أرشيف التصنيف: لاعنف

المحبة – ديمتري أڤييرينوس

ترياق العنف الأوحد

ديمتري أڤييرينوس

ديمتري أڤييرينوس

 

لا يلطَّف الصراع بالكراهية؛ يتوقف الصراع بالمحبة – ذاك قانون أزلي.
البوذا گوتاما

 

هل يُعقَلُ أن يكون في محبةٍ ولطفٍ نبديهما حيال الآخَر شفاؤه من جراح العنف والقسوة فيه، لا بل إغناءٌ لنا وله على حدٍّ سواء؟ إذا كان الأمر كذلك، لماذا إذن نُشرَطُ ونُربَّى ولماذا، بدورنا، نربي أبناءنا ونُشرِطُهم على الردِّ “عينًا بعين وسنًّا بسن”؟!

نقسو ونَعْنَف حين يستبد بنا الجزع أو الكراهية؛ ونحن نجزع أو نكره لأسباب متنوعة. غير أن هناك اعتقادًا مغلوطًا سائدًا بيننا، مفاده أن علَّة الجزع والكراهية موجودة خارجنا. كثيرًا ما نحيا في ظروف لا نستحبها وليس في ميسورنا تغييرها؛ ومنه فإننا، حين نجزع أو نكره، نحمِّل “الآخر” مسؤولية مأزقنا: ننحو باللائمة على النظام، على السياسيين، على دين بعينه، على “العدو”؛ لا بل قد نذهب إلى تحميل الشمس مسؤوليةَ السطوع سطوعًا شديدًا والعصافير مسؤوليةَ الزقزقة زقزقةً صاخبة! وفي هذه الحالات جميعًا، لا نعترف بأن ما يتسبب في جزعنا هي الكراهية المعتملة في نفوسنا نحن.

Continue reading

گاندهي ملك للمستقبل – جان-ماري مولر

گاندهي مُلكٌ للمستقبل* 

جان-ماري مولر، مرمريتا

جان-ماري مولِّر**

 

في الثالث من كانون الثاني سنة 1948، حوالى الساعة الخامسة بعد الظهر، في حديقة المنزل الذي يقيم فيه گاندهي بنيودلهي، بينما كان متجهًا إلى المصلَّى، ضمَّ رجلٌ يديه أمامه علامةَ الاحترام، ثم أطلق عليه من مسدَّسه ثلاث رصاصات. خرَّ گاندهي صريعًا، وسرعان ما قضى نحبه.

واليوم، بعد انقضاء [أكثر من] ستين سنة على موت گاندهي، ما هي الصورة الباقية في أذهاننا عن ذاك الرجل الذي قاد شعبه إلى الاستقلال؟ ما هي فكرتنا عن اللاعنف الذي عاش في سبيله ومات؟ صحيح أن اسمه ووجهه صارا بنظرنا مألوفين، لكنْ ما أقل ما نعرف عن فكره وعمله! صحيح أننا – عمومًا – نكنُّ لگاندهي ذلك الإعجاب المبهم الذي نكنُّه عادةً للأعلام الذين رسمت الأسطورةُ حولهم هالةً من الحكمة، بيد أنه مافتئ متجاهَلاً إلى حدٍّ بعيد وسط شهرته نفسها! إذ لا يزال الموشور المشوِّه لإيديولوجيا العنف الضروري والشرعي والمشرِّف التي تسيطر على ثقافتنا يجعلنا نتصور اللاعنف بوصفه “مثالية” غير مؤثرة في الواقع – مثالية سخية ربما، لكنها غير مسؤولة.

Continue reading

اللاعنف بين گاندهي وكريشنامورتي – ديمتري أڤييرينوس

هل اللاعنف = “لا” للعنف؟
بين ج. كريشنامورتي وم. ك. گاندهي*

 

ديمتري أڤييرينوس

 

ج. كريشنامورتي وموهنداس ك. گاندهي شخصيتان منيفتان من القرن العشرين. كلاهما ولد في الهند وتعلَّم في الغرب، وكان لتعاليمهما ولفلسفتيهما وَقْعٌ من العالمية والشمول بحيث صارت موضع تقصٍّ واسع النطاق في العالم أجمع؛ وكلاهما كان مجاهدًا في طلب الحقيقة. قد يبدوان خارجيًّا، من حيث أسلوب الحياة، مختلفين جدًّا، لكن علينا أن نتخطى المظاهر الخارجية حتى نفهم مغزى حياة كلٍّ منهما فهمًا عميقًا. ومنه، ليس بنيتي أن أعقد مقارنة بين الرجلين، ولا أن أقوِّم أيهما أعظم – فمن القحة، أولاً، أن نفترض في نفسنا القدرة على الحكم على أي إنسان أو قياسه بمسطرتنا؛ ناهيكم عن أن مثل هذا المسعى مسعى عقيم لأن محاولة المقارنة بين إنسانين عظيمين وتعيين “مرتبة” لكلٍّ منهما على سلَّم متخيَّل للتحقق الروحي والإنساني لا يقودنا أصلاً إلى فهم أعمق لأنفسنا، في أنفسنا، بأنفسنا. الأجدر بنا، إذن، أن نتوقف عند ما يمكن لنا أن نتعلمه من تعليم كلٍّ منهما، أولاً، ومن حياته، ثانيًا.

Continue reading

نحو مفهوم أخلاقي للسلام – ديمتري أڤييرينوس

نحو مفهوم أخلاقي للسلام

الوعي التأمُّلي وحلُّ النزاعات

ديمتري أڤييرينوس

إذا لم تكن في سلام مع نفسك لا
يمكن لك أن تساهم في حركة السلام.

تيك نات هَنْه

تفوَّه بهذه العبارة ذات يوم الشاعر والناشط اللاعنفي ومعلم الزنْ الڤيتنامي الذي رشحه مارتن لوثر كينگ لنيل جائزة نوبل للسلام[1]؛ وهي، برأينا، تنطوي على أهم ما ينبغي لـ"حركة السلام" أن تتسم به، لكن تجاهُل مضمونها، مع ذلك، من أسهل ما يكون. إنها تعني، في جملة ما تعني، أن نوعية الوعي الفردي تعيِّن نوعية الوعي الجمعي وتُشرطها. لكن هذا الإدراك، على ما يبدو، يجب أن يتكامل تمام التكامل مع عكسه أيضًا، أي إدراك أن طبيعة الوعي الجمعي تعيِّن هي الأخرى طبيعة الوعي الفردي وتُشرطها. فهذان – الوعي الفردي والوعي الجمعي – سمتان من سمات كلٍّ أعظم يعمل على نحو غير مجزأ: "أنت العالم"، يقول ج. كريشنامورتي.

