نحو مفهوم أخلاقي للسلام – ديمتري أڤييرينوس

نحو مفهوم أخلاقي للسلام

الوعي التأمُّلي وحلُّ النزاعات

ديمتري أڤييرينوس

إذا لم تكن في سلام مع نفسك لا
يمكن لك أن تساهم في حركة السلام.

تيك نات هَنْه

تفوَّه بهذه العبارة ذات يوم الشاعر والناشط اللاعنفي ومعلم الزنْ الڤيتنامي الذي رشحه مارتن لوثر كينگ لنيل جائزة نوبل للسلام[1]؛ وهي، برأينا، تنطوي على أهم ما ينبغي لـ"حركة السلام" أن تتسم به، لكن تجاهُل مضمونها، مع ذلك، من أسهل ما يكون. إنها تعني، في جملة ما تعني، أن نوعية الوعي الفردي تعيِّن نوعية الوعي الجمعي وتُشرطها. لكن هذا الإدراك، على ما يبدو، يجب أن يتكامل تمام التكامل مع عكسه أيضًا، أي إدراك أن طبيعة الوعي الجمعي تعيِّن هي الأخرى طبيعة الوعي الفردي وتُشرطها. فهذان – الوعي الفردي والوعي الجمعي – سمتان من سمات كلٍّ أعظم يعمل على نحو غير مجزأ: "أنت العالم"، يقول ج. كريشنامورتي.

بيد أن ما يدخل نظريًّا في باب المفارقة المنطقية يتحول عمليًّا إلى صراع دموي! إن رؤية هذه السيرورة الديناميِّة dynamic كشيء سكوني static، ورؤية الأفراد المشاركين فيها كأشخاص مفصولين، بعضهم عن بعض وعن المنظومة الأكبر برمتها على حدٍّ سواء، هي من أسباب الصراع في الأساس. إذ إن مشكلات لا تقبل الحل – من نحو الحرية والمسؤولية والمطالبة بالحق والمساواة والسلام والعدالة – سرعان ما تطفو على السطح وتبدو غير قابلة للحل، لا لشيء إلا لأنها لا تُرى إلا من منظور واحد متعنت ومتجذِّر في وعي جمعي منغلق على نفسه. غير أن رؤية الوضع من منظور مختلف من شأنها أن تذيب خاصيته الثنوية dualistic، فتستبدل بها بصيرة جديدة قوامها التكامل والوحدة: ما كان يبدو منفصلاً وضديًّا يتكشف عن كونه سيرورة كلِّية مترابطة العناصر، تذوب فيها الأضداد لتصير مكمِّلات بعضها لبعض.

إن السيرورة التي يتحقق من خلالها هذا المنظور المختلف وثيقة الصلة بالمبادئ الأساسية للطرق التأملية العديدة التي رسخها أفراد ينتمون إلى الثقافات التي شهدها العالم كافة. لا تخلو ثقافة إنسانية من التأمل meditation لأنه، كما يتبدى لنا، نسق وجودي أصلي مركوز في الكائن الإنساني. ومع أن بعض الثقافات أوْلَته من التقدير والمنزلة ما لم تُوْلِه ثقافات أخرى، تبقى مبادئه الأساسية وتجلياته عالمية شاملة. التأمل، على حدِّ تعريفنا به، تبصُّر بالترابط، بالوحدة المتناغمة مع نظام أكثر إحاطة وشمولية. وهذه وحدة ليس من شأنها أن تمحو التنوع (كما تفعل الثقافة التي تحاول أن تسود العالم اليوم)، بل هي التنوع بذاته تتخلَّله الوحدة: "الوحدة-في-التنوع" l’unité-dans-la-diversité (تلار دُه شاردان). ومنه، لا يوجد مقترَب تأملي بعينه يلغي سواه، بل لانهاية من المقترَبات التأملية التي تصبُّ في الخبرة ذاتها؛ إذ إن التأمل الحقيقي لا يتكئ على الأشكال أو النشاطات الخارجية بتاتًا، بل يرجع بالحري إلى الخصائص الداخلية للبصيرة الروحية، وهي عينها لدى البشر أجمعين، وإن تكن تتصف بـ"مذاق" فريد فرادة الثقافات والأفراد.

من هذه "البصيرة" insight ينبثق المنظور "المختلف" المشار إليه آنفًا، وهو منظور بصير بكمال الكلِّية ويختبره اختبارًا حيًّا. كل "أنية" ego، بوصفها كيانًا منفصلاً، تُرى من هذا المنظور كتعبير فريد عن منظومة أكبر وكجزء منها. من هذا المنظور، أيضًا، تُرى الموجودات جميعًا متساوية من حيث الماهية والقيمة: كمال الكل يتطلب وجود أعضائه كلِّها، كما هي، متحولة أبدًا؛ وهذا الكل، إلى ذلك، ليس شيئًا سكونيًّا خاملاً، بل هو سيرورة عديدة الأبعاد. ومن هذا المنظور "الجديد"، أيضًا وأيضًا، تصير الأضداد أوجُهًا متكاملة، تنفح، معًا، شكلاً وطاقة ديناميين للوجود الكلِّي الأعظم؛ وما كان يبدو من قبلُ مظاهر منفصلة، وبالتالي نزاعية، يُرى من بعدُ كأوجُه وثيقة التواصل، متواكلة ومتكافلة، لسيرورة واحدة لا يُستثنى منها شيء.

* * *

لعل كتاب التحولات (يي-كنگ Yi-king أو I-ching) الصيني أن يزودنا، بهذا الصدد، باستبار ثاقب للمبادئ المبطِّنة لهذه النقلة في الإدراك ولأهميتها من أجل القضايا العملية التي تواجه حركة السلام – عالميًّا ومحليًّا على حدٍّ سواء. إذ لقد كان للـيي كنگ، بطبيعة الحال، تأثير عميق على الثقافة الصينية، وقد امتد هذا التأثير ليشمل شمولاً أقل مباشرة ثقافات أخرى عديدة[2].

تقوم النظرة إلى العالم التي يعبِّر عنها ويَبْسطها الـيي-كنگ على تبصُّر عميق بالطبيعة المتحولة أبدًا للظواهر: ما من شيء سكوني في الوجود؛ فالكيانات الفردية في الظاهر تنبثق جميعًا من سيرورة دينامية تفاعلية أشبه بالشبكة وترجع إليها. ومنه، فإن الاعتقاد بوجود فرديات "واجبة الوجود بذاتها" اعتقاد باطل واهم، وهو ناجم عن الفصل التعسفي الزائف للـ"ذات" عن الـ"عالم". المظاهر كلها، بما فيها الذات والعالم، تصدر عن قوتين طبيعيتين أساسيتين، متحولتين أبدًا، متقلبتين ومتضافرتين: الـينگ yang والـين yin. الينگ والين ليسا منفصلين أحدهما عن الآخر، بل هما وجهان لكلٍّ أعظم (طاو Tao) يتجلى ويفعل عبر تفاعلهما المتناغم. الينگ هو المبدأ الفاعل، المنير، الصلب، الجاف، السماوي التوجُّه؛ والين هو المبدأ المنفعل، المظلم، الطيِّع، الرطب، الأرضي التوجُّه. وعبر تمازجهما المتآلف، بوصفهما قوتين متساويتين ومتكاملتين، يتجلى العالم ويقوم ويتوارى تباعًا.

دائرة الطي-جي الصينية، وفيها قطبا الينگ (أبيض) والين (أسود).

هناك أيضًا، على ما يبدو، تقاطُب polarity مقايس في صميم الكائنات الإنسانية. وإن أحد التجليات العديدة لهذا التقاطُب في بنية الإنسان الفسيولوجية هو ما بيَّنه البحث في الدماغ، في الربع الأخير من القرن العشرين، من اختلافات وظيفية أساسية بين كلٍّ من نصفَي الكرة المخية الأيسر والأيمن. يجب ألا يغيب عن بالنا أن الدماغ كلٌّ عضوي متماسك، وأن في كل محاولة لتحليله من حيث أجزاؤه إسرافًا في التبسيط بالضرورة. ومع ذلك، فإن المقارنة التالية قد تكون دقيقة التمثيل لكيفيتَي عمل كلٍّ من نصفَي الكرة المخية المتكاملتين في خطوطهما العريضة: عمل نصف الكرة الأيسر يشدد على التحليل والموضوعية والمنطق والمحاجَجة والعَمْد، بينما يشدد النصف الأيمن، بالمقابل، على الحدس والذاتية والمشاعر والخبرات والعفوية؛ النصف الأيسر ييسر العمل المنطقي، الرياضي، العلمي، الخطِّي linear، "المذكر"، الزمني، التفسيري، والنصف الأيمن يتيح العمل الخيالي، الإيقاعي، الفني، اللاخطِّي non-linear، "المؤنث"، المكاني، التأويلي؛ النصف الأيسر يختص بوضع المقولات، بالفصل، بالنظام التراتبي (الهرمي)، وهو بنيوي التوجُّه، نفعي، بينما النصف الأيمن يختص أكثر باختراق المقولات، بالوصل، بالتكامل، بالحركة، بالتحول، وهو سيروري التوجُّه، مجاني.

يتمتع الناس بكلتا المقدرتين، لكن الثقافة السائدة اليوم، على ما يبدو، تنزع إلى إنزال ميزات المخ الأيسر منزلة أرفع من مكمِّلاتها التي يختص بها المخ الأيمن. ولعل هذا عائد، نوعًا ما، إلى التمييز المطلق بين العقل والجسم الذي قال به ديكارت وأشياعه من العقلانيين والذي يشير فيه مصطلح "العقل" raison إلى خاصيتَي المخ الأيسر الرئيستين: الصواب والعَمْد. ولقد انساقت التربية الحديثة إلى التشديد على تنمية نصف الكرة الأيسر وعززتها، ما أنتج رجحانًا خطيرًا لكفة ميزان الخصائص العلمية و"المذكرة" والانفصالية على كفة الخصائص الفنية و"المؤنثة" والاتصالية، سواء في الأفراد أو في الثقافة ككل.

إن ما نحن بأمس الحاجة إليه الآن، على ما يبدو، هو تنمية واعية للملَكات الحدسية والاستقبالية والتكاملية التي قُمِعَت أو، في أحسن الأحوال، تُركَت للضمور. هذا هو "تحرير المرأة" بالمعنى العميق للكلمة، بصرف النظر عن الجنس أو النمط الجسماني والاجتماعي gender، بما هو سماح بتفتح الخصائص المؤنثة النبيلة عند البشر كافة. لكن حصول هذا يتطلب نقلة هائلة في القيم؛ إذ إن المخ الأيسر التحليلي، المنطقي، "النهاري" لم يقوِّم نصفه الآخر – بقيمه وخصائصه الصوفية، "الليلية" – حق قيمته. فسيطرته لم تشمل محاولة السيادة على النشاط الذهني الداخلي وحسب، بل طالت أيضًا التجليات الخارجية لخصائص نصف الكرة الأيمن وقيمه، بمن فيها النساء وأبناء الثقافات غير الصناعية والطبقات الأقل انتفاعًا من مزايا الثقافات الصناعية والفنانين والمتصوفة والحيوانات غير البشرية والمنظومة الإيكولوجية برمتها، في بريتها وتنوعها المذهلين. ومن عجائب التقدير أنه كلما ازداد هؤلاء معاناة من السيطرة والقمع والعدوان والاستغلال على يد الخاضعين لسيطرة مخهم الأيسر، ارتفعت قيمتهم كمعلمين وقدوات – وهذا لأنهم يمثلون في الواقع الإمكانية الوحيدة لإعادة التوازن إلى نصابه. إن "سادة الدماغ الأيسر"، إذا جازت التسمية، إذ يدمرون مكمِّليهم باعتبارهم "الآخر"، يدمرون أنفسهم من حيث لا يدرون.

* * *

التأمل، كما عرَّفنا به أعلاه، هو كيفية الوجود الأساسية لنصف الكرة الأيمن، من حيث كونه لامنطقيًّا، حدسيًّا، تكامليًّا، لاثنويًّا non-dual في الأساس. إن ذهنًا لا يستطيع أن يعمل بالفعالية نفسها بالكيفيتين التحليلية والتأملية لهو ذهن منقسم، محترب مع نفسه، سائر حتمًا نحو الجنون. فمن موقف السيطرة والتحكم الأساسي الذي تتبناه كيفية عمل نصف الكرة الأيسر، ومن اختلال التوازن الداخلي الذي يستتبعه ذلك، تنخلع النزاعات والحروب الخارجية العديدة وتُستهلك ممكناتُها البشعة حتى النفاد.

إن الإدراك التحليلي الذي يتصدر ثقافة العولمة السائدة اليوم ملَكة ذهنية بائسة المحدودية، وهي، إلى ذلك، لا تستطيع أن تدرك طبيعة حدودها. أما البصيرة التأملية، فهي مدركة لهذه الحدود إدراكًا عميقًا؛ لكنْ بما أن عملها غير منطقي أساسًا، فهي لا تستطيع أن تنقل معرفتها إلى الملَكة التحليلية للمخ الأيسر بلغة يستطيع هذا أن يفهمها؛ لذا تراها تفصح عن نفسها من خلال واسطات أخرى، من نحو الحلم والأسطورة والفن والشعر والموسيقى والرقص والوجدان الحدسي العميق. وربما كان في عجز المخ الأيسر عن الارتياح إلى كيفيات التعبير هذه تعليل لأزمة الثقة بينه وبينها ولنزوعه إما إلى مهاجمتها وإما إلى الاتِّجار بها لتعزيز إحساسه بالتفوق والسيطرة، من حيث هي أمثلة حية فاضحة على محدودية مقترَبه.

وحدها البصيرة الحدسية (المكبوتة اليوم) بوسعها أن تعالج هذا الوضع الشاذ، فرديًّا واجتماعيًّا على حدٍّ سواء. فهي، إلى جانب كونها مصدر كل فنٍّ حقيقي (بوصفه فعل كشف)، منبع المحبة والحكمة أيضًا. وهذه الخاصية عبَّر عنها بطرق مختلفة عديدة صوفيون مختلفون عديدون في لحظات إشراقهم التأملي.

بذا فإن المنظور المولود من البصيرة التأملية يقوم على استبار اختباري مباشر (لا يتكئ على وساطة النطق/المنطق) للترابط بين تجلِّيات الحياة-الأم كافة. ومن هذه البصيرة تولد الرحمة والتراحُم وحسٌّ بالتضامن يحيط بكل شيء. وعندما تندمج هذه البصيرة اندماجًا متوازنًا، تكامليًّا، في الإدراك العقلاني المنطقي (ما يسميه بعضهم "العقل الخطابي" discursive reason)، فإن أخلاقًا "سلامية" غنية عضويًّا تبدأ بالظهور عفويًّا. وإذ يبدأ الجانبان، ضمن الفرد الواحد، يعملان معًا عملاً متناغمًا عن طريق زيادة فعالية الجسم الثفني corpus callosum الواصل بين نصفَي الكرة المخية، فيما يمكن أن يُدعى "العلاقة الصحيحة" (التعبير لكريشنامورتي)، فإن الشرخ بينهما يلتحم، ومعه الشرخ بين الفرد والجماعة الأوسع، وبعبارة نفسانية يونگية، تتم مواجهة "الظل" shadow. وإذ يتم اعتناق الظل، يتكشف عن كونه جزءًا لا يتجزأ من النفس، لا بل هو النفس في مظهر آخر من مظاهرها[3].

وهكذا فإن الموجودات جميعًا، بما فيها الذات، تُرى تدريجيًّا كأعضاء مترابطة في سيرورة كلِّية، وليس كفرديات منفصلة؛ والمحبة والرحمة والفرح بفرح الآخرين تتصاعد عفويًّا كمشاعر متجذِّرة عميقًا في منظور متكامل لا يعود منحصرًا بالهموم الأنانية. خير الآخرين و"خيري" لا يعودان متضادين؛ فهما في الواقع لا ينفصلان. ومع نمو الأفراد، إذ يدركون أن خيرهم خير واحد لا يتجزأ ولا ينفصل عن خير المنظومة الأوسع، يبدؤون أيضًا بإدراك أن جماعتهم والجماعات الأخرى متصلة اتصالاً مماثلاً. الجماعات كلها متساوية من حيث مشروعيتها في الوجود، على أن يعي كلٌّ منها أن "الآخر" أيضًا، بالمقدار نفسه، مظهر مكمِّل له يساهم في بناء الكل الأكبر. بعض الجماعات، على ما يبدو، "ظلٌّ" بعضها لبعضها الآخر – ومن هنا عداؤها لها. فإذا تجرأ كل منها على اعتناق الآخر وتقبُّله، انطلق مقدار هائل من الطاقة النفسية، الفردية والجماعية، من أجل لحم الشروخ وحل النزاعات على مستويات الفرد والجماعة والمنظومة الأكبر، حسبما يقتضيه العدل وسائر القيم الإنسانية الشاملة.

ضمن هذه السيرورة، تصبح الأخلاق أجلى وأكثر عفوية، إذا صح التعبير. فالسلوك الأخلاقي إذ ذاك هو ببساطة السلوك الطبيعي السوي لدى فرد أو جماعة نمَّتْ لديها البصيرة التأملية تنمية تامة. عندئذ تكون دوافع نصفَي الكرة المخية الأيسر والأيمن كليهما على علاقة يُغْني فيها كلٌّ منهما الآخر ويتكامل معه، بحيث يصبح كلٌّ من السلام في الداخل والسلام في الخارج انعكاسًا للآخر.

ومنه، فإن تربية تولي تنمية الملكات الحدسية اهتمامًا ناضجًا تربية مصيرية الأهمية من أجل تحقيق الالتحام الداخلي والرحمة والسلوك الأخلاقي و… السلام العالمي، وهي أيضًا مصيرية من أجل تنمية الحكمة. إن تعريف الإپستمولوجي گريگوري بَتِسون بالعقل (المختلف جدًّا عن تعريف ديكارت!) يضيء علة الأمر: فهو يعرِّف بالعقل كنموذج تعضِّي (= تنظيم) organization لا غنى عنه للمنظومات الحية كلها. وبذلك لا يقتصر وجود العقل على أشكال معينة "راقية" من أشكال الحياة، بل يتخلل أيضًا المنظومات الإيكولوجية والكون بأسره، بوصفه "نموذجًا رابطًا" a pattern which connects (التعبير لبَتِسون) يلحم ما بين الأشياء وينظِّمها.

ويبدو أنه بمقدار ما تربي الثقافة الناس على الاختصاص وعلى تضييق حقل تقصيهم ومهارتهم، يفقد هؤلاء قدرتهم على جعل حياتهم وخبرتهم متصلتين بالنماذج الأوسع التي ترسو فيها. إن طبيعة التفكير والاستعراف cognition الإنسانيين قائمة على ملَكة الربط ما بين الأفكار في سياق، وبالتالي، إيجاد القيمة والمعنى، في مقابل كومپيوتر لا يوجِد المعنى من خلال الارتباط، بل يعالج المعلومات وحسب. وهذه القدرة على الجمع بين المتآلفات من الخصائص الأساسية للفطنة intelligence في أي منظومة مترابطة. وعندما يفقد الناس هذه الملَكة من جراء الاختصاص الأكاديمي الحصري والتفتت الاجتماعي المعمَّم، فإنهم في الواقع يقزِّمون ذهنهم ويضيِّقون مجال فطنتهم ويصيرون أغبى[4]. فمن دون سيرورة البصيرة الحدسية التي يختص بها نصف الكرة المخية الأيمن والتي تحوك الروابط، تصير الفطنة الإنسانية مجرد ذكاء صنعي AI.

ينجم الغباء الأخلاقي عن ذلك حتمًا. فالحكمة ترخم في ملَكة حياكة الروابط على عدة أبعاد؛ وهي الوجه المكمِّل للرحمة التي لا توضع موضع التطبيق إلا بالتراحم الذي هو فن إيجاد الصلات وصونها بامتياز. ومثلما تسير الحكمة والتراحم والسلام يدًا بيد، كذلك يسير الغباء والأنانية والاستغلال والعدوان. ففي جهلهم الأعمى بالترابط الأساسي للحياة، يلتمس الأفراد والجماعات تلبية مصالحهم بطُرُق منحصرة في ذواتهم أو في الفئة الضيقة التي ينتمون إليها، فيسعون فيها ضاربين بخير الآخرين والكل الأكبر عرض الحائط. وهذا المسعى، أخلاقيًّا، مسعى شرير، لكنه يتفرع أساسًا عن جهل مطبق بالطبيعة الحقيقية للاتصالية الإنسانية والكونية.

