علم الكف في التصوف الإسلامي – رونيه گينون

علم الكف في التصوُّف

الإسلامي*

رونيه گينون**

أتيحَ لنا في مناسبات عدة أن نبيِّن إلى أي حدٍّ صار تصوُّر "العلوم النقلية" sciences traditionnelles، في الأزمنة الحديثة، غريبًا بنظر أهل الغرب، وإلى أي حدٍّ بات صعبًا عليهم فهمُ طبيعتها الحقيقية. ولقد وقعنا، مؤخرًا، على مثال على عدم الفهم هذا في دراسة مخصصة لمحيي الدين بن عربي، استغرب كاتبها أن يجد عند الشيخ الأكبر، إلى جانب المذهب الروحي الخالص، استطرادات عديدة في النجامة astrologie، في علم الحروف وحساب الجُمَّل، في الهندسة الرمزية، وفي أمور أخرى عديدة من الرتبة عينها، يبدو أنه ارتأى أنها لا تمتُّ بقربى إلى هذا المذهب. والواقع أنه وقع في التباس مزدوج: إذ إنه قدَّم أيضًا الجانب الروحي حصرًا من تعليم سيدي محيي الدين بالذات على أنه "سرَّاني" mystique، في حين أنه تعليم ميتافيزيقي ومُسارَري initiatique أساسًا[1]؛ فلو كان المقصود عبارة عن "سرَّانية"، لما كان له بالفعل متاتٌ بقربى إلى أي "علوم"، مهما تكن. بينما، على العكس، بمجرد أن يتعلق الأمر بعقيدة ميتافيزيقية، فإن هذه العلوم النقلية (التي يجهل كاتبنا قيمتها، في واقع الأمر، جهلاً تامًّا، وذلك تبعًا للحكم المسبق المُحدَث المألوف) تُشتق من هذه العقيدة اشتقاقًا سويًّا، مثلما تُشتق النتائج من المبدأ، وهي، بهذه المثابة، أبعد ما تكون عن تمثيل عناصر دخيلة وغير متجانسة، إذا جاز القول، بل هي جزء لا يتجزأ من التصوف، أي من جملة المعارف المُسارَرية.

معظم هذه العلوم النقلية اليوم ضاع على أهل الغرب ضياعًا تامًّا، وهم لا يعرفون مما تبقى منها غير بقايا متفاوتة في الابتسار، متدنِّية غالبًا، إلى حدِّ أنها اتخذت هيئة وصْفات تجريبية أو مجرد "فنون تكهنية" arts divinatoires، مجردة بطبيعة الحال من كل قيمة عقيدية. وحتى نُفهم [قارئنا][2] من خلال مثال مقدارَ بُعد مثل هذه الطريقة في النظر إليها عن حقيقة الأمر، سنورد فيما يلي بضعة دلائل على ماهية علم الكف chirologie في التصوف الإسلامي؛ وهو علم ليس في الواقع غير فرع واحد من فروع علم الفراسة physiognomonie العديدة، مع أن هذه الكلمة [الفرنسية]، نظرًا لعدم وجود مصطلح أفضل، لا تؤدي بالدقة كل إحاطة المصطلح العربي الذي يدل على جملة هذه المعارف[3].

يرتبط علم الكف، في شكله الإسلامي، مهما بدا ذلك غريبًا بنظر الذين يعدمون أي مفهوم عن هذه الأمور، بعلم الأسماء الإلهية ارتباطًا مباشرًا: يرسم تنسيق الخطوط الرئيسية على كف اليد اليسرى العدد 81 وعلى كف اليد اليمنى العدد 18، أي ما مجموعه 99، عدد أسماء الله الصفاتية. أما اسم "الله" نفسه، فتشكِّله الأصابع على النحو التالي: الخنصر يقابل الألف، البنصر يقابل اللام الأولى، الوسطى والسبابة تقابلان اللام الثانية، المشددة، والإبهام يقابل الهاء (التي يجب أن تُرسَم، طبقًا للأصول، على صورتها "المفتوحة")؛ وذاك هو السبب الرئيسي لاستعمال اليد كرمز، ولانتشاره كل هذا الانتشار في جميع الأقطار الإسلامية (حيث يشير سبب ثانوي إلى العدد 5، ومنه اسم "خُمْس" الذي يُطلَق أحيانًا على هذه اليد الرمزية). وبذلك يمكن لنا أن نفهم هذا القول من سفر سيدنا أيوب: "… فيختم على يد كل بشر ليعلَم البشرُ ما صَنَعَه" (أيوب 37: 7)؛ ولنضف بأن هذا لا يعدم صلةً بدور اليد الأساسي في شعائر التبريك والتكريس[4].

