هرمن هسِّه، دميان – ديمتري أڤييرينوس

دِمْـيـان
هرمن هسِّه والتكامل الداخلي

 

ديمتري أڤييرينوس

 

ولد هِرْمَن هِسِّه سنة 1877 في بلدة كالڤ الألمانية على حواشي الغابة السوداء. عاش في شبابه صراعات نفسية مريرة باحثًا عن معنى للحياة بالأعم وعن معنى لحياته بالأخص. كتب في البداية ونشر مجموعة قصائد وخواطر ومقالات حول الموسيقى والأدب والفن، إلى أن نشر روايته الأولى پيتر كامِنْتسِنْد (1904)، مصورًا فيها شابًّا يرحل عن قريته الجبلية السويسرية ليصبح شاعرًا؛ ثم أتبعها برواية تحت العجلة (1906)، وهي حكاية تلميذ لم يكن يتواصل على الإطلاق مع معاصريه وأبناء جيله، فغادر مدرسته هاربًا عبر مدن مختلفة. تعكس هاتان الروايتان بصدق الصراع الذي كان يعتمل في أعماق الكاتب آنذاك.

أحدثَ اندلاعُ الحرب العالمية الأولى (1914-1918) صدمة مروِّعة في نفسه، فانضم إلى داعية السلام واللاعنف الفرنسي رومان رولان (تلميذ المهاتما گاندهي) وشاركه في النشاط المعارض للحرب. ثم رحل سنة 1919 إلى سويسرا ليستقر هناك، عاكفًا على إنجاز روايته دميان* التي نحن بصددها والتي عكست اهتمامه بمسألة التكامل الداخلي للإنسان. وهذا الكتاب هو الذي كرَّس هسِّه كاتبًا مرموقًا.

دميان: قصة شباب إميل سنكلير

وتوالت أعماله الروائية تُواكب تجربته الروحية وتحقُّقه الداخلي: سِدهارتا (1922) التي استمدَّ موضوعاتها وشخوصها من الموروث الروحي الهندي العريق (كانت أمُّه من مواليد الهند) والتي قُيِّض لها أن تصبح منارة للعديد من الشباب الباحث، شأن هسِّه نفسه في شبابه، عن معنى للوجود ولحياة الإنسان فيه؛ ثم نَرتسيس وگولدمُند (1930)؛ تلتها الرحلة إلى الشرق (1932)، التي أعقبتْها فترة مخاض روحي طويل كان يتأهب في أثنائها لكتابة رائعته الخالدة التي تمثل رؤياه المتكاملة ووصيَّته الروحية: لعبة الكريات الزجاجية (1943) التي نال عليها جائزة نوبل للأدب لسنة 1946.

هرمن هسه في مكتبه في مونتانيولا

صرف سنوات حياته الأخيرة في مدينة مونتانيولا السويسرية على ضفاف بحيرة لوگانو، معتكفًا في عزلة تامة، حتى وافته المنية سنة 1962.

* * *

كان لفظائع الحرب العالمية الأولى أبلغ الأثر في نفس هسِّه؛ إذ عانى من جرائها ضغوطًا نفسية شديدة أدت، بالإضافة إلى المرض الذي ألمَّ بأصغر أولاده، إلى إصابته بانهيار عصبي. فنصح له بعض الأصدقاء باللجوء إلى علم النفس التحليلي (مدرسة كارل يونگ)، الأمر الذي أذعن له، خاضعًا للعلاج التحليلي على مدى حوالى ستين جلسة تحت إشراف أحد تلامذة يونگ ومعونته. فكانت رواية دميان Demian ثمرة هذه الفترة الخصبة من حياته وانعكاسًا مباشرًا للخبرة النفيسة التي استفادها من جلساته مع تلميذ يونگ. “حياة كل إنسان عبارة عن طريق نحو نفسه”، كما يقول في مدخل الكتاب (ص 10).

