الانتقام ليس حقًّا من حقوق الإنسان!
جان-ماري مولِّر*
لن أعرِّف بالانتقام بوصفه إرادتي الحصولَ من المسيء إليَّ على تعويض عن الإساءة التي كبَّدني إياها، بل بوصفه رغبتي في تكبيده إساءةً بغرض أن أؤلمه وحسب [= نقمة]**. فأنا، حين أنتقم، ما من نية عندي سوى أن أردَّ rétorquer الإساءةَ التي تكبَّدتُها على صاحبها. الانتقام، إذن، محض ردِّ الفَعْلَة بفَعْلَة من جنسها ré-torsion. لكن الانتقام لا يعوِّض عن شيء أبدًا؛ إذ هو لا ينتوي التعويض، بل التقويض. ومنه فإن الانتقام ليس فعل دفاع شرعي عن النفس. فما يميِّزه هو أنني، حين أمارسه، لا يبدي عدوي أي خطورة فعلية عليَّ ولا يمارس ضدي أي تهديد مباشر؛ إنه حينذاك لا يعود يجابهني. لذا فإن الانتقام يحصل دومًا من الخلف – عن جبن. ومنه لا يجوز للانتقام أن يستفيد من تأييد العدالة: فهو لا يريد أن يردَّ لي حقوقي، ولا يقدر على ذلك أصلاً، بل يبتغي فقط إيلام مَن آلمني. لذا فإن عنف الانتقام ليس حقًّا أبدًا؛ إذ ليس ثمة أي “حق” في الانتقام. إنه دومًا غير مبرَّر، دومًا جائر، دومًا جريمة ضد الإنسانية. وبما أن الانتقام وليد الحقد والضغينة والصدود والكراهية فهو ليس نبيلاً أبدًا، بل خسيس دومًا.
لقد زُعِمَ طويلاً أن من واجب المرء، كي يذود عن شرفه، أن ينتقم للإساءات التي تكبَّدها بأن يحمل بالطعن على المسيء إليه. ولكن أي “شرف” في التفنن في إيذاء faire du mal العدو وفي إيلامه faire mal؟! أي “شرف” في إساءة الفعل mal faire؟! أي “شرف” في إرواء رغبة وبيلة mal-sain من حيث الأساس؟! أليس هذا وضعًا للشرف في الموضع السيئ، بل في الموضع الأسوأ؟ إذا كان الانتقام مسألة شرف honneur فإن فيه، بهذا المعنى حصرًا، خزيًا dés-honneur للذي يمارسه.
إلغاء شريعة “العين بالعين”
غاية شريعة “العين بالعين” قَوْنَنَة codifier النقمة فحسب بأمرها بتكبيد المسيء mal-faiteur الإساءةَ نفسَها التي كبَّدها غيرَه:
ومَن قتل إنسانًا يُقتَل قتلاً. […] وأيُّ رجل أحدث عيبًا في قريبه، فليُصنَع به كما صنع: الكسرُ بالكسر والعينُ بالعين والسنُّ بالسن، كالعيب الذي يُحدِثُه في الإنسان يُحدَث فيه. […] ومَن قتل إنسانًا يُقتَل. (سفر الأحبار 24: 17-21)
يقال عمومًا إن شريعة “العين بالعين” تستهدف كظم النقمة التي تشتهي أن تُنزل بالمؤذي أذى أكبر من الأذى الذي فعله هو. هذا جائز. لكن هذه الشريعة، حين تأمر بـ”قتل بقتل”، فإنه يصعب الزعم، لهذا السبب حصرًا، أنها تحدُّ من مدى الانتقام. كل قتل فهو عنف غير محدود. لذا فإن شريعة “العين بالعين” ترسِّخ في الواقع حقَّ الانتقام؛ ومفعولها أنها تُشَرْعِنُ الانتقام وتُديمه وتُمَأسِسُه، وبذلك تحبس الفرد والمجتمع في منطق العنف.
