ماذا تراه يحاول أن يقول لي؟*
كريشنامورتي: أنا إنسان عادي. أصادف كتابًا من كتب ك[1]، فيصعقني تصريح أو تصريحان مما جاء في الكتاب، فأرغب في معرفة المزيد عن الأمر. أرى أنه يعارض – أو أنه لا يؤيد – المؤسسات والمنظمات "الروحية" المزعومة. وهو يحدِّثني عن مشكلاتي. إنه يدل على ماهية مشكلاتي وعلى حلِّ تلك المشكلات. وهَبْ أن عندي مشكلة – لست سعيدًا في عملي، لست سعيدًا في علاقتي مع الآخرين، تراني برمًا نوعًا ما بالحياة ككل لأني وجدت أن معناها فعليًّا ضئيل جدًّا. أذهب إلى العمل، أتعاطى الجنس، عندي أسرة، أو لا أسرة عندي، وتراني أشرب، وغير ذلك. إذا كنت في الهند، فأنا مقيد بالتراث، وأرى أنه "ضد التراث"، إذا جاز لي أن أستعمل هذا التعبير. وهو لا يعطيني أي توجيهات؛ سواء كنت غربيًّا، أوروبيًّا، أو شرقيًّا، هنديًّا، فهو لا يعطيني أي توجيهات، وتراني أريد توجيهات، فأنا متعود ذلك. ولأنه لا توجد [عنده] توجيهات، قد أطرح الكتاب وأقول: "أي هراء هذا الذي يتحدث عنه!"
أما إذا كنت محبًّا للبحث بعض الشيء، فأسأل: "لماذا ليس عنده توجيهات؟ لماذا لا يأمرني بما يجب أن أفعل؟" وأبدأ بالاستفسار وقراءة المزيد. أكتشف أن التوجيهات تجعل المرء أكثر آلية، أكثر غفلة بنفسه فحسب، فأواصل التقصي. أرى أنه مصيب تمامًا. أرى حماقة التوجيهات. وأرى كذلك أنه كانت هناك توجيهات من قبلُ لأني درست الأمور الدينية بعض الشيء، فأقول: "والآن، ماذا أنا فاعل؟" ذلك هو سؤالي الأساسي. ماذا أنا فاعل؟ – أنا الذي يعيش حياة عادية: أذهب إلى المكتب أو المصنع، أو أمارس نوعًا من العمل – ماذا أنا فاعل؟ من خلال قراءتي للكتاب، هل يأمرني بما يجب أن أفعل؟ وأجد أنه لا يفعل ذلك بتاتًا. فماذا يحاول أن يقول لي يا ترى؟ إنه يحاول أن يقول لي: "كن واعيًا بنفسك، تعرَّفْ إلى شرطك، انظرْ ما هي الفخاخ وتقصَّ تلك الفخاخ – الفخ الديني، الاقتصادي"، إلخ، إلخ.
إن ما يحاول أن يقوله لي أساسًا هو أن أوقظ ذكائي – لا ذكاءه أو الذكاء الذي يتجلَّى في الكتاب؛ إنه يحاول أن يقول لي: "كُرمى للحق، أيقظْ ذكاءك، أشهرْه، تساءلْ، حاججْ، ناقشْ، شكِّكْ." إنه يقول لي ذلك كله. لذا أبدأ باكتشاف أني نوعًا ما شخص غبي، فظ، جلف. لكني لست عديم الحساسية تمامًا، وهو يقول لي: "استيقظ، إنها حياتك، أحلِل النظام فيها في حذاقة." لكن تنشئتي كلها قامت على "مُرني بما أفعل"؛ لذا تراني أقاوم هذا، فأرتد إلى تلك الـ"مُرني بما أفعل". ومع ذلك فهو يقول: "لا تسلْ عما أنت فاعل، بل غُصْ في الأمر، ناقشْ." ومن ثَمَّ تنشأ فيَّ المقاومة في مقابل ما قرأت. وهكذا يوجد نزاع بين ما قرأت وبين مقاومتي.
ثم أصل إلى مأزق، بسبب كسلي، بسبب حياتي الأسرية وسائر تلك المشكلات، فأنصرف عن الأمر مدة، قد تكون عامًا أو ستة أشهر أو يومًا واحدًا. أنصرف عنه مدة ما. لكن البذرة زُرعت فيَّ، بذرة أن "المسئول عن أفعالك هو أنت ولا أحد سواك!" ذاك ما يقوله لي وأوافق عليه. أرى منطقيته، فأقبل ذلك. لكن عندي عملاً، أذهب إلى المكتب أو المصنع، أنا نجار أو عالِم أو ما شاكل، وأرى أكثر فأكثر التناقض في حياتي بين ما قرأت وبين ما أنا عليه. وهكذا يجري نشاط فصامي: تقبُّل لفظي للكتاب ولما قرأت من ناحية، وحياتي اليومية من ناحية ثانية.
