أرشيف التصنيف: مقالات

نحو مفهوم أخلاقي للسلام – ديمتري أڤييرينوس

نحو مفهوم أخلاقي للسلام

الوعي التأمُّلي وحلُّ النزاعات

ديمتري أڤييرينوس

إذا لم تكن في سلام مع نفسك لا
يمكن لك أن تساهم في حركة السلام.

تيك نات هَنْه

تفوَّه بهذه العبارة ذات يوم الشاعر والناشط اللاعنفي ومعلم الزنْ الڤيتنامي الذي رشحه مارتن لوثر كينگ لنيل جائزة نوبل للسلام[1]؛ وهي، برأينا، تنطوي على أهم ما ينبغي لـ"حركة السلام" أن تتسم به، لكن تجاهُل مضمونها، مع ذلك، من أسهل ما يكون. إنها تعني، في جملة ما تعني، أن نوعية الوعي الفردي تعيِّن نوعية الوعي الجمعي وتُشرطها. لكن هذا الإدراك، على ما يبدو، يجب أن يتكامل تمام التكامل مع عكسه أيضًا، أي إدراك أن طبيعة الوعي الجمعي تعيِّن هي الأخرى طبيعة الوعي الفردي وتُشرطها. فهذان – الوعي الفردي والوعي الجمعي – سمتان من سمات كلٍّ أعظم يعمل على نحو غير مجزأ: "أنت العالم"، يقول ج. كريشنامورتي.

بيد أن ما يدخل نظريًّا في باب المفارقة المنطقية يتحول عمليًّا إلى صراع دموي! إن رؤية هذه السيرورة الديناميِّة dynamic كشيء سكوني static، ورؤية الأفراد المشاركين فيها كأشخاص مفصولين، بعضهم عن بعض وعن المنظومة الأكبر برمتها على حدٍّ سواء، هي من أسباب الصراع في الأساس. إذ إن مشكلات لا تقبل الحل – من نحو الحرية والمسؤولية والمطالبة بالحق والمساواة والسلام والعدالة – سرعان ما تطفو على السطح وتبدو غير قابلة للحل، لا لشيء إلا لأنها لا تُرى إلا من منظور واحد متعنت ومتجذِّر في وعي جمعي منغلق على نفسه. غير أن رؤية الوضع من منظور مختلف من شأنها أن تذيب خاصيته الثنوية dualistic، فتستبدل بها بصيرة جديدة قوامها التكامل والوحدة: ما كان يبدو منفصلاً وضديًّا يتكشف عن كونه سيرورة كلِّية مترابطة العناصر، تذوب فيها الأضداد لتصير مكمِّلات بعضها لبعض.

إن السيرورة التي يتحقق من خلالها هذا المنظور المختلف وثيقة الصلة بالمبادئ الأساسية للطرق التأملية العديدة التي رسخها أفراد ينتمون إلى الثقافات التي شهدها العالم كافة. لا تخلو ثقافة إنسانية من التأمل meditation لأنه، كما يتبدى لنا، نسق وجودي أصلي مركوز في الكائن الإنساني. ومع أن بعض الثقافات أوْلَته من التقدير والمنزلة ما لم تُوْلِه ثقافات أخرى، تبقى مبادئه الأساسية وتجلياته عالمية شاملة. التأمل، على حدِّ تعريفنا به، تبصُّر بالترابط، بالوحدة المتناغمة مع نظام أكثر إحاطة وشمولية. وهذه وحدة ليس من شأنها أن تمحو التنوع (كما تفعل الثقافة التي تحاول أن تسود العالم اليوم)، بل هي التنوع بذاته تتخلَّله الوحدة: "الوحدة-في-التنوع" l’unité-dans-la-diversité (تلار دُه شاردان). ومنه، لا يوجد مقترَب تأملي بعينه يلغي سواه، بل لانهاية من المقترَبات التأملية التي تصبُّ في الخبرة ذاتها؛ إذ إن التأمل الحقيقي لا يتكئ على الأشكال أو النشاطات الخارجية بتاتًا، بل يرجع بالحري إلى الخصائص الداخلية للبصيرة الروحية، وهي عينها لدى البشر أجمعين، وإن تكن تتصف بـ"مذاق" فريد فرادة الثقافات والأفراد.

من هذه "البصيرة" insight ينبثق المنظور "المختلف" المشار إليه آنفًا، وهو منظور بصير بكمال الكلِّية ويختبره اختبارًا حيًّا. كل "أنية" ego، بوصفها كيانًا منفصلاً، تُرى من هذا المنظور كتعبير فريد عن منظومة أكبر وكجزء منها. من هذا المنظور، أيضًا، تُرى الموجودات جميعًا متساوية من حيث الماهية والقيمة: كمال الكل يتطلب وجود أعضائه كلِّها، كما هي، متحولة أبدًا؛ وهذا الكل، إلى ذلك، ليس شيئًا سكونيًّا خاملاً، بل هو سيرورة عديدة الأبعاد. ومن هذا المنظور "الجديد"، أيضًا وأيضًا، تصير الأضداد أوجُهًا متكاملة، تنفح، معًا، شكلاً وطاقة ديناميين للوجود الكلِّي الأعظم؛ وما كان يبدو من قبلُ مظاهر منفصلة، وبالتالي نزاعية، يُرى من بعدُ كأوجُه وثيقة التواصل، متواكلة ومتكافلة، لسيرورة واحدة لا يُستثنى منها شيء.

* * *

لعل كتاب التحولات (يي-كنگ Yi-king أو I-ching) الصيني أن يزودنا، بهذا الصدد، باستبار ثاقب للمبادئ المبطِّنة لهذه النقلة في الإدراك ولأهميتها من أجل القضايا العملية التي تواجه حركة السلام – عالميًّا ومحليًّا على حدٍّ سواء. إذ لقد كان للـيي كنگ، بطبيعة الحال، تأثير عميق على الثقافة الصينية، وقد امتد هذا التأثير ليشمل شمولاً أقل مباشرة ثقافات أخرى عديدة[2].

تقوم النظرة إلى العالم التي يعبِّر عنها ويَبْسطها الـيي-كنگ على تبصُّر عميق بالطبيعة المتحولة أبدًا للظواهر: ما من شيء سكوني في الوجود؛ فالكيانات الفردية في الظاهر تنبثق جميعًا من سيرورة دينامية تفاعلية أشبه بالشبكة وترجع إليها. ومنه، فإن الاعتقاد بوجود فرديات "واجبة الوجود بذاتها" اعتقاد باطل واهم، وهو ناجم عن الفصل التعسفي الزائف للـ"ذات" عن الـ"عالم". المظاهر كلها، بما فيها الذات والعالم، تصدر عن قوتين طبيعيتين أساسيتين، متحولتين أبدًا، متقلبتين ومتضافرتين: الـينگ yang والـين yin. الينگ والين ليسا منفصلين أحدهما عن الآخر، بل هما وجهان لكلٍّ أعظم (طاو Tao) يتجلى ويفعل عبر تفاعلهما المتناغم. الينگ هو المبدأ الفاعل، المنير، الصلب، الجاف، السماوي التوجُّه؛ والين هو المبدأ المنفعل، المظلم، الطيِّع، الرطب، الأرضي التوجُّه. وعبر تمازجهما المتآلف، بوصفهما قوتين متساويتين ومتكاملتين، يتجلى العالم ويقوم ويتوارى تباعًا.

دائرة الطي-جي الصينية، وفيها قطبا الينگ (أبيض) والين (أسود).

هناك أيضًا، على ما يبدو، تقاطُب polarity مقايس في صميم الكائنات الإنسانية. وإن أحد التجليات العديدة لهذا التقاطُب في بنية الإنسان الفسيولوجية هو ما بيَّنه البحث في الدماغ، في الربع الأخير من القرن العشرين، من اختلافات وظيفية أساسية بين كلٍّ من نصفَي الكرة المخية الأيسر والأيمن. يجب ألا يغيب عن بالنا أن الدماغ كلٌّ عضوي متماسك، وأن في كل محاولة لتحليله من حيث أجزاؤه إسرافًا في التبسيط بالضرورة. ومع ذلك، فإن المقارنة التالية قد تكون دقيقة التمثيل لكيفيتَي عمل كلٍّ من نصفَي الكرة المخية المتكاملتين في خطوطهما العريضة: عمل نصف الكرة الأيسر يشدد على التحليل والموضوعية والمنطق والمحاجَجة والعَمْد، بينما يشدد النصف الأيمن، بالمقابل، على الحدس والذاتية والمشاعر والخبرات والعفوية؛ النصف الأيسر ييسر العمل المنطقي، الرياضي، العلمي، الخطِّي linear، "المذكر"، الزمني، التفسيري، والنصف الأيمن يتيح العمل الخيالي، الإيقاعي، الفني، اللاخطِّي non-linear، "المؤنث"، المكاني، التأويلي؛ النصف الأيسر يختص بوضع المقولات، بالفصل، بالنظام التراتبي (الهرمي)، وهو بنيوي التوجُّه، نفعي، بينما النصف الأيمن يختص أكثر باختراق المقولات، بالوصل، بالتكامل، بالحركة، بالتحول، وهو سيروري التوجُّه، مجاني.

يتمتع الناس بكلتا المقدرتين، لكن الثقافة السائدة اليوم، على ما يبدو، تنزع إلى إنزال ميزات المخ الأيسر منزلة أرفع من مكمِّلاتها التي يختص بها المخ الأيمن. ولعل هذا عائد، نوعًا ما، إلى التمييز المطلق بين العقل والجسم الذي قال به ديكارت وأشياعه من العقلانيين والذي يشير فيه مصطلح "العقل" raison إلى خاصيتَي المخ الأيسر الرئيستين: الصواب والعَمْد. ولقد انساقت التربية الحديثة إلى التشديد على تنمية نصف الكرة الأيسر وعززتها، ما أنتج رجحانًا خطيرًا لكفة ميزان الخصائص العلمية و"المذكرة" والانفصالية على كفة الخصائص الفنية و"المؤنثة" والاتصالية، سواء في الأفراد أو في الثقافة ككل.

إن ما نحن بأمس الحاجة إليه الآن، على ما يبدو، هو تنمية واعية للملَكات الحدسية والاستقبالية والتكاملية التي قُمِعَت أو، في أحسن الأحوال، تُركَت للضمور. هذا هو "تحرير المرأة" بالمعنى العميق للكلمة، بصرف النظر عن الجنس أو النمط الجسماني والاجتماعي gender، بما هو سماح بتفتح الخصائص المؤنثة النبيلة عند البشر كافة. لكن حصول هذا يتطلب نقلة هائلة في القيم؛ إذ إن المخ الأيسر التحليلي، المنطقي، "النهاري" لم يقوِّم نصفه الآخر – بقيمه وخصائصه الصوفية، "الليلية" – حق قيمته. فسيطرته لم تشمل محاولة السيادة على النشاط الذهني الداخلي وحسب، بل طالت أيضًا التجليات الخارجية لخصائص نصف الكرة الأيمن وقيمه، بمن فيها النساء وأبناء الثقافات غير الصناعية والطبقات الأقل انتفاعًا من مزايا الثقافات الصناعية والفنانين والمتصوفة والحيوانات غير البشرية والمنظومة الإيكولوجية برمتها، في بريتها وتنوعها المذهلين. ومن عجائب التقدير أنه كلما ازداد هؤلاء معاناة من السيطرة والقمع والعدوان والاستغلال على يد الخاضعين لسيطرة مخهم الأيسر، ارتفعت قيمتهم كمعلمين وقدوات – وهذا لأنهم يمثلون في الواقع الإمكانية الوحيدة لإعادة التوازن إلى نصابه. إن "سادة الدماغ الأيسر"، إذا جازت التسمية، إذ يدمرون مكمِّليهم باعتبارهم "الآخر"، يدمرون أنفسهم من حيث لا يدرون.

* * *

التأمل، كما عرَّفنا به أعلاه، هو كيفية الوجود الأساسية لنصف الكرة الأيمن، من حيث كونه لامنطقيًّا، حدسيًّا، تكامليًّا، لاثنويًّا non-dual في الأساس. إن ذهنًا لا يستطيع أن يعمل بالفعالية نفسها بالكيفيتين التحليلية والتأملية لهو ذهن منقسم، محترب مع نفسه، سائر حتمًا نحو الجنون. فمن موقف السيطرة والتحكم الأساسي الذي تتبناه كيفية عمل نصف الكرة الأيسر، ومن اختلال التوازن الداخلي الذي يستتبعه ذلك، تنخلع النزاعات والحروب الخارجية العديدة وتُستهلك ممكناتُها البشعة حتى النفاد.

إن الإدراك التحليلي الذي يتصدر ثقافة العولمة السائدة اليوم ملَكة ذهنية بائسة المحدودية، وهي، إلى ذلك، لا تستطيع أن تدرك طبيعة حدودها. أما البصيرة التأملية، فهي مدركة لهذه الحدود إدراكًا عميقًا؛ لكنْ بما أن عملها غير منطقي أساسًا، فهي لا تستطيع أن تنقل معرفتها إلى الملَكة التحليلية للمخ الأيسر بلغة يستطيع هذا أن يفهمها؛ لذا تراها تفصح عن نفسها من خلال واسطات أخرى، من نحو الحلم والأسطورة والفن والشعر والموسيقى والرقص والوجدان الحدسي العميق. وربما كان في عجز المخ الأيسر عن الارتياح إلى كيفيات التعبير هذه تعليل لأزمة الثقة بينه وبينها ولنزوعه إما إلى مهاجمتها وإما إلى الاتِّجار بها لتعزيز إحساسه بالتفوق والسيطرة، من حيث هي أمثلة حية فاضحة على محدودية مقترَبه.

وحدها البصيرة الحدسية (المكبوتة اليوم) بوسعها أن تعالج هذا الوضع الشاذ، فرديًّا واجتماعيًّا على حدٍّ سواء. فهي، إلى جانب كونها مصدر كل فنٍّ حقيقي (بوصفه فعل كشف)، منبع المحبة والحكمة أيضًا. وهذه الخاصية عبَّر عنها بطرق مختلفة عديدة صوفيون مختلفون عديدون في لحظات إشراقهم التأملي.

بذا فإن المنظور المولود من البصيرة التأملية يقوم على استبار اختباري مباشر (لا يتكئ على وساطة النطق/المنطق) للترابط بين تجلِّيات الحياة-الأم كافة. ومن هذه البصيرة تولد الرحمة والتراحُم وحسٌّ بالتضامن يحيط بكل شيء. وعندما تندمج هذه البصيرة اندماجًا متوازنًا، تكامليًّا، في الإدراك العقلاني المنطقي (ما يسميه بعضهم "العقل الخطابي" discursive reason)، فإن أخلاقًا "سلامية" غنية عضويًّا تبدأ بالظهور عفويًّا. وإذ يبدأ الجانبان، ضمن الفرد الواحد، يعملان معًا عملاً متناغمًا عن طريق زيادة فعالية الجسم الثفني corpus callosum الواصل بين نصفَي الكرة المخية، فيما يمكن أن يُدعى "العلاقة الصحيحة" (التعبير لكريشنامورتي)، فإن الشرخ بينهما يلتحم، ومعه الشرخ بين الفرد والجماعة الأوسع، وبعبارة نفسانية يونگية، تتم مواجهة "الظل" shadow. وإذ يتم اعتناق الظل، يتكشف عن كونه جزءًا لا يتجزأ من النفس، لا بل هو النفس في مظهر آخر من مظاهرها[3].

وهكذا فإن الموجودات جميعًا، بما فيها الذات، تُرى تدريجيًّا كأعضاء مترابطة في سيرورة كلِّية، وليس كفرديات منفصلة؛ والمحبة والرحمة والفرح بفرح الآخرين تتصاعد عفويًّا كمشاعر متجذِّرة عميقًا في منظور متكامل لا يعود منحصرًا بالهموم الأنانية. خير الآخرين و"خيري" لا يعودان متضادين؛ فهما في الواقع لا ينفصلان. ومع نمو الأفراد، إذ يدركون أن خيرهم خير واحد لا يتجزأ ولا ينفصل عن خير المنظومة الأوسع، يبدؤون أيضًا بإدراك أن جماعتهم والجماعات الأخرى متصلة اتصالاً مماثلاً. الجماعات كلها متساوية من حيث مشروعيتها في الوجود، على أن يعي كلٌّ منها أن "الآخر" أيضًا، بالمقدار نفسه، مظهر مكمِّل له يساهم في بناء الكل الأكبر. بعض الجماعات، على ما يبدو، "ظلٌّ" بعضها لبعضها الآخر – ومن هنا عداؤها لها. فإذا تجرأ كل منها على اعتناق الآخر وتقبُّله، انطلق مقدار هائل من الطاقة النفسية، الفردية والجماعية، من أجل لحم الشروخ وحل النزاعات على مستويات الفرد والجماعة والمنظومة الأكبر، حسبما يقتضيه العدل وسائر القيم الإنسانية الشاملة.

ضمن هذه السيرورة، تصبح الأخلاق أجلى وأكثر عفوية، إذا صح التعبير. فالسلوك الأخلاقي إذ ذاك هو ببساطة السلوك الطبيعي السوي لدى فرد أو جماعة نمَّتْ لديها البصيرة التأملية تنمية تامة. عندئذ تكون دوافع نصفَي الكرة المخية الأيسر والأيمن كليهما على علاقة يُغْني فيها كلٌّ منهما الآخر ويتكامل معه، بحيث يصبح كلٌّ من السلام في الداخل والسلام في الخارج انعكاسًا للآخر.

ومنه، فإن تربية تولي تنمية الملكات الحدسية اهتمامًا ناضجًا تربية مصيرية الأهمية من أجل تحقيق الالتحام الداخلي والرحمة والسلوك الأخلاقي و… السلام العالمي، وهي أيضًا مصيرية من أجل تنمية الحكمة. إن تعريف الإپستمولوجي گريگوري بَتِسون بالعقل (المختلف جدًّا عن تعريف ديكارت!) يضيء علة الأمر: فهو يعرِّف بالعقل كنموذج تعضِّي (= تنظيم) organization لا غنى عنه للمنظومات الحية كلها. وبذلك لا يقتصر وجود العقل على أشكال معينة "راقية" من أشكال الحياة، بل يتخلل أيضًا المنظومات الإيكولوجية والكون بأسره، بوصفه "نموذجًا رابطًا" a pattern which connects (التعبير لبَتِسون) يلحم ما بين الأشياء وينظِّمها.

ويبدو أنه بمقدار ما تربي الثقافة الناس على الاختصاص وعلى تضييق حقل تقصيهم ومهارتهم، يفقد هؤلاء قدرتهم على جعل حياتهم وخبرتهم متصلتين بالنماذج الأوسع التي ترسو فيها. إن طبيعة التفكير والاستعراف cognition الإنسانيين قائمة على ملَكة الربط ما بين الأفكار في سياق، وبالتالي، إيجاد القيمة والمعنى، في مقابل كومپيوتر لا يوجِد المعنى من خلال الارتباط، بل يعالج المعلومات وحسب. وهذه القدرة على الجمع بين المتآلفات من الخصائص الأساسية للفطنة intelligence في أي منظومة مترابطة. وعندما يفقد الناس هذه الملَكة من جراء الاختصاص الأكاديمي الحصري والتفتت الاجتماعي المعمَّم، فإنهم في الواقع يقزِّمون ذهنهم ويضيِّقون مجال فطنتهم ويصيرون أغبى[4]. فمن دون سيرورة البصيرة الحدسية التي يختص بها نصف الكرة المخية الأيمن والتي تحوك الروابط، تصير الفطنة الإنسانية مجرد ذكاء صنعي AI.