إن لفظ عنوان الرواية تحريف للفظة daimon اليونانية التي تعني الشيطان أو “قرين الجن” أو “الصوت الداخلي”! وبادئة de في هذه الكلمة، كما في اسم “دميان”، تعني الازدواجية والثنائية. وبالفعل، تتناول دميان ثنائيات الخير والشر، الوعي واللاوعي، الغريزة والثقافة، إلخ.

يقع تلميذ المدرسة الفتى إميل سنكلير تحت تأثير رفيق السوء فرانتس كرومر – الزقاقي الدعيِّ الذي يتظاهر بالخبرة في شؤون الحياة، يتبذَّل في الكلام والتصرف، يأمر فيطاع! وسنكلير، إذ يقع في حبائله، يخدع والديه ويسرق ويتردَّى إلى أسفل دركات الخطيئة والضلال وينقاد إلى مغامرات عالم ما تحت الأرض، عالم ما دون الوعي، عالم “الظل” الذي يمثل، بحسب مصطلح يونگ، كل ما نكره في نفوسنا، ونأبى الاعتراف بوجوده فينا، ونخجل من الظهور به أمام الملأ. لكن القلق ينهش سنكلير من الداخل ويتأكَّله الندم:

[…] لم أكن خائفًا مما قد يحدث غدًا بقدر ما كنت خائفًا من اليقين المرعب من أن طريقي، من الآن فصاعدًا، سيقودني أعمق فأعمق في عالم الظلمة. (ص 21)

هنا يظهر ماكس دميان، رفيق المدرسة الآخر، الغريب الأطوار، ذو القدرات الخارقة، دميان صاحب النظرة الباردة تارةً والغامضة طورًا، الذي يبدو حيًّا خارج الزمن أو قادمًا من ماضٍ سحيق:

[…] كان مختلفًا عن الآخرين في كل شيء. لقد كان منسجمًا تمامًا مع نفسه، وله شخصيته الخاصة به التي كانت تجعله مرموقًا على الرغم من أنه كان يبذل جهده لكيلا يكون محطَّ الأنظار. كان له سلوك الأمير وطباعه؛ الأمير المتخفِّي بين أولاد المزرعة وهو يبذل جهدًا كبيرًا لكي يبدو واحدًا منهم. (ص 31)

يتقرَّب سنكلير من دميان – دميان البعيد-القريب الذي يصبح لسنكلير صوت “الضمير” أو صوت أعماق النفس التي تجتمع فيها الأضداد وتتصالح المتناقضات. إنه في حياة صديقه أشبه ما يكون بـ”جني” سقراط أو الصوت الداخلي الذي كان يهمس في أذن الفيلسوف بما يجب أن يُحْجِم عنه، تاركًا له الحرية كاملةً فيما يجب أن يُقْدِم عليه. وهنا تظهر المفارقة جليَّة بين الابتذال الذي يدَّعي المعرفة (كرومر) وبين بساطة الحكمة (دميان) التي تأبى الظهور والتبجُّح ولا تفصح عن نفسها إلا لِمَن يطلبها.

إن المصالحة بين الخير والشر وبين سائر الأضداد في النفس البشرية لا تعني على الإطلاق التراخي الأخلاقي والتأرجح بين الضدَّين المذكورين، بل إقامة نوع من التوازن الداخلي يُترجَم عمليًّا إلى أخلاق عليا من نوع جديد، أخلاق يفعل من خلالها الإنسان لا طمعًا في ثواب ولا خوفًا من عقاب، بل اختبارًا للمعرفة في صورها كافة. ومنه، لا يرفض دميان وجود جانب مظلم في دخيلة الإنسان، بالإضافة إلى الجانب المضيء، بل يدعو إلى فهم عميق للجانب الأول الذي هو “الظل”، لأن التكامل الداخلي لا يتم من دونه: “علينا أن نعتبر كل شيء مقدسًا، العالم كله، وليس ذلك النصف [المضيء] المفصول بشكل تعسفي […].” (ص 61)

على الإنسان، إذن، أن يكفَّ عن الخضوع الأعمى للشريعة الخارجية ويبدأ بتحسُّس الشريعة الداخلية المنقوشة في أعماق نفسه:

