الأرشيف الشهري: يوليو 2009

القشر واللب – رونيه گينون

القشر واللب*

رونيه گينون، في بيته بالقاهرة، 1950

رونيه گينون**

يعبِّر العنوان أعلاه – وهو عينه عنوان واحدة من رسائل سيدي محيي الدين بن عربي العديدة[1] – تعبيرًا رمزيًّا عن الصلات بين مذهب الظاهر ومذهب الباطن، المشبَّهين، على التوالي، بغلاف الثمرة وجزئها الداخلي، لبابها أو "لوزتها"[2]. أما "القشر" فهو الشريعة، أي الشرع الديني الظاهر الموجَّه إلى الجميع والمجعول بحيث يتَّبعه الجميع، كما يدل على ذلك معنى "الطريق العريض" المتعلق باشتقاق اسمه؛ وأما "اللب" فهو الحقيقة التي، على العكس من الشريعة، ليست في متناول الجميع، بل تخص أولئك القادرين على الكشف عنها تحت المظاهر وعلى بلوغها من خلال الصور الظاهرة التي تحجبها، فتصونها وتسترها في آن معًا[3]. وبحسب رمزية أخرى، يشار أيضًا إلى الشريعة والحقيقة، على التوالي، بـ"الجسم" و"المخ"[4]، اللذين تتطابق الصلات بينهما مع الصلات بين القشر واللب؛ وأغلب الظن أن بالإمكان إيجاد المزيد من الرموز الأخرى المكافئة لتلك.

المقصود هنا، مهما تكن التسمية المعتمَدة، هو دومًا "الظاهر" و"الباطن"، اللذان هما كذلك بطبيعتهما نفسها، وليس بحُكْم أعراف ما أو احتياطات يتخذها افتعالاً – إنْ لم يكن اعتباطًا – أصحابُ العقيدة النقلية. وهذان الظاهر والباطن يمثَّل لهما بمحيط الدائرة ومركزها[5]، الأمر الذي يجيز اعتبارها مقطع الثمرة المذكورة في الرمزية السابقة، في الوقت الذي يُحيل بذلك، من ناحية ثانية، إلى صورة "عجلة الأشياء" التي تشترك فيها المنقولات جميعًا.

وبالفعل، إذا نظرنا في المصطلحين المقصودين بالمعنى الكلِّي، من غير التقيُّد بتطبيقهما الأشيع المخصوص على شكل نقلي بعينه، يجوز القول بأن الشريعة، "الطريق العريض" الذي يسلكه جميع الموجودات، ليست غير ما يسمِّيه المنقول الشرقي الأقصى "تيار الأشكال"، بينما الحقيقة – الحق الواحد القيوم – تقيم في "الوسط اللامتغيِّر"[6]. وللعبور من الأول إلى الثاني، أي من المحيط إلى المركز، لا بدَّ من اتباع أحد الأشعة: إنها الطريقة، أي "الدرب"، الطريق الضيق الذي لا تتبعه إلا ثلة صغيرة[7]. ثمة، إلى ذلك، طُرُق كثيرة، كلها أشعة صادرة من المحيط مأخوذة في الاتجاه الجاذب إلى المركز، بما أن المقصود هو الانطلاق من كثرة التجلِّي ذهابًا إلى وحدة المبدأ: كل طريقة، إذ تنطلق من نقطة بعينها من نقاط المحيط، مناسِبة تخصيصًا للموجودات الواقعة على هذه النقطة؛ لكن جميع الطُّرُق، مهما تكن نقطةُ انطلاقها، تنحو على حدٍّ سواء نحو نقطة واحدة[8]، فتؤدي جميعًا إلى المركز، وتعيد بذلك الموجوداتِ التي تسلكها إلى البساطة الذاتية لـ"الحال القديمة" état primordial.

رمز "عجلة الأشياء": الدائرة والأشعة المنطلقة من محيطها إلى المركز

وبالفعل فإن الموجودات، مادامت موجودة حاليًّا في الكثرة، مجبَرة على الانطلاق من هناك طلبًا للتحقُّق، أيًّا كان؛ لكن هذه الكثرة، في الوقت نفسه، عند غالبية هذه الموجودات، هي العائق الذي يوقفها ويحتجزها: فالمظاهر المتنوعة والمتغيرة تحول بينها وبين رؤية الحق، إذا جازت العبارة، مثلما يحول قشرُ الثمرة دون رؤية لبِّها؛ وهذا "اللب" لا يستطيع بلوغه غير القادرين على اختراق "القشر"، أي رؤية المبدأ من خلال التجلِّي، بل حتى عدم رؤية سواه في الأشياء كلها، ذلك أن التجلِّي نفسه ككل لا يعود حينذاك سوى جملة من التعبيرات الرمزية [عن المبدأ].