بيد أن ما يدخل نظريًّا في باب المفارقة المنطقية يتحول عمليًّا إلى صراع دموي! إن رؤية هذه السيرورة الديناميِّة dynamic كشيء سكوني static، ورؤية الأفراد المشاركين فيها كأشخاص مفصولين، بعضهم عن بعض وعن المنظومة الأكبر برمتها على حدٍّ سواء، هي من أسباب الصراع في الأساس. إذ إن مشكلات لا تقبل الحل – من نحو الحرية والمسؤولية والمطالبة بالحق والمساواة والسلام والعدالة – سرعان ما تطفو على السطح وتبدو غير قابلة للحل، لا لشيء إلا لأنها لا تُرى إلا من منظور واحد متعنت ومتجذِّر في وعي جمعي منغلق على نفسه. غير أن رؤية الوضع من منظور مختلف من شأنها أن تذيب خاصيته الثنوية dualistic، فتستبدل بها بصيرة جديدة قوامها التكامل والوحدة: ما كان يبدو منفصلاً وضديًّا يتكشف عن كونه سيرورة كلِّية مترابطة العناصر، تذوب فيها الأضداد لتصير مكمِّلات بعضها لبعض.

إن السيرورة التي يتحقق من خلالها هذا المنظور المختلف وثيقة الصلة بالمبادئ الأساسية للطرق التأملية العديدة التي رسخها أفراد ينتمون إلى الثقافات التي شهدها العالم كافة. لا تخلو ثقافة إنسانية من التأمل meditation لأنه، كما يتبدى لنا، نسق وجودي أصلي مركوز في الكائن الإنساني. ومع أن بعض الثقافات أوْلَته من التقدير والمنزلة ما لم تُوْلِه ثقافات أخرى، تبقى مبادئه الأساسية وتجلياته عالمية شاملة. التأمل، على حدِّ تعريفنا به، تبصُّر بالترابط، بالوحدة المتناغمة مع نظام أكثر إحاطة وشمولية. وهذه وحدة ليس من شأنها أن تمحو التنوع (كما تفعل الثقافة التي تحاول أن تسود العالم اليوم)، بل هي التنوع بذاته تتخلَّله الوحدة: "الوحدة-في-التنوع" l’unité-dans-la-diversité (تلار دُه شاردان). ومنه، لا يوجد مقترَب تأملي بعينه يلغي سواه، بل لانهاية من المقترَبات التأملية التي تصبُّ في الخبرة ذاتها؛ إذ إن التأمل الحقيقي لا يتكئ على الأشكال أو النشاطات الخارجية بتاتًا، بل يرجع بالحري إلى الخصائص الداخلية للبصيرة الروحية، وهي عينها لدى البشر أجمعين، وإن تكن تتصف بـ"مذاق" فريد فرادة الثقافات والأفراد.

من هذه "البصيرة" insight ينبثق المنظور "المختلف" المشار إليه آنفًا، وهو منظور بصير بكمال الكلِّية ويختبره اختبارًا حيًّا. كل "أنية" ego، بوصفها كيانًا منفصلاً، تُرى من هذا المنظور كتعبير فريد عن منظومة أكبر وكجزء منها. من هذا المنظور، أيضًا، تُرى الموجودات جميعًا متساوية من حيث الماهية والقيمة: كمال الكل يتطلب وجود أعضائه كلِّها، كما هي، متحولة أبدًا؛ وهذا الكل، إلى ذلك، ليس شيئًا سكونيًّا خاملاً، بل هو سيرورة عديدة الأبعاد. ومن هذا المنظور "الجديد"، أيضًا وأيضًا، تصير الأضداد أوجُهًا متكاملة، تنفح، معًا، شكلاً وطاقة ديناميين للوجود الكلِّي الأعظم؛ وما كان يبدو من قبلُ مظاهر منفصلة، وبالتالي نزاعية، يُرى من بعدُ كأوجُه وثيقة التواصل، متواكلة ومتكافلة، لسيرورة واحدة لا يُستثنى منها شيء.

* * *

لعل كتاب التحولات (يي-كنگ Yi-king أو I-ching) الصيني أن يزودنا، بهذا الصدد، باستبار ثاقب للمبادئ المبطِّنة لهذه النقلة في الإدراك ولأهميتها من أجل القضايا العملية التي تواجه حركة السلام – عالميًّا ومحليًّا على حدٍّ سواء. إذ لقد كان للـيي كنگ، بطبيعة الحال، تأثير عميق على الثقافة الصينية، وقد امتد هذا التأثير ليشمل شمولاً أقل مباشرة ثقافات أخرى عديدة[2].

تقوم النظرة إلى العالم التي يعبِّر عنها ويَبْسطها الـيي-كنگ على تبصُّر عميق بالطبيعة المتحولة أبدًا للظواهر: ما من شيء سكوني في الوجود؛ فالكيانات الفردية في الظاهر تنبثق جميعًا من سيرورة دينامية تفاعلية أشبه بالشبكة وترجع إليها. ومنه، فإن الاعتقاد بوجود فرديات "واجبة الوجود بذاتها" اعتقاد باطل واهم، وهو ناجم عن الفصل التعسفي الزائف للـ"ذات" عن الـ"عالم". المظاهر كلها، بما فيها الذات والعالم، تصدر عن قوتين طبيعيتين أساسيتين، متحولتين أبدًا، متقلبتين ومتضافرتين: الـينگ yang والـين yin. الينگ والين ليسا منفصلين أحدهما عن الآخر، بل هما وجهان لكلٍّ أعظم (طاو Tao) يتجلى ويفعل عبر تفاعلهما المتناغم. الينگ هو المبدأ الفاعل، المنير، الصلب، الجاف، السماوي التوجُّه؛ والين هو المبدأ المنفعل، المظلم، الطيِّع، الرطب، الأرضي التوجُّه. وعبر تمازجهما المتآلف، بوصفهما قوتين متساويتين ومتكاملتين، يتجلى العالم ويقوم ويتوارى تباعًا.

دائرة الطي-جي الصينية، وفيها قطبا الينگ (أبيض) والين (أسود).