"خمس" نموذجي من مصر، مرسومة في وسطه "شجرة الحياة".

من ناحية أخرى، فإن من المعلوم عمومًا وجود تقابُل بين مختلف أجزاء اليد وبين الكواكب؛ وهذا التقابل قد حافظ عليه علم الكف الغربي نفسه، لكنْ بطريقة لم يعد يستطيع أن يرى فيه من خلالها غير مجرد تسميات اتفاقية، في حين أنه، في واقع الأمر، يعقد صلة فعلية بين علم الكف والنجامة. بالإضافة إلى ذلك، فإن كل فلك من أفلاك الكواكب السبعة يقوم عليه واحد من الأنبياء الكبار ويكون منه بمثابة "القطب"؛ والصفات والعلوم التي تعود بالأخص إلى كلٍّ من هؤلاء الأنبياء على علاقة مع التأثير النجمي الموافق. أما جدول أقطاب الأفلاك السبعة فهو التالي:

الفلك

النبي القطب

فلك القمر

سيدنا آدم

فلك عطارد

سيدنا عيسى

فلك الزهرة

سيدنا يوسف

فلك الشمس

سيدنا إدريس

فلك المريخ

سيدنا داود

فلك البرجيس [المشتري]

سيدنا موسى

فلك الكيوان [زحل]

سيدنا إبراهيم

ويختص سيدنا آدم بالفلاحة (راجع سفر التكوين 2: 15: "وأخذ الربُّ الإله الإنسان وجعله في جنة عدن ليفلحها ويحرسها")؛ سيدنا عيسى بالمعارف من رتبة روحية خالصة؛ سيدنا يوسف بالجمال والفنون؛ سيدنا إدريس بالعلوم "الوسيطة"، أي العلوم من رتبة كوسمولوجية ونفسانية؛ سيدنا داود بالحُكم والإمامة؛ سيدنا موسى، الذي يقترن به دومًا أخوه سيدنا هارون، بأمور الدين بوجهيه: الشرع والعبادات؛ سيدنا إبراهيم بالإيمان (الذي بخصوصه يجب الربط بين هذا التقابل مع الفلك السابع وبين ما ذكرناه مؤخرًا بخصوص دانتي، من حيث مقامه في أعلى درجات السلَّم المُسارَري السبع [للتنظيم الهيكلي المعروف في وقته بـ"الإيمان المقدس" Fede Santa الذي يقال إن الشاعر، مؤلِّف الكوميديا الإلهية، كان من رؤسائه، على رتبة قدوش Kadosch، وهي كلمة عبرية تعني "قدوس" أو "مكرَّس"][5]).

رسم مأخوذ من مخطوط وسيطي يمثل الحاج الزاهد وقد بلغ في معراجه "فلك النجوم الثابتة" وأطل منه على "الفلك المحيط"، حيث صار بإمكانه معاينة "المحرك الأول" (ممثلاً بالعجلة) الذي يدير حركة الكون بأسره في الاتجاهات كلها.

بالإضافة إلى ما سبق، يتوزع حول هؤلاء الأنبياء الكبار، على أفلاك الكواكب السبعة، الأنبياء الآخرون المعلومون (أي الواردة أسماؤهم في القرآن الكريم، وعددهم 25) والمجهولون (أي جميع الآخرين، حيث عدد الأنبياء وفقًا لما يورده المأثور هو 124000).

والأسماء الـ99 التي تعبِّر عن الصفات الإلهية موزعة هي الأخرى تبعًا لهذا السباعي: 15 على فلك الشمس، نظرًا لموقعه المركزي، و14 على كلٍّ من الأفلاك الستة الأخرى: 15 + (6 في 14) = 99. وقراءة العلامات على جزء اليد المقابل لأحد الكواكب تدل على نسبة (س/14 أو س/15) اتصاف الفرد بالصفات العائدة لهذا الكوكب؛ وهذه النسبة عينها توافق عددًا مساويًا (س) من الأسماء الإلهية بين الأسماء الخاصة بالفلك الكوكبي المقصود؛ وهذه الأسماء يمكن فيما بعد تعيينها بواسطة حساب هو في الواقع طويل للغاية وشديد التعقيد.

رسم يمثل خطوط اليد وعلاقة أجزائها بالكواكب والبروج.