إن تطبيق هذه الرؤية على مذهب الظاهر ومذهب الباطن، مفهومَين بمعناهما العادي، أي بوصفهما وجهَي عقيدة نقلية واحدة، يصير إذ ذاك سهل الإجراء: فهناك أيضًا تستر الصورُ الظاهرةُ الحقيقةَ العميقةَ عن أعين العوام، بينما تُظهرها بالعكس لأعين الخواص، الذين ما يكون عند سواهم عائقًا أو حدًّا يصير بذلك عندهم نقطة ارتكاز ووسيلة تحقُّق. ولا بدَّ هنا من الفهم حق الفهم أن هذا الفارق ناجم مباشرة وبالضرورة عن طبيعة الموجودات نفسها، عن الإمكانات والاستعدادات التي يحملها كل واحد في نفسه، بحيث إن الوجه الظاهر من العقيدة يؤدي بذلك دومًا الدور الذي ينبغي له أن يؤديه بالضبط لدى كل واحد، مانحًا الذين لا يستطيعون أن يسلكوا شوطًا أبعد كلَّ ما في طاقتهم أن يحصلوا عليه في حالتهم الحالية، مزوِّدًا في الوقت نفسه الذين يتخطونه بـ"الحوامل" التي يمكن لها، على كونها ليست أبدًا ذات ضرورة ماسة، بما أنها عَرَضية أصلاً، أن تعينهم معونة جمَّة على التقدم في طريق الباطن، والتي تكون المصاعب من دونها من الهول، في بعض الحالات، بحيث تكافئ في الواقع استحالة حقيقية.

لا بدَّ، بهذا الصدد، من ملاحظة أن الشرع الظاهر يتخذ، عند العدد الأكبر من البشر الذين يكتفون به حتمًا، خاصية الإرشاد أكثر منها خاصية الحد: إنه دومًا رباط، لكنه "رباط" يحول بينهم وبين الضلال أو الضياع؛ فمن دون هذا الشرع الذي يقضي عليهم بسلوك طريق بعينها، لا تقل حظوظهم في بلوغ المركز وحسب، بل يعرِّضون أنفسهم لخطر النأي عنه نأيًا مطلقًا، في حين أن الحركة الدائرية تبقيهم على مسافة ثابتة منه على الأقل[9]. ومنه، فإن الذين ليست في مقدورهم مشاهدةُ النور مباشرة يحصلون على الأقل على انعكاس له ومشاركة فيه؛ وبذلك يظلون مرتبطين على نحو ما بالمبدأ، في حين لا وعي فعليًّا لديهم به وليس بوسعهم أن يكون لديهم هذا الوعي.

وبالفعل، فإن محيط الدائرة لا وجود له من غير المركز، الذي يصدر عنه هذا المحيط برمته في الواقع؛ وإذا صح أن الموجودات المشدودة إلى المحيط لا ترى المركز بتاتًا، ولا ترى الأشعة حتى، يصح أيضًا أن كلاً منها يقف بذلك حتمًا على طرف شعاع، طرفه الآخر هو المركز نفسه. غير أن القشر هنا هو الذي يتوسط بين الطرفين، فيستر كل ما هو موجود في الباطن، في حين أن مَن يخترقه، واعيًا بذلك الشعاع المقابل لموقعه الخاص على المحيط، ينعتق من الدوران على المحيط حتى أجل غير محدد، فلا يبقى عليه سوى أن يتبع "شعاعه" ليذهب إلى المركز؛ وهذا الشعاع هو الطريقة التي بواسطتها، منطلِقًا من الشريعة، سيبلغ الحقيقة.

