منطق الطير – رونيه گينون

منطق الطير*

guenon_1

رونيه گينون**

والصافَّات صفًّا * فالزاجرات زجرًا * فالتاليات ذكرًا
القرآن الكريم، سورة الصافات 1-3

كثيرًا ما تجيء منقولات مختلفة على ذكر لغة سرَّانية تسمى "منطق الطير": هي تسمية رمزية طبعًا، لأن القيمة التي تُعزى إلى معرفة هذه اللغة بالذات، بصفتها مزية تختص بها مُسارَرة initiation عالية، لا تجيز أخذها على محمل الحرف. بهذا الاعتبار، وَرَدَ في القرآن الكريم: "وورث سليمان داود وقال: يا أيها الناس عُلِّمنا منطق الطير وأوتينا من كلِّ شيء إن هذا لهو الفضل المبين" (سورة النمل 16). وفي غير مكان، يرد ذكر أبطال هزموا التنين، مثل زيگفرد في قَصَص شعوب الشمال، ففهموا من فورهم لغة الطير؛ وهذا ييسر تأويل الرمزية التي نحن بصددها. وبالفعل، فإن النتيجة المباشرة للانتصار على التنين هي الفوز بالخلود، متمثلاً في غرض بعينه يحُول هذا التنين دون الاقتراب منه. والفوز بالخلود هذا يتضمن أساسًا الإنابة إلى مركز الحال الإنسانية، أي استرجاع النقطة التي يتم بها الاتصال بأحوال الوجود العليا؛ وهذا الاتصال هو الذي يتمثل بفهم منطق الطير. وفي واقع الأمر، مرارًا ما تؤخذ الطير على أنها رموز إلى الملائكة، أي بالدقة إلى الأحوال العليا. وقد أتيحت لنا في غير مكان[1] مناسبةُ إيراد المثل الإنجيلي الذي يتطرق، بهذا المعنى، للكلام على "طيور السماء" التي حطت على أغصان الشجرة وعششت عليها[2] – تلك الشجرة عينها التي تمثل المحور الذي يخترق مركز كل حال من أحوال الوجود ويربط ما بين تلك الأحوال جميعًا[3].

منمنمة من مخطوط إيراني لمنظومة "منطق الطير" للصوفي فريد الدين العطار، تظهر فيه الطير عند النبع الذي يسقي شجرة الحياة.

في النص القرآني الذي أثبتناه أعلاه، يُعتبَر مصطلح الصافات إشارة حرفية إلى الطير، ولكنه ينطبق رمزيًّا على الملائكة؛ بذا تدل الآية الأولى على تطابُق المراتب السماوية أو الروحية[4]. وتفيد الآية الثانية زجر الملائكة للشياطين، أو صراع القدرات السماوية ضد القدرات الجهنمية، أي التعارض بين أحوال الوجود العليا والأحوال الدنيا[5]؛ وهذا يقابل، في المنقول الهندوسي، صراع الـديڤا Devas [الآلهة[6]] ضد الـأسورا Asuras [الشياطين]، كما يقابل أيضًا، تبعًا لرمزية مشابهة تمامًا للرمزية التي نحن بصددها هنا، المعركة بين الگارودا Garuda والناگا Nāga [ثعبان الكوبرا]، حيث نجد، كذلك، الثعبان أو التنين الذي سبقت الإشارة إليه: الگارودا هو العقاب الذي يمكن، في حكايات أخرى، أن تنوب عنه طيور أخرى، كأبي منجل واللقلق ومالك الحزين – وكلها أعداء للزواحف ومبيدات لها[7]. ونشهد أخيرًا، في الآية الثالثة، الملائكة تتلو الذكر، الأمر الذي ينبغي أن يُفهَم، بحسب التفسير الأشيع، على أنه تلاوة القرآن، إنما ليس بالطبع القرآن المكتوب باللسان البشري، بل أنموذجه الأزلي المدون على اللوح المحفوظ، الممتد، كسُلَّم يعقوب، بين السموات والأرض، أي عبر درجات الكون الكلِّي كافة[8].