فأنا الآن مهتم بالنزاع. أعي فجأة بأن حياتي ككل قائمة على النزاع. والآن أقول مجددًا: "مُرني، أرجوك، بما أفعل حيال هذا النزاع الرهيب عندي." فهناك فيَّ من جديد هذا التناقض الواقع: "مُرني، دعني أتقبَّل أفكارك." ومن ثَمَّ أعي تدريجيًّا بأني أنشئ سلطة. أصير تدريجيًّا واعيًا بأن ما أريده حقًّا هو السلطة، شخصًا يرشدني. وهو ذا يقول: "لا تفعل ذلك، كن نورًا لنفسك." وأستسلم – فالأمر على غاية من الصعوبة. فتراني تائهًا بلا أمل. أنا تائه، ولعلي مكتئب، فأقول: "طيب، الأمر لا يستحق الجهد، فلننسَه. ليس عندي الطاقة، ليس عندي الحافز، ولعلي أصل ذات يوم إلى مكان ما أو سواه."
هذا ما يحدث عمومًا مع غالبيتنا، كما أفهمه – وقد أكون مخطئًا. هناك الذين بلغوا هذه النقطة ويستمرون، لا يستسلمون، لا يقرون بالهزيمة – ولعل تلك هي حال غالبيتنا. ثم أرى أهمية إيقاظ الذكاء والتيقظ لواقع أني يجب أن أكون نورًا لنفسي. أنا لست شديد الفطنة؛ أنا فعال إلى حدٍّ ما في نشاطي الدنيوي؛ لكن هذا الأمر يستدعي نوعًا مختلفًا تمامًا من الذكاء، نوعًا مختلفًا تمامًا من التفتح.
فأين أنا الآن؟ عليَّ أن أعيش في هذا العالم. عليَّ أن أجني المال. عندي عائلة، وعليَّ أن أعيلها. زوجتي غير مهتمة بهذا كله. أولادي يذهبون إلى المدرسة، يزدادون جلافة وفظاظة وقلة حساسية، وليس بيني وبينهم علاقة. فأرى اللخبطة الرهيبة التي افتعلتها لنفسي وللآخرين. والآن، كيف لي أن أوقظ ذلك الذكاء بحيث يكون بوسعي التعامل مع هذا كله؟ لقد سبق لي أن قرأت كتبًا عديدة، لا [كتب] ك وحسب بل كتب أخرى أيضًا؛ أصبت قليلاً من الفلسفة الهندية ومما قاله البوذيون. لست مهتمًّا بصفة خاصة بالمسيحية لأنها لا تتأسس على فلسفة، بل تقوم على الاعتقاد والإيمان والسلطة، بحيث إنها لا تستهويني كثيرًا. وهكذا بتُّ أدرك بأني أتخبط في هذه الفوضى وأسأل نفسي عما أنا فاعل. كيف لي أن أوقظ ذاك الذكاء الذي سيتعامل في وضوح مع قضايا العلاقة هذه كلها، إلخ، إلخ؟ فهو يقول: "كن واعيًا… كن واعيًا بالعالم الخارجي، بما يحدث فيه، انظر إليه من دون أي تحيُّز." أجد ذلك صعبًا نوعًا ما، لكني أسعى في وعي أحكامي المسبقة، إشراطي. وأصير واعيًا بأفعالي، بخواطري، بمشاعري، بالمجالات التي أعدم فيها الحساسية: أنا تافه نوعًا ما، أنا طَموح، إلى ما هنالك. وإذن فأنا أكتشف في نفسي عوامل، مصادرَ انعدام حساسيتي وبدايةَ هذا الذكاء الذي ينسلُّ انسلالاً طفيفًا. إنه ليس كامل الإزهار بعدُ، لكنه في بدايته. وأبدأ فعليًّا برؤية الأشياء التي ليست حقيقية في حياتي، الأشياء الزائفة، النفاقية نوعًا ما، فأبدأ أقول: "هل من الممكن ألا أكون منافقًا، ألا أدَّعي، ألا أضع أقنعة بحسب البيئة، بحسب الناس الذين أقابلهم؟" أرى أنه ممكن فعلاً، وأبدأ بنبذ هذا كله. لقد بدأت أدرك أن الذكاء ليس إنكار الزيف، بل هو بالأحرى وعي الزائف.
