اللاعنف: أربع نعم – وليد صليبي

اللاعنف: أربعُ نَعَم*

وليد صليبي

وليد صلَيْبي**

 

الوجه الآخر للحق ليس الباطل، بل العنف.
إريك ڤايل، منطق الفلسفة

فيما قد يُستعمَلُ كلٌّ من اللاعنف والعنف في مواجهة طغيان
الآخرين، وحده اللاعنف يستطيع مواجهة طغيان الذات.
وليد صليبي

 

اللاعنف لاءان: لا لعنف الذات، ولا لعنف الآخرين.

الـ”لا” الأولى – لا لعنف الذات – قد تبدو طوباوية إذا ما نظرنا إليها وكأنها تسعى في لَجْم عنفٍ مفترَض مغروس في صُلْب الطبيعة البشرية – عنفٍ حتميٍّ بالتالي؛ ومن هذا المنظار بعينه، تبدو هذه الـ”لا” مناقضةً لطبيعة الإنسان. لكن الأمر غير ذلك قطعًا: فهي “لا” واقعية، بل متجانسة حتى مع ما يُسمَّى “الغرائز”، وفقًا لما توصَّل إليه عدد كبير من كبار المحلِّلين النفسيين وعلماء سلوك الحيوان وعلماء التطور وعلماء الوراثة وعلماء الأعصاب إلخ.

يرى عدد من أبرز المحلِّلين النفسيين ممَّن انتقدوا نظرية فرويد في غريزة الموت (نخص منهم بالذكر إريش فروم) أنه ما من غريزة ثابتة تُدعى “غريزة الموت” تدفع بالإنسان نحو الموت أو الانتحار أو تدمير الذات، مضيفين أن غريزة الموت التي تكلم عليها فرويد ليست موجودة في حدِّ ذاتها، وأن نزوع الإنسان إلى العنف ما هو سوى انعكاس لإخفاق غريزة الحياة عنده في التعبير عن نفسها وتحقيق ذاتها، وذلك من جراء العقبات والخيبات الاجتماعية في سيرة كلِّ فرد[1].

ويلتقي بعض من أهم علماء سلوك الحيوان (ولاسيما كونراد لورنتس في كتابه في العدائية) مع أولئك المحلِّلين النفسيين في استنتاجهم هذا، كونهم توصلوا إلى نتيجة مفادها أن العنف عند الحيوان (التدمير للتدمير والقتل للقتل) ما هو أيضًا سوى إخفاق عدائية الحيوان في تجسيد وظيفتها الطبيعية الأساسية، أي الحفاظ على النوع الحيواني وعلى بقائه. لا بل إن هؤلاء العلماء برهنوا، بناءً على سنوات تراكمية من البحث والرصد المباشر، أن الحيوان تمكَّن من تحويل عدائيَّته إلى علاقات فردية من المودة والصداقة شبيهة جدًّا بعلاقات المودة والصداقة الإنسانيتين[2].

كذلك يلتقي هؤلاء وأولئك العلماء مع عدد من أهم الباحثين في علم التطور، ولاسيما الدارونيون الجُدُد، من أمثال هاملتون وتريڤرز وويلسون وأكسلرود وسواهم. ونذكِّر هنا بالمنطلقات الرئيسية لنظرية دارون في التطور؛ إذ اعتبر أن الحياة الحيوانية هي مجرد صراع وتنافُس على البقاء يبقى فيه ويستمر الأصلح والأكثر تلاؤمًا مع شروط الطبيعة survival of the fittest. وقد حُرِّفتْ هذه النظرية بالقول بأن مَن يبقى ويستمر هو “الأقوى”؛ وفي هذا، كما هو واضح، مغالطة (مقصودة) للمعنى الحقيقي لكلمة fittest الإنكليزية التي تعني “الأنسب” أو “الأصلح”. ومنه، أكد الدارونيون الجُدُد أنه، إلى جانب الصراع والتنافس على البقاء، هناك دور كبير جدًّا ورئيسي جدًّا للتعاون وللتصرفات الغيرية؛ لا بل إن الأجناس التي تبدي سلوكًا تعاونيًّا وغيريًّا هي “الأصلح” للبقاء والاستمرار.