لذا فإن قيام حكيم من فلسطين بإلغاء شريعة “العين بالعين” في بداية العهد المسيحي يمثل واحدة من أكثر الثورات الأخلاقية جذريةً في تاريخ الإنسانية. فهو، حين أمر البشر بعدم دفع السوء بالسوء، فقد حثَّهم على عدم مقاومة الشرِّ بمحاكاة الشرير. لم يَدْعُهم إلى الكف عن بغض أعدائهم وحسب، بل إلى محبتهم: “أحبوا أعداءكم” (إنجيل متى 5: 44). لم يُسمَع بمثل هذا من قبل! يكاد هذا الكلام أن يكون غير مسموع؛ وإلى اليوم، لا يزال الذين “يسمعونه” قلة قليلة. وفي الحاصل، مَن ذا يستطيع أن يباهي بأنه “سَمِعَه”؟ أحيانًا؟ هيهات…
لقد كتبت سيمون ڤايل: “النقمة رغبة في التوازن”. أريد أن أوازن ألمي بأن أكبِّد المسيءَ إليَّ ألمًا يضارعه. لكني بإعادتي التوازن إلى نصابه لا أقيم العدل. فلكي أتغلب على هذه الرغبة لا بدَّ لي من “قبول عدم التوازن”[1]. ذلك أن من المؤكد أنني لن أستفيد خيرًا من الشرِّ الذي أكبِّد عدوي إياه، بل تراني أتخيل أن هذا سوف يسرِّي عني. تراني أتخيل أن الانتقام سوف ينصفني منه؛ أتخيل أني بدفعي السوءَ بالسوء أزيل السوء الذي تكبَّدتُه، وكأن محصلة القضية، إذا صح القول، تؤول بذلك إلى الصفر. ولكن هذا ليس إلا من بنات المخيِّلة، من بنات الوهم. فالانتقام لا يقتلع الشرَّ، بل يضاعفه. لذا كتبت سيمون ڤايل أيضًا:
السعي في التوازن سيء لأنه متخيَّل. الانتقام! حتى إذا اتفق للمرء أن يقتل عدوَّه فعلاً أو يعذِّبه فهذا بمعنى ما متخيَّل.[2]
أتخيل أيضًا أن الانتقام سوف يفرِّج عني وسوف يلذُّ لي. أما في الواقع، فإن من شأن الانتقام، حالما يُقترَف، أن يولد القرف بدلاً من الارتياح. فإذا اتفق لي أن أتذوق الانتقام حقَّ تذوُّقه سأفطن إلى أن للانتقام مذاقَ أمرِّ السموم!
قبول عدم التوازن إنما يعني احترام إنسانية مَن لم يحترم إنسانيتي. ولذلك فإن النزول عن الانتقام يقتضي استبعاد هاجس المعاملة بالمثل réciprocité تمامًا. وبحسب عمانوئيل ليڤيناس، تنفرض عليَّ مسؤوليتي نحو الآخر مهما يكن موقفه مني. فالعلاقة مع الآخر علاقة “غير متناظرة”، من حيث
[…] إني مسؤول عن الآخر دون أن أتوقع منه أن يعاملني بالمثل، وإنْ كلفني ذلك حياتي. فالمعاملة بالمثل شأنه هو.[3]
إذا أساء الآخر التصرف نحوي فإن شأني أنا، إذ ذاك، هي أن أُحسِنَ التصرف نحوه. قد يتفق لي ألا أفلح في بلوغ هذا الأرب، غير أن هذا هو ما يأمرني به الشرف. فإذا كان هذا محالاً عليَّ من ساعتي فإن مطلوبي إذن هو المحال؛ وأنا ملزَم بالإصرار على طلبه حتى أجعله ممكنًا – في شهر، في سنة، ذات يوم. فالشقي méchant [= الشرير] لا يستحق انتقامي؛ ذلك أن الشقي [= نقيض السعيد] هو المنحوس أيضًا.