هناك أيضًا، على ما يبدو، تقاطُب polarity مقايس في صميم الكائنات الإنسانية. وإن أحد التجليات العديدة لهذا التقاطُب في بنية الإنسان الفسيولوجية هو ما بيَّنه البحث في الدماغ، في الربع الأخير من القرن العشرين، من اختلافات وظيفية أساسية بين كلٍّ من نصفَي الكرة المخية الأيسر والأيمن. يجب ألا يغيب عن بالنا أن الدماغ كلٌّ عضوي متماسك، وأن في كل محاولة لتحليله من حيث أجزاؤه إسرافًا في التبسيط بالضرورة. ومع ذلك، فإن المقارنة التالية قد تكون دقيقة التمثيل لكيفيتَي عمل كلٍّ من نصفَي الكرة المخية المتكاملتين في خطوطهما العريضة: عمل نصف الكرة الأيسر يشدد على التحليل والموضوعية والمنطق والمحاجَجة والعَمْد، بينما يشدد النصف الأيمن، بالمقابل، على الحدس والذاتية والمشاعر والخبرات والعفوية؛ النصف الأيسر ييسر العمل المنطقي، الرياضي، العلمي، الخطِّي linear، "المذكر"، الزمني، التفسيري، والنصف الأيمن يتيح العمل الخيالي، الإيقاعي، الفني، اللاخطِّي non-linear، "المؤنث"، المكاني، التأويلي؛ النصف الأيسر يختص بوضع المقولات، بالفصل، بالنظام التراتبي (الهرمي)، وهو بنيوي التوجُّه، نفعي، بينما النصف الأيمن يختص أكثر باختراق المقولات، بالوصل، بالتكامل، بالحركة، بالتحول، وهو سيروري التوجُّه، مجاني.

يتمتع الناس بكلتا المقدرتين، لكن الثقافة السائدة اليوم، على ما يبدو، تنزع إلى إنزال ميزات المخ الأيسر منزلة أرفع من مكمِّلاتها التي يختص بها المخ الأيمن. ولعل هذا عائد، نوعًا ما، إلى التمييز المطلق بين العقل والجسم الذي قال به ديكارت وأشياعه من العقلانيين والذي يشير فيه مصطلح "العقل" raison إلى خاصيتَي المخ الأيسر الرئيستين: الصواب والعَمْد. ولقد انساقت التربية الحديثة إلى التشديد على تنمية نصف الكرة الأيسر وعززتها، ما أنتج رجحانًا خطيرًا لكفة ميزان الخصائص العلمية و"المذكرة" والانفصالية على كفة الخصائص الفنية و"المؤنثة" والاتصالية، سواء في الأفراد أو في الثقافة ككل.

إن ما نحن بأمس الحاجة إليه الآن، على ما يبدو، هو تنمية واعية للملَكات الحدسية والاستقبالية والتكاملية التي قُمِعَت أو، في أحسن الأحوال، تُركَت للضمور. هذا هو "تحرير المرأة" بالمعنى العميق للكلمة، بصرف النظر عن الجنس أو النمط الجسماني والاجتماعي gender، بما هو سماح بتفتح الخصائص المؤنثة النبيلة عند البشر كافة. لكن حصول هذا يتطلب نقلة هائلة في القيم؛ إذ إن المخ الأيسر التحليلي، المنطقي، "النهاري" لم يقوِّم نصفه الآخر – بقيمه وخصائصه الصوفية، "الليلية" – حق قيمته. فسيطرته لم تشمل محاولة السيادة على النشاط الذهني الداخلي وحسب، بل طالت أيضًا التجليات الخارجية لخصائص نصف الكرة الأيمن وقيمه، بمن فيها النساء وأبناء الثقافات غير الصناعية والطبقات الأقل انتفاعًا من مزايا الثقافات الصناعية والفنانين والمتصوفة والحيوانات غير البشرية والمنظومة الإيكولوجية برمتها، في بريتها وتنوعها المذهلين. ومن عجائب التقدير أنه كلما ازداد هؤلاء معاناة من السيطرة والقمع والعدوان والاستغلال على يد الخاضعين لسيطرة مخهم الأيسر، ارتفعت قيمتهم كمعلمين وقدوات – وهذا لأنهم يمثلون في الواقع الإمكانية الوحيدة لإعادة التوازن إلى نصابه. إن "سادة الدماغ الأيسر"، إذا جازت التسمية، إذ يدمرون مكمِّليهم باعتبارهم "الآخر"، يدمرون أنفسهم من حيث لا يدرون.

* * *

التأمل، كما عرَّفنا به أعلاه، هو كيفية الوجود الأساسية لنصف الكرة الأيمن، من حيث كونه لامنطقيًّا، حدسيًّا، تكامليًّا، لاثنويًّا non-dual في الأساس. إن ذهنًا لا يستطيع أن يعمل بالفعالية نفسها بالكيفيتين التحليلية والتأملية لهو ذهن منقسم، محترب مع نفسه، سائر حتمًا نحو الجنون. فمن موقف السيطرة والتحكم الأساسي الذي تتبناه كيفية عمل نصف الكرة الأيسر، ومن اختلال التوازن الداخلي الذي يستتبعه ذلك، تنخلع النزاعات والحروب الخارجية العديدة وتُستهلك ممكناتُها البشعة حتى النفاد.

إن الإدراك التحليلي الذي يتصدر ثقافة العولمة السائدة اليوم ملَكة ذهنية بائسة المحدودية، وهي، إلى ذلك، لا تستطيع أن تدرك طبيعة حدودها. أما البصيرة التأملية، فهي مدركة لهذه الحدود إدراكًا عميقًا؛ لكنْ بما أن عملها غير منطقي أساسًا، فهي لا تستطيع أن تنقل معرفتها إلى الملَكة التحليلية للمخ الأيسر بلغة يستطيع هذا أن يفهمها؛ لذا تراها تفصح عن نفسها من خلال واسطات أخرى، من نحو الحلم والأسطورة والفن والشعر والموسيقى والرقص والوجدان الحدسي العميق. وربما كان في عجز المخ الأيسر عن الارتياح إلى كيفيات التعبير هذه تعليل لأزمة الثقة بينه وبينها ولنزوعه إما إلى مهاجمتها وإما إلى الاتِّجار بها لتعزيز إحساسه بالتفوق والسيطرة، من حيث هي أمثلة حية فاضحة على محدودية مقترَبه.

وحدها البصيرة الحدسية (المكبوتة اليوم) بوسعها أن تعالج هذا الوضع الشاذ، فرديًّا واجتماعيًّا على حدٍّ سواء. فهي، إلى جانب كونها مصدر كل فنٍّ حقيقي (بوصفه فعل كشف)، منبع المحبة والحكمة أيضًا. وهذه الخاصية عبَّر عنها بطرق مختلفة عديدة صوفيون مختلفون عديدون في لحظات إشراقهم التأملي.

