الرحمن والشيطان (فراس السواح) – ديمتري أڤييرينوس

الرحمن والشيطان

الثنوية الكونية ولاهوت التاريخ في الديانات المشرقية

ديمتري أڤييرينوس

"يا عبدُ، إذا رأيتَني في الضدين رؤية
واحدة فقد اصطفيتُك لنفسي."
[1]
محمد بن عبد الجبار النِّفَّري

التوفر على دراسة مؤلفات فراس السواح – الأستاذ والصديق العزيز – عملية محفوفة بالمتعة وبشيء كثير من المشقة: بالمتعة، لأن الإبحار في عوالم الأديان والأساطير إبحار في عالم النفس الرحب اللامتناهي – إذ إن الدافع الديني، كما برهن فراس السواح بكل تماسُك في كتابه القيم دين الإنسان[2]، دافع أصيل في النفس الإنسانية التي تتمخض عن الأساطير والشعائر والعقائد، دافع لا يقل أصالة عن الجوع والعطش وسائر الدوافع الطبيعية، بل يفوقها بعد بلوغ مرحلة معينة من النضج الداخلي؛ وبالمشقة، لأن السواح لا يهوِّن على القارئ مهمته، بل إنه، باعتماده المقترَب الفينومينولوجي الذي يتوخى الموضوعية والحياد الإيجابي وينأى، قدر المستطاع، عن أحكام القيمة، يتخذ موقعًا أبعد ما يكون عن تقديم "وجبات فكرية" جاهزة للقارئ، بل يترك له حرية التفكر والاستنتاج ويتوقع منه أن يعيد إبداع المادة الفكرية في عقله ونفسه ليخرج من قراءته إنسانًا أغنى وأنضج.

* * *

البحث في الثنوية الكونية بحث مثلث: بحث في الخبرة الدينية بعامة، كانعكاس لعلاقة الإنسان الجوهرية مع الوجود – أولاً؛ وبحث في فهم الإنسان للدينامية المحرِّكة للتاريخ – ثانيًا؛ وبحث في أصل الخير والشر في النفس البشرية وفي كيفية تعامُل الإنسان مع جدلية الجبرية والتقدير المسبق، من جانب، والقدرية الحرة وطلب الكمال، من جانب آخر – ثالثًا. تلكم هي مدارات بحث فراس السواح في كتابه الأنيق الرحمن والشيطان[3]. والثنوية الكونية، كما يعرِّف بها المؤلف، هي

[…] المعتقد الذي يقول بقيام مبدأين أو أصلين متناقضين وراء مظاهر الوجود وصيرورة الزمن والتاريخ. […] شيمتهما الصراع من أجل أن يلغي أحدُهما الآخر. وصراعهما يدفع عجلة الزمن وتاريخ العالم […]. (ص 11)

ونجد في تضاعيف الكتاب استعراضًا لنماذج مختلفة من هذه الثنوية: فهناك الثنوية الكوسمولوجية، أو الكونية بحصر المعنى، وهي عبارة عن الاعتقاد بأن العالم محكوم بعلَّتين أصليتين، تتشاركان الهيمنة على العالم أو تتناوبان عليها (ثنوية "أفقية")؛ والثنوية الميتافيزيقية أو الإلهية التي تقول بوجود حقٍّ يتعالى عن الخلق (ثنوية "شاقولية")؛ والثنوية الأنثروپولوجية التي تعلل الأفعال البشرية إما بثنائية النفس والجسد وإما بوجود مبدأين أصليين يتصارعان في النفس البشرية (العقل والأهواء)، يترجَمان في سياق الحياة البشرية إلى حرية وجبرية (التخيير والتسيير)؛ والثنوية الأخلاقية التي تجعل طاعة القانون الإلهي أو الغيرية الأخلاقية على النقيض من المعصية أو الأنانية[4].

merciful_satan

ومن البديهي أن هذه الثنويات على علاقة، معقدة أحيانًا، بعضها ببعض: فالثنوية الأنثروپولوجية التي تضع النفس في مقابل الجسد هي، في الآن نفسه، ثنوية ميتافيزيقية تضع الحق في مقابل الخلق؛ ولها نتائج كوسمولوجية أيضًا: إذ إن التمييز بين مبدأين في النفس يُخلَعُ على الكون في تصور مبدأين إلهيين للخير والشر، ليعاد امتصاصُه في النفس من بعدُ، فينعكس أخلاقًا تنصاع لواحد من هذين المبدأين (ثنوية أخلاقية).