ضمن المنطق نفسه، توصَّل عدد من أهم علماء الوراثة الجينية، منهم بوك وگودِه وترمبلاي وسواهم، إلى خلاصة جوهرية مفادها أنه ما من جينات معيَّنة مسؤولة حصرًا عن العنف عند البشر، بل إن العنف البشري هو نتيجة تفاعل بين البنية الجينية وبين الظروف الاجتماعية والسيرة الذاتية لكلِّ فرد.

واستكمالاً لهذه الاستخلاصات العلمية، أكد عدد من أهم علماء الأعصاب، مثل نلسون وترينُر، أن ما من أماكن معيَّنة في المخ أو الجهاز العصبي بعامة مسؤولة عن توليد العنف، بل إن المخ أو الجهاز العصبي ليس سوى ناقل للانفعالات، لا مولِّد لها. كما أكد هؤلاء، على غرار فروم، أن السلوك العنفي ما هو غير نتيجة تفاعل بين الشبكة العصبية والدماغ وبين البيئة المحيطة.

قصدنا مما سبق أننا حين نقول “لا” لعنف الذات لا نتحدى عنوةً طبيعة الإنسان الحتمية، بل بالعكس نعود فنساير طبيعة الإنسان الحقيقية، وأننا، عمليًّا وفعليًّا، حين نقول “لا” لعنف الذات نقول “نعم” للحياة، “نعم” للحب.

الـ”لا” الثانية – لا لعنف الآخرين – هي الـ”لا” المجتمعية. والمقصود منها هو: “لا” لعنف الآخرين، لا بمعنى القتل وحسب، بل بمعناه الأوسع، أي بجميع أشكاله، بما فيها الظلم الاجتماعي والإفقار والاحتلال والقمع وضرب النساء والأطفال وتضليل العقول والفساد والعنصرية والطائفية والإكراه الديني إلخ.

فاللاعنف هنا هو هذا التدخل المباشر في الواقع الاجتماعي والسياسي: هو هذه الـ”لا” المتواضعة التي حررت الهند من الاستعمار البريطاني، الأعتى آنذاك، متفوقةً على غطرسة تشرشل وتهكُّمه إذ قال: “سوف نحارب حتى آخر هندي!”؛ هو هذه الـ”لا” (“قوة المحبة”، بتعبير مارتن لوثر كينگ) التي انتصرت في نضال لاعنفي نموذجي، فألغتْ جميع القوانين والمواد الدستورية العنصرية في الولايات المتحدة الأميركية بعد قرون من الاستعباد والتمييز العنصري؛ هو هذه الـ”لا” التي وقفت في وجه الاحتلال النازي في أوروبا، حيث حققت المقاومة المدنية انتصارات مؤزَّرة، نسوق منها، على سبيل المثال، أنه حين أغلق الجيش الألماني جميع المدارس في پولونيا “من أجل القضاء على النخب الطليعية” (هتلر) نظَّم المعلمون تعليمًا سريًّا تابعه أكثر من مئة ألف تلميذ وتخرَّج منه أكثر من ثمانية عشر ألف طالب لشهادة البكالوريا، وأن الحكومة النرويجية رفضت، تحت الاحتلال العسكري، تشريع السلطات الألمانية وقادت العصيان المدني من خارج البلاد؛ هو تلك الـ”لا” التي كسرت حاجز الصمت وأطاحت، بقيادة نقابة “تضامن” Solidarność، بنظام الحزب الواحد في پولونيا؛ هو قوة هذه الـ”لا” التي أطاح بها الشعب بالدكتاتور ماركوس في الفيلپين؛ هو هذه الـ”لا” الفلسطينية المبدعة في “انتفاضة الحجارة” التي حولت الجيش الإسرائيلي من قاهر للجيوش العربية إلى مُطارِد للأطفال والنسوة في الأزقة…

وهو، أيضًا، هذه الـ”لا” التي صاغت قواعد لإستراتيجية دفاع لاعنفية، بديلةً عن الإستراتيجيات المعمَّمة التي أدت إلى العسكرة المتفاقمة والتسابق المحموم على التسلح وحصرت الفكر البشري المتفكر في المقاومة في احتمال أوحد هو احتمال العنف وحمل السلاح…