* * *

لا يمكن لمفهوم أخلاقي للسلام أن يكون عادلاً وشاملاً، على ما يبدو، ما لم يلتحم الشرخ بين العقل والحدس. فبتنمية البصيرة التأملية بأن الموجودات ومجتمعات الموجودات كلها مترابطة، ربما أمكن حل الغباء الذهني والاجتماعي والإيكولوجي والأخلاقي، الذي يبدو أنه بات سمة عصرنا السائدة، في منظور أشمل[5].

إن الإمكانات المتضمنة في هذا المنظور الأكثر توازنًا موجودة في الواقع فعلاً، وهي واعدة بتوطيد رؤية مقوِّية وتبصُّرات طازجة في سيرورة تحقيقها. وبالنظر إلى الأهمية العاجلة للمشكلات الجارية وإلى هول المعاناة الناجمة عنها، فإن الجهود الرامية إلى صياغة مفهوم أخلاق سلامية من منظور أكثر تكاملاً وأكثر انسجامًا مع الطبيعة الإنسانية تستحق منا جميعًا المزيد من التقصي والمزيد من نذر النفس.


[1] راجع: "المستقبل متضمَّن في الحاضر"، حوار مع تيك نات هَنْه، في كاثرين إنغرام، على خطى غاندي: حوارات مع مناضلين روحيين اجتماعيين، بترجمة أديب الخوري ومراجعة ديمتري أڤييرينوس، معابر للنشر، دمشق، 2008، ص 140-165.

[2] يعود الفضل في هذا التأثير إلى ترجمات رائدة لهذا الكتاب (ولغيره)، كالتي قام بها عالم الصينيات الكبير ريتشارد ڤيلهلم إلى الألمانية واهتم بها وقدم لها مؤسِّس علم النفس التحليلي كارل گ. يونگ.

[3] قوام الظل الجوانب المرفوضة في النفس، غير المعترَف بوجودها، التي تظهر في الأحلام على هيئة شخص أسود اللون؛ راجع بهذا الصدد: شارل بودوان، علم النفس المركب: تفسير أعمال يونغ، بترجمة وتقديم سامي علام، دار الغربال، دمشق، 1992، ص 194-197.

[4] الأحرى بـ"تربية" تقطع الناس عن قابليتهم الإنسانية الفطرية لإيجاد الصلة والمعنى والقيمة أن تسمى "تغبية"!

[5] هذا الغباء ليس جديدًا على الإنسان، لكن المفارقة هذه المرة هي في أنه يتجاسر على تسمية نفسه "حضاريًّا"!

أسرار حرف النون – رونيه گينون

أسرار حرف النون*

guenon

رونيه گينون**

جاء في مستهل سورة القلم: "ن والقلم وما يسطرون"؛ وهو قَسَم بالعلم والتعليم والكتابة التي من شأنها الرفعة والخروج إلى النور (ولادة) بعد معاناة الظلمات والبطون فيها (موت). وبين المفسرين الأعلام اختلاف في تفسير ن: فسرها بعضهم بالدواة لملاءمة القلم المُقسَم به؛ وفسرها فريق آخر بالحوت؛ وفسرها آخرون تفسيرات شتى يجدر الرجوع إليها، ولهم في ذلك اجتهادات. وتفسيرها بالدواة يرجع إلى شكل الدواة التي على هيئة الكوب، والنقطة في وسطها رأس القلم المغموس في المداد الذي هو مادة العلم وهو أصل الحياة الروحية. وفي تفسير روح المعاني للعلامة الآلوسي أن الظاهر من كلام المفسرين أن الدواة ليست عبارة عن الدواة المعروفة، بل هي دواة خُلقت يوم خلق ذلك القلم المقسَم به، وهو قلم اللوح المحفوظ. هذا وقد جاء في ختام السورة خطاب للرسول: "فاصبر لحكم ربِّك ولا تكن كصاحب الحوت إذ نادى وهو مكظوم لولا أن تداركه نعمة من ربِّه لنُبذَ بالعراء وهو مذموم فاجتباه ربُّه فجعله من الصالحين" (الآيات 48-50). وقد وُصف النبي يونس – عليه السلام – هنا بأنه "صاحب الحوت"، وورد وصفه "ذا النون" في سورة الأنبياء (الآية 87).

ف.ص.

* * *

حرف النون هو الحرف الرابع عشر في كلتا الأبجديتين العربية والعبرية[1]، وقيمته العددية 50؛ لكنه في الأبجدية العربية يشغل، فضلاً عن ذلك، منزلة ملحوظة بصفة أخص لأنه يختتم النصف الأول من حروف هذه الأبجدية التي يبلغ مجموعها 28 حرفًا، على حين أن عدد حروف الأبجدية العبرية 22 حرفًا. أما بخصوص توافقاته الرمزية، فهو يُعَدُّ، في المنقول الإسلامي خاصة، تمثيلاً للحوت؛ إذ يتوافق عندئذ مع المعنى الأصلي لكلمة نون نفسها التي تدل على الحوت والتي تعني أيضًا "سمكة"؛ وبسبب هذه الدلالة بالذات دُعي سيدنا يونس (النبي يونان) ذا النون. وهذه التسمية ذات صلة طبيعية بالرمزية العامة للسمكة، ولاسيما بجوانب معينة منها نظرنا فيها هاهنا في الدراسة السابقة[2]، وبخاصة، كما سنرى فيما يلي، رمزية "السمكة المخلِّصة"، أكانت الـمتسيا أڤتارا Matsya-avatāra في المنقول الهندوسي[3] أو الـإخثيس Ichtus عند المسيحيين الأوائل[4]. فالحوت، بهذا الصدد، يؤدي أيضًا الدور نفسه الذي يؤديه الدلفين في غير مكان، وهو، مثله، يوافق في دائرة البروج برج الجدي، من حيث كونه بابًا انقلابيًّا يفضي إلى "طريق الطالع". وربما كان التشابه أقوى ما يكون مع الـمتسيا أڤتارا، كما تبيِّن ذلك الاعتبارات المأخوذة من شكل حرف النون، لاسيما عند مقارنتها بقصة النبي يونان التوراتية.

نصب جنائزي مسيحي (بداية القرن الثالث) نُقش عليه رمزا السمكة والمرساة وعبارة "سمكة الأحياء".

ولكي يُفهم المقصودُ حق فهمه، يلزمنا أولاً أن نتذكر أن ڤشنو Vishnu، حين تجلَّى على هيئة السمكة (متسيا Matsya)، أمر ستياڤرتا Satyavrata، الذي صار المَنو ڤيڤسوتا Manu Vaivaswata، ببناء الفُلْك التي حُبستْ فيها جراثيمُ حياة العالم الآتي، وأنه، على تلك الهيئة عينها، يقود الفُلْك فوق لجة المياه في أثناء النازلة الكبرى التي عينت الفاصل بين دهرين (منڤنترا manvantara) متواليين[5]. إن دور ستياڤرتا هذا يشبه دور سيدنا نوح؛ إذ إن فُلْكه تحوي، كفُلْك نوح على حدٍّ سواء، جميع العناصر التي ستفيد في إعادة بناء العالم بعد الطوفان. وليس مهمًّا إذ ذاك أن يختلف تطبيقه في الكتاب المقدس، من حيث إن الطوفان التوراتي، في دلالته الأكثر مباشرة، يبدو وكأنه يحدد بداية دور أصغر من أدوار الـمنڤنترا؛ فحتى لو لم يكن الحدث هو نفسه في كلتا الحالتين، فهما على كل حال حدثان متقايسان تمامًا، تهلك فيهما حال سابقة للعالم لتحل محلها حال جديدة[6]. فإذا قارنا الآن قصة يونس بما ذكَّرنا به لتوِّنا، لرأينا أن الحوت، بدل أن يؤدي دور السمكة التي تقود الفُلْك، يتماهى في الواقع مع الفُلْك نفسها: فبالفعل، بقي يونس محبوسًا في بطن الحوت، كما بقي ستياڤرتا ونوح كلاهما في الفُلْك طوال فترة هي أيضًا بالنسبة إليه، إنْ لم تكن كذلك بالنسبة إلى العالم الخارجي، فترة "إظلام" تُوافق الفاصل بين حالين أو كيفيتين كونيتين. وهنا أيضًا الفارق ثانوي وحسب، حيث إن الصور الرمزية، كما هو شأنها في واقع الأمر دومًا، قابلة لتطبيق مزدوج: تطبيق كوني أكبري وتطبيق كوني أصغري. ونحن نعلم، من ناحية أولى، أن خروج يونس من بطن الحوت اعتُبر دائمًا رمزًا للقيامة، أي للعبور إلى حال جديدة؛ وهذا يلزم تقريبُه، من ناحية ثانية، من معنى "الولادة" الذي يرتبط، في القبالة العبرانية بالأخص، بحرف النون، والذي ينبغي فهمه روحيًّا بوصفه "ولادة جديدة"، أي تجديدًا روحيًّا للموجود الفردي أو الكوني.

رسم هندي يمثل المتسيا أڤتارا، "تنزيل" الإله ڤشنو على هيئة السمكة.

هذا ما يدل عليه دلالة واضحة للغاية رسمُ حرف ن العربي: فهذا الحرف مكوَّن من النصف السفلي لدائرة، ومن نقطة هي مركز هذه الدائرة نفسها. وهكذا فإن نصف الدائرة السفلي هو أيضًا على هيئة الفُلْك الطافية على المياه، والنقطة في باطنه تمثِّل جرثومة الحياة المحتواة في الفُلْك أو المغلَّفة بها؛ وموقع هذه النقطة المركزي يبيِّن، إلى ذلك، أن المقصودة في الواقع هي "جرثومة الخلود" أو "النواة" التي لا تهلك، فتنجو من التحلُّلات الخارجية كافة. كما يمكن لنا أن نلحظ أن نصف الدائرة هذا، بتقعُّره نحو الأسفل، إنما هو أحد المكافئات المختصَرة للكوب؛ فله إذن، مثله، على نحو ما، معنى الرحم التي تنطوي على تلك الجرثومة التي لم تنمُ بعدُ والتي تتماهى، كما سنرى فيما يلي، مع النصف الأسفل أو "الأرضي" من "بيضة العالم"[7]. وتحت مظهر العنصر "المنفعل" passif هذا للصيرورة الروحية transmutation spirituelle، يمثِّل الحوت أيضًا، على نحو ما، لصورة كل فردية، من حيث إن هذه الفردية حاملة لـ"جرثومة الخلود" في مركزها الذي يتمثل رمزيًّا بالقلب. ونستطيع أن نذكِّر، بهذا الصدد، بالصلات الوثيقة، التي سبق لنا أن عرضنا لها في مناسبات أخرى، بين رمزية القلب وبين رمزية الكوب ورمزية "بيضة العالم"[8]. إن نمو هذه الجرثومة الروحية يتضمن أن الموجود يخرج من حاله الفردية ومن الوسط الكوني الذي هو المجال الخاص به، مثلما أن يونس، لدى خروجه من بطن الحوت، "يُبعث" نشأة جديدة. وإذا ما تذكَّرنا ما كتبنا أعلاه، لفهمنا من غير مشقة أن هذا الخروج هو نفسه الخروج من كهف المُسارَرة initiation الذي يمثَّل لتقعُّره نفسه بنصف الدائرة التي يُرسَم بها حرفُ النون. فـ"الولادة الجديدة" تقتضي بالضرورة موتًا عن الحال السابقة، سواء كان المقصود فردًا أو عالَمًا؛ إذ إن الموت والولادة (أو القيامة) هما وجهان لا ينفصل أحدهما عن الآخر، لأنهما في الواقع ليسا سوى الوجهين المتقابلين للتغيُّر عينه في الحال.

رسم من مخطوط بيزنطي يمثل خروج النبي يونس من بطن الحوت، ويظهر في أعلاه المسيح القائم من بين الأموات. الإشارة إلى الكيمياء واضحة، حيث نجد عملية نفخ القدر الكيميائية بالكير تتم في جوف الحوت.

والنون في الأبجدية تلي مباشرة الميم التي من جملة معانيها الرئيسية معنى الموت[9]، والتي يمثل شكلُها م الكائنَ منطويًا تمامًا على نفسه، مختزَلاً، نوعًا ما، إلى كمون محض يوافقه شعائريًّا موقف السجود؛ ولكن هذا الكمون، الذي قد يبدو فناءً وقتيًّا، سرعان ما يصير، عبر تركيز جميع الممكنات الذاتية للموجود في نقطة فريدة لا يمسُّها الفناء، الجرثومة ذاتها التي تخرج منها تحقُّقاته كافة بأحوال الوجود العليا[10].

جدير بالقول إن رمزية الحوت ليس لها جانب "ميمون" فقط، بل لها أيضًا جانب "مشؤوم"، الأمر الذي، عدا الاعتبارات العامة لازدواجية معنى الرموز، يبرَّر بصفة أخص بارتباطه بصورتَي الموت والبعث اللذين يظهر عليهما كل تغيُّر في الحال، حسب النظر إليه من جانب أو آخر، أي بالنسبة إلى الحال السابقة أو الحال اللاحقة. ومنه، فإن الكهف هو، في الآن نفسه، مكان للدفن ومكان "ولادة جديدة"؛ وفي قصة يونس يؤدي الحوت هذا الدور المزدوج بعينه. كذلك، أليس بوسعنا القول إن الـمتسيا أڤتارا نفسه يتمثل أولاً في مظهر ضارٍّ[11] يُنذر بوقوع النازلة، قبل أن يصبح "المخلِّص" من هذه النازلة عينها؟ من ناحية أخرى، فإن المظهر "المشؤوم" للحوت ينتسب انتسابًا واضحًا إلى اللوياثان العبراني[12]؛ لكنه متمثِّل خاصةً، في المنقول العربي، بكوكبة بنات الحوت التي تكافئ، من وجهة النظر الفلكية، راهو Rāhu وكيتو Kētu في المنقول الهندوسي، ولاسيما فيما يتعلق بالكسوف[13]، ويقال إنهن سوف "يشربن البحر" في آخر أيام الدور، يوم "تشرق الكواكب من المغرب وتغرب من المشرق". ولا نستطيع أن نتوسع أكثر في هذه النقطة دون أن نخرج تمامًا من موضوعنا؛ لكننا يجب، على الأقل، أن نلفت الانتباه إلى أننا نقع هنا أيضًا على صلة مباشرة بنهاية الدور الكوني وتغيُّر الحال الذي يتبعه، لأن لذلك دلالة عظيمة تضيف توكيدًا جديدًا إلى الاعتبارات السابقة.

لنعد الآن إلى شكل الحرف نون الذي يجيز ملاحظة هامة من جهة العلاقات القائمة بين أبجديات مختلف الألسن النقلية: ففي "الأبجدية" السنسكريتية، يقابل النونَ حرفُ نا na الذي، إذا أرجعناه إلى عناصره الهندسية الأساسية، لوجدناه أيضًا يتألف من نصف دائرة ونقطة ؛ لكن التحدُّب هنا متَّجه إلى الأعلى، بما يجعل منه نصف الدائرة العلوي، وليس النصف السفلي، كما في النون العربية. فهو إذن الصورة نفسها، لكنْ موضوعة في شكلها المقلوب[14]؛ أو لنقل، بالأصح، إنهما صورتان متتامتان بكل دقة: بالفعل، إذا جمعنا بينهما، تندغم النقطتان المركزيتان اندغامًا طبيعيًّا، فنحصل على الدائرة تتوسطها نقطة المركز circle_with_dot، ممثِّلة للدور التام؛ وهي، في الوقت نفسه، رمز الشمس على الصعيد الفلكي ورمز الذهب على الصعيد الكيميائي[15]. وكما أن نصف الدائرة السفلي يرمز إلى الفُلْك، فإن النصف العلوي يرمز إلى قوس قزح الذي "يناظرها" بالمعنى الأدق للكلمة، أي بتطبيق "الاتجاه المعكوس"؛ وهما أيضًا نصفا "بيضة العالم": نصفها الأول "الأرضي" في "المياه الدنيا"، والآخر "السماوي" في "المياه العليا". والشكل الدائري، الذي كان تامًّا في بدء الدور، قبل انفصال هذين النصفين، لا بدَّ أن يعود ويتركَّب ثانية في نهاية الدور نفسه[16]. يجوز لنا القول، إذن، إن اجتماع الصورتين اللتين نحن بصددهما يمثل اكتمال الدور، وذلك بالوَصْل بين بدايته ومنتهاه، ولاسيما أننا، إذا ما حملناهما بخاصة على محمل الرمزية "الشمسية"، فإن صورة النا السنسكريتية توافق الشمس الشارقة وصورة النون العربية تقابل الشمس الغاربة. من ناحية أخرى، فإن صورة الدائرة التامة هي عادة رمز العدد 10 أيضًا، حيث المركز هو 1 والمحيط 9، لكنها هنا، بوصفها حاصل جمع نونين اثنتين[17]، تساوي 2 × 50 = 100 = 10 × 10، مما يدل على أن الوَصْل يجب أن يتم في "العالم الأوسط"؛ إذ إن الوَصْل محال في العالم السفلي الذي هو مجال الانقسام و"الفَرْق"، بينما هو، بالمقابل، موجود دائمًا في العالم العلوي، حيث يتحقق من حيث المبدأ، بكيفية سرمدية دائمة، في "الآن الدائم"[18].

فسيفساء جدارية من أحد أديرة قبرص تمثل فلك نوح بعد الطوفان "يناظرها" قوس قزح.

لن نضيف إلى هذه الملاحظات، التي طالت أصلاً، إلا كلمة واحدة نثبت بها الصلة بمسألة أشرنا إليها مؤخرًا[19]: إن ما قلناه لتوِّنا يجيز استشفاف أن تمام الدور، كما نظرنا فيه، لا مناص من أن يكون على ارتباط، على صعيد التاريخ، بالتقاء شكلين نقليَين يوافقان مبدأه ومنتهاه، لساناهما الشريفان، على التوالي، هما اللسان السنسكريتي واللسان العربي: المنقول الهندوسي، بصفته يمثِّل الميراث الأقرب مباشرة إلى المنقول القديم Tradition primordiale، والمنقول الإسلامي بصفته "خاتَم النبوة"، وبالتالي، الشكل الأخير للأرثوذكسية النقلية للدور الحالي.

المترجمة عن الفرنسية: فاطمة عصام صبري

مدقِّق الترجمة: ديمتري أڤييرينوس


* Études traditionnelles, août-septembre 1938 ; repris dans René Guénon, Symboles de la Science sacrée, Gallimard, 1962, pp. 154-158.

** فيلسوف فرنسي (1886-1951)، ولد في بلوا (فرنسا) وتوفي بالقاهرة. شُغف بالروحانيات منذ حداثة سنِّه، فدفعه حب الاستطلاع إلى اختبار معظم مدارسها الحديثة، حتى اهتدى أخيرًا إلى تصور متكامل عن وحدة المنقولات الأصيلة في العالم قاطبة، بوصفها تعبيرات متنوعة متفرعة عن "منقول قديم" Tradition Primordiale واحد، فاطمأن إليه وراح، بالتوازي مع حياة باطنية غنية، يكتب فيه المقالات والكتب والرسائل، مؤسِّسًا بذلك لمذهب "نقلي" traditionnaliste مازال أثرُه ساري المفعول حتى يومنا هذا. من مؤلفاته الكثيرة الهامة: الإنسان ومآله بحسب الڤيدنتا، أزمة العالم الحديث، رمزية الصليب، الثالوث الأكبر، لمحات عن المُسارَرة. (المحرِّر)

[1] وفقًا لترتيب "أبجد هوز". (المحرِّر)

[2] Cf. René Guénon, « Quelques aspects du symbolysme du poisson », dans Symboles de la Science sacrée, pp. 149-153.

[3] اسم مَتْسِيا يعني بالسنسكريتية "سمكة"؛ وهو أول "التنزيلات" avatāra العشرة للإله ڤشنو Vishnu. وفي "تنزيل" أو تجلِّي السمكة هذا، يخلِّص ڤشنو العالمَ من الطوفان الكبير. (ف ص)

[4] معنى كلمة إخثيس باليونانية "سمكة"؛ وحروفها ΙΧΘΥΣ أوائل ألفاظ تتألف منها عبارة يونانية تفيد: "يسوع المسيح ابن الله مخلِّص". ومنه، غدت السمكة رمزًا إلى المسيح عند المسيحيين الأوائل. (المحرِّر)

[5] منڤنترا manvantara كلمة سنسكريتية تُطلق، في علم الكونيات الهندوسي، على كلٍّ من العصور الأربعة عشر التي تشكل الدور الكوني kalpa؛ وكلُّ واحد من هذه العصور يحكمه Manu، أي ذرية إنسانية. (المحرِّر)

[6] Cf. René Guénon, Le Roi du Monde, ch. 11.

