گاندهي مُلكٌ للمستقبل*
جان-ماري مولِّر**
في الثالث من كانون الثاني سنة 1948، حوالى الساعة الخامسة بعد الظهر، في حديقة المنزل الذي يقيم فيه گاندهي بنيودلهي، بينما كان متجهًا إلى المصلَّى، ضمَّ رجلٌ يديه أمامه علامةَ الاحترام، ثم أطلق عليه من مسدَّسه ثلاث رصاصات. خرَّ گاندهي صريعًا، وسرعان ما قضى نحبه.
واليوم، بعد انقضاء [أكثر من] ستين سنة على موت گاندهي، ما هي الصورة الباقية في أذهاننا عن ذاك الرجل الذي قاد شعبه إلى الاستقلال؟ ما هي فكرتنا عن اللاعنف الذي عاش في سبيله ومات؟ صحيح أن اسمه ووجهه صارا بنظرنا مألوفين، لكنْ ما أقل ما نعرف عن فكره وعمله! صحيح أننا – عمومًا – نكنُّ لگاندهي ذلك الإعجاب المبهم الذي نكنُّه عادةً للأعلام الذين رسمت الأسطورةُ حولهم هالةً من الحكمة، بيد أنه مافتئ متجاهَلاً إلى حدٍّ بعيد وسط شهرته نفسها! إذ لا يزال الموشور المشوِّه لإيديولوجيا العنف الضروري والشرعي والمشرِّف التي تسيطر على ثقافتنا يجعلنا نتصور اللاعنف بوصفه “مثالية” غير مؤثرة في الواقع – مثالية سخية ربما، لكنها غير مسؤولة.
لقد لفت گاندهي الأنظار، بكل أريحية، إلى أن اللاعنف “قديم قِدَمَ الجبال”. فهو، بالفعل، لم “يبتكر” اللاعنف؛ إذ إن هذا الأخير متجذِّر في أقدم التقاليد الدينية والروحية والفلسفية والحِكَمية التي تؤلف تراث الإنسانية العالمي. لذا أعلن گاندهي صراحة انتسابَه إلى إرث الحكماء الكبار الذين سبقوه إلى البحث عن الحقيقة. غير أن إسهامه في فهم اللاعنف إسهام جوهري: هناك “ما قبل” گاندهي و”ما بعد” گاندهي، إنْ من حيث التفكر الفلسفي في مبدأ اللاعنف الذي يؤسِّس لإنسانية الإنسان أو من حيث الاختبار السياسي لمناهج العمل اللاعنفي التي تتيح الحل السِّلمي للنزاعات.
في سنة 1920، ترجم گاندهي كلمة أهمْسا ahimsā السنسكريتية إلى الإنكليزية بـ”لاعنف” nonviolence. لقد وردت هذه الكلمة في نصوص الأدبيات الهندوسية والجَيْنية والبوذية، وهي مكونة من أداة النفي أ- ومن اسم همْسا الذي يعني شهوة الأذى أو تعنيف كائن حي. أهمْسا، إذن، هو الاعتراف بشهوة العنف الكامنة في الإنسان التي تقوده عَمْدًا إلى تنحية الإنسان الآخر وإقصائه وإلغائه والتبريح به، ومن ثم استئناسها والسيطرة عليها والكف عنها. وعندما حاول گاندهي تعريف اللاعنف صاغ هذه العبارة السلبية للغاية: “اللاعنف الكامل هو الغياب التام لسوء النية حيال كلِّ حي.” ثم ما لبث أن أكد لاحقًا: “يعبَّر عن اللاعنف، في صورته الفاعلة، بطيب النية حيال كلِّ حي.”
ليس اللاعنف، بنظر گاندهي، منهج عمل فقط، بل هو أولاً موقف، أي نظرة: نظرة طيبة حيال الإنسان الآخر، ولاسيما حيال الإنسان المختلف، المجهول، الغريب، الدخيل، المزعج، العدو؛ وهو نظرة رحمة أيضًا حيال الإنسان المقهور الذي يتكبد الظلم والذِّلة والمهانة. اللاعنف، بحسب گاندهي، هو مبدأ البحث عن الحقيقة بالذات. فالتاريخ ماثل أمامنا شاهدًا أن الحقيقة، اليوم كما بالأمس، تصير حاملة للعنف مادامت لا تتأسس على فريضة اللاعنف. إذا لم تؤكد الحقيقة لاإنسانية العنف المطلقة فلا بدَّ عند ذاك أن تأتي بالطبع لحظة يظهر فيها العنف بوصفه وسيلة شرعية للدفاع عن الحقيقة. وحده الإقرار بفريضة اللاعنف يتيح دحضًا نهائيًّا للوهم المحمول على الإيديولوجيات جميعًا – وهم اللجوء إلى العنف دفاعًا عن الحقيقة. يقتضي البحث عن الحقيقة على درب اللاعنف إعمال وسائل عمل منسجمة مع الغاية المطلوبة. ففي النزاعات الاجتماعية والسياسية، لا بدَّ من ترجمة الحقيقة إلى عمل. إذ ذاك فإن قوة الحقيقة هي قوة العمل الحقيقي، أي العمل السليم. ويتمثل إسهام گاندهي الحاسم هاهنا في إطلاقنا من أسْر الخيار ذي القطبين الذي تفرضه الإيديولوجيا السائدة، حيث لا نملك خيارًا إلا بين الجبن والعنف. فهذه الإيديولوجيا تمارس على ضمائرنا ابتزازًا حقيقيًّا: إذا لم نكن نقبل العنف فذلك لأننا جبناء! مذ ذاك، نختار العنف لئلا نظهر بمظهر الجبناء. أما گاندهي فيفسح في المجال لإمكانية ثالثة، متيحًا لنا أن نختار بين العنف والجبن واللاعنف. فلا يلتبسنَّ علينا معنى مقصده: إنه لا ينصح لنا باختيار العنف لئلا نكون جبناء، بل ينصح لنا باختيار اللاعنف لئلا نكون عنيفين ولئلا نكون جبناء.