وهو، أيضًا وأيضًا، الـ”لا” للعنف الأول المتسلِّل إلى حياة الإنسان من طريق التربية، حيث طوَّر اللاعنف مفاهيم وأنظمة، وحتى مؤسسات تربوية وتعليمية، لاسلطوية ولاعنفية، مرتكزها الأساس تنمية شخصية الطفل وتفتيح إبداعه ومهاراته على الحب والخلق والتعاون. وقد ابتكرت هذه المؤسسات وراكمت نتاجًا ثقافيًّا غزيرًا من الأدبيات والأدوات وحتى الألعاب اللاتنافسية التي أسهمت في تعزيز ثقافة اللاعنف والتمرُّس منذ الصغر على حلِّ النزاعات لاعنفيًّا.

بعبارة أخرى، لا لعنف الآخرين، أي لا للظلم، هي، عمليًّا، نعم للعدالة والسلام.

وبعبارة موجزة، الـ”لا” الأولى هي توكيد لأخلاقية الفرد، والـ”لا” الثانية هي توكيد على الفاعلية الاجتماعية والسياسية. من هذا المنطلق، يغدو اللاعنف أربع “نعم”:

– نعم للحب
– نعم للعدالة
– نعم للأخلاق
– نعم للفاعلية

أما لماذا الإصرار على كلمة “لا” non، على كونها تتسبَّب في جدل يعتبر اللاعنف non-violence مفردة سلبية، فذلك لكي نعبِّر، بعيدًا عن أي لبس أو التباس، عن ضرورة القطع المطلق مع منطق العنف. فمعظم المفردات المستعمَلة للتعبير عن التغيير الاجتماعي، من نحو الوسائل “الشرعية” أو “الديمقراطية” أو “السلمية”، يحتمل إمكان استعمال العنف. فكم نسمع عبارات من نوع: “نحارب من أجل السلام” أو “أرسلنا جيوشنا لترسيخ الديمقراطية” إلخ، أو حين تُذكَر الوسائل “الشرعية” في إدارة النزاعات ويكون العنف مشمولاً فيها.

إنها أربع “نعم”، متداخلة مع عالم واسع من الثقافة المستمَدة من التحليل النفسي والفلسفة وعلم السياسة وعلم الاجتماع وسائر العلوم الإنسانية. فما أحوج اللاعنف إلى “قاموس” يترجمه إلى مفردات دقيقة وثقافة تضرب بجذورها في نضال البشر والشعوب وفي آلاف أبحاث النساء والرجال التوَّاقين إلى العدالة والحب والسلام.

ونسأل هنا: أيحتاج العنف إلى قاموس؟! بالطبع لا، كونه يُكتَبُ كل يوم بمفردات الدم والدمار والإذلال… لا بل إنه أمسى مشرَّعًا في قوانين دولية ونصوص حقوقية تبنَّتْها الأمم المتحدة (“الحق في شن الحرب” ius ad bellum)، ومشرَّعًا في قوانين وطنية محلِّية عبر مفهوم العقاب المتوَّج بالإعدام – حتى إنه أقيمت للعنف منظومات قضائية متكاملة تطبِّقه، ومؤسسات أمنية وعسكرية ضخمة وصارمة تسهر عليه، ومدارس تعلِّمه وتطبِّق نماذج منه ضمن مؤسسات تعليمية سلطوية، وشبكات إعلامية تسوِّقه، إلخ.

في المقابل، يخوض البشر آلاف النضالات اللاعنفية الفعالة والناجحة، لكن المجهولة أو القليلة التسويق، ويمارسون مئات آلاف الأعمال التعاونية المثمرة والمؤثرة جدًّا، لكن غير المعروفة أو المهمَّشة. وهذه وتلك، برأينا، بأمس الحاجة إلى ثقافة لاعنفية تدعمها وتروِّج لها، ثقافة لها مرتكزاتها التاريخية والفكرية والعلمية، ثقافة لها بالطبع “قاموسها”.

