القشر واللب*
رونيه گينون**
يعبِّر العنوان أعلاه – وهو عينه عنوان واحدة من رسائل سيدي محيي الدين بن عربي العديدة[1] – تعبيرًا رمزيًّا عن الصلات بين مذهب الظاهر ومذهب الباطن، المشبَّهين، على التوالي، بغلاف الثمرة وجزئها الداخلي، لبابها أو "لوزتها"[2]. أما "القشر" فهو الشريعة، أي الشرع الديني الظاهر الموجَّه إلى الجميع والمجعول بحيث يتَّبعه الجميع، كما يدل على ذلك معنى "الطريق العريض" المتعلق باشتقاق اسمه؛ وأما "اللب" فهو الحقيقة التي، على العكس من الشريعة، ليست في متناول الجميع، بل تخص أولئك القادرين على الكشف عنها تحت المظاهر وعلى بلوغها من خلال الصور الظاهرة التي تحجبها، فتصونها وتسترها في آن معًا[3]. وبحسب رمزية أخرى، يشار أيضًا إلى الشريعة والحقيقة، على التوالي، بـ"الجسم" و"المخ"[4]، اللذين تتطابق الصلات بينهما مع الصلات بين القشر واللب؛ وأغلب الظن أن بالإمكان إيجاد المزيد من الرموز الأخرى المكافئة لتلك.
المقصود هنا، مهما تكن التسمية المعتمَدة، هو دومًا "الظاهر" و"الباطن"، اللذان هما كذلك بطبيعتهما نفسها، وليس بحُكْم أعراف ما أو احتياطات يتخذها افتعالاً – إنْ لم يكن اعتباطًا – أصحابُ العقيدة النقلية. وهذان الظاهر والباطن يمثَّل لهما بمحيط الدائرة ومركزها[5]، الأمر الذي يجيز اعتبارها مقطع الثمرة المذكورة في الرمزية السابقة، في الوقت الذي يُحيل بذلك، من ناحية ثانية، إلى صورة "عجلة الأشياء" التي تشترك فيها المنقولات جميعًا.
وبالفعل، إذا نظرنا في المصطلحين المقصودين بالمعنى الكلِّي، من غير التقيُّد بتطبيقهما الأشيع المخصوص على شكل نقلي بعينه، يجوز القول بأن الشريعة، "الطريق العريض" الذي يسلكه جميع الموجودات، ليست غير ما يسمِّيه المنقول الشرقي الأقصى "تيار الأشكال"، بينما الحقيقة – الحق الواحد القيوم – تقيم في "الوسط اللامتغيِّر"[6]. وللعبور من الأول إلى الثاني، أي من المحيط إلى المركز، لا بدَّ من اتباع أحد الأشعة: إنها الطريقة، أي "الدرب"، الطريق الضيق الذي لا تتبعه إلا ثلة صغيرة[7]. ثمة، إلى ذلك، طُرُق كثيرة، كلها أشعة صادرة من المحيط مأخوذة في الاتجاه الجاذب إلى المركز، بما أن المقصود هو الانطلاق من كثرة التجلِّي ذهابًا إلى وحدة المبدأ: كل طريقة، إذ تنطلق من نقطة بعينها من نقاط المحيط، مناسِبة تخصيصًا للموجودات الواقعة على هذه النقطة؛ لكن جميع الطُّرُق، مهما تكن نقطةُ انطلاقها، تنحو على حدٍّ سواء نحو نقطة واحدة[8]، فتؤدي جميعًا إلى المركز، وتعيد بذلك الموجوداتِ التي تسلكها إلى البساطة الذاتية لـ"الحال القديمة" état primordial.
وبالفعل فإن الموجودات، مادامت موجودة حاليًّا في الكثرة، مجبَرة على الانطلاق من هناك طلبًا للتحقُّق، أيًّا كان؛ لكن هذه الكثرة، في الوقت نفسه، عند غالبية هذه الموجودات، هي العائق الذي يوقفها ويحتجزها: فالمظاهر المتنوعة والمتغيرة تحول بينها وبين رؤية الحق، إذا جازت العبارة، مثلما يحول قشرُ الثمرة دون رؤية لبِّها؛ وهذا "اللب" لا يستطيع بلوغه غير القادرين على اختراق "القشر"، أي رؤية المبدأ من خلال التجلِّي، بل حتى عدم رؤية سواه في الأشياء كلها، ذلك أن التجلِّي نفسه ككل لا يعود حينذاك سوى جملة من التعبيرات الرمزية [عن المبدأ].
