الخلق والتجلي – رونيه گينون

الخلق والتجلِّي*

رونيه گينون**

سبق لنا أن لفتنا النظر، في مناسبات عدة، إلى أن فكرة "الخلق" création، – إذا كان المراد فهمها بمعناها الصحيح والدقيق، ومن غير أن يُسرَف في مدلولها إلى حدٍّ قد يزيد عنه أو ينقص، – لا تصادَف في الواقع إلا في منقولات تنتمي إلى خط واحد، هو الخط المؤلف من اليهودية والمسيحية والإسلام. ولما كان هذا الخط هو خط الأشكال النقلية التي يصح القول فيها بأنها "دينية" بحصر المعنى، لا بدَّ أن يُستنتَج من ذلك وجودُ صلة مباشرة بين هذه الفكرة وبين وجهة النظر الدينية نفسها. ففي كل مكان آخر، من شأن كلمة "خلق"، إذا ما تمسكنا باستعمالها في حالات بعينها، أن تؤدي حتمًا تأدية شديدة الغلط فكرةً مختلفةً يفضَّل لتأديتها إيجادُ تعبير آخر. على كل حال، ليس هذا الاستعمال على الأغلب، في واقع الأمر، إلا نتيجة واحد من هذه الالتباسات أو هذه المماثَلات المغلوطة التي كثيرًا ما يقع فيها أهل الغرب في كل ما يتعلق بالمذاهب المشرقية. بيد أنه لا يكفي تفادي الوقوع في هذا الالتباس، إنما يجب إيلاء حرص مماثل لتجنُّب غلط آخر معاكس، ألا وهو الإصرار على رؤية تناقُض أو تضاد ما بين فكرة الخلق وبين هذه الفكرة الأخرى التي ألمحنا إليها لتوِّنا والتي أصح مصطلح بحوزتنا لتأديتها هو "التجلِّي" manifestation؛ وهذه النقطة الأخيرة هي التي نعتزم التوسع فيها في هذا المقال.

إن بعض القوم، بالفعل، إذ يقرُّون بأن فكرة الخلق غير موجودة في المذاهب المشرقية (ماعدا الإسلام الذي لا يجوز، بطبيعة الحال، إقحامُه ضمنها بهذا الصدد)، سرعان ما يزعمون، ومن غير أن يحاولوا التوغل في عمق الأمور، بأن غياب هذه الفكرة إنما هو علامة على وجود نقص أو خلل، ليخلصوا من ذلك إلى أن المذاهب المقصودة لا يجوز أن تُعتبَر تعبيرًا ملائمًا عن الحقيقة. ولئن صح هذا على أهل الفريق الديني، حيث غالبًا ما يغالى في التأكيد على "حصرية" مؤسفة، تراه يصح كذلك على بعضهم من أهل الفريق المناوئ للدين ممن يصرون أن يستخلصوا، من المعاينة نفسها، نتائج معاكسة تمامًا: فهؤلاء، بطبيعة الحال، إذ يهاجمون فكرة الخلق هجومهم على جميع الأفكار الأخرى من رتبة الدين، يتظاهرون بأنهم يرون في غيابها نفسه نوعًا من التفوق؛ وهم، بالطبع، لا يفعلون ذلك في الواقع إلا بدافع الرفض والمعارضة، وليس البتة دفاعًا حقًّا عن المذاهب المشرقية التي لا يكترثون بها بتاتًا. أيًّا ما كان الأمر، فإن هذه المآخذ وهذه المدائح عديمة القيمة وغير مقبولة على حدٍّ سواء، من حيث إنها جميعًا تصدر في الحاصل عن الغلط إياه، إنما مستغَلاً تبعًا لنوايا متعاكسة، طبقًا للميول الخاصة بالذين يرتكبونه؛ والحقيقة هي أن حجة كلا الفريقين واهية لا سند لها، وأن الحالتين تعكسان عدم فهم يكاد أن يكون متساويًا عند كليهما.