ولنضف أنه في ناحية المعصم، فوق اليد بحصر المعنى، يتوضع التقابل مع الفلكين الأعليَين، فلك النجوم الثابتة والفلك المحيط، اللذين، مع أفلاك الكواكب السبعة، يُتمان العدد 9[6]. إلى ذلك، تقع في مختلف أجزاء اليد البروج signes du Zodiac الـ12، ذات العلاقة مع الكواكب التي تشغل هذه البروج (برج واحد لكلٍّ من الشمس والقمر، برجان اثنان لكلٍّ من الكواكب الخمسة الأخرى)، وكذلك أشكال علم الرمل[7]؛ إذ إن جميع العلوم النقلية وثيقة الارتباط بعضها ببعض.

مخطوط يبين أشكال علم الرمل في علاقتها مع الطبائع الأربعة والجهات الأربع والحروف.

تدل قراءة اليد اليسرى على طبيعة الفرد، أي على جملة الميول والاستعدادات أو الإمكانات التي تكوِّن بنوع ما صفاته الفطرية. وتعرِّف قراءة اليد اليمنى بصفاته المكتسَبة؛ وهذه تتغير في الواقع تغيرًا مستمرًّا، بحيث إن القيام بدراسة موصولة يحتم إعادة هذه القراءة كل أربعة أشهر. وفترة الشهور الأربعة هذه تؤلف، بالفعل، دورة تامة، بمعنى أنها تفضي للعودة إلى برج يوافق الطبع [العنصر] نفسه الذي جرى الانطلاق منه؛ ومعلوم أن هذا التوافق مع الطبائع [العناصر] يجري بحسب الترتيب المتوالي التالي: نار، تراب، هواء، ماء. فمن الغلط إذن أن يُظن، كما فعل بعضهم، أن الفترة المقصودة لا يجوز أن تكون غير ثلاثة أشهر، لأن فترة الشهور الثلاثة توافق فصلاً فحسب، أي جزءًا من الدورة السنوية، وهي ليست بحدِّ ذاتها دورة تامة.

تبيِّن الدلائل القليلة السابقة، على إيجازها، كيف أن العلم النقلي الناشئ نشأة نظامية يرتبط بالمبادئ من رتبة عقيدية ويتوقف عليها تمامًا؛ ومن شأنها، في الوقت نفسه، أن تُفهم ما سبق لنا أن قلناه مرارًا وتكرارًا من أن علمًا كهذا مُحكم الارتباط بشكل نقلي معين، بحيث إنه غير قابل للاستعمال مطلقًا خارج نطاق الحضارة التي أنشِئ من أجلها على هذا الشكل بعينه. فهاهنا، على سبيل المثال، من شأن الاعتبارات العائدة للأسماء الإلهية والأنبياء – وهي بالدقة الاعتبارات التي يقوم عليها كل ما تبقَّى – ألا تكون قابلة للتطبيق خارج نطاق العالم الإسلامي حصرًا، مثلما أن حساب النيم calcul onomantique، كمثال آخر، المستعمَل إما على حدة وإما كعنصر من عناصر قراءة الطالع في بعض طُرُق النجامة، لا يصح إلا على الأسماء العربية التي لكلٍّ من حروفها قيمة عددية معلومة[8]. فثمة دومًا، في رتبة التطبيقات العَرَضية هذه، مسألة "تكييف" تجعل من المُحال نقل هذه العلوم كما هي من شكل نقلي إلى آخر؛ وذاك، أغلب الظن، واحد من أسباب صعوبة فهمها على مَن ليس عندهم ما يكافئها في حضارتهم، شأن أهل الغرب المُحدَثين[9].

مصر، 18 ذي العقدة 1350 هـ (مولد سيد علي البيومي).

الترجمة عن الفرنسية: ديمتري أڤييرينوس


* Le Voile d’Isis, mai 1932, pp. 289-295 ; repris dans René Guénon, Aperçus sur l’ésotérisme islamique et le Taoïsme, Gallimard, 1973, pp. 68-75.

** فيلسوف فرنسي (1886-1951)، ولد في بلوا (فرنسا) وتوفي بالقاهرة. شُغف بالروحانيات منذ حداثة سنِّه، فدفعه حب الاستطلاع إلى اختبار معظم مدارسها الحديثة، حتى اهتدى أخيرًا إلى تصور متكامل عن وحدة المنقولات الأصيلة في العالم قاطبة، بوصفها تعبيرات متنوعة متفرعة عن "منقول قديم" Tradition Primordiale واحد، فاطمأن إليه وراح، بالتوازي مع حياة باطنية غنية، يكتب فيه المقالات والكتب والرسائل، مؤسِّسًا بذلك لمذهب "نقلي" traditionnaliste مازال أثرُه ساري المفعول حتى يومنا هذا. من مؤلفاته الكثيرة الهامة: الإنسان ومآله بحسب الڤيدنتا، أزمة العالم الحديث، رمزية الصليب، الثالوث الأكبر، لمحات عن المُسارَرة. (المحرِّر)