ينجم الغباء الأخلاقي عن ذلك حتمًا. فالحكمة ترخم في ملَكة حياكة الروابط على عدة أبعاد؛ وهي الوجه المكمِّل للرحمة التي لا توضع موضع التطبيق إلا بالتراحم الذي هو فن إيجاد الصلات وصونها بامتياز. ومثلما تسير الحكمة والتراحم والسلام يدًا بيد، كذلك يسير الغباء والأنانية والاستغلال والعدوان. ففي جهلهم الأعمى بالترابط الأساسي للحياة، يلتمس الأفراد والجماعات تلبية مصالحهم بطُرُق منحصرة في ذواتهم أو في الفئة الضيقة التي ينتمون إليها، فيسعون فيها ضاربين بخير الآخرين والكل الأكبر عرض الحائط. وهذا المسعى، أخلاقيًّا، مسعى شرير، لكنه يتفرع أساسًا عن جهل مطبق بالطبيعة الحقيقية للاتصالية الإنسانية والكونية.

* * *

لا يمكن لمفهوم أخلاقي للسلام أن يكون عادلاً وشاملاً، على ما يبدو، ما لم يلتحم الشرخ بين العقل والحدس. فبتنمية البصيرة التأملية بأن الموجودات ومجتمعات الموجودات كلها مترابطة، ربما أمكن حل الغباء الذهني والاجتماعي والإيكولوجي والأخلاقي، الذي يبدو أنه بات سمة عصرنا السائدة، في منظور أشمل[5].

إن الإمكانات المتضمنة في هذا المنظور الأكثر توازنًا موجودة في الواقع فعلاً، وهي واعدة بتوطيد رؤية مقوِّية وتبصُّرات طازجة في سيرورة تحقيقها. وبالنظر إلى الأهمية العاجلة للمشكلات الجارية وإلى هول المعاناة الناجمة عنها، فإن الجهود الرامية إلى صياغة مفهوم أخلاق سلامية من منظور أكثر تكاملاً وأكثر انسجامًا مع الطبيعة الإنسانية تستحق منا جميعًا المزيد من التقصي والمزيد من نذر النفس.


[1] راجع: "المستقبل متضمَّن في الحاضر"، حوار مع تيك نات هَنْه، في كاثرين إنغرام، على خطى غاندي: حوارات مع مناضلين روحيين اجتماعيين، بترجمة أديب الخوري ومراجعة ديمتري أڤييرينوس، معابر للنشر، دمشق، 2008، ص 140-165.

[2] يعود الفضل في هذا التأثير إلى ترجمات رائدة لهذا الكتاب (ولغيره)، كالتي قام بها عالم الصينيات الكبير ريتشارد ڤيلهلم إلى الألمانية واهتم بها وقدم لها مؤسِّس علم النفس التحليلي كارل گ. يونگ.

[3] قوام الظل الجوانب المرفوضة في النفس، غير المعترَف بوجودها، التي تظهر في الأحلام على هيئة شخص أسود اللون؛ راجع بهذا الصدد: شارل بودوان، علم النفس المركب: تفسير أعمال يونغ، بترجمة وتقديم سامي علام، دار الغربال، دمشق، 1992، ص 194-197.

[4] الأحرى بـ"تربية" تقطع الناس عن قابليتهم الإنسانية الفطرية لإيجاد الصلة والمعنى والقيمة أن تسمى "تغبية"!

[5] هذا الغباء ليس جديدًا على الإنسان، لكن المفارقة هذه المرة هي في أنه يتجاسر على تسمية نفسه "حضاريًّا"!

أسرار حرف النون – رونيه گينون

أسرار حرف النون*

guenon

رونيه گينون**

جاء في مستهل سورة القلم: "ن والقلم وما يسطرون"؛ وهو قَسَم بالعلم والتعليم والكتابة التي من شأنها الرفعة والخروج إلى النور (ولادة) بعد معاناة الظلمات والبطون فيها (موت). وبين المفسرين الأعلام اختلاف في تفسير ن: فسرها بعضهم بالدواة لملاءمة القلم المُقسَم به؛ وفسرها فريق آخر بالحوت؛ وفسرها آخرون تفسيرات شتى يجدر الرجوع إليها، ولهم في ذلك اجتهادات. وتفسيرها بالدواة يرجع إلى شكل الدواة التي على هيئة الكوب، والنقطة في وسطها رأس القلم المغموس في المداد الذي هو مادة العلم وهو أصل الحياة الروحية. وفي تفسير روح المعاني للعلامة الآلوسي أن الظاهر من كلام المفسرين أن الدواة ليست عبارة عن الدواة المعروفة، بل هي دواة خُلقت يوم خلق ذلك القلم المقسَم به، وهو قلم اللوح المحفوظ. هذا وقد جاء في ختام السورة خطاب للرسول: "فاصبر لحكم ربِّك ولا تكن كصاحب الحوت إذ نادى وهو مكظوم لولا أن تداركه نعمة من ربِّه لنُبذَ بالعراء وهو مذموم فاجتباه ربُّه فجعله من الصالحين" (الآيات 48-50). وقد وُصف النبي يونس – عليه السلام – هنا بأنه "صاحب الحوت"، وورد وصفه "ذا النون" في سورة الأنبياء (الآية 87).

ف.ص.

* * *

حرف النون هو الحرف الرابع عشر في كلتا الأبجديتين العربية والعبرية[1]، وقيمته العددية 50؛ لكنه في الأبجدية العربية يشغل، فضلاً عن ذلك، منزلة ملحوظة بصفة أخص لأنه يختتم النصف الأول من حروف هذه الأبجدية التي يبلغ مجموعها 28 حرفًا، على حين أن عدد حروف الأبجدية العبرية 22 حرفًا. أما بخصوص توافقاته الرمزية، فهو يُعَدُّ، في المنقول الإسلامي خاصة، تمثيلاً للحوت؛ إذ يتوافق عندئذ مع المعنى الأصلي لكلمة نون نفسها التي تدل على الحوت والتي تعني أيضًا "سمكة"؛ وبسبب هذه الدلالة بالذات دُعي سيدنا يونس (النبي يونان) ذا النون. وهذه التسمية ذات صلة طبيعية بالرمزية العامة للسمكة، ولاسيما بجوانب معينة منها نظرنا فيها هاهنا في الدراسة السابقة[2]، وبخاصة، كما سنرى فيما يلي، رمزية "السمكة المخلِّصة"، أكانت الـمتسيا أڤتارا Matsya-avatāra في المنقول الهندوسي[3] أو الـإخثيس Ichtus عند المسيحيين الأوائل[4]. فالحوت، بهذا الصدد، يؤدي أيضًا الدور نفسه الذي يؤديه الدلفين في غير مكان، وهو، مثله، يوافق في دائرة البروج برج الجدي، من حيث كونه بابًا انقلابيًّا يفضي إلى "طريق الطالع". وربما كان التشابه أقوى ما يكون مع الـمتسيا أڤتارا، كما تبيِّن ذلك الاعتبارات المأخوذة من شكل حرف النون، لاسيما عند مقارنتها بقصة النبي يونان التوراتية.

نصب جنائزي مسيحي (بداية القرن الثالث) نُقش عليه رمزا السمكة والمرساة وعبارة "سمكة الأحياء".

ولكي يُفهم المقصودُ حق فهمه، يلزمنا أولاً أن نتذكر أن ڤشنو Vishnu، حين تجلَّى على هيئة السمكة (متسيا Matsya)، أمر ستياڤرتا Satyavrata، الذي صار المَنو ڤيڤسوتا Manu Vaivaswata، ببناء الفُلْك التي حُبستْ فيها جراثيمُ حياة العالم الآتي، وأنه، على تلك الهيئة عينها، يقود الفُلْك فوق لجة المياه في أثناء النازلة الكبرى التي عينت الفاصل بين دهرين (منڤنترا manvantara) متواليين[5]. إن دور ستياڤرتا هذا يشبه دور سيدنا نوح؛ إذ إن فُلْكه تحوي، كفُلْك نوح على حدٍّ سواء، جميع العناصر التي ستفيد في إعادة بناء العالم بعد الطوفان. وليس مهمًّا إذ ذاك أن يختلف تطبيقه في الكتاب المقدس، من حيث إن الطوفان التوراتي، في دلالته الأكثر مباشرة، يبدو وكأنه يحدد بداية دور أصغر من أدوار الـمنڤنترا؛ فحتى لو لم يكن الحدث هو نفسه في كلتا الحالتين، فهما على كل حال حدثان متقايسان تمامًا، تهلك فيهما حال سابقة للعالم لتحل محلها حال جديدة[6]. فإذا قارنا الآن قصة يونس بما ذكَّرنا به لتوِّنا، لرأينا أن الحوت، بدل أن يؤدي دور السمكة التي تقود الفُلْك، يتماهى في الواقع مع الفُلْك نفسها: فبالفعل، بقي يونس محبوسًا في بطن الحوت، كما بقي ستياڤرتا ونوح كلاهما في الفُلْك طوال فترة هي أيضًا بالنسبة إليه، إنْ لم تكن كذلك بالنسبة إلى العالم الخارجي، فترة "إظلام" تُوافق الفاصل بين حالين أو كيفيتين كونيتين. وهنا أيضًا الفارق ثانوي وحسب، حيث إن الصور الرمزية، كما هو شأنها في واقع الأمر دومًا، قابلة لتطبيق مزدوج: تطبيق كوني أكبري وتطبيق كوني أصغري. ونحن نعلم، من ناحية أولى، أن خروج يونس من بطن الحوت اعتُبر دائمًا رمزًا للقيامة، أي للعبور إلى حال جديدة؛ وهذا يلزم تقريبُه، من ناحية ثانية، من معنى "الولادة" الذي يرتبط، في القبالة العبرانية بالأخص، بحرف النون، والذي ينبغي فهمه روحيًّا بوصفه "ولادة جديدة"، أي تجديدًا روحيًّا للموجود الفردي أو الكوني.

رسم هندي يمثل المتسيا أڤتارا، "تنزيل" الإله ڤشنو على هيئة السمكة.

هذا ما يدل عليه دلالة واضحة للغاية رسمُ حرف ن العربي: فهذا الحرف مكوَّن من النصف السفلي لدائرة، ومن نقطة هي مركز هذه الدائرة نفسها. وهكذا فإن نصف الدائرة السفلي هو أيضًا على هيئة الفُلْك الطافية على المياه، والنقطة في باطنه تمثِّل جرثومة الحياة المحتواة في الفُلْك أو المغلَّفة بها؛ وموقع هذه النقطة المركزي يبيِّن، إلى ذلك، أن المقصودة في الواقع هي "جرثومة الخلود" أو "النواة" التي لا تهلك، فتنجو من التحلُّلات الخارجية كافة. كما يمكن لنا أن نلحظ أن نصف الدائرة هذا، بتقعُّره نحو الأسفل، إنما هو أحد المكافئات المختصَرة للكوب؛ فله إذن، مثله، على نحو ما، معنى الرحم التي تنطوي على تلك الجرثومة التي لم تنمُ بعدُ والتي تتماهى، كما سنرى فيما يلي، مع النصف الأسفل أو "الأرضي" من "بيضة العالم"[7]. وتحت مظهر العنصر "المنفعل" passif هذا للصيرورة الروحية transmutation spirituelle، يمثِّل الحوت أيضًا، على نحو ما، لصورة كل فردية، من حيث إن هذه الفردية حاملة لـ"جرثومة الخلود" في مركزها الذي يتمثل رمزيًّا بالقلب. ونستطيع أن نذكِّر، بهذا الصدد، بالصلات الوثيقة، التي سبق لنا أن عرضنا لها في مناسبات أخرى، بين رمزية القلب وبين رمزية الكوب ورمزية "بيضة العالم"[8]. إن نمو هذه الجرثومة الروحية يتضمن أن الموجود يخرج من حاله الفردية ومن الوسط الكوني الذي هو المجال الخاص به، مثلما أن يونس، لدى خروجه من بطن الحوت، "يُبعث" نشأة جديدة. وإذا ما تذكَّرنا ما كتبنا أعلاه، لفهمنا من غير مشقة أن هذا الخروج هو نفسه الخروج من كهف المُسارَرة initiation الذي يمثَّل لتقعُّره نفسه بنصف الدائرة التي يُرسَم بها حرفُ النون. فـ"الولادة الجديدة" تقتضي بالضرورة موتًا عن الحال السابقة، سواء كان المقصود فردًا أو عالَمًا؛ إذ إن الموت والولادة (أو القيامة) هما وجهان لا ينفصل أحدهما عن الآخر، لأنهما في الواقع ليسا سوى الوجهين المتقابلين للتغيُّر عينه في الحال.

رسم من مخطوط بيزنطي يمثل خروج النبي يونس من بطن الحوت، ويظهر في أعلاه المسيح القائم من بين الأموات. الإشارة إلى الكيمياء واضحة، حيث نجد عملية نفخ القدر الكيميائية بالكير تتم في جوف الحوت.

والنون في الأبجدية تلي مباشرة الميم التي من جملة معانيها الرئيسية معنى الموت[9]، والتي يمثل شكلُها م الكائنَ منطويًا تمامًا على نفسه، مختزَلاً، نوعًا ما، إلى كمون محض يوافقه شعائريًّا موقف السجود؛ ولكن هذا الكمون، الذي قد يبدو فناءً وقتيًّا، سرعان ما يصير، عبر تركيز جميع الممكنات الذاتية للموجود في نقطة فريدة لا يمسُّها الفناء، الجرثومة ذاتها التي تخرج منها تحقُّقاته كافة بأحوال الوجود العليا[10].

جدير بالقول إن رمزية الحوت ليس لها جانب "ميمون" فقط، بل لها أيضًا جانب "مشؤوم"، الأمر الذي، عدا الاعتبارات العامة لازدواجية معنى الرموز، يبرَّر بصفة أخص بارتباطه بصورتَي الموت والبعث اللذين يظهر عليهما كل تغيُّر في الحال، حسب النظر إليه من جانب أو آخر، أي بالنسبة إلى الحال السابقة أو الحال اللاحقة. ومنه، فإن الكهف هو، في الآن نفسه، مكان للدفن ومكان "ولادة جديدة"؛ وفي قصة يونس يؤدي الحوت هذا الدور المزدوج بعينه. كذلك، أليس بوسعنا القول إن الـمتسيا أڤتارا نفسه يتمثل أولاً في مظهر ضارٍّ[11] يُنذر بوقوع النازلة، قبل أن يصبح "المخلِّص" من هذه النازلة عينها؟ من ناحية أخرى، فإن المظهر "المشؤوم" للحوت ينتسب انتسابًا واضحًا إلى اللوياثان العبراني[12]؛ لكنه متمثِّل خاصةً، في المنقول العربي، بكوكبة بنات الحوت التي تكافئ، من وجهة النظر الفلكية، راهو Rāhu وكيتو Kētu في المنقول الهندوسي، ولاسيما فيما يتعلق بالكسوف[13]، ويقال إنهن سوف "يشربن البحر" في آخر أيام الدور، يوم "تشرق الكواكب من المغرب وتغرب من المشرق". ولا نستطيع أن نتوسع أكثر في هذه النقطة دون أن نخرج تمامًا من موضوعنا؛ لكننا يجب، على الأقل، أن نلفت الانتباه إلى أننا نقع هنا أيضًا على صلة مباشرة بنهاية الدور الكوني وتغيُّر الحال الذي يتبعه، لأن لذلك دلالة عظيمة تضيف توكيدًا جديدًا إلى الاعتبارات السابقة.

لنعد الآن إلى شكل الحرف نون الذي يجيز ملاحظة هامة من جهة العلاقات القائمة بين أبجديات مختلف الألسن النقلية: ففي "الأبجدية" السنسكريتية، يقابل النونَ حرفُ نا na الذي، إذا أرجعناه إلى عناصره الهندسية الأساسية، لوجدناه أيضًا يتألف من نصف دائرة ونقطة ؛ لكن التحدُّب هنا متَّجه إلى الأعلى، بما يجعل منه نصف الدائرة العلوي، وليس النصف السفلي، كما في النون العربية. فهو إذن الصورة نفسها، لكنْ موضوعة في شكلها المقلوب[14]؛ أو لنقل، بالأصح، إنهما صورتان متتامتان بكل دقة: بالفعل، إذا جمعنا بينهما، تندغم النقطتان المركزيتان اندغامًا طبيعيًّا، فنحصل على الدائرة تتوسطها نقطة المركز circle_with_dot، ممثِّلة للدور التام؛ وهي، في الوقت نفسه، رمز الشمس على الصعيد الفلكي ورمز الذهب على الصعيد الكيميائي[15]. وكما أن نصف الدائرة السفلي يرمز إلى الفُلْك، فإن النصف العلوي يرمز إلى قوس قزح الذي "يناظرها" بالمعنى الأدق للكلمة، أي بتطبيق "الاتجاه المعكوس"؛ وهما أيضًا نصفا "بيضة العالم": نصفها الأول "الأرضي" في "المياه الدنيا"، والآخر "السماوي" في "المياه العليا". والشكل الدائري، الذي كان تامًّا في بدء الدور، قبل انفصال هذين النصفين، لا بدَّ أن يعود ويتركَّب ثانية في نهاية الدور نفسه[16]. يجوز لنا القول، إذن، إن اجتماع الصورتين اللتين نحن بصددهما يمثل اكتمال الدور، وذلك بالوَصْل بين بدايته ومنتهاه، ولاسيما أننا، إذا ما حملناهما بخاصة على محمل الرمزية "الشمسية"، فإن صورة النا السنسكريتية توافق الشمس الشارقة وصورة النون العربية تقابل الشمس الغاربة. من ناحية أخرى، فإن صورة الدائرة التامة هي عادة رمز العدد 10 أيضًا، حيث المركز هو 1 والمحيط 9، لكنها هنا، بوصفها حاصل جمع نونين اثنتين[17]، تساوي 2 × 50 = 100 = 10 × 10، مما يدل على أن الوَصْل يجب أن يتم في "العالم الأوسط"؛ إذ إن الوَصْل محال في العالم السفلي الذي هو مجال الانقسام و"الفَرْق"، بينما هو، بالمقابل، موجود دائمًا في العالم العلوي، حيث يتحقق من حيث المبدأ، بكيفية سرمدية دائمة، في "الآن الدائم"[18].

فسيفساء جدارية من أحد أديرة قبرص تمثل فلك نوح بعد الطوفان "يناظرها" قوس قزح.