[7] عبر تقريب عجيب، نلحظ أن معنى الرحم (الـيوني yoni بالسنسكريتية) موجود ضمنًا في كلمة ذلفِس delphus اليونانية، التي هي بنفس الوقت اسم الدلفين.

[8] Cf. René Guénon, « Le Cœur et l’Œuf du Monde », dans Symboles de la Science sacrée, pp. 209-212.

[9] يقال ميمَ الرجل، على البناء للمجهول، مَوْمًا: أصابه الموم أي البرسام، وهو التهاب الصدر؛ والموم أيضًا: أشد الجدري؛ والمومياء: الجثمان المحنط؛ والموماة: الفلاة التي لا ماء فيها ولا أنيس. (ف ص)

[10] من الطريف أن نلفت النظر هنا إلى أن الكاف واللام والميم والنون متلاحقة ومتلازمة في أكثر أبجديات العالم K-L-M-N. وعندنا أن "كلمن"، أي الكلام واللغة، مطية الفكر ورسول المعرفة. (ف ص)

[11] نذكِّر هنا بأن الضار من الأسماء الحسنى في الإسلام. (المحرِّر)

[12] على الرغم من أن للمكارا Makara الهندوسي، وهو أيضًا مسخ بحري، قبل كل شيء، معنى ميمونًا يتعلق ببرج الجدي الذي يشغله من فلك البروج، فإن له، في كثير من التصاوير، بعض السمات التي تذكِّر بالرمزية "الإعصارية" للتمساح.

[13] يفسَّر كسوف الشمس، في المعتقد الشعبي الشائع، بابتلاع الحوت إياها ونهاية الكسوف بلفظه لها. (المحرِّر)

[14] من الملاحظ أن الرياضيين يكتبون بالعربية حرف النون بالمقلوب. (المحرِّر)

[15] يمكن لنا أن نتذكر هنا رمزية "الشمس الروحية" و"المضغة الذهبية" (هرنياگربها Hiranyagarbha) في المنقول الهندوسي؛ فضلاً عن ذلك، فإن النون، بمقتضى توافقات أخرى، هي حرف فلك الشمس.

[16] Cf. René Guénon, Le Roi du Monde, ch. 11.

[17] جاء في بداية المقال أن النون في حساب الجمَّل تساوي 50؛ ونلاحظ أن رسم هذا العدد بالرقم الهندي يشتمل على النقطة والدائرة التامة اللتين أشار إليهما گينون كرمز إلى الدور الكوني التام. (المحرِّر)

[18] "هو امتداد الحضرة الإلهية الذي يندرج به الأزل في الأبد، وكلاهما في الوقت الحاضر، لظهور ما في الأزل على أحايين الأبد، وكون كلٍّ منها مجمع الأزل والأبد، فيتحد به الأزل والأبد والوقت الحاضر. فلذلك يقال له باطن الزمان وأصل الزمان، لأن الآنات الزمنية نقوش عليه وتغيرات تظهر بها أحكامُه وصورُه، وهو ثابت على حاله دائمًا سرمدًا […]" (الكاشاني، اصطلاحات الصوفية). (المحرِّر)

[19] راجع: F. Schuon, « Le Sacrifice », dans Études traditionnelles, avril 1938, p. 137, note 2 [ف. شووُن، "القربان". المقطع المقصود بهذه الإشارة هو: "… بالعودة إلى الهند، يجوز لنا القول بأنه يبدو أن انتشار منقول أرثوذكسي غريب فيها، هو الإسلام، يشير إلى أن الهندوسية نفسها لم تعد تتصف بملء حيوية أو فاعلية منقول يتوافق توافقًا كاملاً مع شروط عصر دوري بعينه. فهذا التلاقي بين الإسلام، بما هو الإمكانية الأخيرة المتفرعة عن المنقول القديم، وبين الهندوسية، بما هي في الغالب فرعه الأكثر مباشرة، ذو دلالة قوية ويستدعي اعتبارات شديدة التعقيد." (المحرِّر)].

منطق الطير – رونيه گينون

منطق الطير*

guenon_1

رونيه گينون**

والصافَّات صفًّا * فالزاجرات زجرًا * فالتاليات ذكرًا
القرآن الكريم، سورة الصافات 1-3

كثيرًا ما تجيء منقولات مختلفة على ذكر لغة سرَّانية تسمى "منطق الطير": هي تسمية رمزية طبعًا، لأن القيمة التي تُعزى إلى معرفة هذه اللغة بالذات، بصفتها مزية تختص بها مُسارَرة initiation عالية، لا تجيز أخذها على محمل الحرف. بهذا الاعتبار، وَرَدَ في القرآن الكريم: "وورث سليمان داود وقال: يا أيها الناس عُلِّمنا منطق الطير وأوتينا من كلِّ شيء إن هذا لهو الفضل المبين" (سورة النمل 16). وفي غير مكان، يرد ذكر أبطال هزموا التنين، مثل زيگفرد في قَصَص شعوب الشمال، ففهموا من فورهم لغة الطير؛ وهذا ييسر تأويل الرمزية التي نحن بصددها. وبالفعل، فإن النتيجة المباشرة للانتصار على التنين هي الفوز بالخلود، متمثلاً في غرض بعينه يحُول هذا التنين دون الاقتراب منه. والفوز بالخلود هذا يتضمن أساسًا الإنابة إلى مركز الحال الإنسانية، أي استرجاع النقطة التي يتم بها الاتصال بأحوال الوجود العليا؛ وهذا الاتصال هو الذي يتمثل بفهم منطق الطير. وفي واقع الأمر، مرارًا ما تؤخذ الطير على أنها رموز إلى الملائكة، أي بالدقة إلى الأحوال العليا. وقد أتيحت لنا في غير مكان[1] مناسبةُ إيراد المثل الإنجيلي الذي يتطرق، بهذا المعنى، للكلام على "طيور السماء" التي حطت على أغصان الشجرة وعششت عليها[2] – تلك الشجرة عينها التي تمثل المحور الذي يخترق مركز كل حال من أحوال الوجود ويربط ما بين تلك الأحوال جميعًا[3].

منمنمة من مخطوط إيراني لمنظومة "منطق الطير" للصوفي فريد الدين العطار، تظهر فيه الطير عند النبع الذي يسقي شجرة الحياة.

في النص القرآني الذي أثبتناه أعلاه، يُعتبَر مصطلح الصافات إشارة حرفية إلى الطير، ولكنه ينطبق رمزيًّا على الملائكة؛ بذا تدل الآية الأولى على تطابُق المراتب السماوية أو الروحية[4]. وتفيد الآية الثانية زجر الملائكة للشياطين، أو صراع القدرات السماوية ضد القدرات الجهنمية، أي التعارض بين أحوال الوجود العليا والأحوال الدنيا[5]؛ وهذا يقابل، في المنقول الهندوسي، صراع الـديڤا Devas [الآلهة[6]] ضد الـأسورا Asuras [الشياطين]، كما يقابل أيضًا، تبعًا لرمزية مشابهة تمامًا للرمزية التي نحن بصددها هنا، المعركة بين الگارودا Garuda والناگا Nāga [ثعبان الكوبرا]، حيث نجد، كذلك، الثعبان أو التنين الذي سبقت الإشارة إليه: الگارودا هو العقاب الذي يمكن، في حكايات أخرى، أن تنوب عنه طيور أخرى، كأبي منجل واللقلق ومالك الحزين – وكلها أعداء للزواحف ومبيدات لها[7]. ونشهد أخيرًا، في الآية الثالثة، الملائكة تتلو الذكر، الأمر الذي ينبغي أن يُفهَم، بحسب التفسير الأشيع، على أنه تلاوة القرآن، إنما ليس بالطبع القرآن المكتوب باللسان البشري، بل أنموذجه الأزلي المدون على اللوح المحفوظ، الممتد، كسُلَّم يعقوب، بين السموات والأرض، أي عبر درجات الكون الكلِّي كافة[8].

بالمثل، نجد في المنقول الهندوسي ما يحكى من أن الديڤا، في صراعهم مع الأسورا، كانوا "يعوذون" achhan dayan بتلاوة أناشيد الڤيدا Veda [أسفار الحكمة الهندوسية]، ومن أنه لهذا السبب أطلِقَتْ على هذه التسابيح صفة تشهندا chhandas، وهي كلمة تشير إلى "الإيقاع" حصرًا. والمعنى نفسه متضمن في كلمة ذكر التي تدل، في التصوف الإسلامي، على أوراد موقَّعة توافق بالضبط الـمنترا mantras الهندوسية، بما هي ألفاظ يستهدف تكرارُها إيجاد انسجام بين مختلف العناصر المكوِّنة للموجود وتوليد اهتزازات من شأنها، بتصاديها عبر سلسلة الأحوال في تراتب غير منتهٍ، أن تفتح اتصالاً بالأحوال العليا، الأمر الذي هو، بوجه عام، العلة الأولى الأصلية والأولية لأداء مختلف الشعائر rites.

ها نحن أولاء واجدين أنفسنا مباشرة، كما يُرى، تلقاء ما ذكرناه في الاستهلال عن "منطق الطير"، الذي يسعنا كذلك أن ندعوه "لسان الملائكة" – وصورته في العالم الإنساني هي اللغة الموقَّعة –؛ ذلك أنه على "علم الإيقاع" science du rythme، الذي يتضمن إلى ذلك تطبيقات عديدة، تتأسَّس في الحاصل جميع الوسائل التي يمكن إعمالها للاتصال بالأحوال العليا. وهذا يفسر أثرًا إسلاميًّا يقول إن آدم، في جنة عدن، كان ينطق شعرًا، أي بلغة موزونة؛ والمقصودة هنا هي هذه اللغة السريانية التي تكلَّمنا عليها في دراستنا السابقة في "علم الحروف"[9]، وهي التي يجب اعتبارها تترجم مباشرة عن "الإشراق الشمسي" و"الملائكي" كما يتجلَّى في مركز الحال الإنسانية. ولذلك جاءت الكتب الشريفة أيضًا بلغة موقَّعة موزونة، الأمر الذي يجعل منها، كما يتبيَّن لنا، شيئًا مختلفًا تمامًا عن مجرد "قصائد" بالمعنى الدنيوي المحض الذي يريد أن يراه فيها الانحيازُ المعادي للنقل الذي يأخذ به "النقاد" المُحدَثون. ثم إن الشعر، من جهة أخرى، لم يكن في أصله بتاتًا هذا "الأدب" الباطل الذي آل إليه بالفساد، الذي تفسِّره السيرورة الهابطة للدورة الإنسانية، وإنما كانت له في الماضي صفة قدسية حقيقية[10]، يمكن اقتفاء آثارها حتى العصر القديم الكلاسيكي الغربي، حين كان الشعر لا يزال يسمى "لسان الآلهة" – وهو تعبير يكافئ التعبيرات التي أشرنا إليها، بما أن "الآلهة" Dieux، أي الـديڤا[11]، هي، كالملائكة، تمثيلات للأحوال العليا. وباللاتينية، كانت أبيات الشعر تدعى كرمينا carmina، وهي تسمية ترجع إلى استعمالها في أداء الشعائر[12]؛ إذ إن كلمة كرمن carmen تُطابق اللفظ السنسكريتي كرما karma، الذي يجب أخذه هنا بصفة خاصة على محمل "الفعل الشعائري"[13]؛ والشاعر نفسه – وهو ترجمان "اللغة القدسية" التي تشفُّ عن الكلمة Verbum الإلهي – كان ڤاتس vates، وهو لفظ يخصُّه بوصفه موهوبًا إلهامًا من نوع "نبوي". وفيما بعد، من جراء انحطاط آخر، لم يعد الـڤاتس إلا مجرد "عرَّاف" devin عامِّي[14]، وأمسى الـكرمن carmen (ومنه كلمة charme الفرنسية [التي تعني "فتنة" أو "تعويذة"]) "فتونًا" enchantement، أي مجرد عملية سحرية وضيعة. وهذا مثال أيضًا على أن السحر، بل حتى الشعوذة، هو ما يتبقى كأثر أخير من المنقولات المحتجبة[15].

بذا نحسَب أن هذه الإشارات الخاطفة تكفي لبيان مدى الخطأ الذي يقع فيه أولئك الذين يهزؤون بالروايات التي يرد فيها ذكر "منطق الطير"؛ فما أسهل وأبسط أن نزدري ما لا نفهمه، فنعدُّه من قبيل "الخرافات"! لكن القدماء، من جانبهم، كانوا يعلمون حق العلم ما يقولون عندما يستعملون اللغة الرمزية. "الخرافة" superstition الحقيقية، بالمعنى الاشتقاقي حصرًا (["البقاء فوق"] quod superstat)، هو ما يتبقى باقيًا بذاته، أي، بكلمة واحدة، "الحرف الميت". لكن هذه البقاء بعينه، مهما بدا استحقاقُه للاهتمام من الضآلة، ليس مع ذلك شيئًا زريًّا، لأن الروح الذي "يهبُّ حيث يشاء"[16]، ومتى يشاء، بوسعه دومًا أن يعود، فيحيي الرموز والشعائر ويعيد إليها، بالإضافة إلى معناها الضائع، ملء فاعليتها الأصلية.

المترجمة عن الفرنسية: فاطمة عصام صبري

مدقِّق الترجمة: ديمتري أڤييرينوس


* Voile d’Isis, novembre 1931 ; repris dans René Guénon, Symboles de la Science sacrée, Gallimard, 1962, pp. 57-61.

** فيلسوف فرنسي (1886-1951)، ولد في بلوا (فرنسا) وتوفي بالقاهرة. شُغف بالروحانيات منذ حداثة سنِّه، فدفعه حب الاستطلاع إلى اختبار معظم مدارسها الحديثة، حتى اهتدى أخيرًا إلى تصور متكامل عن وحدة المنقولات الأصيلة في العالم قاطبة، بوصفها تعبيرات متنوعة متفرعة عن "منقول قديم" Tradition Primordiale واحد، فاطمأن إليه وراح، بالتوازي مع حياة باطنية غنية، يكتب فيه المقالات والكتب والرسائل، مؤسِّسًا بذلك لمذهب "نقلي" traditionnaliste مازال أثرُه ساري المفعول حتى يومنا هذا. من مؤلفاته الكثيرة الهامة: الإنسان ومآله بحسب الڤيدنتا، أزمة العالم الحديث، رمزية الصليب، الثالوث الأكبر، لمحات عن المُسارَرة. (المحرِّر)

[1] Cf. René Guénon, L’Homme et son devenir selon le Vēdānta, ch. III.

[2] راجع، مثلاً، إنجيل متى 13: 31-32. (المحرِّر)

[3] في رمز Peridexion (تحريف للفظ Paradision، ["فردوس"]) الذي يرجع إلى العصر الوسيط، نرى الطيور على أغصان الشجرة والتنين جاثم في أسفلها (cf. René Guénon, Le Symbolisme de la Croix, ch. IX) [رمزية الصليب، الفصل التاسع].

رسم من مخطوط وسيطي يمثل رمز الپريدكسيون: الطيور على أغصان الشجرة والتنين جاثم في أسفلها.

وفي دراسة عن رمزية "طائر الفردوس" (Le Rayonnement intellectuel, mai-juin 1930)، أورد السيد م.ل. شاربونو-لاساي نسخة عن منحوتة تصور هذا الطائر برأس وجناحين فحسب، وهي الصورة التي كثيرًا ما تتمثل فيها الملائكة [cf. M.L. Charbonneau-Lassay, Le Bestiaire du Christ, ch. LVI, p. 425].

[4] لفظ "صف" هو أحد الألفاظ العديدة التي حاول بعضهم أن يستنبط منها أصل كلمة صوفي أو تصوف؛ ومع أن هذا الاشتقاق لا يبدو مقبولاً من الوجهة اللسانية المحضة، فهذا لا يلغي صحة أنه، شأنه شأن عدة اشتقاقات أخرى من الجنس نفسه، يمثل واحدًا من المعاني المحتواة فعلاً في هذه المصطلحات، لأن "المراتب الروحية" تتطابق أساسًا مع درجات المُسارَرة.

[5] هذا التعارض يُترجَم لدى كل موجود بتضادِّ الميلين الصاعد والهابط [للطبيعة] اللذين تدعوهما العقيدة الهندوسية ستڤا sattwa [النور، التوازن] وتَمَس tamas [الظلمة، العطالة]؛ وهذا أيضًا ما ترمز إليه الزرادشتية بالصراع بين النور والظلام، المشخصَين بأهورامزدا وأهرمن، على التوالي.

[6] ما بين معقوفتين […] من إضافة المحرر توضيحًا للمقصود. (المحرِّر)

[7] راجع، بهذا الصدد، أعمال شاربونو-لاساي المرموقة في رموز المسيح الحيوانية [cf. Le Bestiaire du Christ]. جدير بالملاحظة أن التضاد الرمزي بين الطير والحية لا يصح إلا عندما يُنظَر في الحية على صورتها الخبيثة؛ بالعكس، فإن الحية، على صورتها الطيبة، تندمج أحيانًا بالطير، كما في صورة Quetzalcohuatl [الثعبان ذي الريش] في المنقولات الأميركية القديمة؛ إلى ذلك، نقع في قَصَص المكسيك أيضًا على الصراع إياه بين العقاب والحية. ويجوز لنا، في خصوص الربط بين الطير والحية، التذكير بالعبارة الإنجيلية: "كونوا ودعاء كالحمام وأذكياء كالحيات" (إنجيل متى 10: 16).

[8] فيما يتعلق برمزية "الكتاب"، الذي يحيل إليه ما نحن بصدده مباشرة، راجع: René Guénon, Le Symbolisme de la Croix, ch. XIV [رمزية الصليب، الفصل 14].

[9] راجع: رونيه گينون، "علم الحروف"، سماوات: http://samawat.org/articles/science_des_lettres_guenon. (المحرِّر)

[10] يجوز القول، إلى ذلك، بأن الفنون والعلوم بصفة عامة لم تصر دنيوية إلا بنوع كهذا من الانحطاط جردها من صفتها النقلية، ومن ثم، من كل مغزى من رتبة علوية. وقد شرحنا ما نذهب إليه في هذا الموضوع في كتابنا L’Ésotérisme de Dante, ch. II [باطنية دانتي، الفصل الثاني]، وفي كتابنا La Crise du monde moderne, ch. IV [أزمة العالم الحديث، الفصل الرابع]. [راجع للكاتب أيضًا: Le Règne de la quantité et les signes des temps, ch. VIII. (المحرِّر)]

[11] اللفظان السنسكريتي Deva واللاتيني Deus ليسا غير الكلمة الواحدة عينها.

[12] جدير بالنظر، كذلك، أن "الشعر" (الكلام الموزون) و"الشعيرة" (المَنْسِك الديني) مشتقان من أصل واحد. (المحرِّر)

[13] كلمة "شعر" poésie مشتقة هي الأخرى من الفعل اليوناني poiein، الذي له المعنى نفسه الذي للجذر السنسكريتي kri، الذي منه كلمة karma، والذي نجده في فعل creare [خَلَقَ] اللاتيني مفهومًا بمعناه البدائي؛ ففي الأصل، كان المقصود شيئًا مختلفًا تمامًا عن مجرد إنتاج عمل فني أو أدبي بالمعنى الدنيوي الذي يبدو أن أرسطو عناه حصرًا عندما تكلم على ما أسماه "العلوم الشعرية".