وبالفعل، يعلِّمنا علم الاشتقاق أن الشقاء méchanceté [= ضد السعادة] والنحس malchance [= نقيض السعد] من أصل واحد. فكلمة méchant بالفرنسية القديمة (اسم فاعل من فعل mescheoir القديم، المؤلف من أداة النفي mes ومن فعل cheoir، الذي صار choir، “وَقَعَ”) مؤداها [بالعربية “مَن ساءت وقعتُه”، أي زَلَّ وعَثَرَ، ومنه “مَن نَحَسَ طالعُه”، أي أدبر؛ إذ إن الطالع عند أصحاب الفأل: ما يُتفاءل به أو يُتشاءم بطلوع الكواكب أو أفولها من السعد أو النحس]. بالمثل، تذكِّر كلمة chance [في الفرنسية] بكيفية وقوع عُظيمات القرعة أو حجارة النرد. ولكلمة تعيس mal-heureux (المشتقة من كلمة heur التي تعني الحظ [أي النصيب من الخير أو الشر، حيث تَعَسَ أو تَعِسَ بالعربية: عَثَرَ ووقع على وجهه]) دلالة مصطلح عاثر الحظ mal-chanceux نفسها. الشقي منحوس الطالع وتعيس الحظ في آن معًا – وهما سببان وجيهان لكظم نقمتنا عليه.
إخفاق العدالة الانتقامية
إعمال المغفرة وحده يتيح تقويض النقمة على أتمِّ وجه. ومنه فإن الغفران ليس حقًّا من حقوق المعتدي. الغفران ليس دَينًا، بل هبة؛ فهو لا يُستحَق. بوسع الفرد أن يقرر النزول عن الانتقام من عدوِّه، لكنْ من غير أن يطفئ نقمته كلَّها؛ فهذا يتطلب وقتًا، بل يتطلب عمومًا وقتًا طويلاً. تستطيع العدالة أن تنهى عن الانتقام، لكنْ ليس في مستطاعها أن تأمر بالغفران. تستأثر الدولة بالقصاص حتى لا يتولى الأفراد الاقتصاص لأنفسهم بأنفسهم. لكن مهمة الدولة ليست إرواء غليل النقمة عند المواطن المعتدى عليه؛ فلا يجوز لنا أن نقرَّ للدولة بأي استئثار بالانتقام الشرعي. وظيفة الدولة، من ناحية، إنصاف الضحية بحمايته وبإحقاق حقوقه، ومن ناحية ثانية، كف أذى المسيئين بقصد الدفاع عن النظام العام وضمان أمن الأشخاص وصون الممتلكات؛ فلا تجوز لها من أي وجه ممارسةُ الانتقام، مهما يكن من جانبه مقدار ضغط الرأي العام في هذا الاتجاه.