[…] على كلٍّ منا أن يكتشف بنفسه ما هو مسموح به وما هو ممنوع – ممنوع عليه. إن من الممكن لشخص ما أن لا يتجاوز في حياته كلِّها قانونًا واحدًا، ومع ذلك يظل سافلاً. […] والذين هم أكثر كسلاً وتراخيًا من أن يفكروا بأنفسهم وأن يصبحوا قضاة أنفسهم، هؤلاء هم الذين يطيعون القوانين. وهناك آخرون يحسُّون بقوانينهم الخاصة في داخلهم؛ وهناك أمور يعتبرونها ممنوعة على الرغم من أن أي إنسان شريف يمكن أن يقوم بها […]، وأشياء أخرى مباحة لهم لكنها في نظرهم محتقَرة. على كل إنسان أن يقف على قدميه. (ص 63)

هكذا أفلح دميان في انتزاع سنكلير من براثن كرومر، وباشر تلقينه مبادئ الخبرة الداخلية التي تقوم على المعرفة والتوازن بين الملَكات والقوى الرابضة في النفس البشرية كافة، ولاسيما التوازن بين الغريزة والعقل. وهذا لا يعني الانسياق للغريزة، لأن سنكلير يحب بياتريس – الصورة التي تمثل الجانب المؤنث من نفسه الذي لا بدَّ من وعيه كمرحلة على طريق تحقيق الذات – حبًّا نقيًّا ينقذه للمرة الثانية من السقوط، على الرغم من غرائزه:

[…] أقمت مذبحي لصورة بياتريس. وبتكريس نفسي لها كنت أكرِّس نفسي للروح […]، وبذلك الجزء من الحياة الذي استقيته من قوى الظلام كنت أضحِّي من أجل قوى النور. ولم يكن هدفي الغبطة بل الطهارة، لم يكن السعادة بل الجمال والروحانية. (ص 78)

وفي فترة الدراسة الجامعية، يتعرف سنكلير إلى عازف أرغن يدعى پستوريوس، يتكلم كما لو كان تلميذ يونگ الذي قطع معه هسِّه شوطًا على طريق معرفة نفسه. تنعقد بينهما أحاديث مطوَّلة، يبيِّن له فيها پستوريوس دور كلٍّ من اللاوعي الفردي، الذي هو خبرته الخاصة، واللاوعي الجمعي الذي ينطوي على تاريخ الحياة برمَّتها ويعبِّر عن نفسه، في الأساطير والأحلام، على هيئة رموز وتشكيلات مستمَدَّة من الطبيعة وعالمية، متكررة في الحضارات والثقافات كافة. إن التحقق برموز هذا اللاوعي الجمعي ومضامينه الحاضرة في أعماق كلٍّ منا هو غاية معرفة النفس؛ لذا فإن پستوريوس يعلِّم سنكلير التأمل في ذاته الباطنة ليكتشف فيها خبرات الإنسانية والطبيعة والعالم بأسره ويحقق الوعي الذي هو سمة الإنسان:

إن الاستسلام للتشكيلات اللامنطقية الغريبة بتشوُّشها التي تقدِّمها لنا الطبيعة يولِّد فينا شعورًا من التناغم الداخلي مع القدرة المسؤولة عن هذه الظواهر. إننا سرعان ما نسقط ضحايا إغراء التفكير فيها، وكأنها من طبيعتنا نحن، من خلقنا نحن، فنرى الحدود التي تفصلنا عن الطبيعة ترتعش وتتلاشى. […] ليس هناك مكان مثل [الداخل] نستطيع فيه أن نكتشف […] إلى أي حدٍّ نحن خلاَّقون وإلى أي حدٍّ تساهم أرواحنا في عملية الخلق المستمر للعالم، لأن الألوهية المتوحدة ذاتها فعالة فينا وفي الطبيعة. وإذا كان العالم الخارجي سيُدمَّر فإن شخصًا واحدًا مَن سيكون قادرًا على إعادة بنائه. […] كل شكل طبيعي كامن فينا ولا نستطيع معرفة جوهره؛ لكنه في أغلب الأحيان يعرِّفنا بنفسه على أنه القدرة على الحب والخلق. (ص 99-100)