إلى ذلك، لا بدَّ من التدقيق بأنه حالما يتم للمرء ولوجُ القشر يجد نفسه في مجال الباطن، حيث إن هذا الولوج، من موقع الموجود بالنسبة إلى القشر نفسه، هو نوع من "الانقلاب"، كناية عن العبور من الظاهر إلى الباطن؛ لا بل إن تسمية "مذهب الباطن"، بمعنى ما، تناسب بالأحرى الطريقة، لأن الحقيقة، في واقع الأمر، تتعالى عن التمييز بين مذهب الظاهر ومذهب الباطن، الذي ينطوي على مقارنة وترابُط: يظهر المركز فعلاً بوصفه أبطن النقاط جميعًا، ولكن حالما يتم بلوغُه لا يعود من مجال ثمة لظاهر ولا لباطن، حيث يتلاشى عندئذٍ كل تمييز عَرَضي، منحلاً في وحدة المبدأ. ولهذا فإن الله، كما أنه "هو الأول والآخِر"[10]، هو كذلك "الظاهر والباطن"[11]، من حيث إن لا موجود في الخلق يمكن له أن يوجد خارج الحق، وفيه وحده محتواة كل حقِّية، لأنه هو ذاته الحق المطلق والحقيقة الجامعة.

مصر، 8 رمضان 1349 هـ.

المترجم عن الفرنسية: ديمتري أڤييرينوس


* Le Voile d’Isis, mars 1931, pp. 145-150 ; repris dans René Guénon, Aperçus sur l’ésotérisme islamique et le Taoïsme, Gallimard, 1973, pp. 29-36.

** فيلسوف فرنسي (1886-1951)، ولد في بلوا (فرنسا) وتوفي بالقاهرة. شُغف منذ حداثة سنِّه بالروحانيات، فدفعه الفضولُ إلى اختبار العديد من مدارسها الحديثة، حتى اهتدى أخيرًا إلى تصور متكامل عن وحدة المأثورات "الدينية" الأصيلة في العالم قاطبة، بوصفها تعبيرات متنوعة متفرعة عن "منقول قديم" Tradition Primordiale واحد، فاطمأن إليه وراح، بالتوازي مع حياة باطنية غنية، يكتب فيه المقالات والكتب والرسائل، مؤسِّسًا بذلك لمذهب "نقلي" traditionnaliste مازال أثرُه ساريًا حتى يومنا هذا. من مؤلفاته العديدة الهامة: الإنسان ومآله بحسب الڤيدنتا، أزمة العالم الحديث، رمزية الصليب، الثالوث الأكبر، لمحات عن المُسارَرة.

[1] لهذه الرسالة عنوان آخر هو: كتاب القشر واللب والجسم؛ راجع: عثمان يحيى، مؤلفات ابن عربي: تاريخها وتصنيفها، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2001؛ ص 513. (المحرِّر)

[2] لنُشِرْ إشارة عَرَضية إلى أن رمز الثمرة على صلة بـ"بيضة العالم"، كما وبالقلب.

[3] بالإمكان ملاحظة أن دور الصور الظاهرة يتصل بالمعنى المزدوج لكلمة "كشف" révélation، بما أنها تُظهر العقيدة اللبِّية، الحقيقة الواحدة، وتحجبها في الوقت نفسه، مثلما يفعل الكلام حتمًا بالفكر الذي يعبِّر عنه؛ وما يصح على الكلام، بهذا الصدد، يصح كذلك على كل تعبير صوري آخر. [يشير گينون هنا إلى "المعنى المزدوج" لكلمة revelatio اللاتينية (من فعل revelare، "كَشَفَ"): re، "ثانية"، velum، "حجاب"؛ بذا يكون "الكشف" عن أي شيء هو "حَجْبه ثانيةً". (المترجم)]

[4] فلنتذكر هنا "المخ الجوهراني" substantifique moelle الوارد عند [فرانسوا] رابليه، الذي يمثل هو الآخر مدلولاً باطنًا ومستورًا.

[5] راجع: رونيه گينون، "مذهب الباطن في الإسلام"، سماوات: http://samawat.org/articles/islamic_esotericism_guenon. (المحرِّر)

[6] لا بدَّ من الملاحظة، بصدد المنقول الشرقي الأقصى، بأننا نقع فيه على المكافئين الصريحين للغاية لهذين المصطلحين، لا بوصفهما الوجهين الظاهر والباطن للعقيدة نفسها، بل كتعليمين منفصلين، على الأقل منذ عصر كونفوشيوس ولاو-تسُه: بالإمكان القول بالفعل، بكل دقة، بأن الكونفوشية تقابل الشريعة، بينما تقابل الطاويةُ الحقيقة. [راجع أيضًا: رونيه گينون، "الطاوية والكونفوشية"، سماوات: http://samawat.org/essays/taoism_confucianism_guenon. (المحرِّر)]

[7] تحوي كلمتا "شريعة" و"طريقة" كلتاهما فكرة "السلوك" الأخرى، أي الحركة (وتجدر ملاحظة رمزية الحركة الدائرية للأولى والحركة المستقيمة للثانية)؛ ثمة بالفعل تغيُّر وكثرة في الحالتين، حيث لا بدَّ للأولى من التكيف مع تنوع الشروط الخارجية، بينما لا بدَّ للثانية من التكيف مع تنوع الطبائع الفردية. وحده الكائن الذي بلغ الحقيقة فعليًّا يتصف بذلك بوحدتها وقيوميتها.