لقد بدأت أدرك أن الأشياء التي ظننتها قيِّمة، أو ذات مغزى ما، لا معنى لها فعليًّا على الإطلاق. القيم، المُثُل التي اتخذتها، لا قيمة لها فعليًّا، لا عمق فيها. وذاك الإدراك بالذات بأنها عديمة العمق يجعل الزائفة منها أو التي لا مغزى لها تتلاشى. لم أصارعها، لم أقل بأنها صحيحة أو خاطئة، بل إن مجرد إدراك عدم معناها، عدم صحتها، مجرد ذاك الإدراك يبدأ في كشح ما ليس حقيقيًّا. فأنا صائر – لا، لست صائرًا؛ بلى، سأستعمل كلمة "صيرورة" – أنا صائر أكثر فأكثر وعيًا، أكثر فأكثر تنبهًا، أكثر فأكثر يقظة.
وهو يقول أيضًا في ذلك الكتاب شيئًا غريبًا نوعًا ما، لا أفهمه تمامًا. يقول: "لا تخضْ تلك السيرورة كلها، اقفزْ إليها! لا تمض خطوة فخطوة فخطوة، فتلك مضيعة للوقت. ففي عملية الخطوة فخطوة هذه يمكن لك أن تستمر إلى ما لا نهاية مكتشفًا مختلف أشكال خداع النفس وهكذا دواليك." ومن ثَمَّ يقول: "لا تسمح بمرور زمن بين الرؤية والفعل." وذاك بنظري مسرف في الخروج من مجال إدراكي. بذا أجدني أتقصى: ماذا يعني بذلك؟
وإذن فهل أنا بادئ برؤية أهمية الإدراك وعلاقته بالفعل؟ ذاك هو موقفي. ذاك ما سأقرِّره. ذاك ما سيقوله شخص عادي – هو أنا – وقد بلغ تلك النقطة وعلق فيها. أدور وأدور في دوائر، لكني على نحو ما غير قادر على كسر تلك الدائرة. فأسألك، أنت الذي كتب ذلك الكتاب أو صرح بهذه الأقوال: "ماذا أنا فاعل؟" فتراه يكرر الشيء نفسه: "لا تتكلْ على سواك." إنه لا ينفك يحيلني إلى نفسي. وإذن، تراني أسأم ذلك بعض الشيء، وقد أقول: "أواه، اذهب إلى الجحيم، أنا عالق وأنت لا تساعدني!" فيقول: "ما من أحد يستطيع أن يساعدك، ما من مؤسسات، ولا منظمات، ولا سلطة أو ضغوط خارجية من أي نوع تستطيع أن تساعدك." فهل تراني أصغي إليه؟ أم أن جزعي من كسر الدائرة من الهول بحيث إني لا أصغي حتى إلى ما يقول؟
وإذن، فأنا هاهنا. لست مصغيًا. وتراك تأتي وتقول لي بأن أصغي. عندما تكون عندي مشكلة خطيرة مع نفسي، فأريد جوابًا، فأكون عميق الاهتمام بالمشكلة للغاية، أجد نفسي عاجزًا عن الإصغاء. المشكلة لاذعة للغاية، عميقة الإزعاج للغاية، وأنت تقول لي: "أصغ"، فلا أستطيع. لا أعرف كيف أصغي. لكنك أخبرتني عن فعل الإصغاء، وتلك البذرة قد زُرعت. وهكذا أصغي، أتعلم. وأجدني أفعل الشيء الذي حذرني منه بالذات: "لا تسمح بمرور زمن…" أظنني سأتعلم الإصغاء، أتعلم كل شيء عنه، تدريجيًّا، ببطء، على راحتي. وهو يقول: "تلك مضيعة للوقت فحسب." وإذن فقد بلغتُ تلك النقطة. تابعوا الآن.
زانن، 23 تموز 1982 (1)
* From the transcript of the tape recording of the International Committee Meeting at Saanen, 23 July, 1982 ©2000 Krishnamurti Foundation Trust, Ltd., pp. 5-9.
[1] كان من عادة كريشنامورتي أن يشير إلى نفسه بحرف "ك" تجنبًا لاستعمال ضمير المتكلم. (المحرِّر)