حسن الظن*
ألان**
“ما أصعب الرضا عن أحدهم!” من شأن مقولة لابرويار[1] الصارمة هذه أن تجعلنا سلفًا نلزم جانب الحيطة. إذ إن الحسَّ السليم يقضي بأن يتكيف كل واحد مع الشروط الواقعية للحياة في المجتمع، وليس من العدل في شيء إدانة الإنسان المتوسط؛ فذلك من قبيل جنون كاره البشر. وإذن، فمن غير أن أفتش عن الأسباب، تراني أتحاشى النظر إلى أشباهي وكأني مُشاهِدٌ دفع ثمن مكان جلوسه ويريد أن يرى من الآخرين ما يسرُّه. بل على العكس، إذ أسترجع في نفسي مألوف هذا الوجود الصعب، أجدني أتوقع سلفًا من كل شيء أسوأه؛ أفترض أن مُحادِثي يعاني معدة سقيمة أو صداعًا، أو ربما همومًا مالية أو خلافات بيتية. سماء مريبة هي سماء آذار، أقول لنفسي، يختلط فيها الرمادي والأزرق، ومضات الشمس وهبَّات الشمال اللاذعة؛ فأحتاط لنفسي بفرائي ومظلَّتي.
طيب. لكن في جعبة التفكير ما يسعفنا على الأمر إسعافًا أفضل إذا ما خطر ببالنا هذا الجسم البشري المتقلب، المرتعش عند أقل لمسة، اللاطئ دومًا، الذي سرعان ما يحتدُّ، مُصدِرًا حركاتٍ وكلامًا بحسب حال صحَّته، بحسب التعب، وبحسب أفعال الآخرين؛ مع ذلك، فإن هذا الجسم البشري هو الذي يجب أن يجيئني، مثل طاقة أزهار عيدية، بالمشاعر الثابتة، بالمراعاة، وبالنوايا الطيبة التي يلوح لي أنها من حقِّي. غير أني، أنا الذي أبدي كل هذا الاكتراث للآخر، لست بهذا الاكتراث لنفسي بتاتًا: تراني أطلق رسائل أجهلها، بحركة تلقائية، بتقطيب حاجبيَّ؛ الشمس والريح ترسمان ملامح وجهي. وبذا أقدِّم للآخر بالضبط ما أتعجَّب من وجوده فيه هو، الإنسان، أي الحيوان المكلَّف بالعقل، الذي يُرفَع دومًا إلى منزلة عالية، ثم يُرَدُّ إلى أسفل سافلين، الذي لا تكاد تصدر عنه إيماءة حتى تصدر عشر إيماءات، بل تراه بالأحرى يومئ بشخصه كلِّه من غير أن يكون له خيار. وفي هذا الخليط، عليَّ، كالمنقِّب عن الذهب، أن أطرح الحصباء والرمل وأتعرف إلى أصغر شذرة؛ عليَّ أنا أن أنقِّب؛ فما من امرئ يغربل الكلام الذي يتفوَّه به كما يغربل الكلام الذي يسمعه. وها أنا ذا بذلك متهيِّئ بحسب الأدب، لا بل أفضل من ذلك: أفتح للآخر رصيدًا واسعًا؛ أنبذ الخَبَث وأنتظر حقيقة فكره. لكني ألحظ هنا أثرًا آخر لا يُتوقَّع أبدًا بما يكفي: حُسْنُ الظن هذا الذي أبديه سرعان ما يفك إسار هذا الخجول الذي يتقدم نحوي مدججًا بالسلاح ومنتفشًا بكلِّيته. قصارى القول إن على واحد من هذين المزاجين اللذين يهرع كلٌّ منهما نحو الآخر كما تهرع الغيوم أن يبادر إلى الابتسام؛ وإذا لم تكن أنت البادئ فلست سوى غبي.
ما من امرئ إلا ويمكن الإكثار من إساءة القول فيه والظن به؛ ما من امرئ إلا ويمكن الإكثار من إحسان القول فيه والظن به. والطبيعة البشرية مجبولة بحيث لا تخاف البتة من التنغيص؛ إذ إن الغيظ الذي يمنح الجرأة يتبع الخجل عن كثب شديد، والشعور الذي ينتاب المرء بأنه غير مستحَبٍّ سرعان ما يجعله أسوأ. لكنْ عليك أنت، يا مَن فهم هذه الأمور، ألا تدخل هذه اللعبة بتاتًا. وإنها لَتجربة مدهشة التجربة التالية التي أرجوك أن تجرِّبها مرة واحدة: أسهل على المرء أن يسوس مباشرة مزاج الآخرين من أن يسوس مزاجه هو؛ ومَن يعالج باحتراسٍ مزاج مُحادِثه يكون طبيب مزاجه هو بهذه الوسيلة؛ إذ إن كلَّ واحد، في المحادثة كما في الرقص على حدٍّ سواء، مرآة للآخر.
8 نيسان 1922
* Alain, « Bienveillance », in Propos sur le bonheur (1928), Gallimard, coll. « Idées », 1964, pp. 179-181.
** لقب أستاذ الفلسفة الفرنسي إميل شارتييه (1868-1951). كاتب مقالة لامع، تفصح مقالاته القصار – وهي جنس أدبي-فلسفي برع فيه – عن مذهب إنساني روحي تتخلَّله السخرية الرفيعة والملاحظة الدقيقة. قال بضرورة مزاولة الفيلسوف العملَ اليدوي وبضرورة اطلاعه على العلوم حتى لا تفارق الفلسفةُ الحياةَ العملية، كما أدان الحرب بكل أشكالها. قيل إن كتاباته أنقذت العديد من القراء من اليأس.
[1] هو الكاتب الفرنسي جان دُه لابرويار (1645-1696). يصف كتابه الطبائع (1688-1696)، المصمَّم على غرار كتاب بالعنوان نفسه للفيلسوف الإغريقي ثاوفراسطُس، تحولات مجتمع زمانه. دعا إلى العودة إلى تراث الأقدمين. (المحرِّر)