[8] يمثَّل لهذا التلاقي بتلاقي "قِبْلات" [جمع قِبْلة] جميع الأمكنة في الكعبة الشريفة – "بيت الله الحرام" – ذات الشكل المكعب (صورة من صور الاستقرار)، التي تشغل مركز دائرة هي المقطع الأرضي (البشري) من كرة الكون الكلِّي.

[9] ولنُضِفْ بأن هذا الشرع يجب النظر إليه في الحالة السوية كتطبيق أو تخصيص بشري للقانون الكوني نفسه الذي، بالمثل، يربط التجلِّي كله بالمبدأ، كما شرحنا ذلك في غير مكان بخصوص مغزى "شريعة مَنو" في العقيدة الهندوسية.

[10] أي كما في رمز الألف alpha والياء ôméga، المبدأ والمنتهى. [راجع: رؤيا يوحنا 22: 13، حيث جاء على لسان الملاك الذي أراه الرؤيا: "أنا الألف والياء والأول والآخِر والبدء والنهاية". (المحرِّر)]

[11] [سورة الحديد 3.] المقصود أنه "الظاهر" (بالنسبة إلى التجلِّي) و"الباطن" (في ذاته)، الأمر الذي يقابل أيضًا وجهتَي نظر الشريعة (من رتبة اجتماعية ودينية) والحقيقة (من رتبة محض عقلية وميتافيزيقية)، مع أنه يجوز القول في وجهة النظر الثانية بأنها تتعالى عن جميع وجهات النظر، وكأنها تحتويها جميعًا في ذاتها على الإجمال.

الرحمن والشيطان (فراس السواح) – ديمتري أڤييرينوس

الرحمن والشيطان

الثنوية الكونية ولاهوت التاريخ في الديانات المشرقية

ديمتري أڤييرينوس

"يا عبدُ، إذا رأيتَني في الضدين رؤية
واحدة فقد اصطفيتُك لنفسي."
[1]
محمد بن عبد الجبار النِّفَّري

التوفر على دراسة مؤلفات فراس السواح – الأستاذ والصديق العزيز – عملية محفوفة بالمتعة وبشيء كثير من المشقة: بالمتعة، لأن الإبحار في عوالم الأديان والأساطير إبحار في عالم النفس الرحب اللامتناهي – إذ إن الدافع الديني، كما برهن فراس السواح بكل تماسُك في كتابه القيم دين الإنسان[2]، دافع أصيل في النفس الإنسانية التي تتمخض عن الأساطير والشعائر والعقائد، دافع لا يقل أصالة عن الجوع والعطش وسائر الدوافع الطبيعية، بل يفوقها بعد بلوغ مرحلة معينة من النضج الداخلي؛ وبالمشقة، لأن السواح لا يهوِّن على القارئ مهمته، بل إنه، باعتماده المقترَب الفينومينولوجي الذي يتوخى الموضوعية والحياد الإيجابي وينأى، قدر المستطاع، عن أحكام القيمة، يتخذ موقعًا أبعد ما يكون عن تقديم "وجبات فكرية" جاهزة للقارئ، بل يترك له حرية التفكر والاستنتاج ويتوقع منه أن يعيد إبداع المادة الفكرية في عقله ونفسه ليخرج من قراءته إنسانًا أغنى وأنضج.

* * *

البحث في الثنوية الكونية بحث مثلث: بحث في الخبرة الدينية بعامة، كانعكاس لعلاقة الإنسان الجوهرية مع الوجود – أولاً؛ وبحث في فهم الإنسان للدينامية المحرِّكة للتاريخ – ثانيًا؛ وبحث في أصل الخير والشر في النفس البشرية وفي كيفية تعامُل الإنسان مع جدلية الجبرية والتقدير المسبق، من جانب، والقدرية الحرة وطلب الكمال، من جانب آخر – ثالثًا. تلكم هي مدارات بحث فراس السواح في كتابه الأنيق الرحمن والشيطان[3]. والثنوية الكونية، كما يعرِّف بها المؤلف، هي