بذا فإن المنظور المولود من البصيرة التأملية يقوم على استبار اختباري مباشر (لا يتكئ على وساطة النطق/المنطق) للترابط بين تجلِّيات الحياة-الأم كافة. ومن هذه البصيرة تولد الرحمة والتراحُم وحسٌّ بالتضامن يحيط بكل شيء. وعندما تندمج هذه البصيرة اندماجًا متوازنًا، تكامليًّا، في الإدراك العقلاني المنطقي (ما يسميه بعضهم "العقل الخطابي" discursive reason)، فإن أخلاقًا "سلامية" غنية عضويًّا تبدأ بالظهور عفويًّا. وإذ يبدأ الجانبان، ضمن الفرد الواحد، يعملان معًا عملاً متناغمًا عن طريق زيادة فعالية الجسم الثفني corpus callosum الواصل بين نصفَي الكرة المخية، فيما يمكن أن يُدعى "العلاقة الصحيحة" (التعبير لكريشنامورتي)، فإن الشرخ بينهما يلتحم، ومعه الشرخ بين الفرد والجماعة الأوسع، وبعبارة نفسانية يونگية، تتم مواجهة "الظل" shadow. وإذ يتم اعتناق الظل، يتكشف عن كونه جزءًا لا يتجزأ من النفس، لا بل هو النفس في مظهر آخر من مظاهرها[3].

وهكذا فإن الموجودات جميعًا، بما فيها الذات، تُرى تدريجيًّا كأعضاء مترابطة في سيرورة كلِّية، وليس كفرديات منفصلة؛ والمحبة والرحمة والفرح بفرح الآخرين تتصاعد عفويًّا كمشاعر متجذِّرة عميقًا في منظور متكامل لا يعود منحصرًا بالهموم الأنانية. خير الآخرين و"خيري" لا يعودان متضادين؛ فهما في الواقع لا ينفصلان. ومع نمو الأفراد، إذ يدركون أن خيرهم خير واحد لا يتجزأ ولا ينفصل عن خير المنظومة الأوسع، يبدؤون أيضًا بإدراك أن جماعتهم والجماعات الأخرى متصلة اتصالاً مماثلاً. الجماعات كلها متساوية من حيث مشروعيتها في الوجود، على أن يعي كلٌّ منها أن "الآخر" أيضًا، بالمقدار نفسه، مظهر مكمِّل له يساهم في بناء الكل الأكبر. بعض الجماعات، على ما يبدو، "ظلٌّ" بعضها لبعضها الآخر – ومن هنا عداؤها لها. فإذا تجرأ كل منها على اعتناق الآخر وتقبُّله، انطلق مقدار هائل من الطاقة النفسية، الفردية والجماعية، من أجل لحم الشروخ وحل النزاعات على مستويات الفرد والجماعة والمنظومة الأكبر، حسبما يقتضيه العدل وسائر القيم الإنسانية الشاملة.

ضمن هذه السيرورة، تصبح الأخلاق أجلى وأكثر عفوية، إذا صح التعبير. فالسلوك الأخلاقي إذ ذاك هو ببساطة السلوك الطبيعي السوي لدى فرد أو جماعة نمَّتْ لديها البصيرة التأملية تنمية تامة. عندئذ تكون دوافع نصفَي الكرة المخية الأيسر والأيمن كليهما على علاقة يُغْني فيها كلٌّ منهما الآخر ويتكامل معه، بحيث يصبح كلٌّ من السلام في الداخل والسلام في الخارج انعكاسًا للآخر.

ومنه، فإن تربية تولي تنمية الملكات الحدسية اهتمامًا ناضجًا تربية مصيرية الأهمية من أجل تحقيق الالتحام الداخلي والرحمة والسلوك الأخلاقي و… السلام العالمي، وهي أيضًا مصيرية من أجل تنمية الحكمة. إن تعريف الإپستمولوجي گريگوري بَتِسون بالعقل (المختلف جدًّا عن تعريف ديكارت!) يضيء علة الأمر: فهو يعرِّف بالعقل كنموذج تعضِّي (= تنظيم) organization لا غنى عنه للمنظومات الحية كلها. وبذلك لا يقتصر وجود العقل على أشكال معينة "راقية" من أشكال الحياة، بل يتخلل أيضًا المنظومات الإيكولوجية والكون بأسره، بوصفه "نموذجًا رابطًا" a pattern which connects (التعبير لبَتِسون) يلحم ما بين الأشياء وينظِّمها.

ويبدو أنه بمقدار ما تربي الثقافة الناس على الاختصاص وعلى تضييق حقل تقصيهم ومهارتهم، يفقد هؤلاء قدرتهم على جعل حياتهم وخبرتهم متصلتين بالنماذج الأوسع التي ترسو فيها. إن طبيعة التفكير والاستعراف cognition الإنسانيين قائمة على ملَكة الربط ما بين الأفكار في سياق، وبالتالي، إيجاد القيمة والمعنى، في مقابل كومپيوتر لا يوجِد المعنى من خلال الارتباط، بل يعالج المعلومات وحسب. وهذه القدرة على الجمع بين المتآلفات من الخصائص الأساسية للفطنة intelligence في أي منظومة مترابطة. وعندما يفقد الناس هذه الملَكة من جراء الاختصاص الأكاديمي الحصري والتفتت الاجتماعي المعمَّم، فإنهم في الواقع يقزِّمون ذهنهم ويضيِّقون مجال فطنتهم ويصيرون أغبى[4]. فمن دون سيرورة البصيرة الحدسية التي يختص بها نصف الكرة المخية الأيمن والتي تحوك الروابط، تصير الفطنة الإنسانية مجرد ذكاء صنعي AI.

ينجم الغباء الأخلاقي عن ذلك حتمًا. فالحكمة ترخم في ملَكة حياكة الروابط على عدة أبعاد؛ وهي الوجه المكمِّل للرحمة التي لا توضع موضع التطبيق إلا بالتراحم الذي هو فن إيجاد الصلات وصونها بامتياز. ومثلما تسير الحكمة والتراحم والسلام يدًا بيد، كذلك يسير الغباء والأنانية والاستغلال والعدوان. ففي جهلهم الأعمى بالترابط الأساسي للحياة، يلتمس الأفراد والجماعات تلبية مصالحهم بطُرُق منحصرة في ذواتهم أو في الفئة الضيقة التي ينتمون إليها، فيسعون فيها ضاربين بخير الآخرين والكل الأكبر عرض الحائط. وهذا المسعى، أخلاقيًّا، مسعى شرير، لكنه يتفرع أساسًا عن جهل مطبق بالطبيعة الحقيقية للاتصالية الإنسانية والكونية.