إن تطبيق هذه الرؤية على مذهب الظاهر ومذهب الباطن، مفهومَين بمعناهما العادي، أي بوصفهما وجهَي عقيدة نقلية واحدة، يصير إذ ذاك سهل الإجراء: فهناك أيضًا تستر الصورُ الظاهرةُ الحقيقةَ العميقةَ عن أعين العوام، بينما تُظهرها بالعكس لأعين الخواص، الذين ما يكون عند سواهم عائقًا أو حدًّا يصير بذلك عندهم نقطة ارتكاز ووسيلة تحقُّق. ولا بدَّ هنا من الفهم حق الفهم أن هذا الفارق ناجم مباشرة وبالضرورة عن طبيعة الموجودات نفسها، عن الإمكانات والاستعدادات التي يحملها كل واحد في نفسه، بحيث إن الوجه الظاهر من العقيدة يؤدي بذلك دومًا الدور الذي ينبغي له أن يؤديه بالضبط لدى كل واحد، مانحًا الذين لا يستطيعون أن يسلكوا شوطًا أبعد كلَّ ما في طاقتهم أن يحصلوا عليه في حالتهم الحالية، مزوِّدًا في الوقت نفسه الذين يتخطونه بـ"الحوامل" التي يمكن لها، على كونها ليست أبدًا ذات ضرورة ماسة، بما أنها عَرَضية أصلاً، أن تعينهم معونة جمَّة على التقدم في طريق الباطن، والتي تكون المصاعب من دونها من الهول، في بعض الحالات، بحيث تكافئ في الواقع استحالة حقيقية.
لا بدَّ، بهذا الصدد، من ملاحظة أن الشرع الظاهر يتخذ، عند العدد الأكبر من البشر الذين يكتفون به حتمًا، خاصية الإرشاد أكثر منها خاصية الحد: إنه دومًا رباط، لكنه "رباط" يحول بينهم وبين الضلال أو الضياع؛ فمن دون هذا الشرع الذي يقضي عليهم بسلوك طريق بعينها، لا تقل حظوظهم في بلوغ المركز وحسب، بل يعرِّضون أنفسهم لخطر النأي عنه نأيًا مطلقًا، في حين أن الحركة الدائرية تبقيهم على مسافة ثابتة منه على الأقل[9]. ومنه، فإن الذين ليست في مقدورهم مشاهدةُ النور مباشرة يحصلون على الأقل على انعكاس له ومشاركة فيه؛ وبذلك يظلون مرتبطين على نحو ما بالمبدأ، في حين لا وعي فعليًّا لديهم به وليس بوسعهم أن يكون لديهم هذا الوعي.
وبالفعل، فإن محيط الدائرة لا وجود له من غير المركز، الذي يصدر عنه هذا المحيط برمته في الواقع؛ وإذا صح أن الموجودات المشدودة إلى المحيط لا ترى المركز بتاتًا، ولا ترى الأشعة حتى، يصح أيضًا أن كلاً منها يقف بذلك حتمًا على طرف شعاع، طرفه الآخر هو المركز نفسه. غير أن القشر هنا هو الذي يتوسط بين الطرفين، فيستر كل ما هو موجود في الباطن، في حين أن مَن يخترقه، واعيًا بذلك الشعاع المقابل لموقعه الخاص على المحيط، ينعتق من الدوران على المحيط حتى أجل غير محدد، فلا يبقى عليه سوى أن يتبع "شعاعه" ليذهب إلى المركز؛ وهذا الشعاع هو الطريقة التي بواسطتها، منطلِقًا من الشريعة، سيبلغ الحقيقة.
إلى ذلك، لا بدَّ من التدقيق بأنه حالما يتم للمرء ولوجُ القشر يجد نفسه في مجال الباطن، حيث إن هذا الولوج، من موقع الموجود بالنسبة إلى القشر نفسه، هو نوع من "الانقلاب"، كناية عن العبور من الظاهر إلى الباطن؛ لا بل إن تسمية "مذهب الباطن"، بمعنى ما، تناسب بالأحرى الطريقة، لأن الحقيقة، في واقع الأمر، تتعالى عن التمييز بين مذهب الظاهر ومذهب الباطن، الذي ينطوي على مقارنة وترابُط: يظهر المركز فعلاً بوصفه أبطن النقاط جميعًا، ولكن حالما يتم بلوغُه لا يعود من مجال ثمة لظاهر ولا لباطن، حيث يتلاشى عندئذٍ كل تمييز عَرَضي، منحلاً في وحدة المبدأ. ولهذا فإن الله، كما أنه "هو الأول والآخِر"[10]، هو كذلك "الظاهر والباطن"[11]، من حيث إن لا موجود في الخلق يمكن له أن يوجد خارج الحق، وفيه وحده محتواة كل حقِّية، لأنه هو ذاته الحق المطلق والحقيقة الجامعة.
مصر، 8 رمضان 1349 هـ.
المترجم عن الفرنسية: ديمتري أڤييرينوس
* Le Voile d’Isis, mars 1931, pp. 145-150 ; repris dans René Guénon, Aperçus sur l’ésotérisme islamique et le Taoïsme, Gallimard, 1973, pp. 29-36.