لن تتمكن البشرية قطعًا من التصدي للتحديات التي تجابهها اليوم إذا لم تعتنق كشوف گاندهي الجوهرية. إنه يدعونا إلى إعادة اكتشاف موروثات تقاليدنا العريقة – الفلسفية والدينية والسياسية على حدٍّ سواء – وإلى وعي مختلف أشكال التواطؤ التي عقدتْها ثقافاتُنا مع طاغوت العنف. فإذا فعلنا، أمكننا عند ذاك أن نعي مقدار إلحاح بناء ثقافة اللاعنف. ما يهدد السلام، في كل مكان من العالم وفي مجتمعاتنا كافة، إنما هي الإيديولوجيات القائمة على التمييز والإقصاء – سواء تعلق الأمر بالقومية أو بالعرقية أو برُهاب الغرباء xénophobie أو بالأصولية الدينية أو بأي عقيدة اقتصادية تتأسس على طلب الربح وحده – التي تتآزر جميعًا مع إيديولوجيا العنف. إن ما يهدد السلام، في الحاصل، ليس النزاعات بحدِّ ذاتها، بل الإيديولوجيا التي توهم البشر بأن العنف هو وحده وسيلة حلِّ النزاعات. فهذه الإيديولوجيا تلقِّن احتقار الآخر، كراهية “العدو”، وهي تسلِّح المشاعر والرغبات والعقول والأذرع؛ إنها تحوِّل الإنسان إلى أداة بجعله قاتلاً مرتاح الضمير. فهي، إذن، ما يجب مكافحته في المقام الأول.
ليس بمقدور العنف إلا أن يبني الجدران ويدمِّر الجسور. أما اللاعنف فيدعونا إلى تقويض الجدران وبناء الجسور – وهذه المهمة أصعب بكثير. فهندسة الجدران لا تتطلب أي مخيلة: يكفي اتِّباع قانون الثقالة؛ أما هندسة الجسور فتتطلب فطنة أكبر بما لا يقاس: إذ يجب التغلب على قوة الثقالة. والجدران التي تفصل بين البشر ليست فقط جدران البيتون التي تجزئ الأرض التي ينبغي اقتسامها؛ فثمة أيضًا جدران في قلوب البشر وأذهانهم: جدران الأحكام المسبقة والاحتقار والوصمات والضغائن والأحقاد والمخاوف. ووحدهم الذين، أيًّا كان المعسكر الذي ينتمون إليه، يتحلون بالبصيرة والفطنة والشجاعة على تقويض هذه الجدران وعلى بناء الجسور التي تتيح للبشر والجماعات والشعوب أن تتلاقى وتتعارف وتتحادث وتشرع في التفاهم – وحدهم هؤلاء صانعو السلام الذين يصونون مستقبل الإنسانية. كان گاندهي يؤكد: “العنف انتحار.”
في مستهل القرن الواحد والعشرين هذا، نجدنا نسأل: ألم يئن أوانُ وعي أن العنف غير قادر قطعًا على إيجاد حلٍّ إنساني للنزاعات البشرية المحتومة التي تحوك لُحمة وجودنا وتاريخنا، أوانُ فهم أن العنف ليس أبدًا الحل، بل هو دومًا المشكلة؟ إن صور الحديد والنار والدم والموت التي تؤلف المادة الأولية لأنباء الساعة تأتينا كل يوم بالبرهان على أن العنف عاجز عن بناء التاريخ، بل هو لا يستطيع إلا أن يدمِّره. أمام مأساة العنف، أمام لاإنسانيته، أمام عبثيَّته، أمام عدم فعاليته، ألم يحن الوقت، بدافع الواقعية إنْ لم يكن بدافع الحكمة، أن نعي بداهة اللاعنف؟
* كُتب هذا المقال بمناسبة الذكرى الستين لاستشهاد المهاتما گاندهي. (المحرِّر)
** فيلسوف وكاتب والناطق الوطني باسم “الحركة من أجل بديل لاعنفي” MAN. من مؤلفاته المترجمة إلى العربية: غاندي المتمرد: ملحمة مسيرة الملح (معابر للنشر، دمشق 2011) وقاموس اللاعنف (معابر للنشر/الهيئة اللبنانية للحقوق المدنية، دمشق/بيروت 2007).