[14] كلمة "عراف" devin نفسها لا تقل عن ذلك زيغًا عن معناها الأصلي؛ إذ إنها ليست اشتقاقيًّا غير divinus التي تفيد هنا معنى "ترجمان الآلهة". و كلمة "الطيرة" auspices (وهي مشتقة من aves spicere، أي "مراقبة الطيور")، بما هي النذُر والبشائر المستوحاة من طيران الطيور وأغانيها، ينبغي تقريبها، بصفة أخص، من "منطق الطير"، المفهوم عندئذ بالمعنى الأشد مادية للكلمة، لكنْ المتواحد بعدُ، مع ذلك، مع "لسان الآلهة"، بما أنه كان يُعتقَد أن الآلهة يُظهرون مشيئتهم من خلال هذه النذُر والبشائر، فكانت الطير تلعب بذلك دور "الرُّسل" المُقايس للدور المنسوب إلى الملائكة بوجه عام (ومن هنا اسمها نفسه، بما أنه هنا بالدقة يثوي المعنى الخاص لكلمة "ملَك" angelos اليونانية)، ولو أنه مأخوذ هنا بمعنى أدنى بكثير. [نزيد على ذلك أن معنى ملَك بالعربية هو "حامل الملوكة" أي الرسالة. (ف ع ص)]

[15] حول مسألة أصول السحر والشعوذة، راجع المقطع الأخير من مقال لگينون بعنوان "شيث": René Guénon, Symboles de la Science sacrée, ch. XX : « Sheth », pp. 139-143، حيث يلمح إلى أن السحر والشعوذة يمثلان آخر درجات انحطاط العلوم النقلية القديمة. (المحرِّر)

[16] إشارة إلى قول يسوع للمعلم الفريسي نيقوديمُس: "الريح تهب حيث تشاء، فتسمع صوتها ولكنك لا تدري من أين تأتي وإلى أين تذهب – تلك حال كل مولود للروح" (إنجيل يوحنا 3: 8)، حيث لكلمة "روح" pneuma باليونانية معنيان: الريح والروح. (المحرِّر)

صورة أخرى للسعادة – فابريس ميدال وعبد الوهاب المؤدب

صورة أخرى للسعادة*

على هامش مهرجان فيلوصوفيا، قام فابريس ميدال مع عبد الوهاب المؤدب بمناظرة بين وجهتَي نظر الإسلام والبوذية في السعادة. وقد بدا لهما أن الغبطة – وهي أبعد ما تكون عن حال التأمل المجرد – لا تنفصل عن البصيرة وعن الإقرار بالشقاء البشري. أهي مفارقة؟ ليس بالضرورة. فالرياضة الروحية، هنا، لا تقود إلى التبلد، بل إلى "حكمة مجنونة" تجمِّل الحياة!

بات طلب السعادة، على غرار فلاسفة الأنوار، هو شوق البشرية الألح والأثبت. فكأن البشر، وقد انعتقوا من وصاية الآلهة ومن انتظار الآخرة، باتوا منذورين لاستعادة السعادة الأرضية بوصفها غاية وجودهم القصوى. فهل لا يزال لعالمية السعادة هذه من معنى؟ ألا يوجد، وراء رغبة البشرية المشتركة هذه، العديد من تصورات الحياة السعيدة؟ من الفرد إلى الجماعة، من الجسد إلى النفس، من السعادة الواهية إلى الغبطة الروحية، أليس كلٌّ من مختلف طُرُق اختبار السعادة فريدًا بحدِّ ذاته؟ وباختصار، أليست الفكرة الغربية عن السعادة آخر الأوهام الفلسفية الكبرى؟ للإجابة عن هذه الأسئلة، لا شيء يعدل سفرًا خارج الغرب الحديث، إلى دارَين روحيتين – البوذية والفكر الإسلامي – عُبِّر فيهما عن فكرة السعادة بعبارات جذرية الاختلاف.

عبد الوهاب المؤدب – الفرنسي التونسي الأصل، الشاعر، المترجم والكاتب وأستاذ الأدب المقارن في جامعة باريس العاشرة – هو مؤلف كتب عديدة يشجب فيها الأصولية الإسلامية ويدعو إلى تجديد الحوار الفلسفي بين الإسلام والغرب (داء الإسلام، مواعظ مضادة، الخروج من اللعنة: الإسلام بين الحضارة والهمجية[1]). تراه، إذ يستمسك بروح العَلمانية وبفكرة أن الحداثة تُلزم كل امرئ إحداثَ قطيعة مع أصوله، يبشر في الوقت نفسه بـ"تعايش" جديد بين المنقولات الروحية الكبرى للإنسانية.

غلاف كتاب المؤدب "داء الإسلام".

غلاف كتاب المؤدب "الخروج من اللعنة: الإسلام بين الحضارة والهمجية".

أما فابريس ميدال – الدكتور في الفلسفة والمدرِّس في جامعة باريس الثامنة – فقد ولد في أسرة يهودية أشكنازية، لكنه تحول مبكرًا إلى البوذية، دارسًا على العديد من أساتذة المنقول التبتي، ولاسيما تشوگيَم ترونگپا[2]. إنه مؤلف كتب عديدة، منها: أي بوذية للغرب؟ والوجيز في الحداثة في الفن، ومؤخرًا، المجازفة في سبيل الحرية: الحياة في عالم بلا معالم[3]، وتراه يجد في الحوار بين البوذية والفلسفة فرصة قد تتيح تحرير الفلسفة من التجريد وتحرير البوذية من الوعظ.

غلاف كتاب ميدال "أي بوذية للغرب؟"

غلاف كتاب ميدال "المجازفة في سبيل الحرية: الحياة في عالم بلا معالم".

بمناسبة مهرجان الفلسفة في سانت-إميليون [2009][4]، حيث قدم كل منهما مداخلة، اقترحنا على هذين الاختصاصيين في الإسلام والبوذية النظرَ في نقاط الاختلاف والائتلاف بين منقولَيهما حول مسألة السعادة.

* * *

عبد الوهاب المؤدب: حتى نعرف إذا كان طلب السعادة عالميًّا، لا مناص لنا أولاً من التفاهم على تعريف مشترك. إذا اقتصرت السعادة على حال من الرضا المادي والوجودي للفرد، فمن المؤكد أن السعي في بلوغ هذه الحال ليس عالميًّا، بل مختص فقط بالغرب الحديث، حيث بات تحقيق الذات، الخاص والعَلماني، يتصدر سائر أشكال الهناء الأخرى. أما في الحضارة العربية-الإسلامية، فإن مفهوم السعادة أرحب: إنه، في آن معًا، اجتماعي وروحي وديني: اجتماعي، لأنه، بنظر غالبية المفكرين المسلمين، لا يفترق عن الصلة مع الآخر؛ ديني، لأنه مرتبط بالغبطة السماوية؛ روحي وفلسفي، لأنه، في الفكر الإسلامي، يقع في القلب من تعريفه بالحياة الطيبة في مدينة فاضلة.

فابريس ميدال: ليس للتصور الغربي للسعادة كذلك من مكافئ في البوذية، التي يساورها نوع من الريبة حيال طلب حال من الرضا ننعتق فيها من قلقنا الوجودي. فالإيعاز النفساني بالسعادة، في البوذية، إنما هو إلزام مضلِّل يجعل الفرد يتهرب من الواقع ويسجنه في قوقعة متمركزة على الأنية égocentrique. البوذية أكثر حساسية للفرح بوصفه لحظة تلوح بغتة؛ وواجب الفرد إذ ذاك عبارة عن ترك مثل هذه اللحظات المباغتة تنبسط في حياته.

ع.م.: كلمة سعادة، بالعربية، متصلة أيضًا بمعنى فعل ساعَد، أي "عاوَن". إذ إن السعادة ليست خبرة فردية؛ إنها بالحري خبرة خروج من الذات، يحملنا فيها شيء يتجاوزنا، يحركنا شيء يسمو بنا. وللمصطلح أيضًا بُعد وظيفي وتقني. فكلمة ساعِد، المشتقة هي الأخرى من الثلاثي سَعَدَ، تعني "الذراع": لنيل السعادة يُعتقَد أن من الضروري تحريك الجسم؛ فكما أن الطائر الذي ينطلق محلقًا في الأجواء يستعمل جناحيه للطيران ويفوز بهذه الحركة بشكل من السعادة، كذلك فإن جسم الإنسان هو الآلة "التقنية" للسعادة. ومنه فإن كلمة "سعادة"، التي تعني في الآن نفسه الهناءة والغبطة، تشترك في الجذر مع كلمة "ساعِد" التي تنطوي على معنى "التعاضد" والقدرة على التحرك، بفضل الجسم، نحو الآخر ونحو العالم. وهذا التجاور اللفظي يوجِد كثافة معنوية تستحق الاستفسار عنها. أخيرًا، فإن معنى كلمة "سعادة" وارد في القرآن: فحتى إذا كان المصطلح غير وارد فيه بحرفه، يتكرر فيه حديث "الذين سُعِدوا"، الأصفياء الخالدين في الجنة، في مقابل "الذين شَقوا"، الخالدين في النار (سورة هود 105-108). السعادة التامة مرتبطة هنا بفكرة الخلود، وليست متاحة إلا في الآخرة. بيد أن انتظار السعادة السماوية يقتضي سلوكًا معينًا على الأرض…

عبد الوهاب المؤدب

ف.م.: يمكن لمفاهيم مختلفة مرتبطة بالسعادة أن تساعد على فهم روح البوذية. الـنرڤانا nirvāna، أولاً – وهو مفهوم غالبًا ما يسيء أهل الغرب فهمه إساءة شديدة لأنه ليس معرفًا في الكتب إلا تعريفًا سلبيًّا. معنى هذا المصطلح ليس مكافئًا للفردوس الساذج الذي يشبَّه به عمومًا اليوم، بل يقتضي انفتاحًا غير مشروط على العالم. لعل مفهومَي دُكها dukkha وسُكها sukha أكثر تنويرًا بهذا الصدد: كلمة دُكها تعني "الشقاء" أو "الألم"، أو بتعبير أدق، "العجلة التي تَصُرُّ ولا تدور دورانًا سلسًا". وعلى الضد من دُكها، نجد مصطلح سُكها الذي يُترجَم بـ"السعادة"، أو بتعبير أدق، "الغبطة"، إنما الذي يدل على حركة العجلة حركة حرة وسلسة. الشقاء هو أول "الحقائق الشريفة الأربع" في مذهب البوذا، كما عرضه في الموعظة الأولى التي ألقاها في بنارس، وفيها يعاين البوذا أن كل شيء شقاء: الولادة، المرض، الشيخوخة، الموت، الاجتماع بما لا نحب، أو بالعكس، الافتراق عما نحب. وهذه المعاينة لا تقود إلى أي يأس، إلى أي تشاؤم بتاتًا، بل هي نقطة انطلاق لـ"تأليب الحياة" ameuter la vie، بحسب تعبير أنتونان أرتو[5] الجميل جدًّا. البوذية تبين أنه بالإقرار بواقعية الشقاء – لا بإنكاره البتة – يصير اكتشاف "الغبطة" ممكنًا. والالتزام الروحي وممارسة التأمل يرميان، في المقام الأول، إلى تعليمنا عقد صلة مع وجودنا أكثر انفتاحًا وحيوية، أكثر فضولاً وفطنة.

ع.م.: إن فكرة أن السعادة تقتضي نوعًا من الرياضة الروحية موجودة كذلك في القلب من الفكر الإسلامي. فالسعادة تُتصوَّر بوصفها مصاحِبة للحقيقة. وهذا الارتباط بين السعادة والحقيقة قد يبدو لنا اليوم باليًا بعض الشيء، لكنْ هذا لأننا نتصور الحقيقة تصورًا نظريًّا بحتًا، فنختزلها إلى علم، إلى جدل عقلاني صرف. غير أن البحث الفلسفي، كما بيَّن ذلك پيار هادو، كان يُتصوَّر أصلاً كأسلوب حياة يتضمن رياضات روحية لتنقية النفس وأخلاقًا[6]. كان هذا مدار الفلسفة عند الإغريق، لكنه كان كذلك عند الفلاسفة المسلمين في العصر الوسيط أيضًا.

ف.م.: مع مراعاة الفوارق، يصح قولنا إن التأمل البوذي هو كذلك أسلوب حياة فلسفي، رياضة تأملية. ويدهشني أن القوم لا يشددون على البوذية تشديدًا أكبر بوصفها مذهبًا بطوليًّا، إذ إن هذا هو اللب من تعليمها: إنها لا تستهدف إطلاقًا حمايتنا، بل انفتاحنا على الواقع، حتى إذا كان ذلك غير مريح أو مؤلمًا. العبارة الفصل فيها هي: "انظرْ إلى الأشياء كما هي". اعتناق البوذية هو أبعد ما يكون عن "الارتياح" être zen بالمعنى الدارج الذي يفهمه أهل الغرب! فالزنْ Zen من مذاهب البوذية واحد من أشدها زهدًا وتقشفًا، وليس بتاتًا طريقة يكون المرء فيها "مسترخيًا" être cool… لا مناص من القطع مع "البوذية المخففة"، وهي نسخة عنها مزيفة. فالبوذية لا ترمي إلى أي طمأنينة، بل إلى تنمية أكثر ما يمكن من الصفاء المتوقد – حتى إن البوذا عارض جميع معلِّمي الحكمة في زمانه حول هذه النقطة بالذات. فالحقيقة التي بشَّر بها هي مساعدة البشر على الفكاك من أسْر صلة هاربة وجزئية مع الواقع وعلى الاضطلاع بألم الوجود. ومنه، فإن التأمل ليس الاتصاف بصفات الضفدع، بل شحذ سيف التمييز الذي وحده يحرر من الجهل.

ع.م.: ألا يوجد فارق لا يلتئم بين المشاهدة الفلسفية للحقيقة التي وعد بها سقراط تلامذته وبين الطمأنينة التي يعد بها التأمل البوذي؟

ف.م.: البوذية لا تعد بأي طمأنينة، بل على العكس تمامًا: إنها طريقة صارمة، متشددة حتى. كان ترونْگپا يؤكد أن الكلمة الفصل في النهج البوذي هي "اللاأمل"، التي كان يميزها عن اليأس. فالتأمل البوذي، في الواقع، ليس عبارة عن تأمل في شيء بعينه، بل هو حال انتباه للهنا-الآن، حال حضور للذات، حال تيقُّظ. يجب عدم طلب أي شيء والتخلي عن كل وعود. فوحده هذا الصفاء المتوقد من شأنه أن يحررنا من انغلاق الجهل. الفارق بين البوذية وبين فكر سقراط متأتٍّ من أن البوذية تشدد على بُعد الحضور غير التصوري، على الفطنة الحدسية، لا على الديالكتيكا [الجدل].

المعلم التبتي تشوگيم ترونگپا رنپوتشه

ع.م.: لقد كتب ابن طفيل – أحد فلاسفة الأندلس المسلمين، حامي ابن رشد ومقدِّمه للأمير – رواية فلسفية، يصح أن نقارنها برواية روبنسون كروزو، هي بعنوان حي بن يقظان[7]. والعنوان ذو مغزى: إذ يبدو أن الـ"حي" مرتبط بنوع من الانتباه التأملي إلى العالم. إنها قصة الطفل حي، الذي تركته أمه بعد ولادته في جزيرة غير مأهولة من جزائر الهند، فربَّته ظبية. وهو، إذ انتزع نفسه من الشرط الحيواني بقواه العقلية الخاصة، وجد السعادة في تأمل الكوسموس بوصفه تناغمًا كونيًّا.

ف.م.: التأمل ينمِّي فطنة هي أقرب ما تكون إلى الحدس الخالص؛ والمقصود هو الذهول عن النفس لترك الـ"ما هو" يظهر. وبهذا المعنى، تكون البوذية أقرب إلى الفينومينولوجيا[8] منها إلى الفكر الميتافيزيقي المنهجي.

فابريس ميدال

ع.م.: لعل هاهنا نقطة الافتراق بين البوذية والفلسفة. فعند الفلاسفة أن طلب الحقيقة يأتي أولاً، فيسمو على الخُلُق أو الاعتقاد، اللذين يجب عليه في الوقت نفسه أن يأتلف معهما. بين القرنين السابع والثاني عشر، حين انصهرت، من بغداد إلى قرطبة، المنقولات اليونانية والفارسية والهندية في بوتقة اللسان العربي، ارتسمت ثلاثة تصورات للحياة السعيدة. وفق التصور الأول، تلعب شخصية سقراط دور الأسوة الحسنة، وتتماثل السعادة مع مشاهدة الحق والإله. أما التصور الثاني، الأكثر جماعية، فقد برز مع الفيلسوف العربي اللسان والتركي الأصل أبي نصر الفارابي، الذي كيَّف الفكرة اليوطوپية لـجمهورية أفلاطون مع السياق الإسلامي، مبتكرًا "مدينته الفاضلة"[9]. وعنده أن النبوة تصدر عن الحقيقة نفسها [العقل الفعال] التي تعبِّر عنها الفلسفة؛ ولكنْ في حين أن الفلسفة تستعمل خطابًا تقنيًّا وجدليًّا، تلتمس النبوة نصًّا أغنى بالصور، يُعتقَد أنه أقدر على نشر هذه الحقيقة بين عامة الناس. يتقاطع في مدينة الفارابي الفاضلة ملكوت الدنيا مع ملكوت الآخرة، المشروع السقراطي، حيث يبلغ كل فرد مشاهدة الحقيقة بفضل رياضة النفس، مع حُكم المدينة. فالرئاسة الفاضلة تقود الأمة إلى نيل السعادة والخلاص. وكردِّ فعل على هذه الرؤية الدينية والجماعية، برز من بعدُ تعريف ثالث بالسعادة، جذري الفردية والتوحد. لقد وصلتنا من أواخر القرن العاشر موسوعة بديعة الجمال، مؤلفة من اثنتين وخمسين رسالة كتبها إخوان الصفاء؛ وهؤلاء المؤلفون – فيثاغورثيو الإسلام – يُرسون أسس السعادة في سلوك محض فردي، نجد في اللب منه مفهوم التصفية catharsis المستلهَم من الفكر اليوناني، الفيثاغورثي، والهندي. وهذه عبارة عن رياضة معنوية للتطهر ترمي إلى تحرير النفس، حبيسة جسم يُنظَر إليه بوصفه سجنًا.

ف.م.: لا يتفق التأمل البوذي مع هذا التصور، المتفرع عن الأفلاطونية، عن جسم يعاش كسجن. بلوغ اليقظة لا يتم بالفكاك من أسْر الجسم، بل بالتكامل بين الروح والجسم، باستعادة وحدتهما الجوهرية. ففي المنظور البوذي أن العالم ليس مشطورًا، بل "واحد"، والروحانية لا تنفصل عن عمل يكاد أن يكون "نحتيًّا" على الهنا-الآن – كما يبيِّنه مبدأ الـمندل[10]. فالاعتقاد بأن التأمل يفصل عن العالم والجسم إنْ هو إلا حكم مسبق غربي نمطي!

مندل تبتي.

ع.م.: في الفلسفة الإسلامية، يمكن لطلب السعادة أن يفضي إلى قطيعة مع العالم. إنها الطريقة "المونادية" التي دشنها في القرن الثاني عشر الفيلسوف ابن باجة السرقسطي، الذي يعرفه الأوروبيون أكثر باسم Avempace المحرف إلى اللاتينية. ففي رسالته تدبير المتوحد[11]، تراه يماثل بين طلب السعادة وبين مشروع توحدي، يكاد أن يكون استباقًا لـ"مونادولوجيا" لايبنتس[12]: فقط في معزل عن المدينة برمتها، وفي سبيل الفرد، يمكن لطلب السعادة أن يكون ذا معنى.

ف.م.: يميل القوم إلى الظن بأن العمل على النفس هو انشغال بالنفس، لكنه في الحقيقة محاولة للتوافق مع الخارج توافقًا أفضل. ففي البوذية، شخصية الـبودهستڤا bodhisattva، "البطل في سبيل اليقظة"، إنما هي شخصية كائن تدفعه الرحمة إلى العمل في سبيل خلاص الإنسانية ككل[13]. ويمكن تقريب ذلك من طريقة الفروسية[14] كما بسطتْها، على سبيل المثال، سِيَرُ فرسان كريتيان دُه تروا[15] في القرن الثاني عشر: الفارس يشتغل في آن معًا على نفسه وفي سبيل خير الجميع؛ فالبطولة التي يحاول إظهارها في كلٍّ من المواقف التي يواجهها لا تنفصل عن إرادة مساعدة الأمة جمعاء[16].

غلاف كتاب ميدال "طريق الفارس: تجاوز النفس والروحانية والعمل".