ولا يبدو سبب هذا الضلال المشترك، إلى ذلك، عصيًّا على الاكتشاف: فالذين لا يتخطى أفقهم العقلي التصورات الفلسفية الغربية يتخيلون عادة أنه حيثما لا يمت الأمر إلى الخلق، وحيث يبدو مع ذلك جليًّا، من ناحية أخرى، أنه لا يتعلق بنظريات مادية، لا يمكن الوقوع إلا على "الحلولية" panthéisme. بيد أنه معلوم إلى أي حدٍّ باتت هذه الكلمة، في زماننا، غالبًا ما تُستعمَل خبط عشواء: فهي عند بعضهم تمثل فزاعة حقيقية، حتى إنهم يظنون أنفسهم مَعفيِّين من الفحص الجدي عن الشيء الذي يسارعون إلى تطبيقها عليه (واستعمال تعبير "الوقوع في الحلولية" بهذا الشيوع دليل مميِّز بهذا الخصوص)، في حين أن بعضهم الآخر – على الأرجح لهذا السبب بالذات أكثر منه لأي دافع آخر – يتبنونها عن طيب خاطر، وهم متأهبون تمامًا لاتخاذها نوعًا من الراية التي يلوحون بها. ومنه، من الواضح نوعًا ما أن ما قلناه لتوِّنا يرتبط وثيق الارتباط، في فكر كلا الفريقين، بتهمة "الحلولية" التي تُرمى بها عمومًا تلك المذاهب المشرقية بعينها والتي يعفينا تبياننا المتكرر لضلالها التام، بل وحتى لعدم معقوليتها (بما أن الحلولية في واقع الأمر نظرية ضد ميتافيزيقية أساسًا)، من لزوم الوقوف عندها مرة أخرى أيضًا[1].

بما أن المناسبة ساقتنا إلى الكلام على الحلولية، سننتهزها لنبدي على الفور ملحوظة، تتصف هنا بشيء من الأهمية، بخصوص كلمة معينة من عادة القوم أن يقرنوها بالتصورات الحلولية: هذه الكلمة هي كلمة "صدور" émanation التي يصر بعضهم – للأسباب عينها أيضًا ومن جراء الالتباسات عينها – على استعمالها للإشارة إلى التجلِّي حين لا يتبدى في صورة الخلق. بيد أن هذه الكلمة، على الأقل حين توصف بها المذاهب النقلية الأرثوذكسية حصرًا، يجب إقصاؤها إقصاءً مطلقًا، ليس بسبب هذا الاقتران المؤسف فقط (وسيان إنْ كان له في الواقع ما يبرِّره عمقيًّا إلى حدٍّ ما أو لا، فالأمر لا يهمُّنا فعليًّا)، لكنْ بالأخص لأنها، بحدِّ ذاتها وبحدِّ مغزاها الاشتقاقي، لا تعبِّر حقيقةً عن شيء آخر غير محض استحالة. وبالفعل، فإن فكرة "الصدور" هي حصرًا فكرة "خروج"؛ لكنما يجب عدم النظر في التجلِّي من أي وجه على هذا النحو، إذ ما من شيء يمكن له حقًّا أن "يخرج" من المبدأ: فلو قُيِّض لأي شيء أن يخرج منه، لما عاد يجوز لهذا المبدأ، إذ ذاك، أن يكون لانهائيًّا، ولَتحدَّد بواقع التجلِّي بالذات؛ فالحقيقة هي أنه لا يوجد خارج التجلِّي، ولا يمكن لشيء أن يوجد خارجه، إلا العدم المحض. وحتى لو أراد القوم النظر إلى "الصدور"، لا من حيث المبدأ الأعلى اللانهائي، لكنْ من حيث الوجود Être – المبدأ المباشر للتجلِّي – وحسب، لأثار هذا المصطلح اعتراضًا، وإنْ يكن مختلفًا عن الاعتراض السابق، فهو ليس أقل حسمًا: فلو اتفق للموجودات أن "تخرج" من الوجود لكي تتجلى، لما جاز القول بأنها موجودات حقًّا، ولعدمت حصرًا كل كون existence، حيث إن الكون، أيًّا ما كانت كيفيته، لا يمكن له أن يكون شيئًا آخر غير تطبُّع بالوجود؛ وهذه النتيجة، فضلاً عن كونها بوضوح غير معقولة بحدِّ ذاتها (كما في الحالة الأخرى)، تتناقض أصلاً مع فكرة التجلِّي نفسها.