* * *

ينهض فراس السواح في الفصل الأول – مفتاح الكتاب – لتصنيف مُحْكم لأنماط الثنوية الكوسمولوجية إلى ثلاثة: مطلقة (مثالها المانوية)، وجذرية (الزرادشتية)، ومعتدلة (الغنوصية). وهو يَسِمُ المعتقدين الإسلامي والمسيحي بـ"الثنوية الأخلاقية"، حيث لا يطال سلطان الشيطان إلا نفس الإنسان وحدها (ص 12)؛ كما يعرِّج لمامًا على مفهوم القطبية الكوسمولوجية، كما تمثِّل له العقيدة التاوية الصينية، حيث لا صراع بين حدَّي الثنوية (ينْ/يَنْگ)، ولا دلالة "أخلاقية" لهما، ولا امتياز لأحدهما على الآخر، بل تداخُل بينهما وتكامُل وتعاضُد، بما يشبه قطبَي المغناطيس (ص 13).

* * *

في فصل "المفهوم الديني للتاريخ" (الفصل الثاني) يرى السواح أن

[…] معنى تاريخ الكون والإنسان [دينيًّا] يكمن خارج هذا التاريخ، لا في جدليته الداخلية الخاصة، لأن هذا التاريخ تسيِّره قدرة عُلوية توجِّهه وفق غايات خبيئة على الأفهام آنًا وبادية لها آنًا آخر. (ص 17)

وهو يميِّز في تاريخ الدين بين ثلاثة أشكال اعتقادية رئيسية، وهي: المعتقد الربوبي، أو التعالي الإلهي، الذي أساسه الفصل التام بين الإله وخلقه والذي يفضي إلى مفهوم مفتوح للتاريخ – ونموذجه ديانات بلاد الرافدين، حيث يفتقر معنى التاريخ إلى مفهوم واضح عن العدالة الإلهية وعن دور الإنسان في خطة الخلاص (ص 23-37)؛ والمعتقد الحلولي، أو التوحيدي الوجودي، الذي "يذيب الفوارق" بين الإله والإنسان من خلال "لامركزية" الألوهة، بكل ما ينجم عنه من تقديم للمعرفة الباطنية على العبادة وشعائرها – ويتخذ السواح مثالاً عليه الهندوسية التي يسير التاريخ، وفقًا لها، في حركة دورية مقايسة لدورات أو "حيوات" الذات الإنسانية الفردية (آتمن) في انعتاقها المتدرج من المركزية واتحادها أخيرًا بالمطلق (برهمن) (ص 37-51)؛ والمعتقد الألوهي، الذي يمثل حلاً وسطًا بين المعتقدين السابقين – ويمثِّل له بالزرادشتية التي يظهر فيها مفهوم دينامي للتاريخ يكون فيه للأخلاق والحرية والمسؤولية الإنسانية دور حاسم في تعيُّن الوجود وصيرورة الكون (ص 51-54).

* * *

ربما كان من الممكن تقصِّي بذور الثنوية في الديانة المصرية القديمة (الفصل الثالث). فللإله رع في الديانة المصرية الشمسية، حيث الشمس مبدأ الحياة والحق، خصم مبين هو الثعبان الضخم أپوفيس الذي يمثِّل لمبدأ الظلمة. وفي أسطورة أوزيريس (ص 70-72)، يقوم إله الشر سِتْ بقتل أوزيريس ويكيد لكلٍّ من زوجه إيزيس وولدهما حورس ("الصقر"). غير أن بعض قدماء المصريين اعتبر رع (أو أي إله خيِّر عمومًا) بمثابة الإله الخالق الكوني، فيما اعتبر بعضهم الآخر سِتْ إلهًا عظيمًا لا يخلو من الخير من بعض الجوانب، فأقام له دور العبادة (ص 75). مهما يكن من أمر، فقد كان سِتْ أخا أوزيريس الشقيق، الأمر الذي يشير، ميثولوجيًّا، إلى وحدة أصلية انبثق عنها كلاهما.