ع.م.: برأيي أن التصوف هو، أغلب الظن، مكان التقارب الأشد بين الإسلام والبوذية. ففي تصوف كليهما، على كل حال، ترتسم فكرة واحدة عن السعادة. أود أن أقرأ لك قصيدة صوفية لأبي مدين الغوث، الصوفي الأندلسي من القرن الثاني عشر والمولود في نواحي إشبيلية، تشهد على هذا التقارب. فالشاعر الصوفي يتغنى فيها بحال السكر المرتبطة بنشوة التجلِّي – تجلِّي عالم الغيب في عالم الشهادة. قد يبدو هذا مفاجئًا إذا علمنا أن الإسلام يحرِّم شرب الخمر. فالواقع أن المحظورات تشجع على شهوة المعصية؛ والإسلام، بتحريمه للخمر، ولَّد شاعرية باخوسية[17] باذخة. إليك هذه القصيدة التي تجوز قراءتها بوصفها ترجمة صوفية لمفهوم النرڤانا البوذي:

طابت أوقـاتي بمحبـوب لنا * حـبُّــه ذخــــري
نرغب مَن لا لنا عنه الغنى * في صلاح أمري

أنا هو شيخ الشراب، ساقي الملاحْ * لُذَّ لي التمزيقْ
ابســطـوا ســجــادتــي راحًــا بـراحْ * قـرِّبـوا الإبـريـقْ
احـملـوا تـفـريـدي فـي الاصـطـلاحْ * يا ذوي التحقيقْ

يـا أنـا مَـنْـهُ أنــا حتى أنـا * هِمْتُ في سُكري
سمِّعوني طيـِّب ألحان الغنا * فـعسـى نـدري

كي نفيق، يـا فُقَـرا، من سـكرتي * نقِّـروا في العـودْ
واحـملــوني فـوق عرش كـرمتـي * عاشـق مفقـودْ
واجـعلـوا مـن مـائـها فـي قبـلتـي * واعصروا العنقودْ

واجعلـوا أوراقهـا لي كفنــا * ماؤهـا طهـري
فوق أو من تحت أو ميمَنـا * احفـروا قبــري

بعـتُ دنفـاسـي ودلفـي والإزارْ * وبقـيـت عريــانْ
ومـشــيتُ بين دوحـات الديـــارْ * وأنـــا نشــــوانْ
بــيــن خُــلان وأكـــواس تُـــدارْ * تسـحر الأذهـانْ

ليس لي عن الشرب غنى * والهوى سكري
وأنـتـمُ، يـا فُـقَـرا، يـا أمَنـــا * اكـتُـمُـوا ســرِّي

كــان ظـنِّـي أنَّنـي نعـشــقـه * وهـو لـي يعشـقْ
أنــا نـبـعـد، وهــو يـقــرب لــي * صــار بـي أرفــقْ
أنـا مُغـربٌ، وهو في مشـرقي * وهو ليس يشرقْ

تجلَّى الحب، تدلَّى، فدنى * سـاعة الذِّكـر
فمحتْ أحـداثُـنـا أزمـانَنــا * واختفى سـرِّي

فسهـام البيـن دَعْ ترشــقـنـي * سـلِّـمـوا ما لـي
أنــا نهــواه وهــو يعـشــقـنــي * سـلِّمـوا حـالـي
ســاقنـي لمَّـا بـدى أنشـقنـي * نَشْــدَه الغـالـي

وهو لي روحٌ أقـام البدنـا * هو في سـرِّي
لا تعُـمْ تغـرقْ في بحرنـا * ذاك هو بحـري

ف.م.: هذا بديع!

ع.م.: بذل النفس كليًّا للراح، للمحظور بوصفه سرًّا – أي جرأة خارقة! والاستفاقة بفضل السكر! فكأن المحرَّم هو فاتح الفضاء للسر، ينبوع السعادة واليقظة.

ف.م.: أنت على حق. التصوف حليف السر. ففي البوذية التنترية bouddhisme tantrique، المسماة أيضًا ڤجْرَيانا، مفهوم التصوف هذا مفهوم مركزي: إنه طريقة لاعتناق الكل. كأن ذلك أشبه بالكحول، الذي يمكن له أن يُغرقنا في أشد أنواع البلبلة، إنما يمكن له أيضًا أن يحررنا من الذهنية الخوافة المتمركزة على الأنية. ففي التنترا Tantra، لا مندوحة لنا من أن ننعتق من نقاط علامنا المثبتة مسبقًا للدخول في شساعة الحرية، للمجازفة بحياتنا من جديد. في الكثير من التمثيلات التنترية، نجد آلهة عجيبة تحمل بيدها، لهذا السبب بالذات، كأسًا من الخمر: إنها تريد للذهن الوضيع والضيق أن يثمل. هناك جانب مترع بالبهجة والحياة في هذا الفرع من البوذية: فهو يشدد في المقام الأول على الحب واتقاده؛ وتحرير هذا الحب يقتضي سيرورة دائبة، تصفها القصيدة التي قرأتَها أحسن الوصف. إنه التجرد من الخوف والخشية، القفز في الشساعة. وفي ذلك، لا غنى أيضًا عن شيء من المرونة حيال الشريعة؛ وفكرة "الحكمة المجنونة" تبيِّن ذلك. فالحكمة الاتفاقية غالبًا ما تكون مذهبًا أخلاقيًّا ضيقًا، غُلاً، سجنًا. لذا لا بدَّ للمرء من المجازفة في سبيل حريته، من أخذ الغلو فيها على عاتقه. و"الحكمة المجنونة"، على ما يبدو لي، واحدة من ذروات الفكر البوذي الشاهقة[18].

ع.م.: عند الغرب، هذه أقرب إلى الجمع بين نقيضين oxymore؛ أما في التصوف البوذي أو الإسلامي، فهو تعريف جيد بالسعادة…

سجَّل الحوار: مارتن لوگرو

المترجم عن الفرنسية: ديمتري أڤييرينوس


* « Une autre idée du bonheur », dialogue entre Abdelwahab Meddeb et Fabrice Midal, propos recueillis par Martin Legros, Philosophie Magazine, numéro 29, mai 2009, pp. 30-35.

[1] Cf. Abdelwahab Meddeb, La maladie de l’Islam (Seuil, 2002) ; Contre-Prêches (Seuil, 2006) ; Sortir de la malédiction : l’islam entre civilisation et barbarie (Seuil, 2008).

[2] هو تشوگِيَمْ ترونْگپا رنپوتْشِه (1939-1987): علامة وشاعر، أستاذ في التأمل بحسب أهم طُرُق البوذية التبتية الباطنية، ومؤسس طريقة شمبهلا؛ نقل تعاليم الـڤجْرَيانا Vajrayāna ("المركبة الماسية") إلى الغرب وجسَّد في حياته مثال "الحكمة المجنونة" (راجع آخر الحوار) في المنقول التبتي. (المحرِّر)

[3] Cf. Fabrice Midal, Quel Bouddhisme pour l’Occident ? (Seuil, 2006) ; Petit traité de la modernité dans l’art (Pocket, 2007) ; Risquer la liberté : vivre dans un monde sans repères (Seuil, 2009).

[4] ما بين معقوفتين […] من إضافة المترجم توضيحًا للمقصود. (المحرِّر)

[5] أنتونان أرتو (1896-1948): كاتب وشاعر فرنسي، أثر تأثيرًا عميقًا في الأدب المعاصر، سواء من خلال مغامرته الداخلية، التي انتهت به إلى الجنون، أو من خلال تصوره لـ"مسرح القسوة". (المحرِّر)

[6] Cf. Pierre Hadot, Qu’est-ce que la philosophie antique ?, Gallimard, Paris, 2005.

[7] راجع: ابن طفيل، حي بن يقظان، بتقديم وتحقيق فاروق سعد، دار الآفاق الجديدة، بيروت، طب 3: 1980. (المحرِّر)

[8] هي، بالعربية، "الظواهرية" phénoménologie: نهج فلسفي يستهدف، بالعودة إلى معطيات الوعي المباشرة، إدراك البُنى المتعالية لهذا الوعي وماهيات الموجودات. (المحرِّر)

[9] راجع: أبو نصر الفارابي، كتاب آراء أهل المدينة الفاضلة، بتقديم وتعليق ألبير نصري نادر، دار المشرق، بيروت، طب 5: 1985. (المحرِّر)

[10] الـمندل mandala: طارة أو دائرة سحرية؛ رسم تخطيطي يشتمل على دائرة تحيط بأشكال هندسية، كالمربعات والمثلثات، وفي مركزها يستوي الإله أو ما يرمز إليه. والمندل، الذي يرمز إلى المقايسة بين العالم الأكبر والعالم الأصغر، يعين المريد على تركيز خواطره وتثبيتها على موضوع تأمله. (المحرِّر)

[11] راجعها في: رسائل ابن باجة الإلهية، بتحقيق وتقديم ماجد فخري، دار النهار، بيروت، طب 2: 1991، ص 35-96. (المحرِّر)

[12] المونادولوجيا monadologie نظرية وضعها الفيلسوف الألماني ڤولفگنگ ڤلهلم لايبنِتْس (1646-1716)، مفادها أن الكون مكوَّن من مونادات monades؛ والمونادات (من اليونانية: مونوس monos، "متوحد") جواهر بسيطة، فعالة، غير منقسمة، لانهائية العدد، تتألف منها الموجودات كلها. (المحرِّر)

[13] See: Shāntideva, The Way of the Bodhisattva: a translation of the Bodhicharyāvatāra, Translated from the Tibetan by the Padmakara Translation Group, Forward by the Dalai Lama, Rev. ed., Shambhala, Boston & London, 2006.

[14] تقابلها الفتوة في التصوف الإسلامي. (المحرِّر)

[15] كريتيان دُه تروا (1135-1183): شاعر فرنسي يُعدُّ مؤسِّس "أدب الكياسة" littérature courtoise؛ كتب العديد من سير الفرسان، أشهرها: پرسڤال أو سيرة الگرآﻝ. (المحرِّر)

[16] Cf. Fabrice Midal, La voie du Chevalier : dépassement de soi, spiritualité et action, Petite Bibliothèque Payot, Paris, 2009.

[17] نسبة إلى باخوس (ذيونيسوس): إله النبات، ولاسيما الكرمة والخمر والنشوة، عند الإغريق والرومان. (المحرِّر)

[18] See: Geshe Chaphu, The Divine Madman: The Sublime Life and Songs of Drukpa Kunley, Translation and introduction by Keith Dowman, Preface by Dugu Choegyal Gyamtso, 2nd ed., Dawn Horse Press, Middletown, California, 1998.

ما الذي سيغير المخ؟ – ج. كريشنامورتي

ماذا سيغيِّر المخ؟*

krishnaji_5

كريشنامورتي: أود أن أناقش نقطة قد تكون على شيء من الأهمية. في مؤتمر انعقد في نيويورك أول هذا الربيع، كان حاضرًا أستاذٌ في الفلسفة – لا أعرف اسمه – تحول إلى الجراحة العصبية. ومما قاله بدا أنه رجل ذكي نوعًا ما. (أنا لا أتعالى، رجاءً.) وعند نهاية النقاش، قلت إن الشيء المهم، الجدير بالاهتمام حقًّا، هو إنْ كان بإمكان خلايا المخ، التي طالما أشرطت، أن تُحدِث في نفسها طفرة. فقال لي هذا الجراح العصبي: "تلك هي النقطة التي أريد أن أصل إليها. لو أمكن لذلك أن يحدث لكان أروع الأشياء. فنحن نحاول، بطُرُق متنوعة، أن نغير الخلايا." وأضاف: "أود أن أتحدث معك حول الأمر." لكن ذاك كان آخر لقاء، وكان الوقت قد نفد، فافترقنا.

أود أن أناقش هذا معكم: مسألة إنْ كان بإمكان خلايا المخ التي أشرطت طوال قرون على الكاثوليكية أو الپروتستانتية، على الهندسة، على الفلسفة، إلى آخر ما هنالك، أن تصير واعية لنفسها، فتخترق بالتالي إشراطها جذريًّا – ليس عبر المصادفة، أو عبر الهندسة الوراثية، أو عبر صدمة كهربائية، عبر الاختبار من الخارج للتأثير على الداخل – فنحن نتكلم على شيء مختلف كل الاختلاف عن ذلك.

مخي ليس منفصلاً عني. فإذا أشرط مخي كهندوسي، ومن بعدُ عبر أشكال متنوعة من القَسْر، أشكال متنوعة من الضغط (ليس مخي تحديدًا، ولكنْ هَبْ أن هذا المخ قد أشرط إشراطَه عند البشرية بأسرها)، ما الذي سيجعله واعيًا بنفسه من غير ضغط من الخارج، من غير أي أزمة، من غير أي شقاء أو تضحية؟ ما الذي سيُحدِث ذلك، بحيث تعي الخلايا نفسُها وضعَها، فتتفجر من الداخل؟ – من غير ضغط، لأنك إذا مارست ضغطًا، انصاع ذلك لفعل شيء آخر؛ إذا اتكلتَ على حادث، فقد يحرِّف ذلك البنية بأسرها. إذا تعاطيتُ مخدرًا لكي أغير خلايا المخ، فذاك هو الآخر تحريف. أما وأني أرى ما يحدث في العالم، أكنت هندوسيًّا أو كاثوليكيًّا أو مهما كنت، أقول لنفسي: "هل من الممكن تغيير خلايا المخ تلك – من دون أي باعث؟" إذا وُجِدَ باعث، إذ ذاك يكون هناك اتجاه، ومن ثم يكون…

فلنتحدث عن ذلك قليلاً. هَبْ أنني مشروط ككاثوليكي أو بوذي (أنا في منطقة أكثر أمانًا هناك). أنا بوذي، ومنذ الطفولة قيل لي يومًا بعد يوم، يومًا بعد يوم، أن أكرر عبارات بعينها. وهكذا مافتئت أكرر؛ وذلك التكرار، ذلك البرنامج أشرط خلايا المخ، العملية كلها. والآن، تظهر أنت وتقول إن كون المرء بوذيًّا أو مسيحيًّا أو مهما كان هو منظار ضيق جدًّا إلى الحياة، إنه يحدُّ الذات. فأرى، من غير مجادلة مسهبة، أنك على حق. تراني أتقبل الأمر لفظيًّا، لكنه لم يغير في الأمر شيئًا؛ لم يجعل المخ يقول: "بحق الآلهة، لا بدَّ من طفرة." وأنا أسأل: "ما الذي سيُحدِث هذه الطفرة؟" – من دون انضباط ذاتي، إلى ما هنالك.

أنا آخذ كمثال مخًّا متوسطًا. هَبْ أنك وإياي مخَّان متوسطان، أصابا حظًّا طيبًا من التعليم، من الذكاء، من التيقظ لأحداث العالم، إلخ. لنقل إنك وإياي عانينا الكثير من المشكلات، الأسرة، دوامة الحياة؛ وأنت وأنا بتنا ندرك أننا مشروطان، أنت كمسيحي، أنا كبوذي، أو كعالِم مسيحي[1]، أو شيء ما. ثم تراه يظهر ويقول: "انظرا إلى ما تفعلان. هذه السيرورة المحدِّدة للذات شديدة التخريب." وهو يورد لك الأسباب كافة، فيبسط بذلك خريطة التركيز الخادع للنفس برمتها. وتراني أرى حقيقة الأمر، لكن هذا لم يؤثر في الخلايا تأثيرًا جذريًّا؛ جذريًّا – لم يُحدِث انقلابًا كليًّا [في السيرورة]. ما فعله هو أني سطحيًّا تحولتُ عن البوذية، وتحولت أنت عن الشيء الذي أنت متعلق به، وترانا نشعر أننا أفضل حالاً نوعًا ما – وكلمة "أفضل" تلك، هي الأخرى، شيء رهيب بنظري. لكني أسأل: "كيف يمكن لك وكيف يمكن لي أن نُحدِثَ فعلاً أو عدم فعل من شأنه أن يغير الخلايا؟"

س: إنها طاقة…

ك: إياك. ألا ترين أنك لا تتقصين؟ إذا قلتِ إنها طاقة، فأنت تضعين نفسك في موقف يُشعِرُكِ بأنك لا تستطيعين أن تفعلي شيئًا. على العكس، قد يكون بمقدوركِ أن تفعلي شيئًا خارقًا! يقع التلف على خلايا المخ عندما يكون هناك أي نوع من الإجهاد، أي نوع من النزاع، أي نوع من محاولة أن تكوني شيئًا، فتخفقين ثم تتباكين على ما فاتك.

والآن، أقول لك إن فعل ذلك ممكن. لكنك لا تقبل قولي. تراك تقول: "بيِّنْه لي، برهنْ لي عليه." فأقول: "لا أستطيع أن أبرهن عليه بطريقة البرهان العلمي"، بمعنى وضع فرضية، ثم تجريبها على الأرانب – الأرانب البشرية والأرانب العادية –، فالقول: "هو ذا، لقد حصلنا على النتيجة!" فالنتيجة عملية مأخوذة من الخارج – من الخارج. أقول إن ذلك العمل من الخارج بالذات هو أحد عوامل التلف، لأنك عندئذ متكل على الخارج. وإذن، ليس هناك اتكال على الخارج: الإرادة، الأمل، الصلاة، الاسترشاد، كما تعلمون، الأشياء كلها التي نلهو بها نحن السخفاء! فما الذي سيجعل خلايا المخ تتغير، فتُحدِثَ تغييرًا في نفسها إذ تقطع كل نوع من أنواع التأثير الآتي من الخارج؟ فهل قطعتموه يا ترى؟ هَبْ أنكم قطعتموه. هَبْ أنني قطعتُه، بحيث لا يكون ثمة اعتماد على المخدرات، على الإرادة، على وسيط خارجي، الله أو سواه. القيام بهذا كله يستلزم انتباهًا هائلاً. إذ ذاك، ماذا يحدث؟

قبل كل شيء، هل ذاك ممكن؟ هل هو ممكن بنظرك؟ وأعني الفعل الآن، صحيح؟ أنت ترى أن أي شكل من أشكال الوساطة الخارجية يتدخل في خلايا المخ إنما هو تحريف. والتحريف هو إشراطنا لأنه سُكِبَ فينا برمته: أنك كاثوليكي، أنك هندوسي، أنك يجب ألا تفعل هذا، يجب ألا تفعل ذاك، يجب أن تنجح، يجب أن تشقى، أو لا تشقى. أي أن الخارج قد أشرط المخ – الخبرة الخارجية، الحوادث الخارجية، الپروپاگاندا [الدعاية] الخارجية – والإشراط تحريف. ومنه، يجب على الاتكال على الخارج أن ينعدم – وهذا مُتناسى تناسيًا تامًّا…

س: أصعب ما في الأمر هو أنك قد تفهم، لكنْ قد يظل هناك عنصر أمل فيه. تلك هي المشكلة…

ك: فكأنك تستأصل سرطانًا، تزيله تمامًا.

س: بلا باعث مطلقًا.

ك: بلا باعث مطلقًا.

س: قد يكون ذلك هو الشيء الذي لا أستطيع أن أتتبَّعه.

ك: لا، لا، أنت لا تتتبَّعه. إنه جزء منك، لا تقدر أن تتبعه. إنه يلفت النظر إلى شيء، وأنت تفهم، أنت ذاك. اسمع، سيدي: يقول ك[2] إن الشقاء يجب أن ينتهي. صحيح؟ ذاك ليس تعليمًا. إنه يجب أن ينتهي. الأمر منوط بك، أنت لا تتبع ك. أنت تقول: "نعم، ما يقوله صائب. بوسعي أن أرى ذلك. ما لم ينتهِ الشقاء تنعدم المحبة. أرى ذلك." فهو عندئذ جزء منك؛ وأنت لا تتبع ذلك الرجل المسكين ولا تعليمه. ذاك جزء منك. هل أوضحتُ الأمر؟

ومنه، هل أستطيع، هل يستطيع إنسان أن يكون بهذه الحرية التامة من الوساطة الخارجية؟ أجل، سيدي، ذاك هو الشيء الأهم – وإلا فأنت تلهو بألعاب!

س: اهتمامنا منصبٌّ أكثر على بناء المدارس والقيام بالعمل في اللجان وأمور من هذا القبيل…

ك: آ، تلك قضية جانبية وحسب. عندما تكون هذه [الرؤية] موجودة فإن ذاك [العمل] أيضًا يتم. تراني أصرف معظم وقتي متجولاً، مكلمًا المدارس، مكلمًا الطلاب، مكلمًا العلماء – وهذا لاشيء.

س: عدم اتكالي على أي شيء من الخارج، ألا يعني أنني أصير سلبيًّا؟

ك: آه، لا، لا. على العكس! أنت لا تتكل على شيء البتة. دعنا، سيدي، ننظر في الأمر. سيدي، ما هو الإيجاب وما هو السلب؟ وكيف تصل إلى الإيجاب؟ لنقل، على سبيل المثال: الحب ليس الغيرة؛ الحب ليس الغضب؛ الحب ليس وطني، وطنك… وهكذا أكشح الكره تمامًا؛ أنفي الكره، أبعده. ثم أقول أيضًا: الحب ليس الطمع، فأكون قد أبعدت الطمع. ومنه، عبر السلب تصل إلى الإيجاب. نبدأ بالنفي وننتهي بالإثبات.

