المحبة – ديمتري أڤييرينوس

ترياق العنف الأوحد

ديمتري أڤييرينوس

ديمتري أڤييرينوس

 

لا يلطَّف الصراع بالكراهية؛ يتوقف الصراع بالمحبة – ذاك قانون أزلي.
البوذا گوتاما

 

هل يُعقَلُ أن يكون في محبةٍ ولطفٍ نبديهما حيال الآخَر شفاؤه من جراح العنف والقسوة فيه، لا بل إغناءٌ لنا وله على حدٍّ سواء؟ إذا كان الأمر كذلك، لماذا إذن نُشرَطُ ونُربَّى ولماذا، بدورنا، نربي أبناءنا ونُشرِطُهم على الردِّ “عينًا بعين وسنًّا بسن”؟!

نقسو ونَعْنَف حين يستبد بنا الجزع أو الكراهية؛ ونحن نجزع أو نكره لأسباب متنوعة. غير أن هناك اعتقادًا مغلوطًا سائدًا بيننا، مفاده أن علَّة الجزع والكراهية موجودة خارجنا. كثيرًا ما نحيا في ظروف لا نستحبها وليس في ميسورنا تغييرها؛ ومنه فإننا، حين نجزع أو نكره، نحمِّل “الآخر” مسؤولية مأزقنا: ننحو باللائمة على النظام، على السياسيين، على دين بعينه، على “العدو”؛ لا بل قد نذهب إلى تحميل الشمس مسؤوليةَ السطوع سطوعًا شديدًا والعصافير مسؤوليةَ الزقزقة زقزقةً صاخبة! وفي هذه الحالات جميعًا، لا نعترف بأن ما يتسبب في جزعنا هي الكراهية المعتملة في نفوسنا نحن.

إنما نفوسنا متاهة من المفاهيم والمأمولات و”المثل العليا” التي نلقَّنُها وننشأ عليها. وهذه المفاهيم والمأمولات والمُثُل تتصف جميعًا بمحدودية الخبرة البشرية المتناهية وعيوبها. نحن في الحياة نلاقي المجهول ملاقاةً مستمرة: في كلِّ لحظة، تتفتح في الحياة، من حيث لا نحتسب، سبلٌ متنوعةٌ لا يمكن لنا أن نتوقع معظمَها سلفًا، وفي هذه اللقاء اليومي مع المجهول، نجابه مقاومةَ المفاهيم الجامدة التي نشأنا عليها. خبرات الحياة لامتناهية، لكن الذهن البشري – الأداة التي تمكِّننا من الاختبار – متناهٍ: الأمر أشبه ما يكون بمصباح 60 واط يسري فيه تيارٌ ذو استطاعة 200 واط – ونحن في بساطة لا نطيقه! والنتيجة الحتمية هي الغضب والجزع والكراهية. وبهذا فإننا، في لحظات الغضب والجزع والكراهية، نخرج عن طورنا؛ في تلك اللحظات نكون، من حيث لا نعي، رُكَّعًا نستغيث، نكاد أن ننتزع شعرنا من فرط ما نشعر به من ألم وعجز وإحباط! وهذا الشعور الهائل بالإحباط والعجز كثيرًا ما يكون في الأصل ناجمًا عن قسوتنا وكراهيتنا نحن.

لقد أشْرَطَنا المجتمعُ على “الفعل”، على أن نكون “شجعانًا” في الظروف كافة؛ قوة الضغط المجتمعي تَحمِلنا على الامتثال، على الظهور بمظهر “الأبطال الصناديد”، بمظهر مَن “يكتب التاريخ”! وفي هرج الخطابة البطولية التي من شأنها أن تستهلك شعوبًا بأسرها، يكون التعقل والرأي الحرُّ أول الضحايا قطعًا: قد يُتَّهم المفكرُ المستقل، غير المأخوذ بحمَّى الهستيريا الجماعية، بالجبن وانعدام الحسِّ الوطني، في أحسن الأحوال، وفي أسوئها، بالخيانة! ذلك هو شأن الضغط الهائل للإشراط المجتمعي وتيارات القوى العمياء غير الملجومة. وبحسب هذا السيناريو، كثيرًا ما يؤخذ القومُ على حين غرة، فيُرغَمون على التصرف وفقًا لنماذج ذهنية مدمِّرة. فكما أن الفراشة تنساق صوب اللهب لتدمِّر نفسها لا محالة، كذلك ننساق إلى الغضب والكراهية والقسوة والعنف؛ وفي هذا الانسياق الأعمى، نزرع بذور دمارنا في المآل، ونحفر قبورنا بأظافرنا.