بالمثل، نجد في المنقول الهندوسي ما يحكى من أن الديڤا، في صراعهم مع الأسورا، كانوا "يعوذون" achhan dayan بتلاوة أناشيد الڤيدا Veda [أسفار الحكمة الهندوسية]، ومن أنه لهذا السبب أطلِقَتْ على هذه التسابيح صفة تشهندا chhandas، وهي كلمة تشير إلى "الإيقاع" حصرًا. والمعنى نفسه متضمن في كلمة ذكر التي تدل، في التصوف الإسلامي، على أوراد موقَّعة توافق بالضبط الـمنترا mantras الهندوسية، بما هي ألفاظ يستهدف تكرارُها إيجاد انسجام بين مختلف العناصر المكوِّنة للموجود وتوليد اهتزازات من شأنها، بتصاديها عبر سلسلة الأحوال في تراتب غير منتهٍ، أن تفتح اتصالاً بالأحوال العليا، الأمر الذي هو، بوجه عام، العلة الأولى الأصلية والأولية لأداء مختلف الشعائر rites.

ها نحن أولاء واجدين أنفسنا مباشرة، كما يُرى، تلقاء ما ذكرناه في الاستهلال عن "منطق الطير"، الذي يسعنا كذلك أن ندعوه "لسان الملائكة" – وصورته في العالم الإنساني هي اللغة الموقَّعة –؛ ذلك أنه على "علم الإيقاع" science du rythme، الذي يتضمن إلى ذلك تطبيقات عديدة، تتأسَّس في الحاصل جميع الوسائل التي يمكن إعمالها للاتصال بالأحوال العليا. وهذا يفسر أثرًا إسلاميًّا يقول إن آدم، في جنة عدن، كان ينطق شعرًا، أي بلغة موزونة؛ والمقصودة هنا هي هذه اللغة السريانية التي تكلَّمنا عليها في دراستنا السابقة في "علم الحروف"[9]، وهي التي يجب اعتبارها تترجم مباشرة عن "الإشراق الشمسي" و"الملائكي" كما يتجلَّى في مركز الحال الإنسانية. ولذلك جاءت الكتب الشريفة أيضًا بلغة موقَّعة موزونة، الأمر الذي يجعل منها، كما يتبيَّن لنا، شيئًا مختلفًا تمامًا عن مجرد "قصائد" بالمعنى الدنيوي المحض الذي يريد أن يراه فيها الانحيازُ المعادي للنقل الذي يأخذ به "النقاد" المُحدَثون. ثم إن الشعر، من جهة أخرى، لم يكن في أصله بتاتًا هذا "الأدب" الباطل الذي آل إليه بالفساد، الذي تفسِّره السيرورة الهابطة للدورة الإنسانية، وإنما كانت له في الماضي صفة قدسية حقيقية[10]، يمكن اقتفاء آثارها حتى العصر القديم الكلاسيكي الغربي، حين كان الشعر لا يزال يسمى "لسان الآلهة" – وهو تعبير يكافئ التعبيرات التي أشرنا إليها، بما أن "الآلهة" Dieux، أي الـديڤا[11]، هي، كالملائكة، تمثيلات للأحوال العليا. وباللاتينية، كانت أبيات الشعر تدعى كرمينا carmina، وهي تسمية ترجع إلى استعمالها في أداء الشعائر[12]؛ إذ إن كلمة كرمن carmen تُطابق اللفظ السنسكريتي كرما karma، الذي يجب أخذه هنا بصفة خاصة على محمل "الفعل الشعائري"[13]؛ والشاعر نفسه – وهو ترجمان "اللغة القدسية" التي تشفُّ عن الكلمة Verbum الإلهي – كان ڤاتس vates، وهو لفظ يخصُّه بوصفه موهوبًا إلهامًا من نوع "نبوي". وفيما بعد، من جراء انحطاط آخر، لم يعد الـڤاتس إلا مجرد "عرَّاف" devin عامِّي[14]، وأمسى الـكرمن carmen (ومنه كلمة charme الفرنسية [التي تعني "فتنة" أو "تعويذة"]) "فتونًا" enchantement، أي مجرد عملية سحرية وضيعة. وهذا مثال أيضًا على أن السحر، بل حتى الشعوذة، هو ما يتبقى كأثر أخير من المنقولات المحتجبة[15].

بذا نحسَب أن هذه الإشارات الخاطفة تكفي لبيان مدى الخطأ الذي يقع فيه أولئك الذين يهزؤون بالروايات التي يرد فيها ذكر "منطق الطير"؛ فما أسهل وأبسط أن نزدري ما لا نفهمه، فنعدُّه من قبيل "الخرافات"! لكن القدماء، من جانبهم، كانوا يعلمون حق العلم ما يقولون عندما يستعملون اللغة الرمزية. "الخرافة" superstition الحقيقية، بالمعنى الاشتقاقي حصرًا (["البقاء فوق"] quod superstat)، هو ما يتبقى باقيًا بذاته، أي، بكلمة واحدة، "الحرف الميت". لكن هذه البقاء بعينه، مهما بدا استحقاقُه للاهتمام من الضآلة، ليس مع ذلك شيئًا زريًّا، لأن الروح الذي "يهبُّ حيث يشاء"[16]، ومتى يشاء، بوسعه دومًا أن يعود، فيحيي الرموز والشعائر ويعيد إليها، بالإضافة إلى معناها الضائع، ملء فاعليتها الأصلية.