فهل باستطاعة المخ البشري أن ينفي الاتكالية كليًّا، أي نوع من الاتكالية؟ هَبْ أنه يستطيع، فماذا يحدث عندئذ؟ مخي لا ينفك يُشرَط من الخارج؛ ومن الخارج كذلك يوجِد ردَّ فعله الخاص، وردُّ الفعل ذاك بعينه يُشرط المخ جزئيًّا. وإذن، فمن الخارج، وكذلك من ردود فعلي، تراه مشروطًا. إنها حركة ذهاب وإياب، فعل وردُّ فعل. الآن، هل يمكن لذاك أن يتوقف؟ تكرهني، فأكرهك؛ تركلني، فأركلك. ذاك هو الفعل وردُّ الفعل. والآن هل من الممكن للفعل/رد فعل أن ينعدم؟ قد تركلني، لكنْ ليس هناك ردُّ فعل. عندما لا يوجد ردُّ فعل فإن ركلتك لا أهمية لها، والأمر ينتهي. إذا قبَّلتني، قبَّلتك؛ إذا فعلتَ شيئًا، أردُّ عليك. ولكنْ ماذا لو فعلتَ بي شيئًا ولم أرد فعلك بتاتًا؟ أنا حساس، حي، لست ميتًا، لست مشلولاً، لكني لا أرد.

س (إيطاليا): ماذا يحدث فلا أرد؟

ك: لأنني أرى عبثية الأمر؛ أرى غباوته. لقد ركلني الناس فعليًّا، ضربوني فعليًّا، ولا أردُّ الفعل. بذا ماذا يحدث؟ إذا رددتُ الركلة… لكني، إذا لم أرد، لم أعد أنتمي إلى عنفك. الأمر، الآن، أشبه بمدٍّ داخل وبمدٍّ خارج، فعل منك وردُّ فعل مني. الفعل منك مثيل ردِّ فعلي عليك. هذا واضح. الفعل منك وردُّ فعلي عليك متماثلان.

س (إيطاليا): بعبارة طبية، ما هو العلاج الذي يجعلني لا أردُّ الفعل؟

ك: العلاج هو ذكائي الذي يقول: "لا تكن سخيفًا!" ليس هناك علاج، إنه يقول فقط: "انظر كيف تستمر الحروب." أنا بريطاني وأنت فوكلاندي، أرجنتيني؛ أنت تريد تلك الجزيرة وأنا أريد تلك الجزيرة، فنتصارع عليها[3]. ترانا لا نجلس ونقول: "انظر، كرمى لله، لنكن عاقلَين، لنتكلم في الأمر. إذا كنت تريدها، خذها، فأنت أقرب إليها بكثير مني." تستطيعان أن تناقشا الأمر، لكنكما إذا هرعتما إلى الأسلحة فات الأوان.

هل سمعتم بتلك القصة الظريفة؟ أرجو ألا تمانعوا أن أكررها. تعرفون الكاتب الأرجنتيني، ڤارغاس[4]. لقد قال إن حكاية الفوكلاند عبارة عن رجلين هرمَين أصلعين يقتتلان على مشط!

فلنواصل… إن حجتي، سيدي، كما ترى، هو أن الفعل وردَّ الفعل متماثلان؛ ومفادها: تصفعني، فأردَّ بالتالي الصفعة، وكلا الفعلين مثيل الآخر. فعلك هو صفعي، فأردُّ فعلك بصفعك؛ وإذن، ففعلك وردِّي عليه متماثلان: فعلك قائم على ردِّ الفعل، وكذلك فعلي. فماذا يحدث إذا لم أرد الفعل؟ تصفعني فلا أردُّ الفعل عندئذ – ليس لأنني فاضل، أمارس اللاعنف، تلك المهزلة كلها. لا أردُّ وحسب. أرى عبثية ردِّ الفعل.

أنا ألفت النظر إلى شيء شديد البساطة: فعلك كان قائمًا على ردِّ الفعل، وفعلي كذلك قائم على ردِّ الفعل. وإذن، لا فارق ثمة، ثمة ردُّ الفعل فقط. إذا كنت في پولونيا وكان أناس بغيضون يتسلطون علي، مانعين الحرية، أردُّ الفعل. بطبيعة الحال، يجب أن أرد الفعل. لا أستطيع أن أقول: "طيب، لن أرد!" عليك أن ترد الفعل.

س: لكن ذاك عنف!

ك: سيدي، كما هي حال الأمور، حيث تحاول روسيا أن تسيطر على پولونيا، تقول پولونيا: "إليكم عني إلى الجحيم!" كما هي حال الأمور، عليهم أن يقولوا: "إليكم عنا إلى الجحيم". لكنني إنسان. نحن نتكلم على بشر، لا على پولونيا أو روسيا!

الآن، دعونا ننظر في الأمر. الفعل وردُّ الفعل من طبيعة واحدة. ذاك اكتشاف هائل بنظري. إذن، أرى العبثية، وبذلك ينعدم الفعل/رد فعل. مخي أشرط على ردِّ الفعل – فعل/رد فعل، فعل/رد فعل –؛ فهل يمكن لذاك أن يتوقف؟ تمتدحني، فأشعر بأني عملاق؛ تسبُّني، فأقول: "ما أبشع ذلك!" عدم ردِّ الفعل إطلاقًا. لست مشلولاً، لست في حال غيبوبة أو شيء من هذا القبيل، أنا حي، لكني لن أردَّ الفعل. ينعدم ردُّ الفعل. وإذا انعدم ردُّ الفعل، ألا تكون قد غيرتَ بنية خلايا المخ؟ الأمر بهذه البساطة.

س: لم أعد محدودًا.

ك: لا، لا تختزل الأمر إلى ذلك. نحن نتكلم على طفرة في خلايا المخ. وخلايا المخ قد أشرطت على الفعل/رد الفعل، فعل/رد فعل. تقول إني متوحش، فأنعتك بأسوأ؛ أو تنعتني بالتوحش، فأقول إني يجب ألا أكون متوحشًا. إنه الشيء نفسه. وإذن، فخلايا المخ قد أشرطت على الفعل وردِّ الفعل. وخلايا المخ ترى أن كليهما قائم على ردِّ الفعل. لحظة تعي ذلك، تكون خلايا المخ قد تحركت في اتجاه مختلف كل الاختلاف.

إن واحدة من صعوباتنا هي أننا نملك ذهنًا شديد التعقيد، مخًّا شديد التعقيد، فلا نبدأ بأشياء بسيطة. كن بسيطًا. إذا كنتُ طماعًا، فأنا طماع! أقول ذلك، فأكون بسيطًا للغاية. لا أقول إنني يجب ألا أكون طماعًا، أو إنني هذا أو ذاك. أنطلق من الـما هو – وهو انطلاق من البساطة. وفيما أنت تتقدم، يصير الأمر أعقد فأعقد. والتعقيد لا ينحل إلا عبر البساطة.

زانن، 23 تموز 1983 (2)


* From the transcript of the tape recording of the International Committee Meeting at Saanen, 23 July, 1983 ©2000 Krishnamurti Foundation Trust, Ltd., pp. 14-21.

[1] نسبة إلى "العلم المسيحي" Christian Science: مذهب ديني أسَّسته ماري بيكر إدي في العام 1866 ووضعت قواعده في كتابها العلم والصحة مع مفتاح الكتاب المقدس (1875)؛ ومفادها أن الإنسان والكون ككل من طبيعة روحية وأن الحق والخير حقيقيان، بينما الشر والباطل ليسا حقيقيين. ويعتقد "العلماء المسيحيون" أن كل شيء ممكن في سبيل الخير، عبر الله، بالصلاة والعلم والفهم، بما ذلك الشفاء من الأمراض المستعصية. (المحرِّر)

[2] كان من عادة كريشنامورتي أن يشير إلى نفسه بحرف "ك" تجنبًا لاستعمال ضمير المتكلم. (المحرِّر)

[3] إشارة إلى الحرب التي نشبت في العام 1982 بين إنكلترا والأرجنتين على جزر الفوكلاند (المالڤينا) في عهد رئيسة الوزراء البريطانية مارغريت تاتشر. (المحرِّر)

[4] لعله الكاتب الپيروڤي ماريو ڤارغاس يوسا. (المحرِّر)

معاني التاريخ عند أصحاب الكيمياء المسلمين – پيار لوري

تاريخ المعرفة ومعرفة التاريخ

عند جابر بن حيان

lory

پيار لوري*

أورثتنا الكيمياء، ناطقةً باللسان العربي، أدبيات غزيرة، غنية، تتقاطع فيها حضارات عدة. وهي تنتسب صراحة إلى ماض إغريقي ويوناني-مصري، كما تكثر فيها المقبوسات عن أصحاب الكيمياء (= الحكماء) القدماء؛ لا بل إن حواشي كاملة من العقائد الفلسفية (= الكيميائية) باللسان العربي تحيل إلى أقداء من العصور القديمة، المبكرة والمتأخرة. ولقد نهض باحثون ألمعيون لاقتفاء أثر هذه المصادر وخصصوا لها أعمالاً باهرة، نخص بالذكر منها دراسات پاول كراوس. ومع ذلك، فإن العمل المتبقي لا يزال كثيرًا.

لكن السؤال المطروح هنا هو، بالحري، حول معرفة المغزى من هذه المقبوسات عن مصنفات قديمة، مغلوطة النسبة غالبًا: لماذا استشعر مؤلفون، لا مراء في إسلامهم ولا لبس فيه، حاجة الاقتباس عن فيثاغورث أو أفلاطون أو هرمس؟ ألأن الكيمياء انتقلت إليهم بواسطة الإغريق؟ أغلب الظن أنْ نعم؛ لكن هذا الإثبات نصف صحيح: فالغالبية العظمى من جملة المصنفات في الكيمياء الموضوعة بالعربية والمنسوبة إلى مؤلفين إغريق لا تقابل أي نصٍّ أصلي معروف؛ كما يبدو أن جزءًا لا يُستهان به من هذه الكتب المنحولة وُضعت بالعربية رأسًا في العهد الإسلامي – إلا إذا كنا بصدد كتب منقحة تنقيحًا جذريًّا. لقد كان بوسع واضعيها أن يستغنوا فعلاً عن كل ذكر للأصل المقتبَس عنه، كما هو شائع الحدوث في المناخ الثقافي للعصر الوسيط، حيث كان مفهوما الاقتباس والانتحال غير ساريين بتاتًا، فكان بوسعهم خصوصًا أن ينسبوا جميع مصنفاتهم في الفلسفة إلى الإمام علي، صهر النبي محمد، أو إلى جعفر الصادق، سادس أئمة الشيعة، أو إلى الأمير الأموي خالد بن يزيد، أو إلى غيرهم من المؤلفين المسلمين الذين عُزيت إليهم صنعةُ الكيمياء. بيد أننا نشهد ظاهرة غريبة: لقد نسب مؤلفون مسلمون، كتبوا في القرنين الثاني والثالث للهجرة أو حتى بعدهما، رسائلهم الفلسفية إلى هرمس[1] أو إلى أفلاطون إلخ. فإذا كانوا قد ابتنوا ماضيًا قديمًا، يونانيًّا على وجه التحديد، فلأن ذلك لا ينطوي على رؤية معينة للعلم وحسب، لكنْ على تصور لتسلسل التاريخ أيضًا.

جابر في مختبره بين آلاته ناظرًا إلى الأعلى كما تخيله نقاش أوروبي.

حول هذه النقطة بالذات أود أن أتفكر معكم اليوم. وسأستند للقيام بذلك إلى رسائل جابر، أي إلى جملة من المصنفات في الكيمياء تتضمن بضع مئات من الرسائل المنسوبة إلى امرئ يدعى جابر بن حيان، تلميذ الإمام الشيعي جعفر الصادق (ت 765). فالواقع هو أننا لا نعلم يقينًا إنْ كان جابر هو واضع هذه الرسائل الفلسفية كلها، ولا حتى إنْ كان الرجل قد وُجد أصلاً؛ إذ إن المصنفات الجابرية دُونت، في معظمها، بين النصف الثاني من القرن التاسع والنصف الأول من القرن العاشر[2]. غير أننا سنستمر في الكلام على "جابر" بصيغة المفرد تسهيلاً، ولأن هذا المذهب "الغيبي" تتخلله وحدة فكرية حقيقية.

المراجع القديمة للكيمياء العربية

كان الفلاسفة العرب يرجعون إلى عدد معين من الحكماء الأقدمين الذين عينوا لهم مواقع في الماضي قبل الإسلام. ولا حاجة إلى البحث عن اتساق منطقي أو تسلسل تأريخي في رؤيتهم لهذا الماضي؛ فالأسماء كثيرًا ما تورَد من غير أن يكون بالوسع تخمين القصد الدقيق من وراء ذلك تمامًا. لكن فكرة ثابتة تتخلل هذه الرؤية، ومفادها أن التعليم الفلسفي قد مرَّ بأطوار ومراحل. وإننا لنصادف ثلاثة تصورات لهذا التطور.

أحد هذه التصورات يعزو بداية تدبير صنعة الكيمياء إلى حكيم أول يدعى أريوس. وبذا فإن أريوس هو "أبو الكيمياء"؛ لكننا لا نعرف الشخص الذي يرتبط به هذا الاسم[3]. ويشير جابر أنه في الواقع ليس مخترع الكيمياء، بل "أستاذها" الأول فيمن وصله خبرُهم من الحكماء؛ وهذا بدوره نقل علمه، على حدِّ قول جابر، إلى عدد من التلاميذ. وقد وضع له تدابير مطولة، باستعمال العديد من الآلات، وافتتح بذلك شوطًا أولاً، مدبرًا الحجر بالتدبير الأول[4]. أما ألمع أخلافه فهما فيثاغورث[5] (الذي تُنسَب إليه خصوصًا مبادئ علم العدد) وبالأخص سقراط، حيث يسمي جابر هذا الأخير "أبو الفلاسفة وسيدها كلها"[6] ويعدُّه أعظم بني قومه. وقد جمع جابر عددًا من الأقوال المنسوبة إليه في مصححات سقراط، وهو ينسب إليه مذهبًا في التوليد أو التكوين بالصناعة[7]، كما يشير إلى وجود تعليم "سقراطي" في علم العدد.

وبعد سقراط، جاء عدد من الفلاسفة بسَّطوا تدبير الصنعة[8]؛ وهؤلاء يمثلون شوطًا ثانيًا: لقد كُسِرَ التدبيرُ الأول، واختُصرت مدتُه كثيرًا، وذلك من غير انتقاص للحاصل النهائي. والمؤلف الرئيس لذلك العهد (بعد أغاذيمون[9]) هو أفلاطون؛ وهذا أسرَّ إلى تلميذه طيماوس (كذا) بتعليم سرَّاني في مصححات أفلاطون. وقد فاق معلِّمه سقراط، مضيفًا إلى البُعد العملي للفلسفة صياغة نظرية عقلية. وهذه النقطة أساسية هنا، بما أنها تشدد على مفهوم التدرج أو التطور في السياق التاريخي لهذا العلم. وهذه النظرية "الأفلاطونية" تقوم على معرفة الأسطقسات (العناصر) الأربعة، وكذلك على فكرة أن الإنسان – العالم الصغير – يستطيع معرفة هذه العناصر وطبائعها ويسخِّرها بواسطة الكيمياء:

وجعل – تعالى – الإنسان وحده أميرًا على كل شيء دونه بما وهبه له – تعالى – من العقل النفيس والجوهر الرئيس. فمن ذلك أنه جعله مميزًا للعالم الأعلى – وهو الغاية التي ليس وراءها مطلب ولا لأحد عنها مرغب – وأقدره على تميُّز العالم الأوسط الذي هو عالم الكون والفساد، الذي هو من عند فلك القمر إلى مركز الأرض، من الطبائع الأربعة التي هي النار والهواء والأرض والماء. وجعل – تعالى – الإنسان بجسمه عالَمًا صغيرًا كائنًا من مزاج هذه الطبائع الأربعة، وجعله بعقله عالَمًا كبيرًا: إذ كان قد يدرك كنه الطبائع التي هو منها كائن، ويدرك علل العقل بما فيه منه؛ فصار لذلك قادرًا على فصل ما فيه من طبائعه وجواهره وأعراضه وأجناسه وأنواعه، وفرَّق ما بينهما من المخالفات ووصل <ما> بينهما من المماثلات، واستنبط ما فيهما من لطيف رموزها وباطن أسرارها وبديع آثارها – فكان الإنسان هو الحكيم بالحقيقة والوالي بتدبير الخليقة.[10]

والعمليات التي يذكرها أفلاطون والآلات التي يصفها تنحو أساسًا نحو محاكاة الطبيعة. كما أن أنباذقليس (أمپذوقليس) وغيره من الفلاسفة القدماء كثيرًا ما يرد ذكرُهم في المقاطع من مصنفات جابر التي يسرد فيها أقوال غيره من الحكماء وآراءهم.

يتسم الشوط الثالث من هذا التطور بظهور علم الموازين. ولا يورد جابر اسم المصنِّف الذي بدأ معه هذا العلم؛ فقد يكون بَليناس[11] أو حتى جابر بالذات هو المقصود. وهذه "الموازين" عبارة عن جملة من العلاقات الرياضية تتيح حساب نسب الأسطقسات في مختلف تحولات الطبيعة؛ وهذا يتيح فهم تطورات المعادن وغيرها من الجواهر والتسلط على مجاريها باختصار أقصى ما يمكن من الوقت والجهد[12]. وبذا فإن تعليم الفلسفة لم يعدَّل، لكن بيانه توضَّح وتنفيذه تيسَّر ومنفعته عمَّت.

لكننا نجد، في أماكن أخرى، أنسابًا أكثر أسطورية: كأنْ يُنسب فنُّ الكيمياء إلى هرمس. والعديد من المؤلفين المسلمين يميزون في الواقع بين ثلاثة هرامسة (ومنه اسم "المثلث بالحكمة" Trismégistos). ويبدو أن أول هؤلاء الهرامسة عاش قبل الطوفان وأنه يتطابق مع شخصية أخنوخ التوراتية، وهو الذي علَّم البشر علوم الكتابة والمعمار والفلك والرياضيات (= علوم العالم الكبير)؛ وثاني الهرامسة جاء بعد الطوفان، وعلَّمهم الطب وصناعة الأدوية (= معرفة العالم الصغير)؛ وثالثهم استعاد العلوم السابقة وأضاف إليها ولقَّن البشر أصول علوم الغيب والكيمياء (التوافقات؛ العالم الأوسط)[13]. ولنتذكر بأن بَليناس الطُواني قد وضع، في أعقاب لقاء مع هرمس، كتابه سر الخليقة، الذي يحوي أول نص معروف لكتاب اللوح الزمردي الذي ذكره جابر أيضًا:

وقد أتى بذلك بليناس الحكيم، حيث ذكر نقش اللوح الذي في يد هرمس؛ وهو قال حقًّا يقينًا لا شك فيه: "إذا كان الأعلى من الأسفل والأسفل من الأعلى، عمل العجائب من واحد، كما كانت الأشياء كلها من واحد. وأبوه الشمس وأمه القمر، حملته الأرض في بطنها وغذته الريح في بطنها نارًا صارت أرضًا. أغذوا الأرض من اللطيف بقوة القوى، يصعد من الأرض إلى السماء، فيكون مسلطًا على الأعلى والأسفل."[14]

وهذه النسبة إلى هرمس تجيز إقامة جسر بين المنقول الإغريقي-الإسكندري والقصة المقدسة القرآنية-التوراتية. وبالفعل، يقال إن هرمس (الأول أو الثالث أو من دون تحديد) هو إدريس، الصدِّيق النبي المجهول الذي يذكره القرآن تلميحًا (سورة مريم 56-57؛ سورة الأنبياء 85) وتشي السير النبوية بأنه قد رُفع إلى السماوات حيًّا. وبذلك فإن الكيمياء تندرج في التاريخ القدسي الإسلامي؛ وهذا ما يجيز ظهور رؤية ثالثة إلى تاريخ الكيمياء تعزو تعاليم فلسفية إلى الأنبياء الكبار المذكورين في التوراة والقرآن:

وأما طائفة قد ذكرت أن هذا الأمر [علم الحجر] لم يزل يرد على الأنبياء – عليهم السلام – تفضلاً من الله – تعالى – لئلا يكون بهم حاجة إلى ما في أيدي الناس بوحي يوحي به الله – تعالى – إليهم. ونفد ما كان من ولد آدم وخلافهم وتفرُّقهم في البلاد وانقطع، فلم يظهر إلى أن ظهر موسى بن عمران – عليه السلام – وأنه كان يعمله [الحجر] من ثمانية أدوية وأن قارون سرقه منه، على ما قصصنا خبره في أثناء كتبنا هذه وفصولها […].[15]

وفي كتاب أسطقس الأس الثاني تشديد على أن الأنبياء حتى يتلقون علم الكيمياء وحيًا:

قال قوم: ليس يحتاج العلم إلى تدبير، وإن الإكسير في العالم موجود في حكمة ما خلقه الله – عز وجل –، وإن موسى وسائر مَن أومأنا إليه من الأنبياء والأئمة الصالحين ما عملوا قط شيئًا، وإنما أوحى الله – تبارك وتعالى – إليهم بعلم ذلك الحجر فقط، فعملوا منه ما يقال إنه يُعمل بالتدابير.[16]

وهناك أقوال فلسفية منسوبة إلى إبراهيم، من نحو: "إن العمل في البيضة وليست ببيضة"[17]؛ كما لعب موسى دورًا، كما يشير إلى ذلك اثنان من المقبوسات السابقة. وعيسى المسيح، "روح الله وكلمته"، مذكور هو الآخر، بوصفه القائل على سبيل المثال: "إن الأب هو روح القدس، ومنه الابن"، وكذلك: "مَن لم يكن له سيف فليشتر سيفًا"[18]. ويؤكد جابر أنه وضع تفسيرًا (كيميائيًّا) للتوراة والإنجيل والزبور والمزامير بعد قراءتها بمعونة معين[19]. مذكورون أيضًا مؤلفون أحدث، مثل زوسيموس الرومي[20] أو حتى مارية القبطية[21].