أما وقد سقنا هذه الملحوظات، سنقول بصريح العبارة إن فكرة التجلِّي، كما تنظر إليها المذاهب المشرقية نظرة ميتافيزيقية بحتة، لا تتعارض بتاتًا مع فكرة الخلق؛ بل الصحيح أن الفكرتين تعودان فحسب إلى مستويين مختلفين وإلى وجهتَي نظر مختلفتين، بحيث تكفي معرفة موقع كلٍّ منهما في مكانها الحقيقي حتى يتبين أنه لا يوجد بينهما أي تنافُر. فالاختلاف هاهنا، كالاختلاف على العديد من النقاط الأخرى، ليس في الحاصل إلا الاختلاف إياه بين وجهتَي النظر الميتافيزيقية والدينية؛ ولئن صح أن وجهة النظر الأولى من رتبة أعلى من الثانية وأعمق، لا يقل صحة أنها لا يجوز بتاتًا أن تعطل الثانية أو أن تُناقضها؛ وحسبنا برهانًا على ذلك أن كلتاهما جميعًا يمكن لهما فعلاً أن توجدا سوية ضمن الشكل النقلي نفسه (ستكون لنا على كل حال عودة إلى ذلك لاحقًا). فالأمر، من حيث العمق، ما هو إذن إلا اختلاف ليس، على كونه من درجة أكثر تشديدًا بسبب التباين الواضح جدًّا بين المجالين الموافقين، أكثر خرقًا للمألوف ولا أكثر إحراجًا من الاختلاف بين وجهتَي النظر المتباينتين اللتين يجوز شرعًا اتخاذ كلٍّ منهما في مجال بعينه، وذلك تبعًا لدرجة عمق التوغل فيه. تخطر ببالنا هنا، مثلاً، وجهتا نظر من نحو وجهتَي نظر شنكراتشاريا ورامانوجا بخصوص الـڤيدنتا[2]؛ فالصحيح أن عدم الفهم أصر، هناك أيضًا، أن يجد تناقضات لا أساس لها من الصحة في الواقع؛ لكن ذاك بالذات ليس من شأنه إلا أن يجعل المقايسة أدق وأتم.