* * *

لا يمكن لمفهوم أخلاقي للسلام أن يكون عادلاً وشاملاً، على ما يبدو، ما لم يلتحم الشرخ بين العقل والحدس. فبتنمية البصيرة التأملية بأن الموجودات ومجتمعات الموجودات كلها مترابطة، ربما أمكن حل الغباء الذهني والاجتماعي والإيكولوجي والأخلاقي، الذي يبدو أنه بات سمة عصرنا السائدة، في منظور أشمل[5].

إن الإمكانات المتضمنة في هذا المنظور الأكثر توازنًا موجودة في الواقع فعلاً، وهي واعدة بتوطيد رؤية مقوِّية وتبصُّرات طازجة في سيرورة تحقيقها. وبالنظر إلى الأهمية العاجلة للمشكلات الجارية وإلى هول المعاناة الناجمة عنها، فإن الجهود الرامية إلى صياغة مفهوم أخلاق سلامية من منظور أكثر تكاملاً وأكثر انسجامًا مع الطبيعة الإنسانية تستحق منا جميعًا المزيد من التقصي والمزيد من نذر النفس.


[1] راجع: "المستقبل متضمَّن في الحاضر"، حوار مع تيك نات هَنْه، في كاثرين إنغرام، على خطى غاندي: حوارات مع مناضلين روحيين اجتماعيين، بترجمة أديب الخوري ومراجعة ديمتري أڤييرينوس، معابر للنشر، دمشق، 2008، ص 140-165.

[2] يعود الفضل في هذا التأثير إلى ترجمات رائدة لهذا الكتاب (ولغيره)، كالتي قام بها عالم الصينيات الكبير ريتشارد ڤيلهلم إلى الألمانية واهتم بها وقدم لها مؤسِّس علم النفس التحليلي كارل گ. يونگ.

[3] قوام الظل الجوانب المرفوضة في النفس، غير المعترَف بوجودها، التي تظهر في الأحلام على هيئة شخص أسود اللون؛ راجع بهذا الصدد: شارل بودوان، علم النفس المركب: تفسير أعمال يونغ، بترجمة وتقديم سامي علام، دار الغربال، دمشق، 1992، ص 194-197.

[4] الأحرى بـ"تربية" تقطع الناس عن قابليتهم الإنسانية الفطرية لإيجاد الصلة والمعنى والقيمة أن تسمى "تغبية"!

[5] هذا الغباء ليس جديدًا على الإنسان، لكن المفارقة هذه المرة هي في أنه يتجاسر على تسمية نفسه "حضاريًّا"!

فلسفة اللاعنف (ديڤيد مكرينولدز) – دارين أحمد

فلسفة اللاعنف*

دارين أحمد**

ليس اللاعنف وليد الحاضر فقط، بل هو، كما يؤكد اللاعنفيون الكبار، قديم قِدَمَ البشرية. غير أنه انتقل على صعيد الواقع، بدءًا من التجربة الگاندهية في تحرير الهند، من الأنساق الضيقة إلى النسق الرحب، أي تحول من مجرد حالات فردية أو جماعية، إلا أنها متفرقة وذات أثر محدود في التاريخ، إلى عامل مهم في صنع التاريخ. بعبارة أخرى، لا يزال النزاع هو العامل المحرك لمسيرة التاريخ، إلا أن إدارة النزاع اتخذت بُعدًا جديدًا، أكثر إنسانية، مع دخول اللاعنف كإستراتيجية فعالة للوصول إلى حل.

قبل أن نستعرض الكتاب محور المقال[1]، سنعرج على بعض المغالطات في فهم اللاعنف التي تشكل عقبة كبيرة تحول دون انتشار هذا التجديد الفكري-الواقعي في نظرتنا إلى مشكلاتنا المحلِّية والعالمية وفي علاقتنا معها. ويمكن لنا تلخيص هذه المغالطات في نقاط ثلاث:

– الأولى، لافعالية اللاعنف: لا يزال يُنظَر إلى اللاعنف على أنه انسحاب من الفعل، انسحاب "سلبي" قوامه العجز والضعف. ومن أسباب انتشار هذه النظرة نذكر:

1. التاريخ الذي مجَّد العنف على حساب السِّلْم والذي تستلهمه الآن مجتمعاتنا المتهالكة كمنبع وحيد لإحيائها.

2. الإعلام، بمنافذه كلها، مساهمٌ أساسي في توكيد العنف وتجاهُل التجارب اللاعنفية.

3. طريقة تفكير "أبيض-أسود" التي تقسم الواقع إلى حيزين متعارضين لا يمكن الجمع بينهما، وتلصق صفات أزلية دائمة بكل حيز منهما، بحيث يغدو من المتعذر رؤية العلاقة بينهما أو فهمها إلا بعين التناحر الأبدي؛ هذا إلى الترافق مع نحوها – أي طريقة التفكير هذه – إلى الاختزال أكثر وأكثر: فالشجاعة والقوة والجسارة والإقدام قد تُختزل إلى "التدميرية" التي توسَم بالإيجاب، فيما التنازل والصبر والتحمل والرقة والمسالمة تُختزل إلى الضعف الذي يوسَم بالسلب[2].

4. استبدال "العدو" بـ"الخصم": ففي حين يُعَدُّ الخصمُ إنسانًا أو دولة صاحب مصالح متعارضة مع مصالحنا وينبغي لكلينا محاولة التوصل إلى تسوية، يُعَدُّ العدو "شيئًا" لاأخلاقيًّا لا يمكن، بالمطلق، التعامل معه إلا بتدميره.

– الثانية، اللاعنف والمثالية: لا يزال اللاعنف، خاصة في ثقافتنا العربية، مرادفًا للمقولة المثالية المسيحية: "مَن لطمك على خدِّك الأيمن فحوِّل له الآخر". ولهذا الترادف مساوئ تتمثل أساسًا في نقطتين اثنتين:

1. الأولى في أنه يقصِر اللاعنف على دين واحد في ثقافة لا يزال فيها الدين هو عامل الهوية الرئيسي، وهي ثقافة تحملها أغلبية ديموغرافية مسلمة، في واقع يُعَدُّ فيه الإسلامُ (الأصولي) أحد منابع العنف الفكرية. المشكلة الأساسية في هذا القَصْر هي في تناقُضه مع واحدة من أهم ميزات اللاعنف: إنه مكان مفتوح للجميع، أطفالاً وشبانًا وشيبًا، نساءً ورجالاً، أقوياء وضعفاء، أصحاء وسقيمين، على العكس من العنف الذي يتغذى على شباب وصحة و"ذكورة" المنافحين عنه.