لن نضيف إلى هذه الملاحظات، التي طالت أصلاً، إلا كلمة واحدة نثبت بها الصلة بمسألة أشرنا إليها مؤخرًا[19]: إن ما قلناه لتوِّنا يجيز استشفاف أن تمام الدور، كما نظرنا فيه، لا مناص من أن يكون على ارتباط، على صعيد التاريخ، بالتقاء شكلين نقليَين يوافقان مبدأه ومنتهاه، لساناهما الشريفان، على التوالي، هما اللسان السنسكريتي واللسان العربي: المنقول الهندوسي، بصفته يمثِّل الميراث الأقرب مباشرة إلى المنقول القديم Tradition primordiale، والمنقول الإسلامي بصفته "خاتَم النبوة"، وبالتالي، الشكل الأخير للأرثوذكسية النقلية للدور الحالي.

المترجمة عن الفرنسية: فاطمة عصام صبري

مدقِّق الترجمة: ديمتري أڤييرينوس


* Études traditionnelles, août-septembre 1938 ; repris dans René Guénon, Symboles de la Science sacrée, Gallimard, 1962, pp. 154-158.

** فيلسوف فرنسي (1886-1951)، ولد في بلوا (فرنسا) وتوفي بالقاهرة. شُغف بالروحانيات منذ حداثة سنِّه، فدفعه حب الاستطلاع إلى اختبار معظم مدارسها الحديثة، حتى اهتدى أخيرًا إلى تصور متكامل عن وحدة المنقولات الأصيلة في العالم قاطبة، بوصفها تعبيرات متنوعة متفرعة عن "منقول قديم" Tradition Primordiale واحد، فاطمأن إليه وراح، بالتوازي مع حياة باطنية غنية، يكتب فيه المقالات والكتب والرسائل، مؤسِّسًا بذلك لمذهب "نقلي" traditionnaliste مازال أثرُه ساري المفعول حتى يومنا هذا. من مؤلفاته الكثيرة الهامة: الإنسان ومآله بحسب الڤيدنتا، أزمة العالم الحديث، رمزية الصليب، الثالوث الأكبر، لمحات عن المُسارَرة. (المحرِّر)

[1] وفقًا لترتيب "أبجد هوز". (المحرِّر)

[2] Cf. René Guénon, « Quelques aspects du symbolysme du poisson », dans Symboles de la Science sacrée, pp. 149-153.

[3] اسم مَتْسِيا يعني بالسنسكريتية "سمكة"؛ وهو أول "التنزيلات" avatāra العشرة للإله ڤشنو Vishnu. وفي "تنزيل" أو تجلِّي السمكة هذا، يخلِّص ڤشنو العالمَ من الطوفان الكبير. (ف ص)

[4] معنى كلمة إخثيس باليونانية "سمكة"؛ وحروفها ΙΧΘΥΣ أوائل ألفاظ تتألف منها عبارة يونانية تفيد: "يسوع المسيح ابن الله مخلِّص". ومنه، غدت السمكة رمزًا إلى المسيح عند المسيحيين الأوائل. (المحرِّر)

[5] منڤنترا manvantara كلمة سنسكريتية تُطلق، في علم الكونيات الهندوسي، على كلٍّ من العصور الأربعة عشر التي تشكل الدور الكوني kalpa؛ وكلُّ واحد من هذه العصور يحكمه Manu، أي ذرية إنسانية. (المحرِّر)

[6] Cf. René Guénon, Le Roi du Monde, ch. 11.

[7] عبر تقريب عجيب، نلحظ أن معنى الرحم (الـيوني yoni بالسنسكريتية) موجود ضمنًا في كلمة ذلفِس delphus اليونانية، التي هي بنفس الوقت اسم الدلفين.

[8] Cf. René Guénon, « Le Cœur et l’Œuf du Monde », dans Symboles de la Science sacrée, pp. 209-212.

[9] يقال ميمَ الرجل، على البناء للمجهول، مَوْمًا: أصابه الموم أي البرسام، وهو التهاب الصدر؛ والموم أيضًا: أشد الجدري؛ والمومياء: الجثمان المحنط؛ والموماة: الفلاة التي لا ماء فيها ولا أنيس. (ف ص)

[10] من الطريف أن نلفت النظر هنا إلى أن الكاف واللام والميم والنون متلاحقة ومتلازمة في أكثر أبجديات العالم K-L-M-N. وعندنا أن "كلمن"، أي الكلام واللغة، مطية الفكر ورسول المعرفة. (ف ص)

[11] نذكِّر هنا بأن الضار من الأسماء الحسنى في الإسلام. (المحرِّر)

[12] على الرغم من أن للمكارا Makara الهندوسي، وهو أيضًا مسخ بحري، قبل كل شيء، معنى ميمونًا يتعلق ببرج الجدي الذي يشغله من فلك البروج، فإن له، في كثير من التصاوير، بعض السمات التي تذكِّر بالرمزية "الإعصارية" للتمساح.

[13] يفسَّر كسوف الشمس، في المعتقد الشعبي الشائع، بابتلاع الحوت إياها ونهاية الكسوف بلفظه لها. (المحرِّر)

[14] من الملاحظ أن الرياضيين يكتبون بالعربية حرف النون بالمقلوب. (المحرِّر)

[15] يمكن لنا أن نتذكر هنا رمزية "الشمس الروحية" و"المضغة الذهبية" (هرنياگربها Hiranyagarbha) في المنقول الهندوسي؛ فضلاً عن ذلك، فإن النون، بمقتضى توافقات أخرى، هي حرف فلك الشمس.

[16] Cf. René Guénon, Le Roi du Monde, ch. 11.

[17] جاء في بداية المقال أن النون في حساب الجمَّل تساوي 50؛ ونلاحظ أن رسم هذا العدد بالرقم الهندي يشتمل على النقطة والدائرة التامة اللتين أشار إليهما گينون كرمز إلى الدور الكوني التام. (المحرِّر)

[18] "هو امتداد الحضرة الإلهية الذي يندرج به الأزل في الأبد، وكلاهما في الوقت الحاضر، لظهور ما في الأزل على أحايين الأبد، وكون كلٍّ منها مجمع الأزل والأبد، فيتحد به الأزل والأبد والوقت الحاضر. فلذلك يقال له باطن الزمان وأصل الزمان، لأن الآنات الزمنية نقوش عليه وتغيرات تظهر بها أحكامُه وصورُه، وهو ثابت على حاله دائمًا سرمدًا […]" (الكاشاني، اصطلاحات الصوفية). (المحرِّر)

[19] راجع: F. Schuon, « Le Sacrifice », dans Études traditionnelles, avril 1938, p. 137, note 2 [ف. شووُن، "القربان". المقطع المقصود بهذه الإشارة هو: "… بالعودة إلى الهند، يجوز لنا القول بأنه يبدو أن انتشار منقول أرثوذكسي غريب فيها، هو الإسلام، يشير إلى أن الهندوسية نفسها لم تعد تتصف بملء حيوية أو فاعلية منقول يتوافق توافقًا كاملاً مع شروط عصر دوري بعينه. فهذا التلاقي بين الإسلام، بما هو الإمكانية الأخيرة المتفرعة عن المنقول القديم، وبين الهندوسية، بما هي في الغالب فرعه الأكثر مباشرة، ذو دلالة قوية ويستدعي اعتبارات شديدة التعقيد." (المحرِّر)].

منطق الطير – رونيه گينون

منطق الطير*

guenon_1

رونيه گينون**

والصافَّات صفًّا * فالزاجرات زجرًا * فالتاليات ذكرًا
القرآن الكريم، سورة الصافات 1-3

كثيرًا ما تجيء منقولات مختلفة على ذكر لغة سرَّانية تسمى "منطق الطير": هي تسمية رمزية طبعًا، لأن القيمة التي تُعزى إلى معرفة هذه اللغة بالذات، بصفتها مزية تختص بها مُسارَرة initiation عالية، لا تجيز أخذها على محمل الحرف. بهذا الاعتبار، وَرَدَ في القرآن الكريم: "وورث سليمان داود وقال: يا أيها الناس عُلِّمنا منطق الطير وأوتينا من كلِّ شيء إن هذا لهو الفضل المبين" (سورة النمل 16). وفي غير مكان، يرد ذكر أبطال هزموا التنين، مثل زيگفرد في قَصَص شعوب الشمال، ففهموا من فورهم لغة الطير؛ وهذا ييسر تأويل الرمزية التي نحن بصددها. وبالفعل، فإن النتيجة المباشرة للانتصار على التنين هي الفوز بالخلود، متمثلاً في غرض بعينه يحُول هذا التنين دون الاقتراب منه. والفوز بالخلود هذا يتضمن أساسًا الإنابة إلى مركز الحال الإنسانية، أي استرجاع النقطة التي يتم بها الاتصال بأحوال الوجود العليا؛ وهذا الاتصال هو الذي يتمثل بفهم منطق الطير. وفي واقع الأمر، مرارًا ما تؤخذ الطير على أنها رموز إلى الملائكة، أي بالدقة إلى الأحوال العليا. وقد أتيحت لنا في غير مكان[1] مناسبةُ إيراد المثل الإنجيلي الذي يتطرق، بهذا المعنى، للكلام على "طيور السماء" التي حطت على أغصان الشجرة وعششت عليها[2] – تلك الشجرة عينها التي تمثل المحور الذي يخترق مركز كل حال من أحوال الوجود ويربط ما بين تلك الأحوال جميعًا[3].

منمنمة من مخطوط إيراني لمنظومة "منطق الطير" للصوفي فريد الدين العطار، تظهر فيه الطير عند النبع الذي يسقي شجرة الحياة.

في النص القرآني الذي أثبتناه أعلاه، يُعتبَر مصطلح الصافات إشارة حرفية إلى الطير، ولكنه ينطبق رمزيًّا على الملائكة؛ بذا تدل الآية الأولى على تطابُق المراتب السماوية أو الروحية[4]. وتفيد الآية الثانية زجر الملائكة للشياطين، أو صراع القدرات السماوية ضد القدرات الجهنمية، أي التعارض بين أحوال الوجود العليا والأحوال الدنيا[5]؛ وهذا يقابل، في المنقول الهندوسي، صراع الـديڤا Devas [الآلهة[6]] ضد الـأسورا Asuras [الشياطين]، كما يقابل أيضًا، تبعًا لرمزية مشابهة تمامًا للرمزية التي نحن بصددها هنا، المعركة بين الگارودا Garuda والناگا Nāga [ثعبان الكوبرا]، حيث نجد، كذلك، الثعبان أو التنين الذي سبقت الإشارة إليه: الگارودا هو العقاب الذي يمكن، في حكايات أخرى، أن تنوب عنه طيور أخرى، كأبي منجل واللقلق ومالك الحزين – وكلها أعداء للزواحف ومبيدات لها[7]. ونشهد أخيرًا، في الآية الثالثة، الملائكة تتلو الذكر، الأمر الذي ينبغي أن يُفهَم، بحسب التفسير الأشيع، على أنه تلاوة القرآن، إنما ليس بالطبع القرآن المكتوب باللسان البشري، بل أنموذجه الأزلي المدون على اللوح المحفوظ، الممتد، كسُلَّم يعقوب، بين السموات والأرض، أي عبر درجات الكون الكلِّي كافة[8].

بالمثل، نجد في المنقول الهندوسي ما يحكى من أن الديڤا، في صراعهم مع الأسورا، كانوا "يعوذون" achhan dayan بتلاوة أناشيد الڤيدا Veda [أسفار الحكمة الهندوسية]، ومن أنه لهذا السبب أطلِقَتْ على هذه التسابيح صفة تشهندا chhandas، وهي كلمة تشير إلى "الإيقاع" حصرًا. والمعنى نفسه متضمن في كلمة ذكر التي تدل، في التصوف الإسلامي، على أوراد موقَّعة توافق بالضبط الـمنترا mantras الهندوسية، بما هي ألفاظ يستهدف تكرارُها إيجاد انسجام بين مختلف العناصر المكوِّنة للموجود وتوليد اهتزازات من شأنها، بتصاديها عبر سلسلة الأحوال في تراتب غير منتهٍ، أن تفتح اتصالاً بالأحوال العليا، الأمر الذي هو، بوجه عام، العلة الأولى الأصلية والأولية لأداء مختلف الشعائر rites.

ها نحن أولاء واجدين أنفسنا مباشرة، كما يُرى، تلقاء ما ذكرناه في الاستهلال عن "منطق الطير"، الذي يسعنا كذلك أن ندعوه "لسان الملائكة" – وصورته في العالم الإنساني هي اللغة الموقَّعة –؛ ذلك أنه على "علم الإيقاع" science du rythme، الذي يتضمن إلى ذلك تطبيقات عديدة، تتأسَّس في الحاصل جميع الوسائل التي يمكن إعمالها للاتصال بالأحوال العليا. وهذا يفسر أثرًا إسلاميًّا يقول إن آدم، في جنة عدن، كان ينطق شعرًا، أي بلغة موزونة؛ والمقصودة هنا هي هذه اللغة السريانية التي تكلَّمنا عليها في دراستنا السابقة في "علم الحروف"[9]، وهي التي يجب اعتبارها تترجم مباشرة عن "الإشراق الشمسي" و"الملائكي" كما يتجلَّى في مركز الحال الإنسانية. ولذلك جاءت الكتب الشريفة أيضًا بلغة موقَّعة موزونة، الأمر الذي يجعل منها، كما يتبيَّن لنا، شيئًا مختلفًا تمامًا عن مجرد "قصائد" بالمعنى الدنيوي المحض الذي يريد أن يراه فيها الانحيازُ المعادي للنقل الذي يأخذ به "النقاد" المُحدَثون. ثم إن الشعر، من جهة أخرى، لم يكن في أصله بتاتًا هذا "الأدب" الباطل الذي آل إليه بالفساد، الذي تفسِّره السيرورة الهابطة للدورة الإنسانية، وإنما كانت له في الماضي صفة قدسية حقيقية[10]، يمكن اقتفاء آثارها حتى العصر القديم الكلاسيكي الغربي، حين كان الشعر لا يزال يسمى "لسان الآلهة" – وهو تعبير يكافئ التعبيرات التي أشرنا إليها، بما أن "الآلهة" Dieux، أي الـديڤا[11]، هي، كالملائكة، تمثيلات للأحوال العليا. وباللاتينية، كانت أبيات الشعر تدعى كرمينا carmina، وهي تسمية ترجع إلى استعمالها في أداء الشعائر[12]؛ إذ إن كلمة كرمن carmen تُطابق اللفظ السنسكريتي كرما karma، الذي يجب أخذه هنا بصفة خاصة على محمل "الفعل الشعائري"[13]؛ والشاعر نفسه – وهو ترجمان "اللغة القدسية" التي تشفُّ عن الكلمة Verbum الإلهي – كان ڤاتس vates، وهو لفظ يخصُّه بوصفه موهوبًا إلهامًا من نوع "نبوي". وفيما بعد، من جراء انحطاط آخر، لم يعد الـڤاتس إلا مجرد "عرَّاف" devin عامِّي[14]، وأمسى الـكرمن carmen (ومنه كلمة charme الفرنسية [التي تعني "فتنة" أو "تعويذة"]) "فتونًا" enchantement، أي مجرد عملية سحرية وضيعة. وهذا مثال أيضًا على أن السحر، بل حتى الشعوذة، هو ما يتبقى كأثر أخير من المنقولات المحتجبة[15].

بذا نحسَب أن هذه الإشارات الخاطفة تكفي لبيان مدى الخطأ الذي يقع فيه أولئك الذين يهزؤون بالروايات التي يرد فيها ذكر "منطق الطير"؛ فما أسهل وأبسط أن نزدري ما لا نفهمه، فنعدُّه من قبيل "الخرافات"! لكن القدماء، من جانبهم، كانوا يعلمون حق العلم ما يقولون عندما يستعملون اللغة الرمزية. "الخرافة" superstition الحقيقية، بالمعنى الاشتقاقي حصرًا (["البقاء فوق"] quod superstat)، هو ما يتبقى باقيًا بذاته، أي، بكلمة واحدة، "الحرف الميت". لكن هذه البقاء بعينه، مهما بدا استحقاقُه للاهتمام من الضآلة، ليس مع ذلك شيئًا زريًّا، لأن الروح الذي "يهبُّ حيث يشاء"[16]، ومتى يشاء، بوسعه دومًا أن يعود، فيحيي الرموز والشعائر ويعيد إليها، بالإضافة إلى معناها الضائع، ملء فاعليتها الأصلية.

المترجمة عن الفرنسية: فاطمة عصام صبري

مدقِّق الترجمة: ديمتري أڤييرينوس


* Voile d’Isis, novembre 1931 ; repris dans René Guénon, Symboles de la Science sacrée, Gallimard, 1962, pp. 57-61.

** فيلسوف فرنسي (1886-1951)، ولد في بلوا (فرنسا) وتوفي بالقاهرة. شُغف بالروحانيات منذ حداثة سنِّه، فدفعه حب الاستطلاع إلى اختبار معظم مدارسها الحديثة، حتى اهتدى أخيرًا إلى تصور متكامل عن وحدة المنقولات الأصيلة في العالم قاطبة، بوصفها تعبيرات متنوعة متفرعة عن "منقول قديم" Tradition Primordiale واحد، فاطمأن إليه وراح، بالتوازي مع حياة باطنية غنية، يكتب فيه المقالات والكتب والرسائل، مؤسِّسًا بذلك لمذهب "نقلي" traditionnaliste مازال أثرُه ساري المفعول حتى يومنا هذا. من مؤلفاته الكثيرة الهامة: الإنسان ومآله بحسب الڤيدنتا، أزمة العالم الحديث، رمزية الصليب، الثالوث الأكبر، لمحات عن المُسارَرة. (المحرِّر)

[1] Cf. René Guénon, L’Homme et son devenir selon le Vēdānta, ch. III.

[2] راجع، مثلاً، إنجيل متى 13: 31-32. (المحرِّر)

[3] في رمز Peridexion (تحريف للفظ Paradision، ["فردوس"]) الذي يرجع إلى العصر الوسيط، نرى الطيور على أغصان الشجرة والتنين جاثم في أسفلها (cf. René Guénon, Le Symbolisme de la Croix, ch. IX) [رمزية الصليب، الفصل التاسع].

رسم من مخطوط وسيطي يمثل رمز الپريدكسيون: الطيور على أغصان الشجرة والتنين جاثم في أسفلها.

وفي دراسة عن رمزية "طائر الفردوس" (Le Rayonnement intellectuel, mai-juin 1930)، أورد السيد م.ل. شاربونو-لاساي نسخة عن منحوتة تصور هذا الطائر برأس وجناحين فحسب، وهي الصورة التي كثيرًا ما تتمثل فيها الملائكة [cf. M.L. Charbonneau-Lassay, Le Bestiaire du Christ, ch. LVI, p. 425].

[4] لفظ "صف" هو أحد الألفاظ العديدة التي حاول بعضهم أن يستنبط منها أصل كلمة صوفي أو تصوف؛ ومع أن هذا الاشتقاق لا يبدو مقبولاً من الوجهة اللسانية المحضة، فهذا لا يلغي صحة أنه، شأنه شأن عدة اشتقاقات أخرى من الجنس نفسه، يمثل واحدًا من المعاني المحتواة فعلاً في هذه المصطلحات، لأن "المراتب الروحية" تتطابق أساسًا مع درجات المُسارَرة.