إلى ذلك، يجدر التدقيق في معنى فكرة الخلق بالذات، من حيث إنها، هي الأخرى، تفسح في المجال أحيانًا لشتى ضروب سوء الفهم: إذا كان فعل "خَلَقَ" مرادفًا لـ"أوجَد من عدم"، وذلك تبعًا للتعريف المقبول بالإجماع، ولكنْ غير الموضح كفاية ربما، يجب قطعًا أن نعني به، قبل كل شيء، عدم وجود شيء خارج المبدأ؛ بعبارة أخرى، فإن المبدأ، وإنْ يكن "خالقًا"، غني بذاته، فلا حاجة له إلى الاستعانة بنوع من "الجوهر" substance الواقع خارج ذاته والمتصف بكون مستقل إلى حدٍّ ما، الأمر الذي يبقى في الحاصل – والحق يقال – غير قابل للتصور. ومنه، نرى على الفور أن العلة الأولى لوجود مثل هذه الصياغة هي التأكيد صراحة أن المبدأ ليس البتة مجرد "ديميورغوس" Démiurge ["إله مصوِّر"[3]] (وهنا لا حاجة للتمييز إنْ كان المقصود هو المبدأ الأعلى أو هو الوجود، لأن ذلك يصح على كلتا الحالتين على حدٍّ سواء)؛ غير أن هذا لا يعني بالضرورة أن كل تصوُّر "ديميورجي" هو تصوُّر مغلوط جذريًّا؛ لكنه، على كل حال، تصوُّر لا يجوز أن يطبَّق إلا على مرتبة أدنى بكثير تُوافق وجهة نظر أضيق بكثير؛ تصوُّر، إذ لا يقع إلا في طور معين ثانوي من السيرورة الكوسموغونية[4]، تراه لا يعود يمس المبدأ ولا ومن وجه. والآن، إذا تقيد القوم بالكلام على "الإيجاد من عدم" من غير مزيد من التدقيق، كما جرت العادة، فثمة خطر آخر لا مناص من تفاديه: ألا وهو النظر إلى هذا "العدم" بوصفه نوعًا من المبدأ الذي، وإنْ يكن سلبيًّا أغلب الظن، يصدر عنه بالفعل الكونُ المتجلِّي؛ إذ إن في ذلك عودة إلى ضلالة تكاد أن تكون مشابهة للضلالة التي أرادوا الاحتراس منها بنسبتهم إلى "العدم" ذاك نوعًا من "الجوهرية"؛ وهذه الضلالة، بمعنى ما، قد تكون أفدح حتى من الأخرى، من حيث إنه ينضاف إليها تناقُض صوري، هو عبارة عن إضفاء حقِّية ما على "العدم"، أي في الحاصل على عدم الوجود. فإنْ زعم القوم، تفاديًا لهذا التناقض، أن "العدم" المقصود ليس العدم المحض، بل إنه ليس عدمًا إلا بالنسبة إلى المبدأ، لارتكبوا بذلك أيضًا غلطًا مزدوجًا: فهم يفترضون هذه المرة، من ناحية، وجود شيء يتصف بالحقِّية فعلاً خارج المبدأ، وعندئذ لا يعود هناك أي اختلاف حقيقي مع التصور "الديميورجي" نفسه؛ وهم يتجاهلون، من ناحية أخرى، أن الموجودات ليست صادرة بتاتًا عن هذا "العدم" النسبي عبر التجلِّي، من حيث إن المنتهي لا يكف أبدًا عن كونه معدومًا بحتًا في مرأى من اللانهاية.

في ما قيل لتوِّه، وفي كل ما قد يقال غيره بخصوص فكرة الخلق أيضًا، ثمة، من حيث الطريقة التي يُنظَر بها في التجلِّي، شيء ناقص، لكنه مع ذلك أساسي للغاية: إنه بالذات مفهوم الإمكان possibilité الذي لا يظهر فيها؛ لكن هذا – فليُلحظْ جيدًّا – ليس مأخذًا البتة، ومثل هذه النظرة، على كونها ناقصة، ليست بذلك أقل شرعية، لأن مفهوم الإمكان هذا، في حقيقة الأمر، لا موجب لتدخُّله إلا حين تُتَّخذ وجهةُ النظر الميتافيزيقية، بينما ليست وجهة النظر هذه، كما سبق لنا أن قلنا، هي المتخَذة حين يُنظر في التجلِّي على أنه خلق. فالتجلِّي – ميتافيزيقيًّا – يفترض سلفًا بالضرورة وجود ممكنات معينة قادرة أن تتجلى؛ لكنه إذا انبثق هكذا عن الإمكان، لا يجوز أن يقال بأنه يأتي من "العدم"، لأن من الواضح أن الممكن ليس "معدومًا". رُبَّ معترض يقول: ألا يناقض ذلك بالدقة فكرة الخلق ["الإيجاد من عدم"]؟ والجواب سهل للغاية: جميع الممكنات محتواة في الممكن الكلِّي الذي ليس إلا واحدًا مع المبدأ بذاته؛ وإذن ففيه بالذات، في المحصلة، تكون هذه الموجودات محتواة حقًّا على حالها الدائمة ومنذ الأزل؛ ولو كان الأمر على غير ذلك في الواقع، لكانت عندئذ في حقيقة الأمر "عدمًا"، ولما صح الكلام أصلاً على "ممكنات". ومنه، إذا كان التجلِّي ينبثق عن هذه الممكنات أو عن بعضها (ولنذكِّر هنا أنه، فضلاً عن ممكنات التجلِّي، لا بدَّ أيضًا من النظر في ممكنات عدم التجلِّي، في المبدأ الأعلى على الأقل، ولكنْ ليس بعدُ حين يقتصر الكلام على الوجود)، فهو لا يأتي من شيء يكون خارج المبدأ؛ وذلك بالضبط المعنى الذي أقررنا به لفكرة الخلق مفهومةً حقَّ فهمها، بحيث إن وجهتَي النظر ليستا عمقيًّا قابلتين للتوفيق بينهما وحسب، بل هما حتى على توافُق تام. إلا أن الفارق بينهما يتلخص في أن وجهة النظر التي تعود إليها فكرة الخلق لا تنظر في أي شيء يتعدى التجلِّي، أو على الأقل لا تنظر إلا في المبدأ من غير مزيد من التعمق، لأنها مازالت بعدُ وجهة نظر نسبية، بينما من وجهة النظر الميتافيزيقية، على العكس، يكون ما هو ضمن المبدأ، أي الإمكان، هو الأساس في الواقع، وهو ما يهم أكثر بكثير من التجلِّي بحدِّ ذاته.