لكن عدالة الدولة، بكل أسف، هي من قبيل الانتقام في أغلب الأحيان. ولقد كتبت سيمون ڤايل واصفةً ضرار المنظومة القضائية وصفًا على غاية من الحزم:
هناك شيء واحد فقط في المجتمع الحديث يفوق الجريمة شناعة، ألا وهو العدالة القمعية. […] فكلما تكلم أحدهم من أبناء اليوم على القصاص أو العقاب أو المجازاة أو العدالة بالمعنى التأديبي فإن المقصود بذلك هو أكثر أنواع الانتقام وضاعة وحسب [التشديد من تدخل الكاتب].[4]
وبذلك فإن سيمون ڤايل تندِّد تنديدًا قويًّا بالعنف الذي تؤدي الدولة به مهمة الحسيب، مؤكدة أن
[…] جهاز العدالة الجزائية قد بلغ من التلوث بالشرِّ مبلغًا […] يجعل من الحُكم في الغالب تحويلاً للشرِّ من الجهاز الجزائي إلى المحكوم عليه، جريمة في حق المحكوم عليه [التشديد من تدخل الكاتب].[5]
بذا فإن المجتمع، متذرعًا بوصم الجريمة، يحتقر المجرم المسحوق تحت وطأة تعسه:
ابتداءً من اللحظة التي يقع فيها امرؤ في أيدي الجهاز الجزائي حتى اللحظة التي يخرج فيها منه لا يكون أبدًا محلَّ رعاية. كل شيء يُدبَّر، حتى في أدق التفاصيل، حتى في تغيير نبرات الصوت، ليجعل منه، في أنظار الجميع وفي نظره هو، شيئًا خسيسًا، حثالة.[6]
نحن أحوج ما نكون إلى عدالة من غير جلاد
وظيفة العدالة ليست المعاقبة على ذنب، بل الحكم على جنحة؛ ليست الاقتصاص من المذنب، بل حماية المجتمع. من هنا فإن الزجر الجزائي يجب أن يخلو من جميع أنواع القصاص والإذلال والعنف البدنية ضد الجانح. فغاية الزجر الجزائي إنما هي الوقاية من وقوع جُنَح جديدة، وذلك بالحيلولة دون الجانح والعودة إلى الإجرام، من جهة، وبردع الجانحين بالقوة عن الإقدام على الفعل، من جهة ثانية. ليس بالإمكان تنظيم مجتمع القانون من غير تعيين جُنَح وتدابير زاجرة؛ لكن على الزجر الجزائي، فيما هو يسمح للمجتمع بأن يحمي نفسه، أن يتيح للجانح، الذي يبقى مواطنًا تامَّ الأهلية، إمكانية الالتحاق بالمجتمع من جديد. إذا فقد الجانح بعضًا من حقوقه فإن المجتمع لا يفقد أي واجب من واجباته نحوه. وليس المقصود من ذلك مناقشة ما إذا كان الجانح يستحق أن يعامَل معاملةً إنسانية؛ إذ إن من واجب المجتمع عليه أن يعامله معاملةً إنسانية. وبذا يُرَدُّ على لاإنسانية الجنحة بإنسانية التأديب. وإذا كان يجدر الحكم على الجريمة بحسب صرامة العدالة فلا مناص من معاملة المجرم بحسب مقتضيات الطيبة. وليس المقصود من ذلك التساهل مع المجرم، بل التزام الطيبة.
لذا يجب على الدولة التي ترفض الانقياد لمنطقها هي أن يؤنبها ضميرُها على تقصيرها دومًا في إحقاق العدل؛ عليها دومًا أن توبخ نفسها على قسوة عقوباتها. إن ضرورة إحقاق العدل تحت غطاء قوانين الدولة لا تعفي الإنسان من مسؤوليته نحو الإنسان الآخر:
إن دولة تسري فيها القوانين في عموميتها ويحدو النطقَ بالأحكام فيها هاجسُ العالمية، بمجرد أن تقول العدالةُ قولَها في دولة كهذه، يحتفظ الشخص، بوصفه فريدًا ومسؤولاً، بإمكانية الاستجارة بشيء يراجع صرامة العدالة هذه، القاسية دومًا. والتلطيف من هذه العدالة والإصغاء إلى هذه الاستجارة الشخصية هو دور كل واحد. […] ثمة هذه الاستجارة بالرحمة وراء العدل [التشديد من تدخل الكاتب].[7]