** فيلسوف فرنسي (1886-1951)، ولد في بلوا (فرنسا) وتوفي بالقاهرة. شُغف منذ حداثة سنِّه بالروحانيات، فدفعه الفضولُ إلى اختبار العديد من مدارسها الحديثة، حتى اهتدى أخيرًا إلى تصور متكامل عن وحدة المأثورات "الدينية" الأصيلة في العالم قاطبة، بوصفها تعبيرات متنوعة متفرعة عن "منقول قديم" Tradition Primordiale واحد، فاطمأن إليه وراح، بالتوازي مع حياة باطنية غنية، يكتب فيه المقالات والكتب والرسائل، مؤسِّسًا بذلك لمذهب "نقلي" traditionnaliste مازال أثرُه ساريًا حتى يومنا هذا. من مؤلفاته العديدة الهامة: الإنسان ومآله بحسب الڤيدنتا، أزمة العالم الحديث، رمزية الصليب، الثالوث الأكبر، لمحات عن المُسارَرة.
[1] لهذه الرسالة عنوان آخر هو: كتاب القشر واللب والجسم؛ راجع: عثمان يحيى، مؤلفات ابن عربي: تاريخها وتصنيفها، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2001؛ ص 513. (المحرِّر)
[2] لنُشِرْ إشارة عَرَضية إلى أن رمز الثمرة على صلة بـ"بيضة العالم"، كما وبالقلب.
[3] بالإمكان ملاحظة أن دور الصور الظاهرة يتصل بالمعنى المزدوج لكلمة "كشف" révélation، بما أنها تُظهر العقيدة اللبِّية، الحقيقة الواحدة، وتحجبها في الوقت نفسه، مثلما يفعل الكلام حتمًا بالفكر الذي يعبِّر عنه؛ وما يصح على الكلام، بهذا الصدد، يصح كذلك على كل تعبير صوري آخر. [يشير گينون هنا إلى "المعنى المزدوج" لكلمة revelatio اللاتينية (من فعل revelare، "كَشَفَ"): re، "ثانية"، velum، "حجاب"؛ بذا يكون "الكشف" عن أي شيء هو "حَجْبه ثانيةً". (المترجم)]
[4] فلنتذكر هنا "المخ الجوهراني" substantifique moelle الوارد عند [فرانسوا] رابليه، الذي يمثل هو الآخر مدلولاً باطنًا ومستورًا.
[5] راجع: رونيه گينون، "مذهب الباطن في الإسلام"، سماوات: http://samawat.org/articles/islamic_esotericism_guenon. (المحرِّر)
[6] لا بدَّ من الملاحظة، بصدد المنقول الشرقي الأقصى، بأننا نقع فيه على المكافئين الصريحين للغاية لهذين المصطلحين، لا بوصفهما الوجهين الظاهر والباطن للعقيدة نفسها، بل كتعليمين منفصلين، على الأقل منذ عصر كونفوشيوس ولاو-تسُه: بالإمكان القول بالفعل، بكل دقة، بأن الكونفوشية تقابل الشريعة، بينما تقابل الطاويةُ الحقيقة. [راجع أيضًا: رونيه گينون، "الطاوية والكونفوشية"، سماوات: http://samawat.org/essays/taoism_confucianism_guenon. (المحرِّر)]
[7] تحوي كلمتا "شريعة" و"طريقة" كلتاهما فكرة "السلوك" الأخرى، أي الحركة (وتجدر ملاحظة رمزية الحركة الدائرية للأولى والحركة المستقيمة للثانية)؛ ثمة بالفعل تغيُّر وكثرة في الحالتين، حيث لا بدَّ للأولى من التكيف مع تنوع الشروط الخارجية، بينما لا بدَّ للثانية من التكيف مع تنوع الطبائع الفردية. وحده الكائن الذي بلغ الحقيقة فعليًّا يتصف بذلك بوحدتها وقيوميتها.
[8] يمثَّل لهذا التلاقي بتلاقي "قِبْلات" [جمع قِبْلة] جميع الأمكنة في الكعبة الشريفة – "بيت الله الحرام" – ذات الشكل المكعب (صورة من صور الاستقرار)، التي تشغل مركز دائرة هي المقطع الأرضي (البشري) من كرة الكون الكلِّي.
[9] ولنُضِفْ بأن هذا الشرع يجب النظر إليه في الحالة السوية كتطبيق أو تخصيص بشري للقانون الكوني نفسه الذي، بالمثل، يربط التجلِّي كله بالمبدأ، كما شرحنا ذلك في غير مكان بخصوص مغزى "شريعة مَنو" في العقيدة الهندوسية.
[10] أي كما في رمز الألف alpha والياء ôméga، المبدأ والمنتهى. [راجع: رؤيا يوحنا 22: 13، حيث جاء على لسان الملاك الذي أراه الرؤيا: "أنا الألف والياء والأول والآخِر والبدء والنهاية". (المحرِّر)]
[11] [سورة الحديد 3.] المقصود أنه "الظاهر" (بالنسبة إلى التجلِّي) و"الباطن" (في ذاته)، الأمر الذي يقابل أيضًا وجهتَي نظر الشريعة (من رتبة اجتماعية ودينية) والحقيقة (من رتبة محض عقلية وميتافيزيقية)، مع أنه يجوز القول في وجهة النظر الثانية بأنها تتعالى عن جميع وجهات النظر، وكأنها تحتويها جميعًا في ذاتها على الإجمال.