بالمثل، تحفل أساطير الشرق القديم بمشاهد الصراع بين الآلهة، من ناحية، وبين المردة أو الوحوش أو الشياطين، من ناحية ثانية. فالميثولوجيا البابلية، على سبيل المثال، تصف الصراع الذي دار بين مردوخ وتعامة (ثنائية كون/عَماء)؛ ومَشاهد تلك الدراما الكونية كافة تشي بنوع من الثنوية، غير أنها ليست متبلورة تمامًا بعدُ، حيث القوى المتناوئة ينبثق بعضُها من بعض أو تربط فيما بينها صلة نَسَب، الأمر الذي يشير إلى صدورها جميعًا عن أصل واحد.

زبدة القول إن هذه الديانات القديمة، وإنْ كانت قد بلورت شكلاً من أشكال الثنوية، تمثَّل عمليًّا في الإعلاء من شأن الأخلاق الفردية في تعيين مصير الفرد والحساب الذي يلقاه في الآخرة، إلا أنها لم تصل به إلى نهاياته المنطقية: ثنوية جذرية وثنوية أخلاقية تامة (ص 75-76).

* * *

تختلف الثنوية الزرادشتية عن بقية التيارات السابقة بطابعها المنهجي الذي يتلازم فيه مفهوما الوحدانية والثنوية (ص 82). وفي هذه الديانة الراقية نشهد "ميلاد الشيطان" (الفصل الرابع): ففيها يدور كل ما هو خيِّر حول الإله الأعظم أهورا مزدا (أورمَزد)، مبدأ الحق، بينما يدور كل ما هو شرير حول أهرا منيو (أهريمن)، قوة الباطل؛ وفيها نرى قوى الخير وقوى الشر تصطف متقابلةً في تناظُر يكاد أن يكون تامًّا. والروح الخيِّر والروح الشرير كلاهما أصلي في الخلق، ولا يحقق "كسر التناظر" إلا اليقين بأن أورمَزد هو الأقوى وبأن أهريمن سوف يُهزَم في مآل تاريخ الكون والإنسان.

غير أن هذه الصورة هي التي يمكن استظهارها بالاستناد إلى أدبيات الأڤستا، المتأخرة نسبيًّا؛ أما أناشيد الگاتها، أقدم النصوص الزرادشتية التي وصلتنا، فالصورة فيها ليست على هذا القدر من الوضوح: التناظر فيها أقل كمالاً، وليس من المؤكد أن الروح الشرير مستقل عن أورمَزد ومساو له في الأبدية. ففي إحدى نصوص الگاتها، يَردُ ذكرُ الروح الخيِّر (سپينتا منيو) والروح الشرير (أهرا منيو) على أنهما "توأمان" يتنافسان منذ البداية، "يختار" أحدهما الحق فيما "يختار" الآخر الباطل؛ وهذا، بنظر السواح، دليل على أن الروحين صدرا عن مبدأ أصلي واحد وأن الشرير صار شريرًا بمحض اختياره، و"الاختيار هو جوهر الأخلاق" (ص 83). وعلى كل حال، فإن الروح الشرير ليس مناوئًا لأورمَزد مباشرة، بل للروح الخيِّر. فأغلب الظن أن أورمَزد كان في الأصل إلهًا مطلقًا، متعاليًا عن التضاد.

ولقد أتت الزرادشتية بعدد من المفاهيم الأصيلة في تاريخ الدين، أهمها (ص 98-101):

  1. المفهوم الدينامي التطوري للتاريخ
  2. الطبيعة الأخلاقية للوجود ودور الأخلاق في تطهير النفس
  3. الشراكة بين الألوهة والإنسان وتعاونهما على إصلاح العالم
  4. وحدانية الإله
  5. أصل الشر وفكرة الشيطان
  6. حرية الإنسان ومسؤوليته
  7. مفهوم "الإنسانية" كحركة جماعية في التاريخ
  8. مفهوم المخلِّص (المسيائية)
  9. مصير الروح
  10. نهاية الزمن وتجديد التاريخ

ولا تزال مفاعيل هذه المفاهيم سارية في حياة البشر الدينية إلى يوم الناس هذا.