كل تأسيس لنظام اجتماعي قائم على المراتبية hiérarchie لا ينتج، بنظر ليڤيناس، غير عدالة ناقصة. هو ذا يؤكد:
عندي أن العنصر السلبي، عنصر العنف في الدولة، في نظام المراتب، يظهر حتى عندما يكون أداء المراتب على أحسن ما يرام، حتى عندما ينصاع الجميع للأفكار العالمية. هناك فظاعات رهيبة بالضبط لأن مصدرها هو النظام العاقل. هناك دموع ليس في مستطاع الموظف الحكومي أن يراها: دموع الآخر. […] وحدها الأنا تستطيع أن تلمح “الدموع الخفية” للآخر التي يتسبب في جريانها ذلك الأداء العقلاني بعينه لنظام المراتب. لذا لا غنى عن الذاتية لضمان هذا اللاعنف نفسه الذي هو […] من مساعي [الدولة] أيضًا.[8]
وعلى العدالة أن تكسر مسلسل العنف:
العنف يجرُّ العنف. لكن لا مناص من وقف ردِّ الفعل المتسلسل هذا. تلك هي طبيعة العدالة. […] ليس الإنسان في حاجة إلى عدالة متجرِّدة من الهوى وحسب، بل نحن أحوج ما نكون إلى عدالة من غير جلاد.[9]
الفريضة الأخلاقية للغفران
تظهر للعيان الأهميةُ الحاسمةُ للفريضة الأخلاقية للغفران في الصلات البشرية عبر ما يجعله انتفاؤها ممكنًا دومًا: التسلسل عديم الرحمة للأفعال الانتقامية والثأرية (كلمتا “انتقام” و”ثأر” مترادفتان). فالانتقام معاملة بالمثل متشدِّدة هي محض محاكاة لعنف الخصم. يأتي الغفران، فيكسر أولاً هذه المعاملة بالمثل وهذه المحاكاة. ففي حين أن الضغينة والحقد والكراهية تكبِّل الفرد بقيود الماضي يأتي الغفران فيعتقه منها ليسمح له بالدخول في المستقبل. أما الانتقام فيطيل العواقب المدمِّرة للفعل الضار المرتكَب في ظروف لم تعد موجودة الآن ويرجِّعها في المستقبل. فالانتقام غير مؤاتٍ، في غير محلِّه، وفي غير أوانه؛ إنه يأتي دومًا في الوقت غير المناسب.
أما الذي يصفح فهو لا يتجاهل النقمة، لكنه يقرر أن يتغلب عليها وأن يتخطاها. وقرار الصفح لا يمكن له أن يُتخَذ إلا بالدقة لأن النقمة موجودة، حاضرة فينا فعلاً، وترغب أن تفرض نفسها على إرادتنا. ولهذا السبب حصرًا يتطلب الغفران شجاعة كبيرة. إنما الغفران واجبٌ صعبٌ لأن الانتقام مرغوب. الغفران ليس ثمرة ميل من ميول النفس، ولا هو يتجذَّر في مجرد شعور، بل في قرار إرادي؛ إنه فعل، عمل، حدث يطرأ على التاريخ فيغير مجراه.
الغفران أمل في بدء جديد
الغفران قطعًا لا يفقد ذاكرة الماضي – فالنسيان ليس فضيلة، إنما هو سهو وحسب –، بل ينصرف عازمًا إلى المستقبل. هناك “واجب تذكرة” الماضي، هو تيقُّظ للمستقبل، لكن من شأن المداومة على تذكُّر الشرِّ أن تعرقل المستقبل. الغفران لا يمحو الذكرى، بل هو رهان على المستقبل. قد يُخسَر هذا الرهان، لكنه لا يخسر بذلك معناه. الغفران لا شروط له، وبالتالي لا ضمانة له. إنه لا يُسترَد. فحتى يصبح قرار الصفح نافذًا في الصيرورة التاريخية لا بدَّ له من أن يستديم. وفي حين أن الانتقام شكل من أشكال اليأس فإن الغفران يحييه برمَّته الأملُ في بدء جديد.