كثيرًا ما تنطوي الحياة على تناقضات ظاهرية، وسخريةُ الأقدار تصفع في بعض الأحيان صفعًا؛ نتمنى أن نكون “مختلفين” عن أسلافنا، لكننا في النهاية نسير على دروبهم المطروقة إياها. ففي تعطُّشنا إلى قبول المجتمع ونيل موافقته، نتصرف متسرعين، تلتبس علينا الأمورُ والمفاهيم، يستبد بنا الجزع والكراهية، وننصاع للهستيريا الجماهيرية؛ نتصرف من غير تأنٍّ ولا تدبُّر، تجنبًا للسخرية وتهربًا من مواجهة لحظة إذلال واتهام بالجبن أمام إجماع الناس. وبهذا فإن فكرنا وفعلنا يكرسان النموذج الذهني الذي أوجدهما، – وهذا أشبه ما يكون بالذئب المفترس في لبوس حَمَل؛ – وبالتالي، لا نفلح إلا في ترسيخ المزيد فالمزيد من الكراهية في نفوسنا ونفوس الآخرين، وفي سعينا إلى تأديب “الحمقى”، لا نلبث أن نتحامق نحن أيضًا.

كما أن النار لا تنطفئ بصبِّ الزيت عليها، كذلك لا يكون التغلبُ على القسوة والعنف بصبِّ المزيد من الكراهية عليهما. وسواء أسأنا أو أسيء إلينا، وحدهما اللطف والمحبة يقدران أن يلأما جراح الغضب والكراهية والقسوة والعنف ويزيلا ندوبَها من نفوسنا المتألمة. لا يهمُّ كثيرًا إنْ كنتُ المعتدي أو المعتدى عليه: ففي كلتا الحالين، أنا ضحية الجزع والكراهية والقسوة والعنف. وبصفتي الضحية، وحدها المحبة ترياقٌ فعَّالٌ للألم المضني الذي ينهشني من الداخل؛ وحدها المحبة تحرِّرني منه.

ترانا غالبًا ما نُشرَط على الردِّ “عينًا بعين”، فنستميت في سبيل الحفاظ على صورتنا عن أنفسنا. فهل صورتي عن نفسي حقيقية؟ ما الذي يجبرني على الاستماتة في الدفاع عن مجرد مفهوم ذهنيٍّ محدود؟ هل نحن ضحايا أوهامنا؟ هل نحن أسرى شِراكٍ مِنْ صُنعنا نحن؟ هل نمعن في إحكام فخِّ الكراهية الذي نحاول الفكاك منه؟ كالرجل الذي يغرق في الوعثاء، أليس تخبُّطي نفسه هو الذي يُغرقني فيها إغراقًا أسرع؟ تلك هي الأسئلة التي لا مناص لنا من طرحها ومن الإجابة عنها في صراحة مطلقة – ليس في القاعات الواسعة عند انعقاد المجالس، ولا في المؤتمرات الصحفية، بل عميقًا في سرائر نفوسنا.

هل تراها قسوتُنا تحوَّلتْ باستقبالنا الكراهية وسماحنا لها بالتغلغل في نفوسنا؟ أم أننا قد صرنا أقسى، وأمكر، وأشد وحشية في قسوتنا ومكرنا؟ كيف لنا، إذن، أن نأمل تحويل الآخر بالكراهية والقسوة والعنف؟ وهل في مقدورنا أن نحوِّل الآخر رغمًا عنه؟! نحن أسرى مفاهيمنا المتضخمة عن أهميتنا، سجناء جمود مفاهيمنا الميتة التي نئن مثقلين بها. ما نحن، والحال هذه، إلا أشقياء نتخبط في شبكة من القسوة والعنف ونُستهلَك في لهيب كراهيتنا.

السبيل الأوحد للخروج من هذا المأزق هو الشعور بألمنا شعورًا كاملاً؛ الوسيلة الوحيدة للاستشفاء من ألمنا المزمن هي المحبة – محبة متعاظمة، لأنفسنا ولبعضنا بعضًا، هي وحدها الترياق لسموم الكراهية والقسوة والعنف المستشرية فينا وفي الآخرين. ففي محبة متأججة في القلب، تتغاضى عن الفوارق والخلافات كلِّها وتغفر، تندمل جراحُ آلامنا وتتحول. وفي هذا التحول عينه، يتخلَّلنا نورُ الوعي الخالص والنصر الأبدي.

2006