[1] راجع: ديمتري أڤييرينوس، "موقع المُسارَرة من علم الباطن"، سماوات: http://samawat.org/essays/esotericism_initiation_dna. (المحرِّر)

[2] ما بين معقوفتين […] من إضافة المترجم إلى النص بغية توضيح المقصود. (المحرِّر)

[3] "الفراسة"، من الفعل الثلاثي فَرَسَ، تثبيت النظر وإدراك الباطن من نظر الظاهر؛ ومنه، جاء في الحديث: "اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله". راجع أيضًا: توفيق فهد، الكهانة العربية قبل الإسلام، دار قدمُس، دمشق، طب 1: 2007، ص 271-300. (المحرِّر)

[4] جدير بالذكر أن المُسارَرة ("البيعة" الصوفية) تتم بمنح بركة السلسلة الروحية ("الروح القدس" بالمصطلح المسيحي) للمريد عبر اليد بوضعها إما على يافوخ الرأس أو الوجه، وإما بشبك الأيدي بين الشيخ والمريد (وهذا هو المدلول الروحي للآية 10 من سورة الفتح بخصوص "بيعة الرضوان": "إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله يد الله فوق أيديهم")، وإما بطُرُق أخرى لا مجال هنا لإيرادها. ونضيف هنا، على سبيل الإشارة، أن عدد سلاميات أصابع اليد الواحدة هو 14 (4 + 1 = 5 = عدد أصابع اليد = عدد أركان الإسلام = الطبائع الأربعة + الأثير)، وفي كلا اليدين: 14 في 2 = 28 (8 + 2 = 10 = 5 في 2)، عدد الحروف العربية وحاصل الجمع الثيوصوفي لأعداد قيمتها الإجمالية (5995 = 9 + 5 + 5 + 9) وعدد منازل القمر (راجع: رونيه گينون، "ملحوظة في ملائكيات الأبجدية العربية"، سماوات: http://samawat.org/articles/angelology_arabic_alphabet_guenon)؛ كما أن القيمة العددية لكلمة يد في حساب الجُمَّل تساوي 14 (10 + 4). إلى ذلك، فإن لكلمة وجه القيمة العددية نفسها (6 + 3 + 5)، بما يشير، في سياقنا، إلى الصلة الشعائرية المذكورة بين اليد والوجه، حيث إن عدد عظام الوجه هو كذلك 14. (المحرِّر)

[5] Cf. René Guénon, L’ésotérisme de Dante, Gallimard, 1957, chap. II, pp. 13-14.

[6] وفقًا لكوسمولوجيا كوميديا دانتي ألجياري (1265-1321)، تنطلق النفس الإنسانية من الجحيم (وهي على هيئة مخروط مقلوب، مغروس في نصف كرة الأرض الترابي)، لتعرج صاعدةً، مرورًا بجبل المَطْهَر الواقع في نصف الكرة المائي (وجنة عدن على قمته)، فالأفلاك التسعة (أفلاك الكواكب السبعة + فلك النجوم الثابتة، حيث البروج + الفلك البلوري، حيث المحرك الأول Primum mobile)، وصولاً إلى سماء الفردوس، حيث مرفأ النور الإلهي المركوز في قلب وردة الغبطة السماوية؛ وفي ذروة رؤيا المعراج يُشاهَد الله في الوسط، تحيط به الأفلاك الملائكية التسعة. (المحرِّر)

بنيان الكوسمولوجيا عند دانتي: تنطلق النفس الإنسانية من الجحيم، لتعرج صاعدة، مرورًا بالمطهر، فالأفلاك السماوية التسعة، وصولاً إلى الفردوس.

[7] علم الرمل géomancie من فنون التكهُّن؛ وأساسه الاقتراع بقراءة الأشكال الـ16، المؤلفة من نقاط وشُرَط والناجمة عن "ضرب الرمل" على سطح مستو. راجع: فهد، الكهانة العربية قبل الإسلام، ص 149-152. (المحرِّر)

[8] راجع: "ملحوظة في ملائكيات الأبجدية العربية"، سماوات: http://samawat.org/articles/angelology_arabic_alphabet_guenon. (المحرِّر)

[9] المعطيات التي استفدناها أساسًا لهذه الملحوظات مستقاة من رسائل غير منشورة للشيخ سيد علي نور الدين البيومي، مؤسِّس الطريقة البيومية، الذي لا تزال مخطوطاته حاليًّا في عهدة أخلافه المباشرين.