المترجمة عن الفرنسية: فاطمة عصام صبري

مدقِّق الترجمة: ديمتري أڤييرينوس


* Voile d’Isis, novembre 1931 ; repris dans René Guénon, Symboles de la Science sacrée, Gallimard, 1962, pp. 57-61.

** فيلسوف فرنسي (1886-1951)، ولد في بلوا (فرنسا) وتوفي بالقاهرة. شُغف بالروحانيات منذ حداثة سنِّه، فدفعه حب الاستطلاع إلى اختبار معظم مدارسها الحديثة، حتى اهتدى أخيرًا إلى تصور متكامل عن وحدة المنقولات الأصيلة في العالم قاطبة، بوصفها تعبيرات متنوعة متفرعة عن "منقول قديم" Tradition Primordiale واحد، فاطمأن إليه وراح، بالتوازي مع حياة باطنية غنية، يكتب فيه المقالات والكتب والرسائل، مؤسِّسًا بذلك لمذهب "نقلي" traditionnaliste مازال أثرُه ساري المفعول حتى يومنا هذا. من مؤلفاته الكثيرة الهامة: الإنسان ومآله بحسب الڤيدنتا، أزمة العالم الحديث، رمزية الصليب، الثالوث الأكبر، لمحات عن المُسارَرة. (المحرِّر)

[1] Cf. René Guénon, L’Homme et son devenir selon le Vēdānta, ch. III.

[2] راجع، مثلاً، إنجيل متى 13: 31-32. (المحرِّر)

[3] في رمز Peridexion (تحريف للفظ Paradision، ["فردوس"]) الذي يرجع إلى العصر الوسيط، نرى الطيور على أغصان الشجرة والتنين جاثم في أسفلها (cf. René Guénon, Le Symbolisme de la Croix, ch. IX) [رمزية الصليب، الفصل التاسع].

رسم من مخطوط وسيطي يمثل رمز الپريدكسيون: الطيور على أغصان الشجرة والتنين جاثم في أسفلها.

وفي دراسة عن رمزية "طائر الفردوس" (Le Rayonnement intellectuel, mai-juin 1930)، أورد السيد م.ل. شاربونو-لاساي نسخة عن منحوتة تصور هذا الطائر برأس وجناحين فحسب، وهي الصورة التي كثيرًا ما تتمثل فيها الملائكة [cf. M.L. Charbonneau-Lassay, Le Bestiaire du Christ, ch. LVI, p. 425].

[4] لفظ "صف" هو أحد الألفاظ العديدة التي حاول بعضهم أن يستنبط منها أصل كلمة صوفي أو تصوف؛ ومع أن هذا الاشتقاق لا يبدو مقبولاً من الوجهة اللسانية المحضة، فهذا لا يلغي صحة أنه، شأنه شأن عدة اشتقاقات أخرى من الجنس نفسه، يمثل واحدًا من المعاني المحتواة فعلاً في هذه المصطلحات، لأن "المراتب الروحية" تتطابق أساسًا مع درجات المُسارَرة.

[5] هذا التعارض يُترجَم لدى كل موجود بتضادِّ الميلين الصاعد والهابط [للطبيعة] اللذين تدعوهما العقيدة الهندوسية ستڤا sattwa [النور، التوازن] وتَمَس tamas [الظلمة، العطالة]؛ وهذا أيضًا ما ترمز إليه الزرادشتية بالصراع بين النور والظلام، المشخصَين بأهورامزدا وأهرمن، على التوالي.

[6] ما بين معقوفتين […] من إضافة المحرر توضيحًا للمقصود. (المحرِّر)

[7] راجع، بهذا الصدد، أعمال شاربونو-لاساي المرموقة في رموز المسيح الحيوانية [cf. Le Bestiaire du Christ]. جدير بالملاحظة أن التضاد الرمزي بين الطير والحية لا يصح إلا عندما يُنظَر في الحية على صورتها الخبيثة؛ بالعكس، فإن الحية، على صورتها الطيبة، تندمج أحيانًا بالطير، كما في صورة Quetzalcohuatl [الثعبان ذي الريش] في المنقولات الأميركية القديمة؛ إلى ذلك، نقع في قَصَص المكسيك أيضًا على الصراع إياه بين العقاب والحية. ويجوز لنا، في خصوص الربط بين الطير والحية، التذكير بالعبارة الإنجيلية: "كونوا ودعاء كالحمام وأذكياء كالحيات" (إنجيل متى 10: 16).