* * *

تظهر التصوراتُ الثنوية في اليهودية (الفصل الخامس) في القلب من مفهوم الألوهة نفسه، الأمر الذي لم يؤدِّ إلى تمايُز مبدأ واضح يمثِّل للشر وإلى تبلوره، بل فتح الباب على إشكاليتَي "التوحيد" و"الأخلاق" اللتين لم يتوصل الفكر التوراتي إلى حلِّهما إبان تدوين أسفار العهد القديم القانونية، التي يُكثِر فراس السواح من إيراد نصوص مستقاة منها تأييدًا لوجهة نظره. فالتوحيد التوراتي، في أحسن الأحوال، "وحدانية عبادة"، على حدِّ اصطلاح السواح، أي

[…] شكل من أشكال التعددية […] يتميز بعبادة إله واحد والإخلاص له دون بقية الآلهة التي لا يُنكَر وجودُها، وإنما تُستبعَد من الحياة الدينية للجماعة لصالح ذلك الإله المعبود (ص 104)،

وليس تنزيهًا خالصًا لمفهوم الألوهة، بوصفها "العلَّة الأولى والمآل الأخير"، بما يؤسِّس لمنظومة أخلاقية مُحْكمة. ومن هنا "الإشكالية الأخلاقية" التي تتبدى في سِيَر حياة "المختارين" الذين أسند إليهم الربُّ أدوارًا مهمة في حياة الجماعة:

إن عدم توصُّل إله التوراة إلى موقف متسق من مسألة الأخلاق، سواء في ما يتعلق بسلوكه الخاص أم بمطلبه الأساسي من شعبه، قد جعل الشخصياتِ الرئيسيةَ في الرواية التوراتية تسلك بدوافع من محاكماتها الآنية، دون الاستناد إلى أية مرجعية أخلاقية. (ص 123)

غير أن هذا لم يَحُلْ دون ظهور الشيطان على حلبة دراما الشعب اليهودي، "رغم ضآلة دوره وقلة حيلته"، كشريك ليهوه، تارة، وكأداة منفذة لرغباته، طورًا (ص 128). وقل الشيء نفسه عن "لاهوت الملائكة" المتبلور في أسفار التوراة المتأخرة بفعل التأثيرات الرافدينية والفارسية:

[…] ما يميِّز مفهوم الملائكة في التوراة عن مفهوم الملائكة الفارسي هو أن الملائكة التوراتية ليست كائنات نورانية خيِّرة تقف في وجه الشياطين وتكافح الشر في العالم […]، بل هي البطانة الخاصة التي تحيط بيهوه الملك، وتحمل عرشه كلما زار الأرض، وتنفِّذ ما يوكل إليها من مهمات: فمنها للمهمات الخيِّرة ومنها للمهمات الشريرة، وغالبًا ما يختلط الفريقان حتى يصعب التمييز بين ملائكة النور وملائكة الظلام. (ص 134)

من هنا وصف السواح للمعتقد التوراتي بأنه "زرادشتية مقلوبة على رأسها" (ص 153)، تختص اليهودية وفقًا له بالإله الشمولي، وترسم تاريخ الكون، ليس كنهاية للزمن الدنيوي بانتصار قوى الخير، كما في الزرادشتية، بل كنهاية لتاريخ الشعب اليهودي حصرًا بتتويجه سيدًا على الأمم كافة وممثِّلاً ليهوه على الأرض. وبذلك يفقد الصراع الأخلاقي بين الخير والشر غائيَّته الميتافيزيقية، ويعدم صياغةَ تصورات أخروية ناضجة عن البعث والحساب (ص 150-152)، كالتي تجلَّت لاحقًا في كلٍّ من المسيحية والإسلام، اللذين يفصِّل المؤلف في عرضهما في الفصلين العاشر والحادي عشر (الأخير) في سبك أخاذ، بما يتسامى بالطبيعة البشرية للإنسان، فردًا وجماعة، من حالة السقوط من النعمة الإلهية إلى الحالة الفردوسية البدئية[5].

* * *

إذا كانت أسفار العهد القديم القانونية تمثِّل، بالمعنى الرمزي التأويلي، خلاصة لتطور البشرية الوئيد، منذ بداياتها البهيمية حتى بلوغها عتبة التوحيد والاهتداء إلى "فكرة الله" المنزَّه في أسفار الأنبياء (ص 104)، فإن احتكاك اليهود بالتراث الروحي للأمم الأخرى في العصر الهلنستي أدى إلى "ثورة دينية صامتة" أبدعت، من داخل الديانة اليهودية، فكرًا رؤيويًّا جديدًا استمر من حيث توقفتْ أسفار الأنبياء واستنفد إمكاناتها التأويلية، ممهدًا للطفرة المسيحية اللاحقة.