هكذا يتعلم سنكلير من پستوريوس كيف يقبل الجوانب المظلمة من نفسه ويتعامل معها في احترام ومحبة، وكيف يكفُّ عن إسقاطها على أشخاص في الخارج: “إذا كرهت شخصًا فإنك تكره شيئًا فيه هو جزء منك أنت.” (ص 107)

ويجتمع سنكلير ودميان مرة أخرى في الجامعة. وتستقبله كذلك أمُّ دميان التي تريه صورًا لها وهي صبية، فيتعرف فيها إلى المرأة التي كان يتمنَّى أن يحبَّها. وتدعو الأمُّ نفسها “فراو إيڤا”، أي “السيدة حواء”، فتمثِّل في نظر سنكلير مظهرًا من مظاهر “الأم الكونية” (ص 133) التي يبشِّر الاقتراب منها بالعودة إلى الفطرة الأصلية ويرمز التحقق بها إلى بلوغ المعرفة والحكمة (صوفيا). إنها التي تؤوِّل له أحلامه، وتكون في الوقت نفسه تجسيدًا حيًّا لهذه الأحلام، وتحكي له القصص التي يستخلص منها العِبَر، وتشحذ إخلاصه ليكون واحدًا من الباحثين عن أنفسهم، أي من “أبناء المعرفة”:

نحن، الذين نحمل العلامة، يمكن للعالم أن يعتبرنا بحق شواذًا، لا بل ومجانين وحتى خطرين. كنَّا نعي، أو في طريقنا إلى أن نعي، وكان سعينا موجهًا نحو تحقيق حالة أكثر تكاملاً من الوعي […]. (ص 134)

ثم يكون الاستنفار للحرب، الحرب التي ستكون “بداية النهاية” وتؤذن بموت عالم قديم وولادة عالم جديد (ص 146). يصاب سنكلير بجرح. وعندما يستقر به المقام في قاعة للجرحى، يرى في جاره على المحفَّة شخصًا يحمل على جبهته “العلامة”، ثم لا يلبث أن يتعرف فيه إلى دميان الذي يقول له:

اسمع يا صغيري سنكلير: إنني راحل. ربما احتجت إليَّ ذات يوم مرة أخرى؛ ضد كرومر أو غيره. فإذا ناديتني لن آتي بشكل ملموس، على ظهر جواد أو في قطار. سيكون عليك أن تنصت إلى أعماقك، وعندها ستكتشف أنني في داخلك. هل تفهم؟ (ص 151)

هكذا يستوعب إميل سنكلير أن غاية الحياة هي المعرفة، وغاية حياته هي التحقق بهذه المعرفة. ولا نجد أجمل من هذا المقطع نصًّا نختتم به الحديث عن هذا الكتاب الصغير-الكبير؛ إذ إن فيه خلاصة للرسالة التي أراد الكتاب أن يبلِّغها – صوت العقل والوجدان في عالم تنهار فيه القيم والأخلاق:

لكل إنسان رسالة أصيلة واحدة – هي العثور على طريق نحو نفسه. […] وظيفته هي أن يكتشف مصيره هو – لا مصير سواه – وأن يعيشه كاملاً مخلصًا لنفسه. أما ما عداه فهو […] محاولة تملُّص […] وخوف المرء من داخله. برزت الرؤية الجديدة أمامي، وأومضت مئات المرات. ربما كان عُبِّر عنها من قبل، لكنني أختبرها الآن وأعيشها للمرة الأولى. […] كانت مهمَّتي الأولى هي السماح لهذه اللعبة المتعلقة بالأعماق البدائية أن تأخذ مجراها، وأن تمارس إرادتها في داخلي وأن تحوِّلها إلى إرادة لي. إما هذا وإما لاشيء. (ص 119)


* هرمان هيسِّه، دميان: قصة شباب إميل سنكلير، بترجمة ممدوح عدوان، طب 2: دار ورد، دمشق، 2000. (ترقيم صفحات الشواهد بحسب الطبعة الأولى، دار منارات، عمان.)