[5] هذا التعارض يُترجَم لدى كل موجود بتضادِّ الميلين الصاعد والهابط [للطبيعة] اللذين تدعوهما العقيدة الهندوسية ستڤا sattwa [النور، التوازن] وتَمَس tamas [الظلمة، العطالة]؛ وهذا أيضًا ما ترمز إليه الزرادشتية بالصراع بين النور والظلام، المشخصَين بأهورامزدا وأهرمن، على التوالي.

[6] ما بين معقوفتين […] من إضافة المحرر توضيحًا للمقصود. (المحرِّر)

[7] راجع، بهذا الصدد، أعمال شاربونو-لاساي المرموقة في رموز المسيح الحيوانية [cf. Le Bestiaire du Christ]. جدير بالملاحظة أن التضاد الرمزي بين الطير والحية لا يصح إلا عندما يُنظَر في الحية على صورتها الخبيثة؛ بالعكس، فإن الحية، على صورتها الطيبة، تندمج أحيانًا بالطير، كما في صورة Quetzalcohuatl [الثعبان ذي الريش] في المنقولات الأميركية القديمة؛ إلى ذلك، نقع في قَصَص المكسيك أيضًا على الصراع إياه بين العقاب والحية. ويجوز لنا، في خصوص الربط بين الطير والحية، التذكير بالعبارة الإنجيلية: "كونوا ودعاء كالحمام وأذكياء كالحيات" (إنجيل متى 10: 16).

[8] فيما يتعلق برمزية "الكتاب"، الذي يحيل إليه ما نحن بصدده مباشرة، راجع: René Guénon, Le Symbolisme de la Croix, ch. XIV [رمزية الصليب، الفصل 14].

[9] راجع: رونيه گينون، "علم الحروف"، سماوات: http://samawat.org/articles/science_des_lettres_guenon. (المحرِّر)

[10] يجوز القول، إلى ذلك، بأن الفنون والعلوم بصفة عامة لم تصر دنيوية إلا بنوع كهذا من الانحطاط جردها من صفتها النقلية، ومن ثم، من كل مغزى من رتبة علوية. وقد شرحنا ما نذهب إليه في هذا الموضوع في كتابنا L’Ésotérisme de Dante, ch. II [باطنية دانتي، الفصل الثاني]، وفي كتابنا La Crise du monde moderne, ch. IV [أزمة العالم الحديث، الفصل الرابع]. [راجع للكاتب أيضًا: Le Règne de la quantité et les signes des temps, ch. VIII. (المحرِّر)]

[11] اللفظان السنسكريتي Deva واللاتيني Deus ليسا غير الكلمة الواحدة عينها.

[12] جدير بالنظر، كذلك، أن "الشعر" (الكلام الموزون) و"الشعيرة" (المَنْسِك الديني) مشتقان من أصل واحد. (المحرِّر)

[13] كلمة "شعر" poésie مشتقة هي الأخرى من الفعل اليوناني poiein، الذي له المعنى نفسه الذي للجذر السنسكريتي kri، الذي منه كلمة karma، والذي نجده في فعل creare [خَلَقَ] اللاتيني مفهومًا بمعناه البدائي؛ ففي الأصل، كان المقصود شيئًا مختلفًا تمامًا عن مجرد إنتاج عمل فني أو أدبي بالمعنى الدنيوي الذي يبدو أن أرسطو عناه حصرًا عندما تكلم على ما أسماه "العلوم الشعرية".

[14] كلمة "عراف" devin نفسها لا تقل عن ذلك زيغًا عن معناها الأصلي؛ إذ إنها ليست اشتقاقيًّا غير divinus التي تفيد هنا معنى "ترجمان الآلهة". و كلمة "الطيرة" auspices (وهي مشتقة من aves spicere، أي "مراقبة الطيور")، بما هي النذُر والبشائر المستوحاة من طيران الطيور وأغانيها، ينبغي تقريبها، بصفة أخص، من "منطق الطير"، المفهوم عندئذ بالمعنى الأشد مادية للكلمة، لكنْ المتواحد بعدُ، مع ذلك، مع "لسان الآلهة"، بما أنه كان يُعتقَد أن الآلهة يُظهرون مشيئتهم من خلال هذه النذُر والبشائر، فكانت الطير تلعب بذلك دور "الرُّسل" المُقايس للدور المنسوب إلى الملائكة بوجه عام (ومن هنا اسمها نفسه، بما أنه هنا بالدقة يثوي المعنى الخاص لكلمة "ملَك" angelos اليونانية)، ولو أنه مأخوذ هنا بمعنى أدنى بكثير. [نزيد على ذلك أن معنى ملَك بالعربية هو "حامل الملوكة" أي الرسالة. (ف ع ص)]

[15] حول مسألة أصول السحر والشعوذة، راجع المقطع الأخير من مقال لگينون بعنوان "شيث": René Guénon, Symboles de la Science sacrée, ch. XX : « Sheth », pp. 139-143، حيث يلمح إلى أن السحر والشعوذة يمثلان آخر درجات انحطاط العلوم النقلية القديمة. (المحرِّر)

[16] إشارة إلى قول يسوع للمعلم الفريسي نيقوديمُس: "الريح تهب حيث تشاء، فتسمع صوتها ولكنك لا تدري من أين تأتي وإلى أين تذهب – تلك حال كل مولود للروح" (إنجيل يوحنا 3: 8)، حيث لكلمة "روح" pneuma باليونانية معنيان: الريح والروح. (المحرِّر)

علم الحروف – رونيه گينون

علم الحروف*

guenon_1

رونيه گينون**

في التوطئة لدراسة في "تبرير الله في القبالة"[1]، بعدما قال الكاتب إن "القبالة تنطلق من فرضية أن اللسان العبري هو اللغة الكاملة التي علَّمها الله للإنسان الأول"، تراه استنسَب إبداء تحفُّظه على "الادعاء الموهوم القائل باحتفاظ العبرية بعناصر اللغة الطبيعية صافيةً، بينما لا يمتلك القائمون عليها من هذه اللغة غير نتف وتحريفات". غير أن قوله هذا لا يحول دونه والتسليم بأنه "يبقى من المرجح أن تكون الألسنة القديمة قد تفرعت عن لغة قدسية واحدة ألَّفها ملهَمون"، وبأنه "لا تزال ثمة جزمًا كلمات تعبِّر عن ماهية الأشياء ونِسَبها العددية"، وبأن هذا "يصح على فنون العِرافة أيضًا". فاستحسنَّا أن نزيد هذه المسألة تدقيقًا، وإن كنا نود لفت النظر، بادئ ذي بدء، إلى أن كاتبنا قد نظر إلى الأمر من منظار "فلسفي" بالأخص، بينما نعتزم نحن، جريًا على عادتنا دومًا في الواقع، الوقوف عليه من الصعيد المُسارَري initiatique والنقلي traditionnel.

النقطة الأولى التي يجدر لفت الانتباه إليها هي التالية: إن التأكيد على أن اللسان العبري هو بعينه لغة الوحي البدئي، وإنْ كان يبدو تأكيدًا ظاهريًّا exotérique ليس في اللب من مذهب القبالة، إلا أنه في الواقع يستر ببساطة أمرًا أعمق بكثير. والدليل على ما نذهب إليه هو أننا نقع على هذا التأكيد بعينه بخصوص ألسنة أخرى، وأن هذا التأكيد على "القِدَم" primordialité، إن صح التعبير، لا يجوز تسويغه، مأخوذًا على حرفيَّته، في الحالات كلها، بما أنه ينطوي على تناقض بيِّن. هذا التأكيد يجري بالأخص على اللسان العربي؛ لا بل إنه لَرأي واسع الشيوع نوعًا ما في البلدان الناطقة به أنه كان اللغة الأصلية للإنسانية[2]. لكن الأمر اللافت للنظر – وهو ما جعلنا نعتقد بأن الحالة عينها تنطبق على اللسان العبري – هو أن هذا الرأي العامي واهي الأساس وفاقد الحجة، من حيث إنه على تناقض صريح مع التعليم النقلي الحقيقي للإسلام القائل بأن "لسان آدم" كان اللغة السريانية، التي لا تمت إلى البلد المسمى "سوريا" حاليًّا، ولا إلى أية ألسنة متفاوتة في القِدَم بقيت محفوظةً في ذاكرة بني البشر حتى يوم الناس هذا. فـ"اللغة السريانية" هذه، حَسب تأويل هذا اللفظ، هي لغة "الشمس الإشراقية" تحديدًا؛ إذ إن لفظ سوريا Sūriā هو في الواقع اسم الشمس باللغة السنسكريتية، وهذا دليل، على ما يبدو، على أن جذر هذا الاسم سور sur (وهو واحد من الجذور المشيرة إلى النور) ينتمي بعينه إلى هذه اللغة الأصلية. إنها، إذن، "سوريا" القديمة التي قال عنها هوميروس إنها جزيرة واقعة "فوق أورتيجيا"، مما يُطابق بينها وبين تولا Tula الشمال الأقصى Hyperborée، و"فيها منقلَبات الشمس"[3]. وعاصمة هذا البلد، حسب [المؤرخ اليهودي][4] يوسيفُس، كانت تُسمَّى هليوپوليس Héliopolis، "مدينة الشمس"[5]، وهو اسم أطلِقَ أيضًا فيما بعد على المدينة المسماة أوْن On في مصر الفرعونية، مثلما كان اسم طيبة Thèbes أولاً من أسماء عاصمة أورتيجيا. وإنه لَمِن المفيد دراسة تناقُل هذه الأسماء على التتالي، وغيرها كثير، فيما يخص نشأة المراكز الروحية الثانوية لمختلف الفترات التاريخية، وهي نشأة وثيقة الصلة بنشأة الألسنة التي قُدِّر لها أن تُستعمَل كـ"مركَبات" للأشكال النقلية الموافقة لها. وهذه الألسنة هي وحدها اللغات التي يجوز أن تُدعى بـ"اللغات الحَرام" langues sacrées ["لغات الخواص"]؛ إذ تقوم صحة مناهج القبالة بالدقة على التمييز الأساسي بين اللغات الحَرام وبين "ألسنة العوام" أو الألسنة الدنيوية، شأن هذه المناهج كشأن عمليات مشابهة نقع عليها في منقولات أخرى.

فنقول ما يلي: كما يتكون المركز الروحي الثانوي على صورة المركز الأعلى والقديم، كما شرحنا ذلك في دراستنا عن ملك العالم[6]، يجوز لنا أن نرى إلى اللغة الحَرام، أو "القدسية" hiératique إذا شئتم، على أنها صورة أو صدى للغة الأصلية، التي هي اللغة الحَرام المثلى والتي هي "الكلمة المفقودة" أيضًا، أو بالأدق، المحتجبة عن إنسان "عصر الظلام"[7]، مثلما أضحى المركز الأعلى محتجبًا عن بصره وبعيدًا عن متناوله. إلا أننا لسنا بتاتًا هنا بإزاء "نتف وتحريفات" [كما جاء في الدراسة أعلاه]، بل على العكس، بإزاء تكييفات نظامية حتمتْها ظروفُ الزمان والمكان، أي بالمختصر، حَسب تعليم سيدي محيي الدين بن عربي في مستهل الباب الثاني من الفتوحات المكية، اضطرار كل نبي أو ناقل وحي إلى استعمال لسان يفهمه سامعوه، لسان أخص تلاؤمًا بالتالي مع عقلية شعب بعينه في حقبة بعينها. وعلة ذلك هي عينها علة تنوع الأشكال النقلية؛ وهذه العلة هي التي تستتبع، كمعلول مباشر، تنوعًا في اللغات التي يُقيَّض لها أن تُستعمَل كوسائل للتعبير عن كلٍّ من هذه الأشكال. وبالتالي، فإن اللغات الحَرام كافة هي التي ينبغي النظر إليها على أنها حقًّا صنيعة "ملهَمين"، وإلا لما جاز لها أن تضطلع بالدور الذي أنيط بها أساسًا. أما فيما يخص اللغة البدئية، فأصلُها "غير بشري" لا محالة، كما هو أصل المنقول القديم نفسه؛ وتتسم كل لغة حَرام بهذه الخاصية، من حيث إنها، في مبانيها وفي معانيها، صدى لهذه اللغة البدئية. إلى ذلك، يمكن لهذا الأمر أن يُترجَم بطُرُق مختلفة، ليست لها الأهمية نفسها في كل حالة على حدة، لأن مسألة التكييف تدخل هنا مرة أخرى بالحسبان: تلك هي، على سبيل المثال، حالُ الشكل الرمزي للعلامات المستعمَلة للكتابة[8]، وكذلك حال التوافق بين الأعداد والحروف، وبالتالي بين الأعداد والكلمات المؤلَّفة من هذه الحروف، وبالأخص في اللسانين العبري والعربي.

من العسير قطعًا على أهل الغرب أن يستبينوا ماهية اللغات الحَرام في حقيقتها لأنهم، في الظروف الحالية على الأقل، ليسوا على صلة مباشرة مع أي واحدة منها. وبوسعنا أن نذكِّر بهذا الصدد بما سبق وألمعنا إليه في مناسبات أخرى بشأن صعوبة استيعاب "العلوم النقلية" sciences traditionnelles، وهي أكبر بكثير من صعوبة استيعاب التعاليم من رتبة ميتافيزيقية صرف، وذلك بسبب طابع هذه العلوم التخصصي الذي يربطها ربطًا لا تُفصَمُ عُراه بهذا الشكل النقلي بعينه أو ذاك، بما لا يسمح بنقلها كما هي عليه من حضارة إلى أخرى، تحت طائلة جعلها مبهمة كل الإبهام، أو التوصل بها إلى نتائج موهومة، لا بل خاطئة تمامًا حتى. كذا فَلِفَهم مرمى رمزية الحروف والأرقام كلها فهمًا فعليًّا، يجب عيش هذه الرمزية، إذا جاز القول، بكل تطبيقاتها في ظروف الحياة المألوفة حتى، كما هو متاح في بعض بلدان الشرق؛ غير أنه من رابع المستحيلات ادعاء إقحام اعتبارات وتطبيقات من هذا القبيل على اللغات الأوروبية، التي لا تناسب هذه الأغراض بتاتًا والتي لا تقابل حروفَها قيمٌ عددية أصلاً[9]. فالمحاولات التي شاء بعضهم أن يتنطع لها على هذا الصعيد من الأفكار، خارج نطاق أي معطيات نقلية، هي بالتالي ضالة زائغة من نقطة انطلاقها؛ وحتى لو اتفق لبعضهم أحيانًا أن يتوصل إلى بضع نتائج صحيحة، في مجال حساب النيم[10] على سبيل المثال، فإن هذا لا يبرهن على صحة العمليات المتَّبعة ولا على شرعيتها، وإنما ينمُّ فقط عن وجود نوع من الملَكة "الحدسية" (لا جامع بينها طبعًا وبين الكشف العقلي intuition intellectuelle الحق) عند واضعي هذه العمليات موضع التطبيق، كما يحصل في الواقع مرارًا في "فنون العرافة"[11].

في شرح سيدي محيي الدين على المبدأ الميتافيزيقي لعلم الحروف، ينظر الشيخ الأكبر في الفتوحات المكية إلى الكون مرموزًا إليه بكتاب مسطور: هذا هو نفسه رمز كتاب العالم Liber Mundi المعروف عند أصحاب وردة الصليب، وكذلك رمز سِفْر الحياة Liber vitæ الوارد ذكره في رؤيا يوحنا[12]. وإن القلم الإلهي هو الذي سطَّر أصلاً حروف هذا الكتاب جمعًا لا على التفصيل؛ وهذه "الحروف العاليات" هي الأعيان الثابتة أو المُثُل الإلهية[13]. وإذ إن كل حرف هو في الآن نفسه عدد، يُلحظ التوافقُ بين هذا التعليم وبين المذهب الفيثاغورثي. وهذه الحروف العاليات نفسها، التي هي مجموع المخلوقات، إذ تكثَّفتْ أصلاً في علم الله الكلي، تنزَّلت من بعدُ، بالنَّفَس الإلهي، إلى السطور السفلى، فكوَّنت الكون المتجلِّي وصوَّرتْه. وهنا لا مناص لنا من إجراء مقارنة مع الدور الذي تلعبه الحروف، بالمثل، في عقيدة سِفِر يصيره ספר יצירה في نشأة الكون؛ فلعلم الحروف أهمية تكاد أن تكون هي نفسها في كلا القبالة العبرية والتصوف الإسلامي[14].

انطلاقًا من هذا المبدأ، يُفهم من دون مشقة التوافقُ القائم بين الحروف وبين مختلف أجزاء الكون المتجلِّي، وبالأخص أجزاء عالمنا. إذ إن وجود توافقات وقرانات بين الكواكب والبروج من هذا القبيل معروف، فلا نتوقف عنده، مكتفين بالإشارة إلى أنه يُحكِم شدَّ الوثاق بين علم الحروف والنجامة astrologie بوصفها من علوم "الكونيات"[15]. إلى ذلك، وبموجب المقايسة التكوينية بين "الكون الصغير" microcosme و"الكون الكبير" macrocosme، يوافق كلٌّ من هذه الحروف عضوًا من أعضاء بدن الإنسان؛ وبهذا الخصوص، نشير تلميحًا إلى وجود تطبيق علاجي لعلم الحروف، حيث يُستعمَل كلُّ حرف استعمالاً بعينه لشفاء الأدواء التي تصيب العضو الذي يوافقه خصوصًا.

يستتبع ما قلناه لتوِّنا أنه يجب النظر في علم الحروف تبعًا لرُتَب مختلفة، يجوز إرجاعها إجمالاً إلى "العوالم الثلاثة"[16]: فعلم الحروف، محمولاً على معناه الأعلى، هو معرفة الأشياء كلها في عين مبدئها، بصفتها "أعيانًا ثابتة" تتعالى عن التجلِّي برمته؛ وعلى معناه "الأوسط"، إذا صح التعبير، علم الحروف هو علم التكوين، أي معرفة صنع العالم المتجلِّي أو تشكيله؛ وأخيرًا، على معناه الأدنى، هو معرفة خواص الأسماء والأعداد، بصفتها تعبِّر عن طبيعة كل موجود، وهي المعرفة التي تتيح بواسطتها، في جملة ما تتيح، على سبيل التطبيق وبفضل التوافق بين الأسماء والأعداد وبين الموجودات، ممارسة عمل من رتبة "السحر" على الموجودات نفسها وعلى الأحداث التي تخصُّها. فبالفعل، حسبما يشرح ابن خلدون في مقدمته، تتمتع الطِّلَسْمات المكتوبة، إذ هي مؤلَّفة من العناصر [الحروف] نفسها المكوِّنة لكلية الموجودات، وبحُكْم خاصيتها هذه، بقدرة التأثير على هذه الموجودات. ولهذا فإن معرفة اسم موجود ما، بما هو تعبير عن طبيعته، تمنح سلطانًا عليه؛ وهذا هو أحد تطبيقات علم الحروف الذي عادةً ما يشار إليه باسم السيمياء[17]. ومن الحري ملاحظة أن السيمياء تتخطى بكثير مجرد عمليات "العرافة" كافة: إذ يمكن أولاً، بحساب الأعداد الموافقة للحروف والأسماء، التوصل إلى التنبؤ بأحداث بعينها[18]؛ إلا أن هذا ليس سوى الدرجة الأولى، درجة المبتدئين إذا جاز القول، إذ يمكن من بعدُ إجراء تحويلات [فلكية] على نتائج هذا الحساب من شأنها أن تؤدي إلى تعديل موافق في الأحداث ذاتها[19].