ولقد صيغ هذا الفكر في النصوص التي عُرفتْ بالأسفار "المنحولة" (أي المنسوبة إلى غير كاتبها الحقيقي) أو الأسفار "غير القانونية"، التي يتوفر السواح على دراسة نماذج لها ويورد منها مقاطع مطولة في الفصل السادس من كتابه، مثل: سفر أخنوخ الأول وسفر عزرا الرابع وكتاب اليوبيليات ووصايا الأسباط الإثني عشر ونصوص قمران (مخطوطات البحر الميت) وسفر أسرار أخنوخ (أخنوخ الثاني) وكتاب حياة آدم والهاجاده (أسفار التلمود القصصية). وأهم الأفكار الجديدة التي أغنت هذه الأسفارُ بها الإيديولوجيا التوراتية (ص 156-157)، بما يتقاطع مع إضافات الزرادشتية إلى الفكر الديني العالمي، هي:

  1. مشكلة الشر ولاهوت الشيطان الكوني
  2. مشكلة الأخلاق والمسؤولية
  3. التوحيد (في مقابل "وحدانية العبادة")
  4. التاريخ الدينامي القائم على جدلية الخير والشر والارتقاء بالوجود
  5. الأخروية والمسيائية
  6. مفهوم "الإنسانية" (في مقابل مفهوم "الشعب المختار")

* * *

لقد أجمعتْ العقائد الغنوصية (الفصل السابع)، بالتساوق مع المسيحية الباطنية (ولاسيما في الإنجيل الرابع، حيث يصح الكلام على "ثنوية يوحناوية" تصف الشيطان بـ"أمير هذا العالم")، على نَسْخ "العهد القديم" بين يهوه وبني إسرائيل، جزئيًّا على الأقل، وعلى تعديل جذري لقصة التكوين التوراتية (هبوط صوفيا من عالم الأفلاك الروحانية – "الإيونات" – وإنجابها ملائكة المادة – "الأرخونات" – الذين خلقوا العالم)، فأسَّست لـ"عهد جديد" بين الإله الحق وبين بني الإنسان قاطبة (ص 208-211).

ويعود "اعتدال" الثنوية الغنوصية إلى أن الثنوية فيها طارئة على الوجود، وليست أصلية في الطبيعة الإلهية المحضة؛ إذ إنه، في المنظور الغنوصي، لا توجد صلة مباشرة بين الله (الآب الأعلى) وبين العالم: فالقدرات الدنيا والعمياء – ويهوه، "صانع العالم" أو "أميره"، في عِدادها – التي صنعت العالم مباشرة وتسلَّطت عليه (ص 204)، مع أنها من أصل إلهي، فإنها لا تعرف الله، بل "تقاومه" (= شيطان)، وتتسلط ظلمًا على النفوس، حتى مجيء نبيٍّ مخلِّص يأخذ على عاتقه التغلب عليها من أجل تخليص النفوس عن طريق الغنوص ("المعرفة") الذي هو

[…] فعالية روحانية تقود إلى معرفة الأسرار الإلهية عبر تجربة باطنية تقود إلى الكشف والاستنارة. […] هذه المعرفة هي وحدها الكفيلة بتحرير الروح الحبيسة في إطار الجسد المادي والعالم المادي الأوسع، لتعود إلى العالم النوراني الأسمى الذي صدرت عنه. (ص 204)

وهذا النوع من الثنوية، التي يتقابل فيها قطبا الله والعالم (ثنوية "شاقولية")، يختلف عن الثنوية الزرادشتية "الأفقية" (حيث العالم صنعة الله المباشرة وخيِّر إجمالاً، لكن مبدأ الشر يتسلل إليه ويدخل في صراع مع مبدأ الخير، حتى ينتصر الخير أخيرًا)، ويختلف كذلك عن الثنوية المانوية المطلقة (الفصل الثامن) التي ابتعدت عن الثنوية الغنوصية حصرًا، بحيث إن التضاد فيها لم يعد بين الله والعالم، بل بالحري بين الله والمادة (ص 230). فالعالم، بنظر ماني، الذي عدَّل الغنوص مستلهمًا الثنويتين الفلسفية (روح/مادة) والزرادشتية معًا، نظام وَضَعَه الإلهُ من أجل تمكين النفس الإنسانية من الخلاص عن طريق المعرفة حصرًا.