بهذا المعنى، يمثل اللاعنف نقلة على المستوى الإنساني: فمن التراتب البطريركي الذي يفرضه العنف عبر الأدوار الموكولة إلى أشياعه، إلى المساواة التي يقدِّمها اللاعنف للمشاركين فيه؛ إذ يستطيع كل شخص أن يكون فعالاً على قدر إمكانه، وعلى المستوى نفسه، دون أية تمييزات جندرية أو عمرية أو ثقافية.

2. الثانية في تناقُض مثالية المقولة المسيحية مع واقعية اللاعنف: فاللاعنف، كما يقول ديڤيد مكرينولدز، لا يُعرف إلا على محك الواقع؛ وهو ليس نظرية فلسفية أو أخلاقية فقط، على الرغم من ارتباطه الوثيق بالفلسفة والأخلاق، بل هو، أيضًا، إستراتيجية واقعية قد تنجح وقد تخفق بحسب ظروف استعمالها، إلا أنها – وهذه ميزة أساسية أيضًا من ميزات اللاعنف – توحِّد بين الغاية والوسيلة، مما يساهم، حتى في حال إخفاق حركة لاعنفية ما في الوصول إلى الهدف المحدد آنيًّا، في التأسيس لمجتمع أفضل هو الغاية النهائية للفعل الإنساني.

3. ثالثًا: اللاعنف و"التقنية": اللاعنف ليس تقنية أو إستراتيجية معزولة عن الهدف المطلوب. طبعًا من الممكن استعمال تقنية اللاعنف ضمن تقنيات أخرى عنفية، لكن اللاعنف يفقد بذلك فعاليته الإستراتيجية. بهذا الصدد يقول جان-ماري مولِّر، أحد المفكرين اللاعنفيين الذين يجوز أن نطلق عليهم صفة "پراغماتيين"، إن نشاطًا فيه 90% لاعنف و10% عنف هو نشاط عنيف استُعمِلَتْ فيه تقنيات لاعنفية! وهذا ما ينزع عن اللاعنف، في حال اعتماده كإستراتيجية نضال، فعالية أثره التي ينبغي له أن يوقعها في الخصم وفي الرأي العام وفي المشاركين فيها كذلك.

إن تجاوز المغالطات السابقة شديد الأهمية عند الرغبة في التعرف إلى الفكر اللاعنفي الذي يقدم هذا الكتاب الذي بين أيدينا بعضًا منه.

philosophy_of_nonviolence

يتحدث الكتاب عن اللاعنف من منطلق تجربة حية خاضها المؤلف، مركزًا على مجمل القناعات التي تشكلت من الواقع كما ومن قراءات متعددة، فيبدأ من افتراض أساسي يقتضيه اللاعنف، وهو نسبية رؤية الإنسان للحق، أي عدم قدرة أي إنسان على الوثوق ثقة مطلقة بأنه على حق ونفي هذه الثقة عن الآخر "الخصم". الواقع في تغيُّر دائم، وهذا التغير يتم عبر النزاع، مما يعني وجودًا دائمًا للخصم. الجديد الذي يقدِّمه اللاعنف هو إدارة جديدة للنزاع، إدارة أكثر إنسانية تأخذ بعين الاعتبار فرادة الكائن الإنساني – الذي هو الخصم أيضًا.

تغيير الواقع لا يمكن له أن يتم من دون ألم. لكننا، في المقابل، لن نتحول إلى ممجِّدين للألم، حتى لو كان ذلك باسم "العدالة". وهنا يتناول مكرينولدز مفهوم العدالة، مميزًا بينها وبين الثأر: فالعدالة ليست هي الثأر أبدًا، وإذا كنا نريد التغيير فيجب أن نتحرك نحو الأمام، لا أن ندور في الحلقة المغلقة للثأر[3]. هذا التحرك لا يمكن له أن يحدث من دون تجاوُز، على الرغم من أن التجاوز قد ينقض العدالة في أبسط مفاهيمها. في اختصار، العدالة هي سعينا في تحقيق شروط أكثر إنسانية لحياة البشر، هي إصلاح ما أفسده غيرنا، لا في المزيد من الإفساد المقابل.

هل يتطلب اللاعنف خصمًا إنسانيًّا؟ ويتساءل مكرينولدز في صيغة أخرى: "ولكن ماذا عن هتلر؟" ويجيب بأنه لا يمكن معرفة أثر اللاعنف في مواجهة مثل هذا الخصم؛ فاليهود لم يكونوا لاعنفيين، بل سلبيون. كما أن هناك توثيقات مهمة لانتصارات لاعنفية عديدة في أوروبا على النازية: ففي النرويج حصل إضراب ناجح للمعلِّمين ضد تدريس الإيديولوجيا النازية؛ وفي بلغاريا حالت المقاومة المدنية العفوية دون ترحيل اليهود خارج البلاد.

ويبين مكرينولدز أن الإنكليز والأمريكيين في الجنوب لم يكونوا باللطف المزعوم عنهم في صراعهم مع الهنود أو مع "حركة الحقوق المدنية" على التوالي. صحيح أن الظروف ساعدت على إنجاح الثورة اللاعنفية في كلا المكانين وأفشلتْها في أماكن كثيرة أخرى، إلا أنه لا مناص من أن يُفهَم أن اللاعنف قد يخسر أيضًا، مثله كمثل العنف تمامًا، إلا أنه يتميز بأن هدفه النهائي ليس النصر فقط، بل تغيير الواقع نفسه؛ وهو ما ينجح فيه، حتى لو لم يحقق غايته الآنية، عبر "البرنامج البنَّاء" الذي لا يكتمل النشاط اللاعنفي من دونه.

غاية النشاط اللاعنفي متضمَّنة في وسيلته: گاندهي لم يسعَ إلى خروج الإنكليز من الهند "فقط"، بل ألح على استقلال الهنود أنفسهم أولاً، مؤكدًا عليه ومجاهدًا في سبيله (مسيرة الملح ودولاب الغزل مثالان رائعان على ذلك)؛ سيزار تشاڤير كان أول مؤسِّس لنقابة للعمال الزراعيين في الولايات المتحدة، وقد عمل على توعية العمال بحقوقهم وبمخاطر المبيدات الحشرية، بالإضافة إلى أنه أعاد إليهم الأمل بقدرتهم على إحداث أثر؛ مارتن لوثر كينگ فعل ذلك أيضًا من خلال فعل شديد البساطة كالمشي.

اللاعنف يبني غايته، إذن، عبر أنشطته ذاتها؛ وهو بذلك يتميز عن العنف الذي يضيف إلى الخسارات خسارات جديدة، ويرجئ الإيجابية إلى زمن مجهول غالبًا ما تضيع فيه الإيجابية ذاتها، كما يؤكد التاريخ.


* عن موقع الأوان: http://www.alawan.org.