يجوز قولنا، في المحصلة النهائية، بأننا بصدد تعبيرين مختلفين عن حقيقة واحدة، شريطة أن نضيف، بالطبع، أن هذين التعبيرين يوافقان وجهين أو وجهتَي نظر هما في واقع الحال مختلفتين حقًّا؛ ولكن يحق للمرء عندئذ أن يتساءل إنْ لم يكن أتم هذين التعبيرين وأعمقهما كافيًا تمامًا، وما هي علة وجود التعبير الآخر: إنها، بادئ ذي بدء وعلى وجه العموم، علة وجود كل وجهة نظر ظاهرية exotérique بالذات، بوصفها صياغة للحقائق النقلية المقتصرة على ما لا غنى عنه للبشر قاطبة وفي الوقت نفسه متاح لهم من غير تمييز. ومن ناحية أخرى، فيما يتعلق بالحالة الخاصة التي نحن بصددها، قد توجد دوافع "سانحة"، إذا جاز القول، تخص أشكالاً نقلية بعينها، وذلك بسبب الظروف العَرَضية التي يجب أن تتكيف معها والتي تتطلب احتراسًا صريحًا من أي تصوُّر لأصل التجلِّي بكيفية "ديميورجية"، في حين أن اتخاذ حيطة مشابهة قد يكون غير ضروري مطلقًا في مكان آخر. غير أن المرء، حين يلحظ أن فكرة الخلق ملازمة بالدقة لوجهة النظر الدينية حصرًا، قد يسوقه هذا إلى التفكير في ضرورة وجود شيء آخر أيضًا؛ وهذا ما بقي علينا أن نفحص عنه الآن، حتى إذا لم يكن ممكنًا لنا التوسع في جميع القضايا التي قد يتيح هذا الجانب من المسألة الدخول فيها.