نحن، إذن، بصدد ثلاث رؤى لتاريخ الكيمياء، ذات ثلاثة أنساب مختلفة، متباينة. ولا تهم التناقضات هنا، لأن نصوصنا العربية لا تشكل كلاً متجانسًا، وإنْ كانت تشترك جميعًا في فكرة انتقال علم إلهي. إلى ذلك، فإن جابرًا يربط صراحة بين النسبَين الفلسفي والنبوي:

وإنما ذكرنا أمر الشرع في حواشي كتبنا لأن الشرع الأول إنما هو للفلاسفة فقط؛ إذ كان أكثر الفلاسفة أنبياء، كنوح وإدريس وفوثاغورس وثاليس القديم، وعلى مثل ذلك إلى الإسكندر.[22]

وهذا العلم، كما يشدد جابر، لم ينقطع منذ العصور القديمة عبر فضائل العقل[23]. ثمة إذن تطابُق بين النسبَين الفلسفي والنبوي: يتكلم جابر على سقراط بوصفه "سيد" الفلاسفة، مثلما كان جعفر "سيده" هو. فما معنى هذا كله؟ معناه أنه يوجد منذ الأصول نقل باطني للعلم؛ والمقصود عمقيًّا توضيع تصورات إسلامية على المنقول الفلسفي: النقل عبر الأئمة (الوصايا) عند الشيعة، وعبر مُسارَرة الشيخ للمريد (البيعة) التي نقع عليها لدى الصوفية. لكنْ لا بدَّ هنا من التذكير بفارق: العلم الفلسفي يتطور من حيث الإتقان منذ الأصول، أو بالأدق، يمر من حال مختصرة للغاية وباطنية إلى جهر به أكثر فأكثر انفتاحًا.

الآفاق الأخروية للكيمياء

يجيز لنا النظر في الآفاق الأخروية للكيمياء العربية، فيما أظن، أن نحيط إحاطة أفضل بعلة استحضار جميع هؤلاء المؤلفين القدماء. وهذه الآفاق ولدت بالدرجة الأولى في التيار الشيعي، على ما يبدو؛ وفيه أيضًا ظهرت للملأ على أكثر ما يكون من الوضوح. والمرجعية الرئيسة هنا لا تزال هي المصنفات المنسوبة إلى جابر بن حيان، بالإضافة إلى أعمال أخرى، كمصنفات عز الدين الجلدكي (القرن الرابع عشر). وهؤلاء المصنفون يندرجون، بخصوص الفترة التي يعاصرونها، في منظور إسلامي قطعًا:

وقالت طائفة إن العلم الذي نحن في ذكره إنما يكون للنبي فقط، وهو الأسطقس، وإن النبي يعلِّمه للوصي[24]، وهو الأس نفسه. وتنازع الناس في ذلك منازعات كثيرة لا يمكن إيراد جميعها <…> لأن كتبنا تضيق عنها، إما لطولها وإما لكثرة ما خلط الناس بها المحالات.[25]

والواقع أن غلو جابر في تشيُّعه يجعله يضع الإمام في مقام أعلى من مقام النبي، من حيث إن علم الباطن أسمى من عقائد أهل الظاهر وأحكامهم التي هي بمثابة أساسه الشرعي. وهذا العلم الفلسفي، حسب جابر، هو وقف على كبار الأئمة:

فإن كنت إنسانًا فستعلم ما فائدة ذلك، وتحرص على جمع كتبنا هذه، وتأخذ منها علم النبي وعلي وسيدي [جعفر] وما بينهم من الأولاد، منقولاً نقلاً مما كان وهو كائن وما يكون من بعدُ إلى أن تقوم الساعة.[26]

فبالفعل، لا تصادَف تعاليم في الكيمياء صريحة منسوبة إلى النبي محمد نفسه؛ وهذا لا ينطبق على الإمام علي الذي كان، حسب الشيعة، وارثه، خليفته الوصي على التعليم الباطني بالأخص:

قالت طائفة إن نبينا محمد بن عبد الله – عليه الصلاة والسلام – قد ذكر ذلك وأبان عن صحته؛ وكذلك علي بن أبي طالب – عليه السلام – بما ذكرناه في كتابنا في الإمامة، الذي هو سبع عشرة مقالة، حيث سئل وهو يخطب خطبة البيان وقد قيل له: "هل الكيمياء لها كون؟" قال: "إن لها كونًا، وقد كان وهو كائن وسيكون." فقيل له: "وما هو، يا أمير المؤمنين؟" فقال: "إن في الزئبق الرجراج والأسرب [= الرصاص] والزاج والحديد المزعفر وزنجار النحاس الأخضر لَكنوز الأرض، لا يوقَف على غابرهن." فقيل له: "يا أمير المؤمنين، لم نفهم!" فقال: "اجعل بعضه أرضًا وبعضه ماءً، فافلح الأرض بالماء، وقد تم العمل." فقيل له: "يا أمير المؤمنين، لم نفهم!" فقال: "لا زيادة على هذا، وإن الفلاسفة القدماء ما زادت لئلا يتلاعب به الناس."[27]

إن خطبة البيان[28] هذه، ذات المرمى الباطني والمنسوبة إلى الإمام علي، تتضمن مقطعًا كيميائيًّا استعاده الجلدكي وشرحه[29]. كذلك فإن جعفر الصادق، سادس الأئمة، يُنسب إليه تعليم فلسفي لا يُستهان به، كما تُنسب إليه نصوص من الواضح أنها منحولة. لكن المهم في الأمر أن جابرًا يرى فيه مسلِّكه في علم صناعته بامتياز: فقد كان ملهمها، الآمر بتأليفها ومرتِّبها، ولعله، إذا جاز القول، أملى عليه مقاطع كاملة منها[30]؛ فهو، إذ "كرَّمه [الله] بالإمامة ومنزلة النبوة والعلم بالغيوب"[31]، كان علمه "محيطًا بكل شيء"[32] ويتخطى بذلك مجرد المنقول عن أسلافه.

الكيمياء هنا مثال بليغ على العلم السرَّاني الذي يسوقه الأئمة إلى صفوة من الرجال فحسب. والباحث قد يكون مقربًا من الإمام، وقد يكون أيضًا متوحدًا. وإن شخصية اليتيم هذه هي المذكورة في رسالة صغيرة مدهشة عنوانها كتاب الماجد[33]. والعمل الكيميائي يقع عند نقطة الاتصال بين الكدح الفردي وبين التلقي الذي لا غنى عنه لتعليم سرَّاني يتم بالصحبة والمجاورة. إذ إن التلميذ يصير واحدًا مع معلمه، كما تشي بذلك مقاطع عديدة[34]؛ فالغاية، بالفعل، هي بلوغ تعليم الإمام. ولكن، ما المقصود بذلك في العمق؟ وكيف يمكن للعمل الكيميائي أن يلتحق بالتحقق الروحي حسب التشيع؟ الإمام هو الإنسان الكامل؛ واكتساب علم الإمام ليس استيعاب علم بعينه وحسب، بل هو فهم سر الفطرة الإنسانية أيضًا؛ وسر الفطرة الإنسانية هو سر الكون. وإننا لنجد في اللب من الفلسفة (= الكيمياء) الإسلامية فكرة الإنسان بوصفه عالَمًا صغيرًا، انعكاسًا، مختصَرًا للعالم الكبير وحافزًا له؛ ونجد، كذلك، فكرة صنعة الكيمياء بوصفها العالم الأوسط. وهناك مقاطع عدة من المصنفات الجابرية تشي بأن اكتشاف سر الحجر، "إكسير الأكاسير كلها وخميرة الخمائر"، إنما هو رؤية الإمام بالذات عيانًا[35].

غلاف كتاب پيار لوري "الكيمياء والعرفان في أرض الإسلام" مترجمًا إلى الفارسية.

إن تسلسل التاريخ القدسي يوافق تطور هذه المعرفة. لقد كان الفلاسفة في العصور القديمة قد علَّموا هذا السر بطريقتهم؛ لكن العهد الإسلامي هو آخر عهود التاريخ البشري وتمامها، وسيكون العهد الذي تؤول فيه جميع الأسرار إلى الانكشاف – وهذا الكشف هو سمة هذا التمام نفسها؛ وبهذا المعنى، فإن الفلسفة عامل فعال من عوامل تاريخ الإنسانية. فمن هذا المنظور يجب فهم هذه الرؤيا التكليفية التي رواها جابر في مصنفه كتاب الرحمة الصغير:

ثم إني نمت ليلتي تلك، فرأيت في نومي كأني قائم وسط بساتين ورياض وأزهار وأنهار، وأنا أمد يدي إلى تلك الفواكه وأقطف منها وأطعم جماعة حولي؛ وعن يميني نهر من عسل ممزوج بلبن، وعن يساري نهر من خمر، وقائل ينادي في سري: "يا جابر، نادِ أصحابك إلى هذا النهر الذي عن يمينك ليشربوا منه، وامنعْهم من هذا الذي عن يسارك وحرِّمْ عليهم شربَه." فقلت له: "مَن المخاطِب لي؟" فقال: "نور قلبك الصافي المضيء." فانتبهت لوقتي وفكري يجول في وضع الكتاب. فلما أصبحت، مضيت إلى سيدي [جعفر] وأنا مسرور بالمنام، وأعلمته بذلك. فقال: "احمد الله واشكرْه الذي نوَّر قلبك وندبك إلى الخير. اخرجْ من عندي في ساعتك هذه، واقصدْ ما نُدبت إليه، واستعنْ بالله في ذلك."[36]

ولنذكِّر أيضًا بأن المصنفات الجابرية يتخللها مذهب في التناسخ[37]: فمن دور إلى آخر، يترقى العارفون إلى منازل أعلى فأعلى في العرفان. إذ إن هناك مراتب باطنية من النفوس السماوية، مؤلفة من خمس وخمسين من "الأشخاص" أو "الأعلام" الذين تجتمع فيهم علوم الذات الواحدة، التي هي ذات الإمام[38]. والعارف مدعو إلى الارتقاء من منزلة إلى المنزلة التي فوقها، فيما هو يحتفظ بصورة إنسانية أرضية، حتى يبلغ مقام الإمام. فما هو الثقل، "الكدر" الذي يحط من صورة الإنسان الأولى التي رسبت في "المزاج"، وما هي "الرحمة" التي ترتفع به؟ الكدر هو الجهل (بفطرته الحق)، والرحمة هي العرفان. والحكمة عرفان منجٍّ، يخلِّص العارف من كدره ويصفو به؛ وهي، بهذا المعنى، "أخت النبوة"، على ما جاء في خطبة البيان. العارف يصير ما يعرف؛ والحكمة تعينه على معرفة سر الإمام، سر الفطرة الإنسانية. وهذا يجب الربط بينه وبين التأكيد المركزي للتشيع الجابري: الإمام هو المخلص؛ فمَن عرف الإمام حق معرفته لم يعد محتاجًا إلى تكرير وكف عن التناسخ[39]. وحين تبلغ جميع النفوس المصطفاة غايتها وتقترب من مرتبة الإمام القائم يكتمل التاريخ وتقوم الساعة[40].

فكيف نضع ذلك في سياق تاريخ الأحداث؟ لا ننسَ أن تأريخ المصنفات الجابرية إجمالاً سابق لتاريخ وضعها الحقيقي؛ فأغلب الظن أنها دُوِّنت في معظمها في القرنين التاسع والعاشر. ففي ذلك العصر، تكاثرت التيارات الشيعية الألفية[41] التي لم يكن الإسماعيليون القرامطة والفاطميون إلا أشهرها من جراء نجاحهم السياسي والعسكري وتأسيسهم لدول قوية مرهوبة الجانب. وكان انتظار ظهور الإمام شديدًا، بحيث كان على القادة الشيعة أن يجدوا مسوغات لتعليل تأخُّره: من ذلك التعديلات الحاصلة على الإمامية عند الإسماعيليين الفاطميين، ومنه إعلان الغيبة الكبرى عند الشيعة الاثني عشرية. وبوسعنا أن نعتبر أن تدوين المصنفات الجابرية يوافق بحدِّ ذاته محاولة لتبرير هذا التأخير: سيحين قيام الساعة عندما يُكشَف عن غوامض أسرار العلوم الفلسفية وتذاع إلى أهلها – وبوجيز القول، حين يُعرَف عمل جابر ويُعترَف به[42].

هذه اللحظة الرؤيوية النشورية هي المذكورة في رسالة موجزة بعنوان كتاب البيان[43]: ففيه يبين جابر التماثل بين دور اللغة (البيان) – حيث الصورة البيانية تنقل من القول إلى المعنى، من المحسوس إلى المعقول – وبين دور الظواهر الأرضية التي تدرسها الفلسفة (= الكيمياء) والتي تكشف عن معنى التاريخ بالذات. فما هو معنى التاريخ؟ إنه اكتمال الحضور المحوِّل لشخص الإمام عند الكل، هذا الإمام الذي ليس غير حجر الفلاسفة. وتُختتم الرسالة بالنبوءة التالية:

وهذا الشخص، يا أخي، لن يظهر إلا في القرانات المقتضية للانتقالات. إذا هُجرت العلوم وفسدت الأديان وعمَّ الفساد، فإنه يظهر إصلاح بأسره، فيكون أول إصلاح يبدو منه فيه تصنيف الكتب في العلوم الباطنة المهجورة وإيضاح براهينها. ثم يقوم بعد ذلك بالسيف، فيصلح به مَن لا يصلح بالعلوم من النفوس المحتاجة إلى التكرير في غير أشخاص العظَمة، لأن هذه النفوس تجري مجرى الجرب المعدي لفساده ومجرى الخبيثة في الأعضاء وأشباه ذلك. ولهذا الشخص الكريم أعِدَّت الدفائنُ والكنوزُ القديمة، ويظهر فيما يلينا في قران القوس – فاعلم ذلك.[44]

اختصارًا لكل ما سبق، إلامَ يتقاطر دفق التاريخ الإنساني؟ المصنفات الجابرية، على ما نرى، لا تعلن وقوع مبشرات أخروية من نمط سياسي بحت. هناك إيضاح لذلك وارد في مقطع من كتاب إخراج ما في القوة إلى الفعل:

وإذ قد أتينا على ذلك فلنقل: اعتقاد الصنعويين في الصنعة أنهم يعتقدون أن العالم إنسان كبير، والصنعة إنسان أوسط، والإنسان [الأرضي] إنسان صغير […] وأنه إنما صار إنسانًا كبيرًا باقيًا لهذه العلة، يُحسن معرفتَه بالسياسة ويُظهر التدبيرَ في البقاء؛ فكان إنسانًا كبيرًا لا نهاية له، كما ترى الأشياء تنشأ ضعيفة أولاً، ثم تقوى مرتبةً مرتبةً على ذلك، إلى أن تنتهي إلى آخرها حتى تكون لها غاية.[45]

التاريخ، حسب الفلسفة (= الكيمياء) العربية، ليس إذن إلا ذاك: إنه الزمان الضروري للبشر قاطبة حتى يتمكنوا، تدريجيًّا، من الصيرورة إنسانًا كاملاً. وبهذا المعنى، حين يلتقي اليتيم الإمامَ ويتماثل معه فهو يحقق معنى التاريخ. فكما كتب هنري كوربان:

إن معنى صنعة الكيمياء بالذات هو استيلاد الجسد الممجد Corpus Glorificationis، هذا الكائن الجديد الذي تشير إليه مئات الأسماء والصور المختلفة. وهذا العمل لا ينفصل عن المواد المحسوسة التي يعالجها […]؛ فالكيمياء شكل من أشكال الكدح يلقي بقصده في الأجسام الطبيعية، وذلك لاستبطانه عندئذ وإذابة جسد القيامة الصوفي، الخالي من كل خَبَث، وقولبته في الآن نفسه في باطن المريد.[46]

المترجم عن الفرنسية: ديمتري أڤييرينوس

المراجع العربية

جابر بن حيان، تدبير الإكسير الأعظم: 14 رسالة في صنعة الكيمياء، بتحقيق وتقديم پيير لوري، طب 2 (مع مقدمة خاصة)، دار ومكتبة بيبليون، جبيل، 2009.

جابر بن حيان، مجموعة مصنفات في الخيمياء والإكسير الأعظم (رسائل مهمة في العلوم الكيمياوية والصنعية لجابر بن حيان وغيره من الحكماء والفلاسفة، بإشراف م. برطلو وتحقيق أ. هوداس، صورة عن طبعة 1893 + مصنفات في علم الكيمياء للحكيم جابر بن حيان الصوفي، بتحقيق إ.ي. هولميارد، صورة عن طبعة 1928)، بدراسة وتقديم پيير لوري، طب 2، دار ومكتبة بيبليون، جبيل، 2008.

جابر بن حيان، مجموعة من رسائل جابر بن حيان (مختار رسائل جابر بن حيان، باختيار وتحقيق پول كراوس، صورة عن طبعة 1935)، بتقديم عبد الرحمن بدوي، طب 2، دار بيبليون، باريس، 2009.

المراجع الأجنبية

– CORBIN, Henry (1986), L’alchimie comme art hiératique, Paris, L’Herne.

– KRAUS, Paul (1942), Jābir ibn Hayyān – Contribution à l’histoire des idées scientifiques dans l’Islam – Jābir et la science grecque, Le Caire, IFAO ; rééd. Paris, Les Belles Lettres, 1986.

– KRAUS, Paul (1943), Le Corpus des écrits jābiriens, Le Caire, IFAO.

– LORY, Pierre (1989), Alchimie et mystique en terre d’Islam, Lagrasse, Verdier.

– LORY, Pierre (2000), « Eschatologie alchimique chez Jābir ibn Hayyān », dans Mahdisme et millénarisme en Islam, REMMM, Aix-en-Provence.

– PLESSNER, Martin (1990), article « Hirmis » dans l’Encyclopédie de l’Islam, t. III, Leiden, E.J. Brill.

– VERENO, Ingolf (1992), Studien zum ältesten alchemistischen SchrifttumAuf der Grundlage zweier erstmals edierter arabischer Hermetica, Berlin, Klaus Schwarz Verlag.


* دكتور في الدراسات العربية والإسلامية، اختصاصي في التصوف. مدير دراسات في "المدرسة التطبيقية للدراسات العليا"، القسم الخامس (علوم الدين). نشر مؤلفات ومقالات عديدة في التفسير الصوفي للقرآن ولصنعة الكيمياء ولعلم الحروف وفي تعبير الرؤيا في التراث الإسلامي. يشغل حاليًّا منصب المدير العلمي للمعهد الفرنسي للشرق الأدنى (دمشق).

[1] راجع: إ. ڤيرينو، دراسات لأقدم النصوص الكيميائية على أساس رسائل هرمسية عربية محققة للمرة الأولى (بالعربية والألمانية)، برلين، 1992.

[2] راجع: پ. كراوس، ترتيب مصنفات جابر، القاهرة، 1943، ص 57-65 من المقدمة الفرنسية.