وهاهنا أيضًا يجب التمييز بين درجات جد مختلفة، كما هي حال المعرفة نفسها التي ليست السيمياء إلا تطبيقًا عمليًّا من تطبيقاتها: فعندما يمارَس هذا العملُ في عالم المحسوسات فحسب، نكون في الدرجة الدنيا، وفي هذه الحالة فقط يجوز الكلام على "السحر". ولا يصعب تذهُّن أننا نتعامل مع أمر من رتبة مختلفة تمامًا حين نكون بإزاء عمل له وَقْع في العوالم العُلوية: ففي هذه الحالة، نكون بالطبع بإزاء عمل من رتبة "المُسارَرة" initiation بالمعنى الأتم للكلمة؛ ووحده الذي بلغ درجة "الكبريت الأحمر" قادر على العمل فعليًّا في العوالم كافة. وتسمية "الكبريت الأحمر" هذه تشير إلى مُماثَلة، ربما قد تفاجئ بعض الناس، بين علم الحروف والكيمياء[20]: فَكِلا هذين العِلمين، بالفعل، إذ يؤخذان على معناهما العميق، ليسا في الواقع غير علم واحد؛ وما يعبِّران عنه كلاهما، وإنْ في مظاهر جد مختلفة، ليس سوى سيرورة المُسارَرة بعينها التي تكرِّر بدقة متناهية سيرورة التكوين، حيث إن التحقُّق التام لإمكانات أحد الموجودات يحصل بالضرورة مرورًا بأشواط تحقُّق الكون الكلِّي نفسها[21].


* Voile d’Isis, février 1931 ; repris dans René Guénon, Symboles de la Science sacrée, Gallimard, 1962, pp. 50-56.

** فيلسوف فرنسي (1886-1951)، ولد في بلوا (فرنسا) وتوفي بالقاهرة. شُغف بالروحانيات منذ حداثة سنِّه، فدفعه حب الاستطلاع إلى اختبار معظم مدارسها الحديثة، حتى اهتدى أخيرًا إلى تصور متكامل عن وحدة المنقولات الأصيلة في العالم قاطبة، بوصفها تعبيرات متنوعة متفرعة عن "منقول قديم" Tradition Primordiale واحد، فاطمأن إليه وراح، بالتوازي مع حياة باطنية غنية، يكتب فيه المقالات والكتب والرسائل، مؤسِّسًا بذلك لمذهب "نقلي" traditionnaliste مازال أثرُه ساري المفعول حتى يومنا هذا. من مؤلفاته الكثيرة الهامة: الإنسان ومآله بحسب الڤيدنتا، أزمة العالم الحديث، رمزية الصليب، الثالوث الأكبر، لمحات عن المُسارَرة. (المحرِّر)

[1] Cf. F. Warrain, La Théodicée de la Kabbale, éd. Vega, Paris.

[2] شائع كذلك قولهم إن العربية هي "لغة أهل الجنة"؛ وتأويله، بغض النظر عن سذاجته إذا أخِذَ على محمل حرفي، أن اللغة التي نطق بها آدم، "أبو البشر"، أي اللغة الأصلية التي نطقت بها إنسانيتنا في دورها الحالي، هي عينها اللغة التي سيُنطَق بها في نهاية هذا الدور. (المحرِّر)

[3] راجع: هوميروس، الأوديسة، النشيد 15: 403-405. أورد گينون في الأصل الفرنسي أن الجزيرة المذكورة هي أوجيجيا Ogygie، بينما الصحيح أنها أورتيجيا Ortygie، لأن أوجيجيا، كما ورد مرارًا في النص الهوميري، هي الجزيرة التي احتجزت فيها الإلهة كاليپسو بنت أطلس البطل عوليس طوال سبع سنين على أمل أن يُغرَم بها وينسى موطنه إيثاكي (النشيد 7: 244 وما بعده). أما جزيرة تولا، الواقعة في أقصى الشمال، فهي، حسب مصادر گينون، المركز الأعلى الذي انطلق منه الإشعاع الروحي للمنقول القديم في بداية دور الإنسانية الحالي. (المحرِّر)

[4] ما بين معقوفتين […] من إضافة المدقق توضيحًا للمقصود. (المحرِّر)

[5] هي الحصن الشمسي عند أصحاب وردة الصليب، مدينة الشمس عند [الراهب الدومينكاني توماسو] كمپانيلا، إلخ. وإلى هذه الـ"هليوپوليس" الأولى ينبغي في الواقع إرجاع رمزية طائر الفينكس [العنقاء] الدورية.

[6] Cf. René Guénon, Le Roi du monde, Gallimard, 1958.

[7] إشارة إلى الـكالي يوگا Kali-yuga، عصر الدم والحديد والنار، رابع (وآخر) أعصر دور إنسانيتنا الحالي الذي بدأ منذ أكثر من 5000 عام حَسب العقائد الهندوسية. (المحرِّر)

[8] يمكن أن تطرأ على هذا الشكل تعديلات تُوافق عمليات إعادة تكييف نقلية لاحقة، كما حصل للسان العبري بعد الأسْر البابلي؛ وهنا نتكلم على "إعادة تكييف" réadaptation، لأنه من المستبعد أن تكون الكتابة العبرية القديمة قد ضاعت حقًّا إبان فترة السبعين عامًا القصيرة من السبي، حتى إننا لَنعجب من عدم انتباه الناس عمومًا إلى ذلك. وقد طرأت وقائع من النوع نفسه لا محالة، في حقب متفاوتة في القِدَم، على كتابات أخرى، وخصوصًا على الأبجدية السنسكريتية، وإلى حدٍّ معين، على رسوم الكتابة الصينية.

[9] كلام گينون هنا غير دقيق تمامًا؛ فهو لا ينطبق، مثلاً لا حصرًا، على اللغة اليونانية القديمة التي كان لكل حرف من حروفها قيمة عددية، على غرار حروف الأبجدية الفينيقية التي اشتُقتْ منها، ولا على اللسان الفرنسي القديم الذي أتاحت إمكاناته العددية لمتنبِّئ مثل نوستراداموس وضع "رباعياته" عملاً بأحكام علم قريب الشبه من الزايرجة الشهيرة المنسوبة للسبتي، الصوفي المغربي. (المحرِّر)

[10] هو الحساب الذي يستنبط طباع فلان من الناس ومصيره، غالبًا أو مغلوبًا، من حروف اسمه؛ وهو مذكور، كما يورد ابن خلدون في المقدمة، في آخر كتاب السياسة المنسوب لأرسطو، الأمر الذي يؤكد وجود هذا العلم عند الإغريق. (المحرِّر)

[11] يبدو أننا نستطيع أن نقول القول نفسه في النتائج التي يتحصل عليها التنجيم الحديث، البعيد كل البعد عن النجامة النقلية الحق، على الرغم من المظاهر "العلمية" لمناهجه؛ فالنجامة النقلية، التي ضاعت مفاتيحها فعلاً على ما يبدو، لم تكن قط مجرد فنٍّ من "فنون العرافة"، وإنْ كانت قابلةً طبعًا لتطبيقات من رتبة العرافة، لكنْ بصفة ثانوية و"طارئة" تمامًا.

[12] [رؤيا 21: 27.] لقد سبق لنا أن أشرنا في مناسبة أخرى إلى الصلة بين رمزية "سِفْر الحياة" هذه وبين رمزية "شجرة الحياة" [رؤيا 22: 19]، حيث تمثل أوراق الشجرة وحروف الكتاب على حدٍّ سواء جميع موجودات الكون ("العشرة آلاف موجود"، وفق منقول الشرق الأقصى).

[13] "الحروف العاليات"، حسب تعريف الجرجاني، "هي الشئون الذاتية الكامنة في غيب الغيوب، كالشجرة في النواة" (التعريفات). (المحرِّر)

[14] تجدر الإشارةُ أيضًا إلى أن "كتاب الكون" هو في الآن نفسه "الرسالة الإلهية"، "إمام" الكتب الشريفة كافة؛ والكتب النقلية ليست سوى ترجمات لهذه الرسالة الإلهية إلى الألسنة البشرية: ذلك مؤكد تأكيدًا صريحًا في ڤيدا Veda الهنود وفي القرآن الكريم؛ كما أن فكرة "الإنجيل الأزلي" تبيِّن أيضًا أن هذا التصور نفسه ليس غريبًا تمامًا عن المسيحية أو أنه، على الأقل، لم يكن غريبًا عنها دومًا.

[15] ثمة توافقات أخرى أيضًا: مع العناصر [الإسطقسات]، والصفات المحسوسة، والأفلاك السماوية، إلخ؛ وحروف الأبجدية العربية الـ28 ذات علاقة بالطبع بمنازل القمر.

[16] المقصودة هي: العالم الجسماني والعالم النفساني والعالم الروحاني. (المحرِّر)

[17] لفظ سيمياء لا يبدو عربيًّا محضًا؛ إنه آتٍ على الأرجح من كلمة سيميا sêmeia اليونانية التي تعني "إشارات"، مما يجعله معادلاً لاسم جيمطرِية גימטריה‎ [حساب الجُمَّل] القَبالي، ذي الأصل اليوناني أيضًا والمشتق لا من جومطريا geometria [هندسة]، كما يقال في الغالب، بل من غراماتيا grammateia (من غراماتا grammata، "حروف" باليونانية).

[18] يمكن التوصل أيضًا، في بعض الحالات، اعتمادًا على حساب من النوع نفسه، إلى حل مسائل من رتبة عقيدية؛ وهذا الحل يتبدى أحيانًا على هيئة رمزية شديدة اللفت للنظر.

[19] كما في الزايرجة مثلاً (راجع مقدمة ابن خلدون، آخر المقدمة السادسة من الفصل الأول من الكتاب الأول). (المحرِّر)

[20] من ألقاب سيدي محيي الدين بن عربي "الشيخ الأكبر والكبريت الأحمر".

[21] إنه لَمِنَ العجب، على أقل تقدير، أن نلحظ أن الرمزية الماسونية نفسها، التي تلعب فيها "الكلمة المفقودة" والبحث عنها دورًا هامًّا، تخص درجات المُسارَرة بألفاظ مستقاة في وضوح من علم الحروف: "تهجئة"، "قراءة"، "كتابة". و"المعلم" [الماسوني]، الذي من ألقابه لقب "لوح التسطير"، لو أنه كان ما يجب أن يكونه حقًّا، لما تمكن من قراءة "سِفْر الحياة" فحسب، بل لاستطاع أن يسطِّر فيه أيضًا، أي أن يعاون واعيًا على تحقيق خطة "مهندس الكون الأعظم" – ومنه، نستطيع أن نحكم على المسافة الفاصلة بين حيازة هذه الرتبة اسمًا وبين حيازتها فعلاً.

تأثير الحضارة الإسلامية في الغرب – رونيه گينون

تأثير الحضارة الإسلامية

في الغرب*

رونيه گينون**

أكثر الأوروبيين لم يقدِّروا المدد الذي تلقُّوه من الحضارة الإسلامية حق قدره، ولا هم فهموا طبيعة اقتباساتهم عن هذه الحضارة في الماضي، حتى إن بعضهم بلغ به الأمر حدَّ تجاهُل كل ما يتعلق بها تجاهلاً تامًّا. وهذا متأتٍّ من أن التاريخ، كما يتعلمونه، يشوِّه الوقائع ويبدو كما لو أنه قد حُرِّف عن سابق إصرار حول كثير من النقاط. فهذا التعليم يغالي في إظهار قلة مبالاته حيال الحضارة الإسلامية، ومن عادته أن ينتقص من جدارتها كلما تسنت له الفرصة لذلك.

ومنه أهمية لفت النظر إلى أن تعليم التاريخ في جامعات أوروبا لا يُبرز التأثير المذكور[1]؛ فالحقائق التي يجب أن تقال بهذا الصدد، على العكس، سواء تعلق الأمر بالتدريس أو بالكتابة، تُستبعَد استبعادًا مقصودًا، ولاسيما فيما يخص أهم الأحداث. فعلى سبيل المثال، إذا كان معلومًا عمومًا أن الأندلس ظلت تحت الحكم الإسلامي طوال عدة قرون، لا يقال أبدًا إن هذا ينسحب على بلاد أخرى، مثل صقلية والجزء الجنوبي من فرنسا الحالية. ويميل بعضهم إلى عزو سكوت المؤرخين هذا عن تلك الحقائق إلى أحكام مسبقة دينية بعينها – فليكن؛ ولكنْ ما القول يا ترى في المؤرخين الحاليين (الذين أغلبهم لا دين له، هذا إنْ لم يكن يعادي الأديان كلها) حين يثنُّون قول أسلافهم ما يناقض الحقيقة؟ ومنه يجب أن تُرى في ذلك تبعة من تبعات غرور أهل الغرب واعتدادهم بأنفسهم، وهما عيبان يحولان بينهم وبين الاعتراف بحقيقة ديونهم للشرق وبأهمية هذه الديون.

أغرب ما في الأمر بهذا الصدد هو رؤية الأوروبيين يزعمون أنهم الورثة المباشرون للحضارة الإغريقية، في حين أن حقيقة الوقائع تدحض هذا الزعم. فالواقع المستخلَص من التاريخ نفسه يثبت جزمًا أن علوم الإغريق وفلسفتهم انتقلت إلى الأوروبيين عبر وسطاء مسلمين. بعبارة أخرى، فإن التراث العقلي للإغريق لم يبلغ الغرب إلا بعد أن أشبعه الشرق الأدنى درسًا وتمحيصًا، ولولا العلماء والفلاسفة المسلمون لبقي الأوروبيون على جهل مطبق بهذه المعارف مدة طويلة للغاية، هذا لو توصلوا إلى الاطلاع عليها أصلاً.

يجدر بنا لفت النظر إلى أننا نتكلم هنا على تأثير الحضارة الإسلامية، لا العربية خاصة، كما يقال في بعض الأحيان عن خطأ؛ إذ إن أغلب الذين مارسوا هذا التأثير في الغرب لم يكونوا عربًا أقحاحًا، وإذا اتفق للسانهم أن يكون اللسان العربي، فتلك فقط نتيجة من نتائج اعتناقهم الإسلام دينًا.

وبما أن السياق ساقنا إلى الكلام على اللسان العربي، ترى بوسعنا أن نسوق برهانًا أكيدًا على امتداد هذا التأثير عينه في الغرب في وجود عدد من المصطلحات ذات الأصل والجذر العربيين أكبر بكثير مما يُظن عمومًا، وقد اندمجت في اللغات الأوروبية كلها تقريبًا واستمر استعمالها حتى أيامنا هذه، مع أن أوروبيين كثيرين ممن يستخدمونها يجهلون أصلها الحقيقي جهلاً تامًّا. وبما أن الكلمات ليست غير ناقل للأفكار ووسيلة لتخريج الفكر، فمن السهولة بمكان أن يُستنتَج من هذه الوقائع منطقيًّا انتقالُ الأفكار والتصورات الإسلامية نفسها.

فالواقع أن تأثير الحضارة الإسلامية طال، إلى حدٍّ كبير للغاية وعلى نحو محسوس، جميع المجالات، من علوم وفنون وفلسفة إلخ. ولقد كانت الأندلس آنذاك وسطًا هامًّا جدًّا بهذا الخصوص والمركز الرئيس لإشعاع هذه الحضارة. بيد أنه ليس في نيتنا أن نتناول كل واحد من هذه المجالات بالتفصيل، ولا أن نعيِّن نطاق امتداد تأثير الحضارة الإسلامية، بل أن نشير فقط إلى وقائع بعينها نعدُّها هامة بصفة خاصة، مع أن الاعتراف بهذه الأهمية يقتصر على قلة قليلة من الناس في عصرنا.

فيما يتعلق بالعلوم، بوسعنا أن نميز بين العلوم الطبيعية والعلوم الرياضية. فبخصوص الأولى، نعلم يقينًا أن بعضها نقلته الحضارة الإسلامية إلى أوروبا التي اقتبسته عنها اقتباسًا تامًّا. فالكيمياء، مثلاً، احتفظت دومًا باسمها العربي، وهو اسم يعود بأصله في الواقع إلى مصر القديمة، وذلك على الرغم من أن المعنى الأول والعميق لهذا العلم بات يجهله العصريون جهلاً تامًّا، وكأنما ضاع عليهم[2].

أما الأسطرونوميا astronomie [= علم الأفلاك][3]، على سبيل مثال آخر، فإن المصطلحات الفنية المستعمَلة فيه في الألسنة الأوروبية كافة لا تزال، في معظمها، عربية الأصل، كما أن أسماء العديد من الأجرام السماوية مافتئت هي أسماءها العربية، يستعملها علماء الفلك على حالها في البلدان كافة. وهذا عائد إلى أن اطلاع الغرب على مؤلفات علماء الفلك الإغريق القدماء، مثل بطليموس الإسكندري، تم عبر ترجمات عربية، وذلك بالتوازي مع اطلاعه على مؤلفات أخلافهم المسلمين. كما أن من السهل عمومًا تبيان أن معظم المعارف الجغرافية المتعلقة بأبعد أمصار آسية أو إفريقية اكتسبها طوال زمن مديد مستكشفون عرب ساحوا في العديد جدًّا من هذه الأقاليم. وبوسعنا أن نورد العديد من الوقائع الأخرى من هذا النوع.

وفيما يتصل بالمخترعات، التي ليست غير تطبيقات للعلوم الطبيعية، فقد اتبعت هي الأخرى طريق الانتقال نفسه، أي الوساطة الإسلامية؛ وقصة "الساعة المائية" التي أهداها الخليفة هارون الرشيد للإمبراطور شارلمان لا تزال قيد الذاكرة إلى الآن.

فيما يخص العلوم الرياضية، يجدر بنا أن نوليها انتباهًا خاصًّا من هذه الناحية. ففي هذا المجال الواسع، لم ينتقل العلم الإغريقي فحسب إلى الغرب بواسطة الحضارة الإسلامية، بل والعلم الهندي أيضًا. فلقد اختص الإغريق بتطوير الجومطريا géométrie [= الهندسة] بالذات، وحتى الأرثماطيقي arithmétique [= علم العدد] كانت، بنظرهم، مرتبطة بالنظر في الأشكال الهندسية الموافقة. وهذه المنزلة التي أنزلوا الهندسة تظهر عندهم بوضوح، كما في كتب أفلاطون مثلاً. غير أن ثمة فرعًا آخر من الرياضيات، تابعًا لعلم العدد، غير معروف في الألسنة الأوروبية باسم يوناني، شأن العلوم الأخرى[4]، وذلك لأن قدماء الإغريق كانوا يجهلونه. هذا العلم هو الجبر algèbre، الذي كانت الهند منبعه الأول والذي تبيِّن تسميتُه العربية تبيانًا كافيًا كيفية انتقاله إلى الغرب.

هناك واقع آخر تحسُن الإشارة إليه هنا، على كونه أقل أهمية، من حيث إنه يؤيد ما ذهبنا إليه، ألا وهو أن الأرقام التي يستعملها الأوروبيون معروفة في كل مكان على أنها أرقام "عربية"، وإنْ يكن أصلها الأول هنديًّا في الواقع؛ إذ إن علامات الترقيم التي استعملها العرب أصلاً لم تكن غير حروف الأبجدية نفسها.