** شاعرة سورية، محرِّرة في مجلة معابر (www.maaber.org).

[1] ديڤيد مكرينولدز، فلسفة اللاعنف، بترجمة ديمتري أڤييرينوس، معابر للنشر، دمشق، 2009.

[2] الضعيف، في هذا الفكر، عنيف كامن: إذ إن "سِلْمه" ليس ناتجًا من قوته، كما يفترض اللاعنف، بل ناتج من نقص إمكانات العنف لديه؛ فمتى تغيرت ظروف هذه الإمكانات تبادَلَ الأدوار مع التدميري في سهولة لا تخفى على أحد.

[3] راجع: جان ماري-مولِّر، "الانتقام ليس حقًّا من حقوق الإنسان!"، http://samawat.org/articles/vengeance_no_human_right_muller. (المحرِّر)

على خطى غاندي (حوارات) – لنا عبد الرحمن

على خـطـى غـانـدي

حوارات مع مناضلين روحيين اجتماعيين

بحثًا عن الحقيقة والحرية والسلام

لنا عبد الرحمن

عن دار "معابر للنشر" صدر كتابُ على خطى غاندي[*]، ضامًّا بين دفَّتيه مجموعة "حوارات مع مناضلين روحيين اجتماعيين" – كتابٌ أقل ما يوصف به أنه "ملهِم" لكلِّ مَن يبحث في هذه الحياة عن الحقيقة والحرية والسلام.

on_the_footsteps_of_gandhi

أجرت الحوارات الصحافيةُ الأمريكيةُ كاثرين إنغرام؛ وهي صحافية مختصة في الصحافة الروحية، دأبت خلال عملها على إعداد تقارير حول الشخصيات الكبرى والحركات الروحية والاجتماعية، وبالأخص حول مسألة محورية هي حقوق اللاجئين. من هنا قادتْها هذه القناعات إلى الطواف حول العالم للتحاور مع أصحاب الأسماء الواردة في الكتاب، بغضِّ النظر عن عروقهم وانتماءاتهم؛ لكنْ يظل المشترك بينهم، كما يبين من عنوان الكتاب، هو أن حياة المهاتما غاندي ونضاله وكتاباته كانت منارةً ملهِمة لهم جميعًا.

في مقدمتها للكتاب، تتحدث كاثرين إنغرام عن الظرف الزماني والمكاني الذي دفعها لإجراء هذه الحوارات ثم جمْعِها في كتاب. لم يكن من اليسير صدورُه على الإطلاق، لأن مثل هذه النوعية من الكتب الزاخمة بالمعرفة تحتاج أيضًا إلى نوعية معينة من القراء، سواء في الغرب أو في الشرق؛ لذا توجِّه كلمة شكر لناشر الكتاب ولكلِّ مَن ساعد على ظهوره. وتقول في مقدمتها:

إبان السنوات التالية، وأنا أواصل البحث، حاورتُ معلِّمين روحيين ومناضلين يجسِّدون حالةً من اليقظة بقدر ما يجسِّدون التزام التخفيف من ألم العالم.
[…] إننا نعيش عصرًا خطرًا. إن جهلنا وجشعنا […] قد باتا حليفين لقدرتنا على تدمير أنفسنا، لا نحن وحسب، بل البيئة التي نعيش فيها جميعًا على الكوكب. لم يعد يجوز لنا أن نسمح لأنفسنا بعقود أخرى من الوفرة على حساب فقراء الأرض. (ص 12، 14)

بيد أن الكاتبة لا تكتفي بالحوارات التي تجريها، بل تقوم بجهد بحثي، تمثَّل في جمع مادة وافية عن حياة كلِّ شخصية من الشخصيات التي تُحاورها، ظروف نشأتها، المكونات الاجتماعية، ودوافع التحول نحو العمل الروحي. وهذه المقدمة البحثية المسهبة قبل كلِّ حوار ضرورية جدًّا لأنها تقدم للقارئ جوانب شخصية لا تَرِدُ في الحوار، لكنها أساسية في إلقاء ضوء كافٍ على شخصية المُحاوَر ونضاله.

مسار الحوارات في هذا الكتاب ينبش عميقًا تحت المجرى المعتاد للعمق؛ بل إن الأكثر تميزًا هو أن مسار الحوارات كلها يتوضع على المستوى ذاته من العمق، بحيث لا يمكن المفاضلة فيما بينها. فالمحاوِرة تمكنت، في ذكاء شديد، من اختيار النقاط المحورية في حواراتها مع كلِّ شخصية على حدة، ومن إبراز الجانب الذي تحقَّق فيه نضالُ هذه الشخصية. فهي، في حين تناقش الدالاي لاما في جوهر ممارسته الروحية وارتباطها بالتزامه الاجتماعي والسياسي مبدأ اللاعنف، تحكي مع المناضل الفلسطيني مبارك عوض عن رؤيته للاحتلال الإسرائيلي، بينما تتحدث مع المغنية الأمريكية جوان بيز عن أثر الفن في نضالها ضد العنف.

تناقش حوارات كتاب على خطى غاندي، بلا مواربة ولا التفاف، أفكارًا وسياسات خطيرة هزت العالم، غيرت اتجاهاته، وتركت آثارها السلبية على سكان هذا الكوكب، على بيئتهم، حياتهم، مرضهم، وموتهم. إنها الحروب، القنابل النووية، سباق التسلح، الأسمدة الكيميائية، الاستعباد، الفقر، الجوع، الظلم، الاضطهاد، عمالة الأطفال، وغيرها من إساءات البشر بعضهم لبعض – كل ذلك يحضر في مقابل وعي أناس آخرين يطالبون بسياسة اللاعنف في مواجهة عنف العالم، جنونه، وغفلته.