[8] فيما يتعلق برمزية "الكتاب"، الذي يحيل إليه ما نحن بصدده مباشرة، راجع: René Guénon, Le Symbolisme de la Croix, ch. XIV [رمزية الصليب، الفصل 14].

[9] راجع: رونيه گينون، "علم الحروف"، سماوات: http://samawat.org/articles/science_des_lettres_guenon. (المحرِّر)

[10] يجوز القول، إلى ذلك، بأن الفنون والعلوم بصفة عامة لم تصر دنيوية إلا بنوع كهذا من الانحطاط جردها من صفتها النقلية، ومن ثم، من كل مغزى من رتبة علوية. وقد شرحنا ما نذهب إليه في هذا الموضوع في كتابنا L’Ésotérisme de Dante, ch. II [باطنية دانتي، الفصل الثاني]، وفي كتابنا La Crise du monde moderne, ch. IV [أزمة العالم الحديث، الفصل الرابع]. [راجع للكاتب أيضًا: Le Règne de la quantité et les signes des temps, ch. VIII. (المحرِّر)]

[11] اللفظان السنسكريتي Deva واللاتيني Deus ليسا غير الكلمة الواحدة عينها.

[12] جدير بالنظر، كذلك، أن "الشعر" (الكلام الموزون) و"الشعيرة" (المَنْسِك الديني) مشتقان من أصل واحد. (المحرِّر)

[13] كلمة "شعر" poésie مشتقة هي الأخرى من الفعل اليوناني poiein، الذي له المعنى نفسه الذي للجذر السنسكريتي kri، الذي منه كلمة karma، والذي نجده في فعل creare [خَلَقَ] اللاتيني مفهومًا بمعناه البدائي؛ ففي الأصل، كان المقصود شيئًا مختلفًا تمامًا عن مجرد إنتاج عمل فني أو أدبي بالمعنى الدنيوي الذي يبدو أن أرسطو عناه حصرًا عندما تكلم على ما أسماه "العلوم الشعرية".

[14] كلمة "عراف" devin نفسها لا تقل عن ذلك زيغًا عن معناها الأصلي؛ إذ إنها ليست اشتقاقيًّا غير divinus التي تفيد هنا معنى "ترجمان الآلهة". و كلمة "الطيرة" auspices (وهي مشتقة من aves spicere، أي "مراقبة الطيور")، بما هي النذُر والبشائر المستوحاة من طيران الطيور وأغانيها، ينبغي تقريبها، بصفة أخص، من "منطق الطير"، المفهوم عندئذ بالمعنى الأشد مادية للكلمة، لكنْ المتواحد بعدُ، مع ذلك، مع "لسان الآلهة"، بما أنه كان يُعتقَد أن الآلهة يُظهرون مشيئتهم من خلال هذه النذُر والبشائر، فكانت الطير تلعب بذلك دور "الرُّسل" المُقايس للدور المنسوب إلى الملائكة بوجه عام (ومن هنا اسمها نفسه، بما أنه هنا بالدقة يثوي المعنى الخاص لكلمة "ملَك" angelos اليونانية)، ولو أنه مأخوذ هنا بمعنى أدنى بكثير. [نزيد على ذلك أن معنى ملَك بالعربية هو "حامل الملوكة" أي الرسالة. (ف ع ص)]

[15] حول مسألة أصول السحر والشعوذة، راجع المقطع الأخير من مقال لگينون بعنوان "شيث": René Guénon, Symboles de la Science sacrée, ch. XX : « Sheth », pp. 139-143، حيث يلمح إلى أن السحر والشعوذة يمثلان آخر درجات انحطاط العلوم النقلية القديمة. (المحرِّر)

[16] إشارة إلى قول يسوع للمعلم الفريسي نيقوديمُس: "الريح تهب حيث تشاء، فتسمع صوتها ولكنك لا تدري من أين تأتي وإلى أين تذهب – تلك حال كل مولود للروح" (إنجيل يوحنا 3: 8)، حيث لكلمة "روح" pneuma باليونانية معنيان: الريح والروح. (المحرِّر)