فإذا تركنا الآن الفحص عن العلوم لنفحص عن الفنون، للحظنا، فيما يخص الأدب والشعر، أن الكثير من الأفكار المقتبَسة عن الكتاب والشعراء المسلمين استُعمِلت في الآداب الأوروبية، حتى إن بعض الكتاب الغربيين ذهب حتى تقليد أعمالهم تقليدًا بحتًا. بالمثل، بوسعنا أن نقتفي بعض آثار التأثير الإسلامي في صنعة المعمار، وذلك بصفة أخص في العصر الوسيط: بذا فإن تصالُب القوسين [القوطي]، الذي ثبُتت خصوصيتُه إلى حدِّ أن أسلوبًا معماريًّا برمته قد تسمى باسمه، يعود بأصله، بلا مِراء، إلى المعمار الإسلامي، وذلك على الرغم من اختلاق العديد من النظريات الطريفة لستر هذه الحقيقة. فهذه النظريات يدحضها وجود تواتُر عند البنائين أنفسهم يصر دومًا على انتقال معارفهم اعتبارًا من الشرق الأدنى. ولقد كانت هذه المعارف تتصف بخاصية سرية تضفي على فنِّهم معنى رمزيًّا، كما كانت وثيقة الصلات للغاية بعلم العدد، وقد أسنِدَ مصدرُها الأول دومًا إلى بناة هيكل سليمان.

sixpartite_rib_vault-scheme

مهما يكن من أمر الأصل البعيد لهذا العلم، لا يصح أن يكون قد انتقل إلى أوروبا العصر الوسيط بواسطة غير واسطة العالم الإسلامي [إبان حروب الفرنجة]. ويجدر بنا أن نقول بهذا الخصوص إن هؤلاء البنائين، المؤتلفين في سلك الصنعة الذي كان يختص بشعائر خاصة، كانوا يعدُّون أنفسهم "غرباء" في الغرب ويتسمُّون بهذه التسمية، حتى في مسقط رأسهم؛ وقد بقي هذا اللقب حتى يوم الناس هذا، مع أن هذه الأمور أمست غامضة ولم يعد مطلعًا عليها من الناس سوى عدد ضئيل.

في هذا العرض السريع، لا مناص من أن نخص بالذكر مجالاً آخر هو مجال الفلسفة، حيث بلغ التأثير الإسلامي في العصر الوسيط من الخطورة قدرًا لم يعد معه بمستطاع أي من خصوم الشرق الأكثر ضراوة أن يتجاهل قوته. وبوسعنا القول محقين بأن أوروبا في ذلك الوقت لم يكن عندها أي سبيل آخر لتحصيل معرفة الفلسفة الإغريقية؛ فالترجمات اللاتينية لكتب أفلاطون وأرسطو التي كانت مستعمَلة آنذاك لم تتم عن الأصول الإغريقية مباشرة، إنما تمت فعلاً عن ترجمات عربية سابقة، مذيلةً بشروح الفلاسفة المسلمين من ذلك العصر، مثل ابن رشد وابن سينا إلخ.

إن فلسفة ذلك العصر، المعروفة باسم الفلسفة "المدرسية" scolastique، تصنَّف عمومًا إلى إسلامية ويهودية ومسيحية. بيد أن الفلسفة الإسلامية هي المنبع الذي استقت منه الفلسفتان الأخريان، وبالأخص الفلسفة اليهودية التي ازدهرت في الأندلس والتي كانت عربية اللسان، كما يمكن لنا أن نتبينه من مصنفات في أهمية مصنفات موسى بن ميمون[5] الذي ألهم الفلسفة اليهودية اللاحقة على مدى قرون عدة حتى اسپينوزا، حيث لا يزال بالإمكان الوقوع عنده على بعض أفكار الفيلسوف القرطبي.

ولكن لا ضرورة للاستمرار في تعداد وقائع يعرفها جميع مَن عندهم بعض إلمام بتاريخ الفكر. إذ من المستحسن، ختامًا، دراسة وقائع أخرى، من رتبة مختلفة تمامًا، يجهلها أغلب العصريين كل الجهل وليس لديهم، في أوروبا بالأخص، أدنى فكرة عنها، في حين أن هذه الأمور، من وجهة نظرنا، ذات فائدة أهم بكثير من جميع المعارف الظاهرة للعلم وللفلسفة. ونقصد بذلك التصوف، بكل ما يلتحق به ويتفرع منه من معارف مشتقة، هي عبارة عن علوم مختلفة كل الاختلاف عن العلوم التي يعرفها العصريون.

ففي الواقع، ليس عند الأوروبيين، في أيامنا هذه، ما من شأنه أن يذكِّر بهذه العلوم؛ لا بل إن الغرب، أكثر من ذلك، يجهل كل شيء عن المعارف الحقيقية، من نحو التصوف ونظائره، في حين كان الأمر على غير ذلك تمامًا في العصر الوسيط؛ وفي هذا المجال أيضًا، يبدو التأثير الإسلامي آنذاك على أنصع ما يكون وأوضحه. فمن السهل جدًّا، في واقع الأمر، اقتفاء آثار هذا التأثير في أعمال ذات معان متعددة كانت الغاية الفعلية منها شيئًا آخر تمامًا غير مجرد صنعة الأدب.

لقد بدأ بعض الأوروبيين أنفسهم يكتشفون شيئًا من هذا القبيل، بالأخص لدى توفرهم على درس قصائد دانتي، لكنْ من غير أن يتوصلوا إلى فهم طبيعتها الحقيقية فهمًا كاملاً. فمنذ بضعة أعوام، قام المستشرق الإسباني دون ميگيل أسين پلاثيوس بوضع مؤلف عن التأثيرات الإسلامية في أعمال دانتي[6]، أثبت فيه أن العديد من الرموز والعبارات التي استعملها الشاعر الفلورنسي قد سبقه إلى استعمالها بعض الصوفية المسلمين، ولاسيما سيدي محيي الدين بن عربي. لكن ملحوظات هذا العلامة، بكل أسف، لم تبيِّن أهمية الرموز المعمول بها.

وهناك أيضًا كاتب إيطالي، توفي مؤخرًا، هو لويجي ڤالِّي، درس أعمال دانتي دراسة أعمق قليلاً، فخلص إلى أن مؤلف الكوميديا الإلهية لم يكن وحده مَن استعمل الطرائق الرمزية المستعمَلة في الشعر الصوفي الفارسي والعربي؛ ففي بلد دانتي وبين معاصريه، كان جميع هؤلاء الشعراء أعضاء في تنظيم سري يدعى "أوفياء المحبة" Fedeli d’amore، كان دانتي نفسه أحد رؤسائه. ولكن حين حاول لويجي ڤالِّي أن ينفذ إلى معاني "لغتهم السرية" الاصطلاحية، تعذر عليه هو الآخر أن يتميز الخاصية الحقيقية لذاك التنظيم أو للتنظيمات الأخرى ذات الطابع نفسه التي تألفت في أوروبا في العصر الوسيط[7]. أما الحقيقة فهي أن شخصيات مجهولة بعينها كانت تقف من وراء هذه الجمعيات وتلهمها، وكانت معروفة بأسماء مختلفة، أهمها اسم "إخوان وردة الصليب". إلى ذلك، لم تكن لدى هؤلاء الأفراد قواعد مكتوبة بتاتًا ولم يؤلفوا جمعية قط، كما لم تكن تجمعهم بتاتًا لقاءات محددة، وكل ما يمكن لنا أن نقول فيهم هو إنهم بلغوا مقامًا روحيًّا يجيز لنا أن نسميهم "صوفية" أوروبيين، أو على أقل تقدير متصوفة حصَّلوا مرتبة عالية من مراتب التصوف. ويقال أيضًا إن "إخوان وردة الصليب" هؤلاء، الذين كانوا "يتسترون" بسلك صنعة البنائين الذين تكلمنا عليهم، علَّموا الكيمياء وغيرها من العلوم المماثلة للعلوم التي كان ازدهارها في العالم الإسلامي آنذاك على أشده. والحق إنهم كانوا يشكلون حلقة من حلقات السلسلة الواصلة بين الشرق والغرب، عاقدين صلة دائمة مع الصوفية المسلمين، وهي صلة ترمز إليها الأسفار المنسوبة إلى مؤسِّسهم الأسطوري[8].

بيد أن هذه الوقائع كلها لم يطلع عليها التاريخ العادي الذي لا تطال استقصاءاته ما هو أبعد من ظاهر الوقائع، في حين أن هاهنا مخبأ المفتاح الحقيقي، إذا جاز التعبير، الذي يتيح حل كثير من الألغاز التي تظل بغيره دائمة الغموض وتبقى رموزها عصية على الفك.


* Études traditionnelles, XII-1950, pp. 337-344 ; repris dans René Guénon, Aperçus sur l’ésotérisme islamique et le Taoïsme, Gallimard, 1973, pp. 76-87. نُشر هذا المقال المكتوب بالعربية رأسًا في مجلة المعرفة.

** فيلسوف فرنسي (1886-1951)، ولد في بلوا (فرنسا) وتوفي بالقاهرة. شُغف بالروحانيات منذ حداثة سنِّه، فدفعه حب الاستطلاع إلى اختبار معظم مدارسها الحديثة، حتى اهتدى أخيرًا إلى تصور متكامل عن وحدة المنقولات الأصيلة في العالم قاطبة، بوصفها تعبيرات متنوعة متفرعة عن "منقول قديم" Tradition Primordiale واحد، فاطمأن إليه وراح، بالتوازي مع حياة باطنية غنية، يكتب فيه المقالات والكتب والرسائل، مؤسِّسًا بذلك لمذهب "نقلي" traditionnaliste مازال أثرُه ساري المفعول حتى يومنا هذا. من مؤلفاته الكثيرة الهامة: الإنسان ومآله بحسب الڤيدنتا، أزمة العالم الحديث، رمزية الصليب، الثالوث الأكبر، لمحات عن المُسارَرة. (المحرِّر)

[1] لا بدَّ من الإشارة هنا إلى أن موقف الاستشراق إجمالاً من الحضارات الشرقية، عمومًا، ومن الحضارة الإسلامية، خصوصًا، قد تطور كثيرًا منذ الوقت الذي كُتِبَ فيه هذا المقال (ثلاثينيات القرن العشرين)، فأصبح أكثر موضوعية وتواضعًا. (المحرِّر)

[2] أغلب الظن أن اسم "الكيمياء" alchimie مشتق من اسم كِمي Kémi (= "أرض السواد") الذي كان يُطلَق على مصر القديمة. والواقع أن تسمية الغرب لهذا العلم بالـ"هرمسية" hermétisme يشير إلى أنه علم مصري الأصل (حيث إن هرمس المثلث بالحكمة Hermès Trismégistos هو المقابل الإغريقي للإله المصري تحوت Thoth)، ما لبث أن اتخذ، في فترة ازدهار حضارة الإسكندرية على الأغلب، شكلاً إغريقيًّا، وانتقل من بعدُ على هذا الشكل، في العصر الوسيط، إلى كلٍّ من العالمين الإسلامي والمسيحي، وإلى الثاني عن طريق الأول تحديدًا، كما يبرهن عليه العديد من المصطلحات العربية والمعربة التي اعتمدها الهرمسيون الأوروبيون، وذلك على غرار جابر بن حيان الذي يقال إنه درسه على الإمام جعفر الصادق الذي أخذه عن النبي إدريس (= هرمس = أخنوخ) عبر سلسلة غير منقطعة من العارفين. (المحرِّر)

[3] ما بين معقوفتين […] من إضافة المترجم توضيحًا للمقصود. (المحرِّر)

[4] الواقع أن اعتماد إخوان الصفاء، مثلاً لا حصرًا، المصطلحات اليونانية معربةً لتسمية أنواع العلوم الرياضية الأربعة (العدد والهندسة والفلك والموسيقى)، بالإضافة إلى الجغرافيا، يؤكد جزمًا أخذ الحضارة الإسلامية إياها عن الإغريق (راجع: رسائل إخوان الصفاء وخلان الوفاء، الرسائل 1-5 من القسم الرياضي، مج 1، دار صادر، بلا تاريخ). (المحرِّر)

[5] راجع: إسرائيل ولفنسون، موسى بن ميمون: حياته ومصنفاته، لجنة التأليف والترجمة والنشر (نسخة بالأوفست عن طبعة القاهرة، 1935)، ص 57 وما يليها. (المحرِّر)

[6] Cf. Miguel Asín Palacios, La escatología musulmana en la Divina Comedia, seguida de la Historia y crítica de una polémica, Tercera edición, Instituto Hispano Árabe de Cultura, Madrid, 1961.

[7] Cf. René Guénon, L’ésotérisme de Dante, Paris, Gallimard, 1957.

[8] راجع: أكرم أنطاكي وديمتري أڤييرينوس، "قصة أسطورة: الوردة+ الصليب"، سماوات: http://samawat.org/essays/rosa_crucis_aaantaki_dna. (المحرِّر)

الخلق والتجلي – رونيه گينون

الخلق والتجلِّي*

رونيه گينون**

سبق لنا أن لفتنا النظر، في مناسبات عدة، إلى أن فكرة "الخلق" création، – إذا كان المراد فهمها بمعناها الصحيح والدقيق، ومن غير أن يُسرَف في مدلولها إلى حدٍّ قد يزيد عنه أو ينقص، – لا تصادَف في الواقع إلا في منقولات تنتمي إلى خط واحد، هو الخط المؤلف من اليهودية والمسيحية والإسلام. ولما كان هذا الخط هو خط الأشكال النقلية التي يصح القول فيها بأنها "دينية" بحصر المعنى، لا بدَّ أن يُستنتَج من ذلك وجودُ صلة مباشرة بين هذه الفكرة وبين وجهة النظر الدينية نفسها. ففي كل مكان آخر، من شأن كلمة "خلق"، إذا ما تمسكنا باستعمالها في حالات بعينها، أن تؤدي حتمًا تأدية شديدة الغلط فكرةً مختلفةً يفضَّل لتأديتها إيجادُ تعبير آخر. على كل حال، ليس هذا الاستعمال على الأغلب، في واقع الأمر، إلا نتيجة واحد من هذه الالتباسات أو هذه المماثَلات المغلوطة التي كثيرًا ما يقع فيها أهل الغرب في كل ما يتعلق بالمذاهب المشرقية. بيد أنه لا يكفي تفادي الوقوع في هذا الالتباس، إنما يجب إيلاء حرص مماثل لتجنُّب غلط آخر معاكس، ألا وهو الإصرار على رؤية تناقُض أو تضاد ما بين فكرة الخلق وبين هذه الفكرة الأخرى التي ألمحنا إليها لتوِّنا والتي أصح مصطلح بحوزتنا لتأديتها هو "التجلِّي" manifestation؛ وهذه النقطة الأخيرة هي التي نعتزم التوسع فيها في هذا المقال.

إن بعض القوم، بالفعل، إذ يقرُّون بأن فكرة الخلق غير موجودة في المذاهب المشرقية (ماعدا الإسلام الذي لا يجوز، بطبيعة الحال، إقحامُه ضمنها بهذا الصدد)، سرعان ما يزعمون، ومن غير أن يحاولوا التوغل في عمق الأمور، بأن غياب هذه الفكرة إنما هو علامة على وجود نقص أو خلل، ليخلصوا من ذلك إلى أن المذاهب المقصودة لا يجوز أن تُعتبَر تعبيرًا ملائمًا عن الحقيقة. ولئن صح هذا على أهل الفريق الديني، حيث غالبًا ما يغالى في التأكيد على "حصرية" مؤسفة، تراه يصح كذلك على بعضهم من أهل الفريق المناوئ للدين ممن يصرون أن يستخلصوا، من المعاينة نفسها، نتائج معاكسة تمامًا: فهؤلاء، بطبيعة الحال، إذ يهاجمون فكرة الخلق هجومهم على جميع الأفكار الأخرى من رتبة الدين، يتظاهرون بأنهم يرون في غيابها نفسه نوعًا من التفوق؛ وهم، بالطبع، لا يفعلون ذلك في الواقع إلا بدافع الرفض والمعارضة، وليس البتة دفاعًا حقًّا عن المذاهب المشرقية التي لا يكترثون بها بتاتًا. أيًّا ما كان الأمر، فإن هذه المآخذ وهذه المدائح عديمة القيمة وغير مقبولة على حدٍّ سواء، من حيث إنها جميعًا تصدر في الحاصل عن الغلط إياه، إنما مستغَلاً تبعًا لنوايا متعاكسة، طبقًا للميول الخاصة بالذين يرتكبونه؛ والحقيقة هي أن حجة كلا الفريقين واهية لا سند لها، وأن الحالتين تعكسان عدم فهم يكاد أن يكون متساويًا عند كليهما.

ولا يبدو سبب هذا الضلال المشترك، إلى ذلك، عصيًّا على الاكتشاف: فالذين لا يتخطى أفقهم العقلي التصورات الفلسفية الغربية يتخيلون عادة أنه حيثما لا يمت الأمر إلى الخلق، وحيث يبدو مع ذلك جليًّا، من ناحية أخرى، أنه لا يتعلق بنظريات مادية، لا يمكن الوقوع إلا على "الحلولية" panthéisme. بيد أنه معلوم إلى أي حدٍّ باتت هذه الكلمة، في زماننا، غالبًا ما تُستعمَل خبط عشواء: فهي عند بعضهم تمثل فزاعة حقيقية، حتى إنهم يظنون أنفسهم مَعفيِّين من الفحص الجدي عن الشيء الذي يسارعون إلى تطبيقها عليه (واستعمال تعبير "الوقوع في الحلولية" بهذا الشيوع دليل مميِّز بهذا الخصوص)، في حين أن بعضهم الآخر – على الأرجح لهذا السبب بالذات أكثر منه لأي دافع آخر – يتبنونها عن طيب خاطر، وهم متأهبون تمامًا لاتخاذها نوعًا من الراية التي يلوحون بها. ومنه، من الواضح نوعًا ما أن ما قلناه لتوِّنا يرتبط وثيق الارتباط، في فكر كلا الفريقين، بتهمة "الحلولية" التي تُرمى بها عمومًا تلك المذاهب المشرقية بعينها والتي يعفينا تبياننا المتكرر لضلالها التام، بل وحتى لعدم معقوليتها (بما أن الحلولية في واقع الأمر نظرية ضد ميتافيزيقية أساسًا)، من لزوم الوقوف عندها مرة أخرى أيضًا[1].