من هذا المنطلق، فإن قاموس اللاعنف لصديقنا المفكر اللاعنفي جان-ماري مولِّر – وهو خلاصة سيرة ذاتية فلسفية ونضالية غنية – يحل في الزمان والمكان المناسبين في عمق وعطاء منيرين. لا نراه قاموسًا حرفيًّا لتعبيرات لغوية وحسب – مع أنه ما من قاموس لغوي إلا وهو ترجمة لمفاهيم فكرية محددة –، بل إنه عبر هذا القاموس وشروحه وتأويلاته يتم التعريف بفلسفة وبموقف غير محايد وبمضمون سياسي إنساني.

قاموس اللاعنف

يأتي هذا القاموس ليلبِّي عمليًّا مجموعة من الوظائف الأساسية، نوجزها في سبعة عناوين عريضة:

– يعيد تحديد السمات ونقاط الاستدلال repères الدقيقة الضرورية لفهم المعاني؛
– يفضح الأفكار المسبقة وينزع الغشاء عن التباسات وتعميمات مغلوطة؛
– يدقِّق في الأصول اللغوية للمفردات المستعمَلة؛
– يبيِّن فاعلية العمل اللاعنفي في سبيل القضايا العادلة والمُحِقَّة؛
– يُظهِر الإيجابية في اللاعنف، كونه يرتكز على مفهوم “البرنامج البناء” programme constructif، على الرغم من السلبية التي تنطوي عليها المفردة بحكم ارتكازها على الـ”لا” في أولها؛
– يحدِّد موقف اللاعنفيين من مسائل جوهرية، كالعدالة والعنصرية والأصولية والتوتاليتارية والإرهاب، بما فيه إرهاب الدولة؛ كما
– ينزع “الشرعية” و”الصدقية” عن مفردات العنف ومنطق العنف.

قاموس اللاعنف هذا مادة نظرية وعملية أكثر من ضرورية لثقافة اللاعنف – هذا المفهوم الوحيد بين المفاهيم السياسية الذي يستحق، برأينا، التزامه حتى النهاية والوحيد الذي يتجانس فعلاً مع معنى حقيقي للحياة ليس عبثيًّا. فكما قال المهاتما گاندهي: “ربما كانت هناك قضية أنا مستعد للموت من أجلها، لكنْ ما من قضية أنا مستعد لأن أقتل في سبيلها.”

لعل ثقافة اللاعنف تستطيع في النهاية أن تخترق ذلك الغلاف الكثيف من الغيوم الحالكة التي تخيِّم علينا وتحاصرنا في سجن من القلق والعنف والعبثية، كي نستطيع التواصل مع شمس لا تيأس من مناداتنا صباح كلِّ يوم!

الهيئة اللبنانية للحقوق المدنية
بيروت، كانون الأول 2007


* صدر هذا المقال تقديمًا لكتاب جان-ماري مولِّر قاموس اللاعنف، بترجمة محمد علي عبد الجليل ومراجعة ديمتري أڤييرينوس، معابر للنشر، دمشق/الهيئة اللبنانية للحقوق المدنية، بيروت، طب 1: 2007.

** دكتور في الاقتصاد السياسي وكاتب ومناضل لاعنفي من رواد اللاعنف في المنطقة العربية. أطلق مع أوغاريت يونان في لبنان مشروع “اللاعنف وحقوق الناس” (1983) الذي تشكلت في إطاره أكثر من جمعية وحركة مدنية وحملة نضالية، نذكر منها: “حركة حقوق الناس”، “الهيئة اللبنانية للحقوق المدنية”، “بيوت اللاعنف اللاطائفية الديمقراطية – بلاد”. مُنِحَ جائزة الجمهورية الفرنسية لحقوق الإنسان (2005) على عمله الريادي المثابر في سبيل إلغاء عقوبة الإعدام في لبنان. أطلق، منذ بداية التسعينيات، سلسلة ترجمات اللاعنف (من إصدار “حركة حقوق الناس”)، مشرفًا على إصدار و/أو مترجِمًا العديد من الكتاب العالمية في اللاعنف إلى العربية. من مؤلفاته: نعم للمقاومة، لا للعنف (2005).

[1] راجع: إريش فروم، تشريح التدميرية البشرية، في جزأين، بترجمة محمود منقذ الهاشمي، إصدارات وزارة الثقافة، دمشق، 2006.

[2] Cf. Konrad Lorenz, On Aggression, Methuen Publishing, 1966.