سيان إنْ كان المقصود هو التجلِّي منظورًا إليه ميتافيزيقيًّا أو كان الخلق، فإن الاتكال التام للموجودات المتجلِّية على المبدأ، في كل ما هي عليه حقًّا، مؤكَّد عليه، في وضوح وصراحة على حدٍّ سواء، في كلتا الحالتين؛ إنما مقدار الدقة التي يُنظَر بها في هذا الاتكال في كلٍّ منهما هو الذي يُظهر فارقًا مخصوصًا، يوافق بدقة شديدة الفارق بين وجهتَي النظر المذكورتين. فهذا الاتكال، من وجهة النظر الميتافيزيقية، هو في الوقت نفسه "تطبُّع" participation: فالموجودات كلها، بمقدار ما فيها من الحقِّية في ذاتها، متطبِّعة بالمبدأ، بما أن كل حقِّية مستمَدة منه أصلاً؛ إلى ذلك، لا يقل صحة أن هذه الموجودات، بوصفها عَرَضية ومحدودة، شأنها شأن التجلِّي بأسره التي هي جزء منه، معدومة بالنسبة إلى المبدأ، كما قلنا أعلاه؛ لكن ثمة في هذا التطبُّع شيء من قبيل الصلة مع المبدأ – وبالتالي، صلة بين المتجلِّي وغير المتجلِّي – هي التي تتيح للموجودات تخطِّي شرط النسبية الملازم للتجلِّي. أما وجهة النظر الدينية فهي، على العكس، تصر بالحري على العدمية التي تتصف بها الموجودات المتجلِّية، وذلك لأن وجهة النظر هذه، بحُكم طبيعتها، ليس من شأنها أن تقودها إلى ما يتعدى شرط التجلِّي؛ وهي تتضمن النظر إلى الاتكال من منظار يوافقه عمليًّا موقف العبودية servitude، على حدِّ الاصطلاح العربي الذي لا يؤديه معنى الكلمة الفرنسية المقابلة له، أغلب الظن، إلا تأدية ناقصة نوعًا ما بهذا المؤدى الديني حصرًا، لكنه يؤديه بما يكفي للسماح بفهمه فهمًا أفضل مما تفعل كلمة adoration (التي تقابل في الواقع بالأحرى مصطلحًا آخر مشتقًّا من الجذر [العربي] نفسه: العبادة)؛ مهما يكن من أمر، فإن حال العبد، منظورًا إليها على هذا النحو، هي حصرًا شرط "المخلوق" حيال "الخالق".

ومادمنا قد استعرنا لتوِّنا مصطلحًا من لغة المنقول الإسلامي، فلنضف ما يلي: لا يجرؤ أحد جزمًا على التشكيك في أن الإسلام، من حيث وجهه الديني أو الظاهر، يقول بالخلق، على أقل تقدير بقدر ما يمكن للمسيحية نفسها أن تقول به؛ ومع ذلك، فهذا لا يحول بتاتًا دون الإسلام، في وجهه الباطن ésotérique، ووجودَ مستوى معين تختفي فكرة الخلق اعتبارًا منه. كذا فإن هناك عبارة يكون الصوفي (وليُنتبَه جيدًا إلى أن المقصود هنا ليس مجرد متصوف) تبعًا لها منزهًا عن الخلق: "الصوفي لم يُخلَق"؛ ومؤدى هذا القول هو أن حاله تتعدى شرط "المخلوق". فالصوفي، بالفعل، بوصفه قد تحقق بـ"الهوية المطلقة" Identité Suprême، وبالتالي، اتحد فعلاً بالمبدأ غير المخلوق، لا يمكن له بالضرورة أن يكون إلا "غير مخلوق". إن وجهة النظر الدينية، هاهنا، قد تم تخطيها بما لا يقل ضرورة، لتحل محلها وجهة النظر الميتافيزيقية البحتة؛ ولكن إذا كان جائزًا لوجهتَي النظر كلتيهما أن تتوازيا على هذا النحو في المنقول إياه، كلٍّ منهما على المرتبة التي تناسبها وفي المجال الموافق لها حصرًا، فذاك يبرهن بكل وضوح أنهما غير متعارضتين أو غير متناقضتين من أي وجه.