بما أن المناسبة ساقتنا إلى الكلام على الحلولية، سننتهزها لنبدي على الفور ملحوظة، تتصف هنا بشيء من الأهمية، بخصوص كلمة معينة من عادة القوم أن يقرنوها بالتصورات الحلولية: هذه الكلمة هي كلمة "صدور" émanation التي يصر بعضهم – للأسباب عينها أيضًا ومن جراء الالتباسات عينها – على استعمالها للإشارة إلى التجلِّي حين لا يتبدى في صورة الخلق. بيد أن هذه الكلمة، على الأقل حين توصف بها المذاهب النقلية الأرثوذكسية حصرًا، يجب إقصاؤها إقصاءً مطلقًا، ليس بسبب هذا الاقتران المؤسف فقط (وسيان إنْ كان له في الواقع ما يبرِّره عمقيًّا إلى حدٍّ ما أو لا، فالأمر لا يهمُّنا فعليًّا)، لكنْ بالأخص لأنها، بحدِّ ذاتها وبحدِّ مغزاها الاشتقاقي، لا تعبِّر حقيقةً عن شيء آخر غير محض استحالة. وبالفعل، فإن فكرة "الصدور" هي حصرًا فكرة "خروج"؛ لكنما يجب عدم النظر في التجلِّي من أي وجه على هذا النحو، إذ ما من شيء يمكن له حقًّا أن "يخرج" من المبدأ: فلو قُيِّض لأي شيء أن يخرج منه، لما عاد يجوز لهذا المبدأ، إذ ذاك، أن يكون لانهائيًّا، ولَتحدَّد بواقع التجلِّي بالذات؛ فالحقيقة هي أنه لا يوجد خارج التجلِّي، ولا يمكن لشيء أن يوجد خارجه، إلا العدم المحض. وحتى لو أراد القوم النظر إلى "الصدور"، لا من حيث المبدأ الأعلى اللانهائي، لكنْ من حيث الوجود Être – المبدأ المباشر للتجلِّي – وحسب، لأثار هذا المصطلح اعتراضًا، وإنْ يكن مختلفًا عن الاعتراض السابق، فهو ليس أقل حسمًا: فلو اتفق للموجودات أن "تخرج" من الوجود لكي تتجلى، لما جاز القول بأنها موجودات حقًّا، ولعدمت حصرًا كل كون existence، حيث إن الكون، أيًّا ما كانت كيفيته، لا يمكن له أن يكون شيئًا آخر غير تطبُّع بالوجود؛ وهذه النتيجة، فضلاً عن كونها بوضوح غير معقولة بحدِّ ذاتها (كما في الحالة الأخرى)، تتناقض أصلاً مع فكرة التجلِّي نفسها.

أما وقد سقنا هذه الملحوظات، سنقول بصريح العبارة إن فكرة التجلِّي، كما تنظر إليها المذاهب المشرقية نظرة ميتافيزيقية بحتة، لا تتعارض بتاتًا مع فكرة الخلق؛ بل الصحيح أن الفكرتين تعودان فحسب إلى مستويين مختلفين وإلى وجهتَي نظر مختلفتين، بحيث تكفي معرفة موقع كلٍّ منهما في مكانها الحقيقي حتى يتبين أنه لا يوجد بينهما أي تنافُر. فالاختلاف هاهنا، كالاختلاف على العديد من النقاط الأخرى، ليس في الحاصل إلا الاختلاف إياه بين وجهتَي النظر الميتافيزيقية والدينية؛ ولئن صح أن وجهة النظر الأولى من رتبة أعلى من الثانية وأعمق، لا يقل صحة أنها لا يجوز بتاتًا أن تعطل الثانية أو أن تُناقضها؛ وحسبنا برهانًا على ذلك أن كلتاهما جميعًا يمكن لهما فعلاً أن توجدا سوية ضمن الشكل النقلي نفسه (ستكون لنا على كل حال عودة إلى ذلك لاحقًا). فالأمر، من حيث العمق، ما هو إذن إلا اختلاف ليس، على كونه من درجة أكثر تشديدًا بسبب التباين الواضح جدًّا بين المجالين الموافقين، أكثر خرقًا للمألوف ولا أكثر إحراجًا من الاختلاف بين وجهتَي النظر المتباينتين اللتين يجوز شرعًا اتخاذ كلٍّ منهما في مجال بعينه، وذلك تبعًا لدرجة عمق التوغل فيه. تخطر ببالنا هنا، مثلاً، وجهتا نظر من نحو وجهتَي نظر شنكراتشاريا ورامانوجا بخصوص الـڤيدنتا[2]؛ فالصحيح أن عدم الفهم أصر، هناك أيضًا، أن يجد تناقضات لا أساس لها من الصحة في الواقع؛ لكن ذاك بالذات ليس من شأنه إلا أن يجعل المقايسة أدق وأتم.

إلى ذلك، يجدر التدقيق في معنى فكرة الخلق بالذات، من حيث إنها، هي الأخرى، تفسح في المجال أحيانًا لشتى ضروب سوء الفهم: إذا كان فعل "خَلَقَ" مرادفًا لـ"أوجَد من عدم"، وذلك تبعًا للتعريف المقبول بالإجماع، ولكنْ غير الموضح كفاية ربما، يجب قطعًا أن نعني به، قبل كل شيء، عدم وجود شيء خارج المبدأ؛ بعبارة أخرى، فإن المبدأ، وإنْ يكن "خالقًا"، غني بذاته، فلا حاجة له إلى الاستعانة بنوع من "الجوهر" substance الواقع خارج ذاته والمتصف بكون مستقل إلى حدٍّ ما، الأمر الذي يبقى في الحاصل – والحق يقال – غير قابل للتصور. ومنه، نرى على الفور أن العلة الأولى لوجود مثل هذه الصياغة هي التأكيد صراحة أن المبدأ ليس البتة مجرد "ديميورغوس" Démiurge ["إله مصوِّر"[3]] (وهنا لا حاجة للتمييز إنْ كان المقصود هو المبدأ الأعلى أو هو الوجود، لأن ذلك يصح على كلتا الحالتين على حدٍّ سواء)؛ غير أن هذا لا يعني بالضرورة أن كل تصوُّر "ديميورجي" هو تصوُّر مغلوط جذريًّا؛ لكنه، على كل حال، تصوُّر لا يجوز أن يطبَّق إلا على مرتبة أدنى بكثير تُوافق وجهة نظر أضيق بكثير؛ تصوُّر، إذ لا يقع إلا في طور معين ثانوي من السيرورة الكوسموغونية[4]، تراه لا يعود يمس المبدأ ولا ومن وجه. والآن، إذا تقيد القوم بالكلام على "الإيجاد من عدم" من غير مزيد من التدقيق، كما جرت العادة، فثمة خطر آخر لا مناص من تفاديه: ألا وهو النظر إلى هذا "العدم" بوصفه نوعًا من المبدأ الذي، وإنْ يكن سلبيًّا أغلب الظن، يصدر عنه بالفعل الكونُ المتجلِّي؛ إذ إن في ذلك عودة إلى ضلالة تكاد أن تكون مشابهة للضلالة التي أرادوا الاحتراس منها بنسبتهم إلى "العدم" ذاك نوعًا من "الجوهرية"؛ وهذه الضلالة، بمعنى ما، قد تكون أفدح حتى من الأخرى، من حيث إنه ينضاف إليها تناقُض صوري، هو عبارة عن إضفاء حقِّية ما على "العدم"، أي في الحاصل على عدم الوجود. فإنْ زعم القوم، تفاديًا لهذا التناقض، أن "العدم" المقصود ليس العدم المحض، بل إنه ليس عدمًا إلا بالنسبة إلى المبدأ، لارتكبوا بذلك أيضًا غلطًا مزدوجًا: فهم يفترضون هذه المرة، من ناحية، وجود شيء يتصف بالحقِّية فعلاً خارج المبدأ، وعندئذ لا يعود هناك أي اختلاف حقيقي مع التصور "الديميورجي" نفسه؛ وهم يتجاهلون، من ناحية أخرى، أن الموجودات ليست صادرة بتاتًا عن هذا "العدم" النسبي عبر التجلِّي، من حيث إن المنتهي لا يكف أبدًا عن كونه معدومًا بحتًا في مرأى من اللانهاية.

في ما قيل لتوِّه، وفي كل ما قد يقال غيره بخصوص فكرة الخلق أيضًا، ثمة، من حيث الطريقة التي يُنظَر بها في التجلِّي، شيء ناقص، لكنه مع ذلك أساسي للغاية: إنه بالذات مفهوم الإمكان possibilité الذي لا يظهر فيها؛ لكن هذا – فليُلحظْ جيدًّا – ليس مأخذًا البتة، ومثل هذه النظرة، على كونها ناقصة، ليست بذلك أقل شرعية، لأن مفهوم الإمكان هذا، في حقيقة الأمر، لا موجب لتدخُّله إلا حين تُتَّخذ وجهةُ النظر الميتافيزيقية، بينما ليست وجهة النظر هذه، كما سبق لنا أن قلنا، هي المتخَذة حين يُنظر في التجلِّي على أنه خلق. فالتجلِّي – ميتافيزيقيًّا – يفترض سلفًا بالضرورة وجود ممكنات معينة قادرة أن تتجلى؛ لكنه إذا انبثق هكذا عن الإمكان، لا يجوز أن يقال بأنه يأتي من "العدم"، لأن من الواضح أن الممكن ليس "معدومًا". رُبَّ معترض يقول: ألا يناقض ذلك بالدقة فكرة الخلق ["الإيجاد من عدم"]؟ والجواب سهل للغاية: جميع الممكنات محتواة في الممكن الكلِّي الذي ليس إلا واحدًا مع المبدأ بذاته؛ وإذن ففيه بالذات، في المحصلة، تكون هذه الموجودات محتواة حقًّا على حالها الدائمة ومنذ الأزل؛ ولو كان الأمر على غير ذلك في الواقع، لكانت عندئذ في حقيقة الأمر "عدمًا"، ولما صح الكلام أصلاً على "ممكنات". ومنه، إذا كان التجلِّي ينبثق عن هذه الممكنات أو عن بعضها (ولنذكِّر هنا أنه، فضلاً عن ممكنات التجلِّي، لا بدَّ أيضًا من النظر في ممكنات عدم التجلِّي، في المبدأ الأعلى على الأقل، ولكنْ ليس بعدُ حين يقتصر الكلام على الوجود)، فهو لا يأتي من شيء يكون خارج المبدأ؛ وذلك بالضبط المعنى الذي أقررنا به لفكرة الخلق مفهومةً حقَّ فهمها، بحيث إن وجهتَي النظر ليستا عمقيًّا قابلتين للتوفيق بينهما وحسب، بل هما حتى على توافُق تام. إلا أن الفارق بينهما يتلخص في أن وجهة النظر التي تعود إليها فكرة الخلق لا تنظر في أي شيء يتعدى التجلِّي، أو على الأقل لا تنظر إلا في المبدأ من غير مزيد من التعمق، لأنها مازالت بعدُ وجهة نظر نسبية، بينما من وجهة النظر الميتافيزيقية، على العكس، يكون ما هو ضمن المبدأ، أي الإمكان، هو الأساس في الواقع، وهو ما يهم أكثر بكثير من التجلِّي بحدِّ ذاته.

يجوز قولنا، في المحصلة النهائية، بأننا بصدد تعبيرين مختلفين عن حقيقة واحدة، شريطة أن نضيف، بالطبع، أن هذين التعبيرين يوافقان وجهين أو وجهتَي نظر هما في واقع الحال مختلفتين حقًّا؛ ولكن يحق للمرء عندئذ أن يتساءل إنْ لم يكن أتم هذين التعبيرين وأعمقهما كافيًا تمامًا، وما هي علة وجود التعبير الآخر: إنها، بادئ ذي بدء وعلى وجه العموم، علة وجود كل وجهة نظر ظاهرية exotérique بالذات، بوصفها صياغة للحقائق النقلية المقتصرة على ما لا غنى عنه للبشر قاطبة وفي الوقت نفسه متاح لهم من غير تمييز. ومن ناحية أخرى، فيما يتعلق بالحالة الخاصة التي نحن بصددها، قد توجد دوافع "سانحة"، إذا جاز القول، تخص أشكالاً نقلية بعينها، وذلك بسبب الظروف العَرَضية التي يجب أن تتكيف معها والتي تتطلب احتراسًا صريحًا من أي تصوُّر لأصل التجلِّي بكيفية "ديميورجية"، في حين أن اتخاذ حيطة مشابهة قد يكون غير ضروري مطلقًا في مكان آخر. غير أن المرء، حين يلحظ أن فكرة الخلق ملازمة بالدقة لوجهة النظر الدينية حصرًا، قد يسوقه هذا إلى التفكير في ضرورة وجود شيء آخر أيضًا؛ وهذا ما بقي علينا أن نفحص عنه الآن، حتى إذا لم يكن ممكنًا لنا التوسع في جميع القضايا التي قد يتيح هذا الجانب من المسألة الدخول فيها.

سيان إنْ كان المقصود هو التجلِّي منظورًا إليه ميتافيزيقيًّا أو كان الخلق، فإن الاتكال التام للموجودات المتجلِّية على المبدأ، في كل ما هي عليه حقًّا، مؤكَّد عليه، في وضوح وصراحة على حدٍّ سواء، في كلتا الحالتين؛ إنما مقدار الدقة التي يُنظَر بها في هذا الاتكال في كلٍّ منهما هو الذي يُظهر فارقًا مخصوصًا، يوافق بدقة شديدة الفارق بين وجهتَي النظر المذكورتين. فهذا الاتكال، من وجهة النظر الميتافيزيقية، هو في الوقت نفسه "تطبُّع" participation: فالموجودات كلها، بمقدار ما فيها من الحقِّية في ذاتها، متطبِّعة بالمبدأ، بما أن كل حقِّية مستمَدة منه أصلاً؛ إلى ذلك، لا يقل صحة أن هذه الموجودات، بوصفها عَرَضية ومحدودة، شأنها شأن التجلِّي بأسره التي هي جزء منه، معدومة بالنسبة إلى المبدأ، كما قلنا أعلاه؛ لكن ثمة في هذا التطبُّع شيء من قبيل الصلة مع المبدأ – وبالتالي، صلة بين المتجلِّي وغير المتجلِّي – هي التي تتيح للموجودات تخطِّي شرط النسبية الملازم للتجلِّي. أما وجهة النظر الدينية فهي، على العكس، تصر بالحري على العدمية التي تتصف بها الموجودات المتجلِّية، وذلك لأن وجهة النظر هذه، بحُكم طبيعتها، ليس من شأنها أن تقودها إلى ما يتعدى شرط التجلِّي؛ وهي تتضمن النظر إلى الاتكال من منظار يوافقه عمليًّا موقف العبودية servitude، على حدِّ الاصطلاح العربي الذي لا يؤديه معنى الكلمة الفرنسية المقابلة له، أغلب الظن، إلا تأدية ناقصة نوعًا ما بهذا المؤدى الديني حصرًا، لكنه يؤديه بما يكفي للسماح بفهمه فهمًا أفضل مما تفعل كلمة adoration (التي تقابل في الواقع بالأحرى مصطلحًا آخر مشتقًّا من الجذر [العربي] نفسه: العبادة)؛ مهما يكن من أمر، فإن حال العبد، منظورًا إليها على هذا النحو، هي حصرًا شرط "المخلوق" حيال "الخالق".

ومادمنا قد استعرنا لتوِّنا مصطلحًا من لغة المنقول الإسلامي، فلنضف ما يلي: لا يجرؤ أحد جزمًا على التشكيك في أن الإسلام، من حيث وجهه الديني أو الظاهر، يقول بالخلق، على أقل تقدير بقدر ما يمكن للمسيحية نفسها أن تقول به؛ ومع ذلك، فهذا لا يحول بتاتًا دون الإسلام، في وجهه الباطن ésotérique، ووجودَ مستوى معين تختفي فكرة الخلق اعتبارًا منه. كذا فإن هناك عبارة يكون الصوفي (وليُنتبَه جيدًا إلى أن المقصود هنا ليس مجرد متصوف) تبعًا لها منزهًا عن الخلق: "الصوفي لم يُخلَق"؛ ومؤدى هذا القول هو أن حاله تتعدى شرط "المخلوق". فالصوفي، بالفعل، بوصفه قد تحقق بـ"الهوية المطلقة" Identité Suprême، وبالتالي، اتحد فعلاً بالمبدأ غير المخلوق، لا يمكن له بالضرورة أن يكون إلا "غير مخلوق". إن وجهة النظر الدينية، هاهنا، قد تم تخطيها بما لا يقل ضرورة، لتحل محلها وجهة النظر الميتافيزيقية البحتة؛ ولكن إذا كان جائزًا لوجهتَي النظر كلتيهما أن تتوازيا على هذا النحو في المنقول إياه، كلٍّ منهما على المرتبة التي تناسبها وفي المجال الموافق لها حصرًا، فذاك يبرهن بكل وضوح أنهما غير متعارضتين أو غير متناقضتين من أي وجه.

نحن نعلم أن من المحال أن يوجد تناقُض فعلي، إنْ ضمن المنقول الواحد وإنْ بين هذا المنقول وبين المنقولات الأخرى، بما أن هذه كلها ليست إلا تعبيرات متنوعة عن الحقيقة الواحدة. فإذا عنَّ لأحدهم أن يرى بينها تناقضات ظاهرية، أفليس عليه أن يستنتج من ذلك، بكل بساطة، أن ثمة في الأمر شيئًا لا يفهمه حق فهمه أو يفهمه فهمًا ناقصًا، بدلاً من أن يدعي رمي المذاهب النقلية نفسها بعيوب ليست موجودة، في الواقع، إلا من جراء قصوره العقلي هو؟

المترجم عن الفرنسية: ديمتري أڤييرينوس


* Études traditionnelles, X-1937, pp. 325-333 ; repris dans René Guénon, Aperçus sur l’ésotérisme islamique et le Taoïsme, Gallimard, 1973, pp. 88-101.