* * *

ملاحظتنا "الفنية" الطفيفة على كتاب السواح، بهذا الصدد، أنه خصَّ الثنوية الغنوصية بفصل من الكتاب صغير نسبيًّا بعنوان "يهوه: شيطان الغنوصية" مستقل عن فصل "الشيطان في اللاهوت المسيحي". فربما كان من الأجدى، على الصعيد المعرفي، إخراج دراسة الغنوص من مجال تاريخ الديانات العام وإدراجه في مبحث تاريخ اللاهوت المسيحي. ذلك أن النظرية القائلة بأن الغنوص عبارة عن جملة من الهرطقات (الزندقات) المسيحية وبأنه كان قبلها تيارًا دينيًّا مستقلاً لم تجد لها حتى الآن سندًا مقنعًا؛ إذ لم يعثر الباحثون حتى الآن على نصٍّ غنوصي واحد سابق للمسيحية، وأقدم الغنوصيين المعروفين كانوا جميعًا مسيحيين، ترعرعوا في الوعاء الثقافي والروحي للمسيحية، باعتبارها بوتقةً عامةً انصهر فيها سائر التياراتُ الدينية الشائعة في القرون الأولى بعد المسيح. وفي رأينا أن تعاليم يسوع الأصلية التي تشكِّل باطن المسيحية لا يصح تأويلُها وفهمُها إلا في ضوء الغنوص[6].

* * *

يبقى أن نقول إن فراس السواح مفكر سوري فذ يقف في طليعة المعرِّفين بأعماق الخبرة الدينية والروحية – الواحدة في الجوهر – في العالم العربي، إن لم نقل إنه من الثلة النادرة التي تجاهد في هذا الميدان وحدها[7]. وهذا التكريم الذي نشارك فيه اليوم لا يرقى إلى "تكريمه" الفعلي، المتمثل في إسهامه في التنشئة الفكرية لجيل جديد خال من أدواء الانغلاق الفكري والتعصب والتحزب والاعتقاد باحتكار الحقيقة المطلقة والنجاة إلخ.

فراس السواح، بلا ريب، رائد من رواد الانفتاح والمحبة في سورية ودنيا العرب.


[1] يكتفي السواح بهذه العبارة وحدها (كتاب المخاطبات، فقرة 26) ليختم على كتابه في "الثنوية" الكونية!

[2] راجع: فراس السواح، دين الإنسان: بحث في ماهية الدين ومنشأ الدافع الديني، دار علاء الدين، دمشق، طب 1: 1994.

[3] فراس السواح، الرحمن والشيطان: الثنوية الكونية ولاهوت التاريخ في الديانات المشرقية، دار علاء الدين، دمشق، طب 1: 2000. وقد ألقِيتْ المداخلة التي شكلت نواة هذه القراءة في ندوة تكريم فراس السواح في "رابطة الخريجين الجامعيين"، حمص (سورية)، 25/10/2003.

[4] تبقى الثنوية الإپستمولوجية (أو الخاصة بنظرية المعرفة) التي تحيل على المعرفة بوصفها تتوقف على مقولتين للوجود: الذات والموضوع؛ وهذه لم يتطرق إليها الكاتب مباشرة نظرًا لتناوُله الثنوية في نطاق الأديان المشرقية حصرًا.

[5] لن نتطرق في هذه القراءة إلى ما جاء في هذين الفصلين، تاركين للقارئ مفاجأة التذوق الماتع، مشيرين فقط إلى الجهد الكبير المبذول في تصنيفهما باعتماد المؤلف مقاييس فكرية راقية ومستقلة، خارجة عن نطاق كلٍّ من اللاهوت المسيحي والكلام الإسلامي التقليديين.

[6] في كتابه الوجه الآخر للمسيح: موقف يسوع من اليهود واليهودية وإله العهد القديم ومقدمة في المسيحية الغنوصية (دار علاء الدين، دمشق، طب 1: 2004)، عاد السواح وتبنى وجهة النظر هذه في قوة.

[7] من هذه الثلة نذكر المفكر اللبناني الكبير أديب صعب الذي يبحث أيضًا في النتائج الاجتماعية المترتبة عن هذه الرؤية الشاملة.