نحن نعلم أن من المحال أن يوجد تناقُض فعلي، إنْ ضمن المنقول الواحد وإنْ بين هذا المنقول وبين المنقولات الأخرى، بما أن هذه كلها ليست إلا تعبيرات متنوعة عن الحقيقة الواحدة. فإذا عنَّ لأحدهم أن يرى بينها تناقضات ظاهرية، أفليس عليه أن يستنتج من ذلك، بكل بساطة، أن ثمة في الأمر شيئًا لا يفهمه حق فهمه أو يفهمه فهمًا ناقصًا، بدلاً من أن يدعي رمي المذاهب النقلية نفسها بعيوب ليست موجودة، في الواقع، إلا من جراء قصوره العقلي هو؟

المترجم عن الفرنسية: ديمتري أڤييرينوس


* Études traditionnelles, X-1937, pp. 325-333 ; repris dans René Guénon, Aperçus sur l’ésotérisme islamique et le Taoïsme, Gallimard, 1973, pp. 88-101.

** فيلسوف فرنسي (1886-1951)، ولد في بلوا (فرنسا) وتوفي بالقاهرة. شُغف بالروحانيات منذ حداثة سنه، فدفعه حب الاستطلاع إلى اختبار معظم مدارسها الحديثة، حتى اهتدى أخيرًا إلى تصور متكامل عن وحدة المنقولات الأصيلة في العالم قاطبة، بوصفها تعبيرات متنوعة متفرعة عن "منقول قديم" Tradition Primordiale واحد، فاطمأن إليه وراح، بالتوازي مع حياة باطنية غنية، يكتب فيه المقالات والكتب والرسائل، مؤسِّسًا بذلك لمذهب "نقلي" traditionnaliste مازال أثرُه ساري المفعول حتى يومنا هذا. من مؤلفاته الكثيرة الهامة: الإنسان ومآله بحسب الڤيدنتا، أزمة العالم الحديث، رمزية الصليب، الثالوث الأكبر، لمحات عن المُسارَرة. (المحرِّر)

[1] بخصوص الحلولية، راجع: ابن عربي، "الرسالة الوجودية"، بتقديم ديمتري أڤييرينوس: "التصوف والحلولية"، سماوات: http://samawat.org/texts/epistle_of_unity_ibn_arabi. (المحرِّر)

[2] كلمة ڤيدنتا Vēdanta السنسكريتية تعني "غاية الڤيدا" وتشير إلى تأويل الحقيقة الكلية، المعبَّر عنها في أسفار الڤيدا، في ضوء الأوپنشاد؛ والڤيدنتا هو أحد المذاهب الستة الكبرى في المنقول الهندوسي. يُعَد شنكراتشاريا ("المعلم شنكرا"، 788-820) صاحب مذهب أدڤيتا advaita ("التوحيد المنزِّه" أو اللاثنوي) في الڤيدنتا الذي يشدد على الوحدة بين الذات أو الروح الفردية (آتمن Ātman) وبين الحق المطلق (برهمن Brahman)؛ أما رامانوجا (ت 1137)، فهو صاحب مذهب ڤششتادڤيتا vishishtadvaita ("التوحيد المشبِّه") الذي يعلِّم أن المرء، إذا سلَّم أمره لمشيئة الحق، يستطيع أن ينال ببركته الخلاص. بعبارة أخرى، يقول شنكرا، بالمصطلح الإسلامي، بوحدة الحق والخلق (= "وحدة الوجود" الأكبرية) من منطلق خبرته العرفانية (جنيانا jñāna)، بينما يقول رامانوجا بالاثنينية من منطلق خبرته التعبدية (بهكتي bhakti). كتب كلاهما، في ضوء مذهبه، شروحًا على أسفار الـبرهماسوترا والأوپنشاد والـبهگڤدگيتا. (المحرِّر)

[3] ما بين معقوفتين […] من إضافة المترجم توضيحًا للمقصود. والديميورغوس dêmiourgos: تسمية تشير في الأفلاطونية والغنوصية إلى الإله الأدنى الذي شكَّل العالم وصوَّره. (المحرِّر)

[4] الكوسموغونيا kosmogonia: من اليونانية، كوسموس kosmos، "العالم"، وغونوس gonos، "نشوء"؛ والمقصودة هي السيرورة المتدرجة لنشأة الكون على أطوار ومراتب. (المحرِّر)