منزلةُ الغفران من فريضة اللاعنف قلبُها. إذ إن المغفرة، في الحاصل، هي دومًا الصفح عن عنف. المغفرة قرار من طرف واحد بكسر سلسلة أفعال العنف التي لا تنتهي والتي يسوِّغ بعضها بعضًا؛ هو رفض مواصلة الحرب إلى أجل غير مسمَّى؛ هو إرادة التسالُم مع الآخرين إرادةَ التسالُم مع النفس. إذ إن المشغول بهاجس الانتقام لنفسه ليس في سلام مع نفسه. المغفرة هي إحلال المرء السلامَ في مستقبله، رافضًا أن يبقى حبيس دورة العنف المستديمة. فالانتقام يجعل الحياة متعذرة حقًّا والموت مرجَّحًا.
بيد أن إعمال المغفرة لا يكتفي برفض الانتقام: عليها أيضًا أن تعيد بناء صلة جديدة بين المعتدى عليه وبين المعتدي. لذا يجدر هنا التمييز بين الغفران الشخصي، حين يمسُّ الاعتداءُ مباشرةً بعلاقةٍ بين شخص وشخص، وبين الغفران الجماعي، حين يمسُّ الاعتداءُ بعلاقةِ جماعة بأخرى، أي يتوضع على الصعيد الاجتماعي أو السياسي. فالمقصود في الصلة الشخصية الصفح عن القريب، فيما المقصود في العلاقة السياسية الصفح عن الغريب. وفي كلا الحالين، إذا لم يمكِّن الغفران من المصالحة réconciliation فهو يمكِّن من التوفيق conciliation على الأقل؛ أي أنه يتيح إعادة صلات قائمة على العدل أو عقد مثل هذه الصلات. ولكن صيرورة هذه الصلات أمرًا مفعولاً تقتضي من المسيء أن يعترف بمسؤولياته ويدخل هو نفسه في تاريخ الغفران ويشارك في ديناميَّته.
ليست العلاقة بين فريضتَي العدل والغفران علاقة تضاد؛ إنهما ليستا متناقضتين، بل على العكس تقترنان لتسهما معًا في إيجاد دينامية سلام. إعمال العدل يفسح في المجال للمغفرة، والعكس بالعكس.
* فيلسوف فرنسي اختصاصي في اللاعنف عمومًا وفي حياة المهاتما گاندهي وفكره خصوصًا. وضع في اللاعنف مؤلفات عديدة أصبح بعضها كتبًا مرجعية. من كتبه المترجمة إلى العربية: إستراتيجية العمل اللاعنفي (1999)، قاموس اللاعنف (2007)، اللاعنف في التربية (2009).
** ما بين معقوفتين […] في المتن من إضافتنا لتوضيح معاني الألفاظ الفرنسية وتأدية ما يوازيها بالعربية. نود كذلك أن نعتذر للقارئ عن تعذُّر نقل دقائق اللغة الفرنسية فيما يخص الأصول الاشتقاقية للمصطلحات التي يعتمد عليها الكاتب مرارًا في بيان دلالات الكلمات التي يستعملها. (المترجم)
[1] Simone Weil, Cahiers II, Œuvres complètes, Tome VI, Paris, Gallimard, 1997, p. 137.
[2] Ibid., p. 142.
[3] Emmanuel Lévinas, Éthique et infini, Paris, Le Livre de Poche, 1992, Biblio-Essais, 1991, p. 121.
[4] Simone Weil, Écrits de Londres, Paris, Gallimard, 1957, pp. 40-41.
[5] Simone Weil, Cahiers III, Paris, Plon, 1956, p. 319.
[6] Simone Weil, Attente de Dieu, Paris, Le Livre de poche chrétien, 1963, p. 142.
[7] Emmanuel Lévinas, in François Poirié, Emmanuel Lévinas, Besançon, Éditions de la Manufacture, 1992, p. 96.
[8] Emmanuel Lévinas, Cahier de l’Herne, Paris, Éditions de l’Herne, 1991, pp. 63-64.
[9] Emmanuel Lévinas, Difficile liberté, Paris, Le Livre de Poche, Biblio-Essais, 1990, p. 23.