[3] هل هو الإله آرس/مارس، "سيد المعادن"؟ راجع: پ. كراوس، جابر بن حيان، مساهمة في تاريخ الأفكار العلمية في الإسلام: جابر والعلم اليوناني (بالفرنسية)، القاهرة، 1942، ص 54-55؛ كتاب السبعين، في مجموعة من رسائل جابر بن حيان، ص 257.

[4] راجع: كراوس، جابر والعلم اليوناني، ص 56-57؛ كتاب السبعين، المصدر نفسه، ص 257.

[5] فوثاغورس أو فيثاغورس، كما يرد اسمه في رسائل جابر. (المحرِّر)

[6] كتاب التجميع، في مجموعة من رسائل…، ص 538.

[7] "التكوين"، كما يسميه جابر، علم يجيز بالصناعة محاكاة "موازين" الطبيعة في تكوينها الكائنات، ولاسيما من النبات أو الحيوان. (المحرِّر)

[8] راجع: كراوس، المصدر السابق نفسه، ص 56؛ كتاب السبعين، المصدر السابق نفسه، ص 257-258.

[9] هو أغاثوذَيمون (ت حوالى 300 م): فيلسوف يوناني عاش في مصر الرومانية المتأخرة؛ يستند أكثر ما وصلنا عنه من معلومات إلى مقاطع من رسائل في الكيمياء من العصر الوسيط، أهمها كتاب أنپيغرافوس Anepigraphos الذي يذكر مصنفات تُنسب إليه وتعود إلى القرن الثالث. معروف أساسًا بوصفه للعناصر والمعادن، وبالأخص وصفه للتحصُّل على الفضة وعلى مركَّب أطلق عليه اسم "السم الناري"، لعله ثالث أكسيد الزرنيخ. (المحرِّر)

[10] كتاب أسطقس الأس الأول، في مجموعة مصنفات في الخيمياء والإكسير الأعظم، ص 350-351.

[11] هو أپولونيوس التياني (ت حوالى 97 م)، المعروف ببَليناس (أو بَلَنْياس) الطُواني في التراث الفلسفي العربي: فيلسوف يوناني على المذهب الفيثاغورثي المُحدَث. (المحرِّر)

[12] راجع مثلاً: كتاب الموازين الصغير، في مجموعة مصنفات…، ص 187-213؛ نخب من كتاب الميزان الصغير، في مجموعة من رسائل…، ص 167-201.

[13] راجع: م. پلسنر، مادة "هرمس" في الموسوعة الإسلامية.

[14] كتاب أسطقس الأس الثاني، في مجموعة مصنفات…، ص 378.

[15] كتاب أسطقس الأس الثاني، المصدر نفسه، ص 374.

[16] المصدر نفسه، ص 379؛ راجع أيضًا ص 376-377.

[17] المصدر نفسه، ص 378.

[18] كتاب الحجر، في مجموعة مصنفات…، ص 308؛ كتاب أسطقس الأس الثاني، المصدر نفسه، ص 378. [قارن أيضًا: إنجيل يوحنا 14: 26؛ إنجيل لوقا 22: 36. (المحرِّر)]

[19] كتاب الموازين الصغير، المصدر السابق نفسه، ص 197-198.

[20] هو زوسيموس الپانوپولسي (ت حوالى 250 م): فيلسوف يوناني مصري المولد، ذهب إلى أن جميع الجواهر مؤلفة من عناصر الطبيعة الأربعة: النار والماء والهواء والتراب. جمع علوم الـخيميا khêmia، كما كانت تُسمى في عصره، في موسوعة من 28 مجلدًا، ويعود إليه الفضلُ في معرفتنا بالكيمياء المصرية-اليونانية. لكن معظم هذه المعرفة دمِّر على أيدي الإمبراطور ديوقلتيانُس والمسيحيين الذين أحرقوا مكتبة الإسكندرية في العام 391. (المحرِّر)

[21] راجع مثلاً: كتاب الحبيب، في مجموعة مصنفات…، ص 140؛ كتاب الحجر، المصدر السابق نفسه، ص 306؛ كتاب أسطقس الأس الثاني، المصدر السابق نفسه، ص 379. ولنتذكر بخصوص مارية، التي كثيرًا ما تنطق عن المبدأ المؤنث، أنها سَمية سرية النبي محمد التي وحدها ولدت له ابنًا ذكرًا: إبراهيم.

[22] كتاب البحث، في مجموعة من رسائل…، ص 210-211.

[23] راجع: كتاب الموازين الصغير، المصدر السابق نفسه، ص 188.

[24] هو الإمام، المكلف تعليم الباطن بعد النبي.

[25] كتاب أسطقس الأس الثاني، المصدر السابق نفسه، ص 370.

[26] كتاب الخواص الكبير، في مجموعة من رسائل…، ص 361.

[27] كتاب أسطقس الأس الثاني، المصدر السابق نفسه، ص 377-378؛ راجع أيضًا: كتاب الحجر، المصدر السابق نفسه، ص 310.

[28] راجع نصها، مثلاً، في: الإنسان الكامل في الإسلام، دراسات ونصوص غير منشورة ألف بينها وترجمها وحققها عبد الرحمن بدوي، طب 2: الكويت، 1976، ص 139-143. (المحرِّر)

[29] راجع: هـ. كوربان، الكيمياء علمًا قدسيًّا، باريس، 1986، الجزء الأول.

[30] راجع: كتاب الماجد، في مجموعة من رسائل…، ص 20؛ كتاب الراهب، في مجموعة من رسائل…، ص 49.

[31] كتاب المنفعة، في تدبير الإكسير الأعظم، ص 177.

[32] كتاب الراهب، المصدر السابق نفسه، ص 50.

[33] راجعه في: مجموعة من رسائل…، ص 20-30؛ راجع أيضًا: كوربان، المصدر السابق نفسه، ج 3؛ پ. لوري، الكيمياء والتصوف في أرض الإسلام (بالفرنسية)، لاگراس، 1989، ص 82 وما بعدها.

[34] راجع: لوري، المصدر نفسه، ص 78-82.

[35] راجع: كتاب الملك، في مجموعة مصنفات…، ص 174، 176-177؛ لوري، المصدر نفسه، ص 60 وما بعدها.

[36] كتاب الرحمة الصغير، في مجموعة مصنفات…، ص 438-439.

[37] راجع: لوري، المصدر السابق نفسه، ص 63 وما بعدها.

[38] راجع: كتاب الخمسين، في مجموعة من رسائل…، ص 229-230.

[39] راجع: كتاب البيان، في مجموعة مصنفات…، ص 299.

[40] راجع: كتاب الاشتمال، في مجموعة من رسائل…، ص 479.

[41] من المذهب الألفي: جملة المعتقدات بحلول ملكوت أرضي أخروي يحكمه مخلِّص مع أصفيائه، فـ"يملأ الأرض عدلاً بعد أن مُلئت جورًا"، ويُعتقد بأنه سوف يدوم ألف عام. (المحرِّر)

[42] راجع: لوري، المصدر السابق نفسه، ص 105، 109؛ كتاب الموازين الصغير، المصدر السابق نفسه، ص 207.

[43] راجع: كتاب البيان، المصدر السابق نفسه، ص 293-300.

[44] كتاب البيان، المصدر نفسه، ص 300؛ راجع شرحه في پ. لوري، "الأخرويات الكيميائية عند جابر بن حيان" (مقال بالفرنسية)، 2000.

[45] كتاب إخراج ما في القوة إلى الفعل، في مجموعة من رسائل…، ص 142-143؛ راجع أيضًا: لوري، الكيمياء والتصوف في أرض الإسلام، ص 111.

[46] كوربان، المصدر السابق نفسه، ص 151.

ماذا يحاول أن يقول لي؟ – ج. كريشنامورتي

ماذا تراه يحاول أن يقول لي؟*

krishnaji_4

كريشنامورتي: أنا إنسان عادي. أصادف كتابًا من كتب ك[1]، فيصعقني تصريح أو تصريحان مما جاء في الكتاب، فأرغب في معرفة المزيد عن الأمر. أرى أنه يعارض – أو أنه لا يؤيد – المؤسسات والمنظمات "الروحية" المزعومة. وهو يحدِّثني عن مشكلاتي. إنه يدل على ماهية مشكلاتي وعلى حلِّ تلك المشكلات. وهَبْ أن عندي مشكلة – لست سعيدًا في عملي، لست سعيدًا في علاقتي مع الآخرين، تراني برمًا نوعًا ما بالحياة ككل لأني وجدت أن معناها فعليًّا ضئيل جدًّا. أذهب إلى العمل، أتعاطى الجنس، عندي أسرة، أو لا أسرة عندي، وتراني أشرب، وغير ذلك. إذا كنت في الهند، فأنا مقيد بالتراث، وأرى أنه "ضد التراث"، إذا جاز لي أن أستعمل هذا التعبير. وهو لا يعطيني أي توجيهات؛ سواء كنت غربيًّا، أوروبيًّا، أو شرقيًّا، هنديًّا، فهو لا يعطيني أي توجيهات، وتراني أريد توجيهات، فأنا متعود ذلك. ولأنه لا توجد [عنده] توجيهات، قد أطرح الكتاب وأقول: "أي هراء هذا الذي يتحدث عنه!"

أما إذا كنت محبًّا للبحث بعض الشيء، فأسأل: "لماذا ليس عنده توجيهات؟ لماذا لا يأمرني بما يجب أن أفعل؟" وأبدأ بالاستفسار وقراءة المزيد. أكتشف أن التوجيهات تجعل المرء أكثر آلية، أكثر غفلة بنفسه فحسب، فأواصل التقصي. أرى أنه مصيب تمامًا. أرى حماقة التوجيهات. وأرى كذلك أنه كانت هناك توجيهات من قبلُ لأني درست الأمور الدينية بعض الشيء، فأقول: "والآن، ماذا أنا فاعل؟" ذلك هو سؤالي الأساسي. ماذا أنا فاعل؟ – أنا الذي يعيش حياة عادية: أذهب إلى المكتب أو المصنع، أو أمارس نوعًا من العمل – ماذا أنا فاعل؟ من خلال قراءتي للكتاب، هل يأمرني بما يجب أن أفعل؟ وأجد أنه لا يفعل ذلك بتاتًا. فماذا يحاول أن يقول لي يا ترى؟ إنه يحاول أن يقول لي: "كن واعيًا بنفسك، تعرَّفْ إلى شرطك، انظرْ ما هي الفخاخ وتقصَّ تلك الفخاخ – الفخ الديني، الاقتصادي"، إلخ، إلخ.

إن ما يحاول أن يقوله لي أساسًا هو أن أوقظ ذكائي – لا ذكاءه أو الذكاء الذي يتجلَّى في الكتاب؛ إنه يحاول أن يقول لي: "كُرمى للحق، أيقظْ ذكاءك، أشهرْه، تساءلْ، حاججْ، ناقشْ، شكِّكْ." إنه يقول لي ذلك كله. لذا أبدأ باكتشاف أني نوعًا ما شخص غبي، فظ، جلف. لكني لست عديم الحساسية تمامًا، وهو يقول لي: "استيقظ، إنها حياتك، أحلِل النظام فيها في حذاقة." لكن تنشئتي كلها قامت على "مُرني بما أفعل"؛ لذا تراني أقاوم هذا، فأرتد إلى تلك الـ"مُرني بما أفعل". ومع ذلك فهو يقول: "لا تسلْ عما أنت فاعل، بل غُصْ في الأمر، ناقشْ." ومن ثَمَّ تنشأ فيَّ المقاومة في مقابل ما قرأت. وهكذا يوجد نزاع بين ما قرأت وبين مقاومتي.

ثم أصل إلى مأزق، بسبب كسلي، بسبب حياتي الأسرية وسائر تلك المشكلات، فأنصرف عن الأمر مدة، قد تكون عامًا أو ستة أشهر أو يومًا واحدًا. أنصرف عنه مدة ما. لكن البذرة زُرعت فيَّ، بذرة أن "المسئول عن أفعالك هو أنت ولا أحد سواك!" ذاك ما يقوله لي وأوافق عليه. أرى منطقيته، فأقبل ذلك. لكن عندي عملاً، أذهب إلى المكتب أو المصنع، أنا نجار أو عالِم أو ما شاكل، وأرى أكثر فأكثر التناقض في حياتي بين ما قرأت وبين ما أنا عليه. وهكذا يجري نشاط فصامي: تقبُّل لفظي للكتاب ولما قرأت من ناحية، وحياتي اليومية من ناحية ثانية.

فأنا الآن مهتم بالنزاع. أعي فجأة بأن حياتي ككل قائمة على النزاع. والآن أقول مجددًا: "مُرني، أرجوك، بما أفعل حيال هذا النزاع الرهيب عندي." فهناك فيَّ من جديد هذا التناقض الواقع: "مُرني، دعني أتقبَّل أفكارك." ومن ثَمَّ أعي تدريجيًّا بأني أنشئ سلطة. أصير تدريجيًّا واعيًا بأن ما أريده حقًّا هو السلطة، شخصًا يرشدني. وهو ذا يقول: "لا تفعل ذلك، كن نورًا لنفسك." وأستسلم – فالأمر على غاية من الصعوبة. فتراني تائهًا بلا أمل. أنا تائه، ولعلي مكتئب، فأقول: "طيب، الأمر لا يستحق الجهد، فلننسَه. ليس عندي الطاقة، ليس عندي الحافز، ولعلي أصل ذات يوم إلى مكان ما أو سواه."

هذا ما يحدث عمومًا مع غالبيتنا، كما أفهمه – وقد أكون مخطئًا. هناك الذين بلغوا هذه النقطة ويستمرون، لا يستسلمون، لا يقرون بالهزيمة – ولعل تلك هي حال غالبيتنا. ثم أرى أهمية إيقاظ الذكاء والتيقظ لواقع أني يجب أن أكون نورًا لنفسي. أنا لست شديد الفطنة؛ أنا فعال إلى حدٍّ ما في نشاطي الدنيوي؛ لكن هذا الأمر يستدعي نوعًا مختلفًا تمامًا من الذكاء، نوعًا مختلفًا تمامًا من التفتح.

فأين أنا الآن؟ عليَّ أن أعيش في هذا العالم. عليَّ أن أجني المال. عندي عائلة، وعليَّ أن أعيلها. زوجتي غير مهتمة بهذا كله. أولادي يذهبون إلى المدرسة، يزدادون جلافة وفظاظة وقلة حساسية، وليس بيني وبينهم علاقة. فأرى اللخبطة الرهيبة التي افتعلتها لنفسي وللآخرين. والآن، كيف لي أن أوقظ ذلك الذكاء بحيث يكون بوسعي التعامل مع هذا كله؟ لقد سبق لي أن قرأت كتبًا عديدة، لا [كتب] ك وحسب بل كتب أخرى أيضًا؛ أصبت قليلاً من الفلسفة الهندية ومما قاله البوذيون. لست مهتمًّا بصفة خاصة بالمسيحية لأنها لا تتأسس على فلسفة، بل تقوم على الاعتقاد والإيمان والسلطة، بحيث إنها لا تستهويني كثيرًا. وهكذا بتُّ أدرك بأني أتخبط في هذه الفوضى وأسأل نفسي عما أنا فاعل. كيف لي أن أوقظ ذاك الذكاء الذي سيتعامل في وضوح مع قضايا العلاقة هذه كلها، إلخ، إلخ؟ فهو يقول: "كن واعيًا… كن واعيًا بالعالم الخارجي، بما يحدث فيه، انظر إليه من دون أي تحيُّز." أجد ذلك صعبًا نوعًا ما، لكني أسعى في وعي أحكامي المسبقة، إشراطي. وأصير واعيًا بأفعالي، بخواطري، بمشاعري، بالمجالات التي أعدم فيها الحساسية: أنا تافه نوعًا ما، أنا طَموح، إلى ما هنالك. وإذن فأنا أكتشف في نفسي عوامل، مصادرَ انعدام حساسيتي وبدايةَ هذا الذكاء الذي ينسلُّ انسلالاً طفيفًا. إنه ليس كامل الإزهار بعدُ، لكنه في بدايته. وأبدأ فعليًّا برؤية الأشياء التي ليست حقيقية في حياتي، الأشياء الزائفة، النفاقية نوعًا ما، فأبدأ أقول: "هل من الممكن ألا أكون منافقًا، ألا أدَّعي، ألا أضع أقنعة بحسب البيئة، بحسب الناس الذين أقابلهم؟" أرى أنه ممكن فعلاً، وأبدأ بنبذ هذا كله. لقد بدأت أدرك أن الذكاء ليس إنكار الزيف، بل هو بالأحرى وعي الزائف.

لقد بدأت أدرك أن الأشياء التي ظننتها قيِّمة، أو ذات مغزى ما، لا معنى لها فعليًّا على الإطلاق. القيم، المُثُل التي اتخذتها، لا قيمة لها فعليًّا، لا عمق فيها. وذاك الإدراك بالذات بأنها عديمة العمق يجعل الزائفة منها أو التي لا مغزى لها تتلاشى. لم أصارعها، لم أقل بأنها صحيحة أو خاطئة، بل إن مجرد إدراك عدم معناها، عدم صحتها، مجرد ذاك الإدراك يبدأ في كشح ما ليس حقيقيًّا. فأنا صائر – لا، لست صائرًا؛ بلى، سأستعمل كلمة "صيرورة" – أنا صائر أكثر فأكثر وعيًا، أكثر فأكثر تنبهًا، أكثر فأكثر يقظة.

وهو يقول أيضًا في ذلك الكتاب شيئًا غريبًا نوعًا ما، لا أفهمه تمامًا. يقول: "لا تخضْ تلك السيرورة كلها، اقفزْ إليها! لا تمض خطوة فخطوة فخطوة، فتلك مضيعة للوقت. ففي عملية الخطوة فخطوة هذه يمكن لك أن تستمر إلى ما لا نهاية مكتشفًا مختلف أشكال خداع النفس وهكذا دواليك." ومن ثَمَّ يقول: "لا تسمح بمرور زمن بين الرؤية والفعل." وذاك بنظري مسرف في الخروج من مجال إدراكي. بذا أجدني أتقصى: ماذا يعني بذلك؟

وإذن فهل أنا بادئ برؤية أهمية الإدراك وعلاقته بالفعل؟ ذاك هو موقفي. ذاك ما سأقرِّره. ذاك ما سيقوله شخص عادي – هو أنا – وقد بلغ تلك النقطة وعلق فيها. أدور وأدور في دوائر، لكني على نحو ما غير قادر على كسر تلك الدائرة. فأسألك، أنت الذي كتب ذلك الكتاب أو صرح بهذه الأقوال: "ماذا أنا فاعل؟" فتراه يكرر الشيء نفسه: "لا تتكلْ على سواك." إنه لا ينفك يحيلني إلى نفسي. وإذن، تراني أسأم ذلك بعض الشيء، وقد أقول: "أواه، اذهب إلى الجحيم، أنا عالق وأنت لا تساعدني!" فيقول: "ما من أحد يستطيع أن يساعدك، ما من مؤسسات، ولا منظمات، ولا سلطة أو ضغوط خارجية من أي نوع تستطيع أن تساعدك." فهل تراني أصغي إليه؟ أم أن جزعي من كسر الدائرة من الهول بحيث إني لا أصغي حتى إلى ما يقول؟

وإذن، فأنا هاهنا. لست مصغيًا. وتراك تأتي وتقول لي بأن أصغي. عندما تكون عندي مشكلة خطيرة مع نفسي، فأريد جوابًا، فأكون عميق الاهتمام بالمشكلة للغاية، أجد نفسي عاجزًا عن الإصغاء. المشكلة لاذعة للغاية، عميقة الإزعاج للغاية، وأنت تقول لي: "أصغ"، فلا أستطيع. لا أعرف كيف أصغي. لكنك أخبرتني عن فعل الإصغاء، وتلك البذرة قد زُرعت. وهكذا أصغي، أتعلم. وأجدني أفعل الشيء الذي حذرني منه بالذات: "لا تسمح بمرور زمن…" أظنني سأتعلم الإصغاء، أتعلم كل شيء عنه، تدريجيًّا، ببطء، على راحتي. وهو يقول: "تلك مضيعة للوقت فحسب." وإذن فقد بلغتُ تلك النقطة. تابعوا الآن.

زانن، 23 تموز 1982 (1)


* From the transcript of the tape recording of the International Committee Meeting at Saanen, 23 July, 1982 ©2000 Krishnamurti Foundation Trust, Ltd., pp. 5-9.

[1] كان من عادة كريشنامورتي أن يشير إلى نفسه بحرف "ك" تجنبًا لاستعمال ضمير المتكلم. (المحرِّر)