قد ذهبت عبثًا وأدراج الرياح؟ (ص 280-281)

يحكي أديب الخوري عن كارثة السلاح النووي الذي يسبب تخزينُه مباشرةً إنضاب الموارد الرئيسية للأرض، كما يتناول المخاطر الاجتماعية والأخلاقية للهندسة الوراثية والاستنساخ، ثم يختم كلمته بفكرة "الفداء"، حيث فضيلة التخلي والتنازل، ولو عن وجبة طعام واحدة، قادرة على فعل الكثير، ليس على مستوى الجوع المادي وحسب، بل في منح الروح الانعتاق أيضًا.

هذا الكتاب هو الإصدار الورقي الثالث لدار "معابر للنشر"، بعد إصدارها كتابين متميزين هما: قاموس اللاعنف لجان-ماري مولِّر (بالتعاون مع "الهيئة اللبنانية للحقوق المدنية") والتأمل للحكيم الهندي كريشنامورتي. هذا وقد عُرِفَتْ معابر في العالم العربي عبر الموقع الثقافي الإلكتروني www.maaber.org، الذي يتميز بوجود مكتبة هامة، وبحرصه أيضًا على نشر القضايا التي تتصل مباشرة بجوهر الإنسان وتوازُن علاقته مع الكون.


[*] كاثرين إنغرام، على خطى غاندي: حوارات مع مناضلين روحيين اجتماعيين، بترجمة أديب الخوري ومراجعة ديمتري أڤييرينوس، معابر للنشر، دمشق، 2008.