** فيلسوف فرنسي (1886-1951)، ولد في بلوا (فرنسا) وتوفي بالقاهرة. شُغف بالروحانيات منذ حداثة سنه، فدفعه حب الاستطلاع إلى اختبار معظم مدارسها الحديثة، حتى اهتدى أخيرًا إلى تصور متكامل عن وحدة المنقولات الأصيلة في العالم قاطبة، بوصفها تعبيرات متنوعة متفرعة عن "منقول قديم" Tradition Primordiale واحد، فاطمأن إليه وراح، بالتوازي مع حياة باطنية غنية، يكتب فيه المقالات والكتب والرسائل، مؤسِّسًا بذلك لمذهب "نقلي" traditionnaliste مازال أثرُه ساري المفعول حتى يومنا هذا. من مؤلفاته الكثيرة الهامة: الإنسان ومآله بحسب الڤيدنتا، أزمة العالم الحديث، رمزية الصليب، الثالوث الأكبر، لمحات عن المُسارَرة. (المحرِّر)

[1] بخصوص الحلولية، راجع: ابن عربي، "الرسالة الوجودية"، بتقديم ديمتري أڤييرينوس: "التصوف والحلولية"، سماوات: http://samawat.org/texts/epistle_of_unity_ibn_arabi. (المحرِّر)

[2] كلمة ڤيدنتا Vēdanta السنسكريتية تعني "غاية الڤيدا" وتشير إلى تأويل الحقيقة الكلية، المعبَّر عنها في أسفار الڤيدا، في ضوء الأوپنشاد؛ والڤيدنتا هو أحد المذاهب الستة الكبرى في المنقول الهندوسي. يُعَد شنكراتشاريا ("المعلم شنكرا"، 788-820) صاحب مذهب أدڤيتا advaita ("التوحيد المنزِّه" أو اللاثنوي) في الڤيدنتا الذي يشدد على الوحدة بين الذات أو الروح الفردية (آتمن Ātman) وبين الحق المطلق (برهمن Brahman)؛ أما رامانوجا (ت 1137)، فهو صاحب مذهب ڤششتادڤيتا vishishtadvaita ("التوحيد المشبِّه") الذي يعلِّم أن المرء، إذا سلَّم أمره لمشيئة الحق، يستطيع أن ينال ببركته الخلاص. بعبارة أخرى، يقول شنكرا، بالمصطلح الإسلامي، بوحدة الحق والخلق (= "وحدة الوجود" الأكبرية) من منطلق خبرته العرفانية (جنيانا jñāna)، بينما يقول رامانوجا بالاثنينية من منطلق خبرته التعبدية (بهكتي bhakti). كتب كلاهما، في ضوء مذهبه، شروحًا على أسفار الـبرهماسوترا والأوپنشاد والـبهگڤدگيتا. (المحرِّر)

[3] ما بين معقوفتين […] من إضافة المترجم توضيحًا للمقصود. والديميورغوس dêmiourgos: تسمية تشير في الأفلاطونية والغنوصية إلى الإله الأدنى الذي شكَّل العالم وصوَّره. (المحرِّر)

[4] الكوسموغونيا kosmogonia: من اليونانية، كوسموس kosmos، "العالم"، وغونوس gonos، "نشوء"؛ والمقصودة هي السيرورة المتدرجة لنشأة الكون على أطوار ومراتب. (المحرِّر)

علم الكف في التصوف الإسلامي – رونيه گينون

علم الكف في التصوُّف

الإسلامي*

رونيه گينون**

أتيحَ لنا في مناسبات عدة أن نبيِّن إلى أي حدٍّ صار تصوُّر "العلوم النقلية" sciences traditionnelles، في الأزمنة الحديثة، غريبًا بنظر أهل الغرب، وإلى أي حدٍّ بات صعبًا عليهم فهمُ طبيعتها الحقيقية. ولقد وقعنا، مؤخرًا، على مثال على عدم الفهم هذا في دراسة مخصصة لمحيي الدين بن عربي، استغرب كاتبها أن يجد عند الشيخ الأكبر، إلى جانب المذهب الروحي الخالص، استطرادات عديدة في النجامة astrologie، في علم الحروف وحساب الجُمَّل، في الهندسة الرمزية، وفي أمور أخرى عديدة من الرتبة عينها، يبدو أنه ارتأى أنها لا تمتُّ بقربى إلى هذا المذهب. والواقع أنه وقع في التباس مزدوج: إذ إنه قدَّم أيضًا الجانب الروحي حصرًا من تعليم سيدي محيي الدين بالذات على أنه "سرَّاني" mystique، في حين أنه تعليم ميتافيزيقي ومُسارَري initiatique أساسًا[1]؛ فلو كان المقصود عبارة عن "سرَّانية"، لما كان له بالفعل متاتٌ بقربى إلى أي "علوم"، مهما تكن. بينما، على العكس، بمجرد أن يتعلق الأمر بعقيدة ميتافيزيقية، فإن هذه العلوم النقلية (التي يجهل كاتبنا قيمتها، في واقع الأمر، جهلاً تامًّا، وذلك تبعًا للحكم المسبق المُحدَث المألوف) تُشتق من هذه العقيدة اشتقاقًا سويًّا، مثلما تُشتق النتائج من المبدأ، وهي، بهذه المثابة، أبعد ما تكون عن تمثيل عناصر دخيلة وغير متجانسة، إذا جاز القول، بل هي جزء لا يتجزأ من التصوف، أي من جملة المعارف المُسارَرية.

معظم هذه العلوم النقلية اليوم ضاع على أهل الغرب ضياعًا تامًّا، وهم لا يعرفون مما تبقى منها غير بقايا متفاوتة في الابتسار، متدنِّية غالبًا، إلى حدِّ أنها اتخذت هيئة وصْفات تجريبية أو مجرد "فنون تكهنية" arts divinatoires، مجردة بطبيعة الحال من كل قيمة عقيدية. وحتى نُفهم [قارئنا][2] من خلال مثال مقدارَ بُعد مثل هذه الطريقة في النظر إليها عن حقيقة الأمر، سنورد فيما يلي بضعة دلائل على ماهية علم الكف chirologie في التصوف الإسلامي؛ وهو علم ليس في الواقع غير فرع واحد من فروع علم الفراسة physiognomonie العديدة، مع أن هذه الكلمة [الفرنسية]، نظرًا لعدم وجود مصطلح أفضل، لا تؤدي بالدقة كل إحاطة المصطلح العربي الذي يدل على جملة هذه المعارف[3].

يرتبط علم الكف، في شكله الإسلامي، مهما بدا ذلك غريبًا بنظر الذين يعدمون أي مفهوم عن هذه الأمور، بعلم الأسماء الإلهية ارتباطًا مباشرًا: يرسم تنسيق الخطوط الرئيسية على كف اليد اليسرى العدد 81 وعلى كف اليد اليمنى العدد 18، أي ما مجموعه 99، عدد أسماء الله الصفاتية. أما اسم "الله" نفسه، فتشكِّله الأصابع على النحو التالي: الخنصر يقابل الألف، البنصر يقابل اللام الأولى، الوسطى والسبابة تقابلان اللام الثانية، المشددة، والإبهام يقابل الهاء (التي يجب أن تُرسَم، طبقًا للأصول، على صورتها "المفتوحة")؛ وذاك هو السبب الرئيسي لاستعمال اليد كرمز، ولانتشاره كل هذا الانتشار في جميع الأقطار الإسلامية (حيث يشير سبب ثانوي إلى العدد 5، ومنه اسم "خُمْس" الذي يُطلَق أحيانًا على هذه اليد الرمزية). وبذلك يمكن لنا أن نفهم هذا القول من سفر سيدنا أيوب: "… فيختم على يد كل بشر ليعلَم البشرُ ما صَنَعَه" (أيوب 37: 7)؛ ولنضف بأن هذا لا يعدم صلةً بدور اليد الأساسي في شعائر التبريك والتكريس[4].

"خمس" نموذجي من مصر، مرسومة في وسطه "شجرة الحياة".

من ناحية أخرى، فإن من المعلوم عمومًا وجود تقابُل بين مختلف أجزاء اليد وبين الكواكب؛ وهذا التقابل قد حافظ عليه علم الكف الغربي نفسه، لكنْ بطريقة لم يعد يستطيع أن يرى فيه من خلالها غير مجرد تسميات اتفاقية، في حين أنه، في واقع الأمر، يعقد صلة فعلية بين علم الكف والنجامة. بالإضافة إلى ذلك، فإن كل فلك من أفلاك الكواكب السبعة يقوم عليه واحد من الأنبياء الكبار ويكون منه بمثابة "القطب"؛ والصفات والعلوم التي تعود بالأخص إلى كلٍّ من هؤلاء الأنبياء على علاقة مع التأثير النجمي الموافق. أما جدول أقطاب الأفلاك السبعة فهو التالي:

الفلك

النبي القطب

فلك القمر

سيدنا آدم

فلك عطارد

سيدنا عيسى

فلك الزهرة

سيدنا يوسف

فلك الشمس

سيدنا إدريس

فلك المريخ

سيدنا داود

فلك البرجيس [المشتري]

سيدنا موسى

فلك الكيوان [زحل]

سيدنا إبراهيم

ويختص سيدنا آدم بالفلاحة (راجع سفر التكوين 2: 15: "وأخذ الربُّ الإله الإنسان وجعله في جنة عدن ليفلحها ويحرسها")؛ سيدنا عيسى بالمعارف من رتبة روحية خالصة؛ سيدنا يوسف بالجمال والفنون؛ سيدنا إدريس بالعلوم "الوسيطة"، أي العلوم من رتبة كوسمولوجية ونفسانية؛ سيدنا داود بالحُكم والإمامة؛ سيدنا موسى، الذي يقترن به دومًا أخوه سيدنا هارون، بأمور الدين بوجهيه: الشرع والعبادات؛ سيدنا إبراهيم بالإيمان (الذي بخصوصه يجب الربط بين هذا التقابل مع الفلك السابع وبين ما ذكرناه مؤخرًا بخصوص دانتي، من حيث مقامه في أعلى درجات السلَّم المُسارَري السبع [للتنظيم الهيكلي المعروف في وقته بـ"الإيمان المقدس" Fede Santa الذي يقال إن الشاعر، مؤلِّف الكوميديا الإلهية، كان من رؤسائه، على رتبة قدوش Kadosch، وهي كلمة عبرية تعني "قدوس" أو "مكرَّس"][5]).

رسم مأخوذ من مخطوط وسيطي يمثل الحاج الزاهد وقد بلغ في معراجه "فلك النجوم الثابتة" وأطل منه على "الفلك المحيط"، حيث صار بإمكانه معاينة "المحرك الأول" (ممثلاً بالعجلة) الذي يدير حركة الكون بأسره في الاتجاهات كلها.

بالإضافة إلى ما سبق، يتوزع حول هؤلاء الأنبياء الكبار، على أفلاك الكواكب السبعة، الأنبياء الآخرون المعلومون (أي الواردة أسماؤهم في القرآن الكريم، وعددهم 25) والمجهولون (أي جميع الآخرين، حيث عدد الأنبياء وفقًا لما يورده المأثور هو 124000).

والأسماء الـ99 التي تعبِّر عن الصفات الإلهية موزعة هي الأخرى تبعًا لهذا السباعي: 15 على فلك الشمس، نظرًا لموقعه المركزي، و14 على كلٍّ من الأفلاك الستة الأخرى: 15 + (6 في 14) = 99. وقراءة العلامات على جزء اليد المقابل لأحد الكواكب تدل على نسبة (س/14 أو س/15) اتصاف الفرد بالصفات العائدة لهذا الكوكب؛ وهذه النسبة عينها توافق عددًا مساويًا (س) من الأسماء الإلهية بين الأسماء الخاصة بالفلك الكوكبي المقصود؛ وهذه الأسماء يمكن فيما بعد تعيينها بواسطة حساب هو في الواقع طويل للغاية وشديد التعقيد.

رسم يمثل خطوط اليد وعلاقة أجزائها بالكواكب والبروج.

ولنضف أنه في ناحية المعصم، فوق اليد بحصر المعنى، يتوضع التقابل مع الفلكين الأعليَين، فلك النجوم الثابتة والفلك المحيط، اللذين، مع أفلاك الكواكب السبعة، يُتمان العدد 9[6]. إلى ذلك، تقع في مختلف أجزاء اليد البروج signes du Zodiac الـ12، ذات العلاقة مع الكواكب التي تشغل هذه البروج (برج واحد لكلٍّ من الشمس والقمر، برجان اثنان لكلٍّ من الكواكب الخمسة الأخرى)، وكذلك أشكال علم الرمل[7]؛ إذ إن جميع العلوم النقلية وثيقة الارتباط بعضها ببعض.

مخطوط يبين أشكال علم الرمل في علاقتها مع الطبائع الأربعة والجهات الأربع والحروف.

تدل قراءة اليد اليسرى على طبيعة الفرد، أي على جملة الميول والاستعدادات أو الإمكانات التي تكوِّن بنوع ما صفاته الفطرية. وتعرِّف قراءة اليد اليمنى بصفاته المكتسَبة؛ وهذه تتغير في الواقع تغيرًا مستمرًّا، بحيث إن القيام بدراسة موصولة يحتم إعادة هذه القراءة كل أربعة أشهر. وفترة الشهور الأربعة هذه تؤلف، بالفعل، دورة تامة، بمعنى أنها تفضي للعودة إلى برج يوافق الطبع [العنصر] نفسه الذي جرى الانطلاق منه؛ ومعلوم أن هذا التوافق مع الطبائع [العناصر] يجري بحسب الترتيب المتوالي التالي: نار، تراب، هواء، ماء. فمن الغلط إذن أن يُظن، كما فعل بعضهم، أن الفترة المقصودة لا يجوز أن تكون غير ثلاثة أشهر، لأن فترة الشهور الثلاثة توافق فصلاً فحسب، أي جزءًا من الدورة السنوية، وهي ليست بحدِّ ذاتها دورة تامة.

تبيِّن الدلائل القليلة السابقة، على إيجازها، كيف أن العلم النقلي الناشئ نشأة نظامية يرتبط بالمبادئ من رتبة عقيدية ويتوقف عليها تمامًا؛ ومن شأنها، في الوقت نفسه، أن تُفهم ما سبق لنا أن قلناه مرارًا وتكرارًا من أن علمًا كهذا مُحكم الارتباط بشكل نقلي معين، بحيث إنه غير قابل للاستعمال مطلقًا خارج نطاق الحضارة التي أنشِئ من أجلها على هذا الشكل بعينه. فهاهنا، على سبيل المثال، من شأن الاعتبارات العائدة للأسماء الإلهية والأنبياء – وهي بالدقة الاعتبارات التي يقوم عليها كل ما تبقَّى – ألا تكون قابلة للتطبيق خارج نطاق العالم الإسلامي حصرًا، مثلما أن حساب النيم calcul onomantique، كمثال آخر، المستعمَل إما على حدة وإما كعنصر من عناصر قراءة الطالع في بعض طُرُق النجامة، لا يصح إلا على الأسماء العربية التي لكلٍّ من حروفها قيمة عددية معلومة[8]. فثمة دومًا، في رتبة التطبيقات العَرَضية هذه، مسألة "تكييف" تجعل من المُحال نقل هذه العلوم كما هي من شكل نقلي إلى آخر؛ وذاك، أغلب الظن، واحد من أسباب صعوبة فهمها على مَن ليس عندهم ما يكافئها في حضارتهم، شأن أهل الغرب المُحدَثين[9].

مصر، 18 ذي العقدة 1350 هـ (مولد سيد علي البيومي).

الترجمة عن الفرنسية: ديمتري أڤييرينوس


* Le Voile d’Isis, mai 1932, pp. 289-295 ; repris dans René Guénon, Aperçus sur l’ésotérisme islamique et le Taoïsme, Gallimard, 1973, pp. 68-75.

** فيلسوف فرنسي (1886-1951)، ولد في بلوا (فرنسا) وتوفي بالقاهرة. شُغف بالروحانيات منذ حداثة سنِّه، فدفعه حب الاستطلاع إلى اختبار معظم مدارسها الحديثة، حتى اهتدى أخيرًا إلى تصور متكامل عن وحدة المنقولات الأصيلة في العالم قاطبة، بوصفها تعبيرات متنوعة متفرعة عن "منقول قديم" Tradition Primordiale واحد، فاطمأن إليه وراح، بالتوازي مع حياة باطنية غنية، يكتب فيه المقالات والكتب والرسائل، مؤسِّسًا بذلك لمذهب "نقلي" traditionnaliste مازال أثرُه ساري المفعول حتى يومنا هذا. من مؤلفاته الكثيرة الهامة: الإنسان ومآله بحسب الڤيدنتا، أزمة العالم الحديث، رمزية الصليب، الثالوث الأكبر، لمحات عن المُسارَرة. (المحرِّر)

[1] راجع: ديمتري أڤييرينوس، "موقع المُسارَرة من علم الباطن"، سماوات: http://samawat.org/essays/esotericism_initiation_dna. (المحرِّر)

[2] ما بين معقوفتين […] من إضافة المترجم إلى النص بغية توضيح المقصود. (المحرِّر)

[3] "الفراسة"، من الفعل الثلاثي فَرَسَ، تثبيت النظر وإدراك الباطن من نظر الظاهر؛ ومنه، جاء في الحديث: "اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله". راجع أيضًا: توفيق فهد، الكهانة العربية قبل الإسلام، دار قدمُس، دمشق، طب 1: 2007، ص 271-300. (المحرِّر)

[4] جدير بالذكر أن المُسارَرة ("البيعة" الصوفية) تتم بمنح بركة السلسلة الروحية ("الروح القدس" بالمصطلح المسيحي) للمريد عبر اليد بوضعها إما على يافوخ الرأس أو الوجه، وإما بشبك الأيدي بين الشيخ والمريد (وهذا هو المدلول الروحي للآية 10 من سورة الفتح بخصوص "بيعة الرضوان": "إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله يد الله فوق أيديهم")، وإما بطُرُق أخرى لا مجال هنا لإيرادها. ونضيف هنا، على سبيل الإشارة، أن عدد سلاميات أصابع اليد الواحدة هو 14 (4 + 1 = 5 = عدد أصابع اليد = عدد أركان الإسلام = الطبائع الأربعة + الأثير)، وفي كلا اليدين: 14 في 2 = 28 (8 + 2 = 10 = 5 في 2)، عدد الحروف العربية وحاصل الجمع الثيوصوفي لأعداد قيمتها الإجمالية (5995 = 9 + 5 + 5 + 9) وعدد منازل القمر (راجع: رونيه گينون، "ملحوظة في ملائكيات الأبجدية العربية"، سماوات: http://samawat.org/articles/angelology_arabic_alphabet_guenon)؛ كما أن القيمة العددية لكلمة يد في حساب الجُمَّل تساوي 14 (10 + 4). إلى ذلك، فإن لكلمة وجه القيمة العددية نفسها (6 + 3 + 5)، بما يشير، في سياقنا، إلى الصلة الشعائرية المذكورة بين اليد والوجه، حيث إن عدد عظام الوجه هو كذلك 14. (المحرِّر)

[5] Cf. René Guénon, L’ésotérisme de Dante, Gallimard, 1957, chap. II, pp. 13-14.

[6] وفقًا لكوسمولوجيا كوميديا دانتي ألجياري (1265-1321)، تنطلق النفس الإنسانية من الجحيم (وهي على هيئة مخروط مقلوب، مغروس في نصف كرة الأرض الترابي)، لتعرج صاعدةً، مرورًا بجبل المَطْهَر الواقع في نصف الكرة المائي (وجنة عدن على قمته)، فالأفلاك التسعة (أفلاك الكواكب السبعة + فلك النجوم الثابتة، حيث البروج + الفلك البلوري، حيث المحرك الأول Primum mobile)، وصولاً إلى سماء الفردوس، حيث مرفأ النور الإلهي المركوز في قلب وردة الغبطة السماوية؛ وفي ذروة رؤيا المعراج يُشاهَد الله في الوسط، تحيط به الأفلاك الملائكية التسعة. (المحرِّر)

بنيان الكوسمولوجيا عند دانتي: تنطلق النفس الإنسانية من الجحيم، لتعرج صاعدة، مرورًا بالمطهر، فالأفلاك السماوية التسعة، وصولاً إلى الفردوس.

[7] علم الرمل géomancie من فنون التكهُّن؛ وأساسه الاقتراع بقراءة الأشكال الـ16، المؤلفة من نقاط وشُرَط والناجمة عن "ضرب الرمل" على سطح مستو. راجع: فهد، الكهانة العربية قبل الإسلام، ص 149-152. (المحرِّر)

[8] راجع: "ملحوظة في ملائكيات الأبجدية العربية"، سماوات: http://samawat.org/articles/angelology_arabic_alphabet_guenon. (المحرِّر)

[9] المعطيات التي استفدناها أساسًا لهذه الملحوظات مستقاة من رسائل غير منشورة للشيخ سيد علي نور الدين البيومي، مؤسِّس الطريقة البيومية، الذي لا تزال مخطوطاته حاليًّا في عهدة أخلافه المباشرين.