يجمع بين سلسلة الحوارات الموجودة في الكتاب نسيجٌ مشتركٌ حيك من خيط واحد، تُمسِكُ به المحاوِرة بقوة ليمتد بينها وبين أبطال كتابها الذين تصفهم قائلة:

إن الرجال والمرأة الذين حاورتُهم في هذا الكتاب بعضٌ من أبطالي ومن أوليائي الشخصيين لأنهم يجسِّدون المُثل التي تبدو لي الأكثر ضرورة في عالمنا. […] إنهم يخبروننا أيضًا بأن قلبنا يعرف من الآن ما الحق، وبأن عصرًا مضطربًا كالذي نعيشه اليوم هو نداء للإصغاء بانتباه أكبر لهذا "الصوت الخافت" الداخلي والسلوك بمقتضاه. (ص 14-15)

تؤكد مجمل الحوارات أن مشكلات هذا العالم لا ينفصل بعضها عن بعض أبدًا وأننا، بإصرارنا على ممارسة هذا الفصل، نزيد من حدة الأزمة، فيزداد الفقر والتلوث، الجوع والمرض، حيث لا يمكن للعالم أن يتغير من دون أن يُستوعَب أنه لا يوجد بلدٌ في إمكانه أن يعيش معزولاً عن غيره من البلدان؛ وبالتالي، فمن الطبيعي أن تتكل كل دولة، بشكل أو بآخر، على غيرها في العديد من احتياجاتها. هنا لا تكمن الحاجة على المستوى الاقتصادي فقط؛ إذ إن نظرة شمولية تكشف عن أكثر من مفهوم للاحتياج، بما يفرض، بالتالي، التفكير مرارًا قبل إيقاع أيِّ أذًى بالآخر، لأن هذا الأذى سيرتد مع الوقت على فاعله. والأمثلة على ذلك كثيرة في الكتاب، سواء كانت سياسية، مثل حرب أمريكا في ڤيتنام أو حربها على العراق، أم اقتصادية، مثل معرفتنا أن اليابان التي تُعتبَر "معجزة آسيا الاقتصادية" تتكل في احتياجاتها الغذائية على الاستيراد بنسبة 70%. فهل يمكن إذن فصل مشكلات العالم بعضها عن بعض؟!

هناك أيضًا المصالحة بين شقَّي العالم: المادي والروحي. وليس المقصود هنا بكلمة "روحي" غير الجانب القيمي السلوكي من الإنسان، لا الجانب العقائدي، حيث إن القيم العليا هي التي ستؤدي حتمًا إلى شيوع الرحمة والمودة، تقبُّل الآخر، التفكير فيه، فالعمل من أجله، ثم الوصول إلى تخفيف جزء ضئيل من معاناة البشر.

يضم الكتاب كلمة توطئة لرامتشاندرا غاندي، حفيد المهاتما غاندي، يقول فيها:

إنني لواثق من أن المهاتما غاندي، لو كان حيًّا، لبارك العمل الجبار الذي أنجزه الرجال والنساء الأفذاذ الذين حاورتْهم كاثرين إنغرام في هذا الكتاب. (ص 7)

كما يضم الكتاب ثمانية حوارات مع الشخصيات التالية، على التسلسل: قداسة الدالاي لاما، الزعيم الروحي والسياسي للتيبت، مبارك عوض، المناضل اللاعنفي الفلسطيني، جوان بيز، مغنية أمريكية، الراهب البوذي الڤيتنامي تيك نات هَنْه، سيزار تشاڤيز، أول رجل في تاريخ الولايات المتحدة يؤلِّف نقابة للعمال الزراعيين، أهنگمگي تودور آريارتْنِه، مناضل من شري لانكا مسئول عن جمعية تهتم لتنفيذ برامج تخص التربية والصحة والزراعة، الأخ ديڤيد شتايندل راست، الراهب "المسكوني"؛ وآخر الحوارات كان مع أسقف جنوب أفريقيا دزموند توتو.

إن ما ينبغي قوله بشأن هذه الحوارات أن أصحابها قد كرسوا حياتهم لهدف نبيل، صاغوا عمرهم كله في سبيل تحقيقه، من دون أي تردد أو خشية رفض اجتماعي أو سياسي، بل في تحدٍّ وإصرار تام على الاستمرار، على الرغم من كل المكابدات التي تعرضوا لها، وعلى الرغم من أن بعضهم كان مدرِكًا أن نهاية المسار لن تكون نتائجها على يديه وفي زمنه، كما تقول جوان بيز: "[…] لا أعتقد بأني سأرى، خلال حياتي، نتائج كل المعارك التي خضناها […]" (ص 112)؛ وهذا أيضًا ما يوافق عليه الراهب البوذي تيك نات هَنْه حين يقول: "إذا كانت السعادة موجودة هنا حقًّا فسيكون لنا مستقبل" (ص 157)؛ وفي عبارة أخرى: إن مسيرة عملنا فقط هي التي تَعِدُنا بالوصول إلى نتائج.

ملفتٌ في هذا الكتاب الجهدُ الملموسُ الذي قام به المترجم أديب الخوري، سواء على مستوى الترجمة أم في تذييله الكتاب بخاتمة كتبها حول رؤيته لمفهوم اللاعنف وتلامُسه مع الواقع العربي. يقول:

انسحبت أمريكا من ڤيتنام مهزومة، لكنها تمارس اليوم عنفًا لا يقل شراسةً عن عنفها في ڤيتنام، إنْ لم يفقْه، في العراق وأفغانستان، وفي أماكن أخرى أيضًا.
[…] يبدو، إذن، أن "أولي الأمر" في "البلد الأعظم" لم يتعلَّموا شيئًا من درس ڤيتنام […]. فالذين يموتون في أركان العالم الأربعة ليسوا أولادهم، بينما تستمر خزائنهم وأهراؤهم بالامتلاء!
هل يعني هذا أن جهود جوان بيز، وكل مَن ناضل معها، وكل مَن يجاهد اليوم، وكل الملايين التي تظاهرت في عشرات مدن العالم في يوم واحد عشية الحرب على العراق، قد ذهبت عبثًا وأدراج الرياح؟ (ص 280-281)

يحكي أديب الخوري عن كارثة السلاح النووي الذي يسبب تخزينُه مباشرةً إنضاب الموارد الرئيسية للأرض، كما يتناول المخاطر الاجتماعية والأخلاقية للهندسة الوراثية والاستنساخ، ثم يختم كلمته بفكرة "الفداء"، حيث فضيلة التخلي والتنازل، ولو عن وجبة طعام واحدة، قادرة على فعل الكثير، ليس على مستوى الجوع المادي وحسب، بل في منح الروح الانعتاق أيضًا.

هذا الكتاب هو الإصدار الورقي الثالث لدار "معابر للنشر"، بعد إصدارها كتابين متميزين هما: قاموس اللاعنف لجان-ماري مولِّر (بالتعاون مع "الهيئة اللبنانية للحقوق المدنية") والتأمل للحكيم الهندي كريشنامورتي. هذا وقد عُرِفَتْ معابر في العالم العربي عبر الموقع الثقافي الإلكتروني www.maaber.org، الذي يتميز بوجود مكتبة هامة، وبحرصه أيضًا على نشر القضايا التي تتصل مباشرة بجوهر الإنسان وتوازُن علاقته مع الكون.


[*] كاثرين إنغرام، على خطى غاندي: حوارات مع مناضلين روحيين اجتماعيين، بترجمة أديب الخوري ومراجعة ديمتري أڤييرينوس، معابر للنشر، دمشق، 2008.