[…] المعتقد الذي يقول بقيام مبدأين أو أصلين متناقضين وراء مظاهر الوجود وصيرورة الزمن والتاريخ. […] شيمتهما الصراع من أجل أن يلغي أحدُهما الآخر. وصراعهما يدفع عجلة الزمن وتاريخ العالم […]. (ص 11)

ونجد في تضاعيف الكتاب استعراضًا لنماذج مختلفة من هذه الثنوية: فهناك الثنوية الكوسمولوجية، أو الكونية بحصر المعنى، وهي عبارة عن الاعتقاد بأن العالم محكوم بعلَّتين أصليتين، تتشاركان الهيمنة على العالم أو تتناوبان عليها (ثنوية "أفقية")؛ والثنوية الميتافيزيقية أو الإلهية التي تقول بوجود حقٍّ يتعالى عن الخلق (ثنوية "شاقولية")؛ والثنوية الأنثروپولوجية التي تعلل الأفعال البشرية إما بثنائية النفس والجسد وإما بوجود مبدأين أصليين يتصارعان في النفس البشرية (العقل والأهواء)، يترجَمان في سياق الحياة البشرية إلى حرية وجبرية (التخيير والتسيير)؛ والثنوية الأخلاقية التي تجعل طاعة القانون الإلهي أو الغيرية الأخلاقية على النقيض من المعصية أو الأنانية[4].

merciful_satan

ومن البديهي أن هذه الثنويات على علاقة، معقدة أحيانًا، بعضها ببعض: فالثنوية الأنثروپولوجية التي تضع النفس في مقابل الجسد هي، في الآن نفسه، ثنوية ميتافيزيقية تضع الحق في مقابل الخلق؛ ولها نتائج كوسمولوجية أيضًا: إذ إن التمييز بين مبدأين في النفس يُخلَعُ على الكون في تصور مبدأين إلهيين للخير والشر، ليعاد امتصاصُه في النفس من بعدُ، فينعكس أخلاقًا تنصاع لواحد من هذين المبدأين (ثنوية أخلاقية).

* * *

ينهض فراس السواح في الفصل الأول – مفتاح الكتاب – لتصنيف مُحْكم لأنماط الثنوية الكوسمولوجية إلى ثلاثة: مطلقة (مثالها المانوية)، وجذرية (الزرادشتية)، ومعتدلة (الغنوصية). وهو يَسِمُ المعتقدين الإسلامي والمسيحي بـ"الثنوية الأخلاقية"، حيث لا يطال سلطان الشيطان إلا نفس الإنسان وحدها (ص 12)؛ كما يعرِّج لمامًا على مفهوم القطبية الكوسمولوجية، كما تمثِّل له العقيدة التاوية الصينية، حيث لا صراع بين حدَّي الثنوية (ينْ/يَنْگ)، ولا دلالة "أخلاقية" لهما، ولا امتياز لأحدهما على الآخر، بل تداخُل بينهما وتكامُل وتعاضُد، بما يشبه قطبَي المغناطيس (ص 13).

* * *

في فصل "المفهوم الديني للتاريخ" (الفصل الثاني) يرى السواح أن

[…] معنى تاريخ الكون والإنسان [دينيًّا] يكمن خارج هذا التاريخ، لا في جدليته الداخلية الخاصة، لأن هذا التاريخ تسيِّره قدرة عُلوية توجِّهه وفق غايات خبيئة على الأفهام آنًا وبادية لها آنًا آخر. (ص 17)

وهو يميِّز في تاريخ الدين بين ثلاثة أشكال اعتقادية رئيسية، وهي: المعتقد الربوبي، أو التعالي الإلهي، الذي أساسه الفصل التام بين الإله وخلقه والذي يفضي إلى مفهوم مفتوح للتاريخ – ونموذجه ديانات بلاد الرافدين، حيث يفتقر معنى التاريخ إلى مفهوم واضح عن العدالة الإلهية وعن دور الإنسان في خطة الخلاص (ص 23-37)؛ والمعتقد الحلولي، أو التوحيدي الوجودي، الذي "يذيب الفوارق" بين الإله والإنسان من خلال "لامركزية" الألوهة، بكل ما ينجم عنه من تقديم للمعرفة الباطنية على العبادة وشعائرها – ويتخذ السواح مثالاً عليه الهندوسية التي يسير التاريخ، وفقًا لها، في حركة دورية مقايسة لدورات أو "حيوات" الذات الإنسانية الفردية (آتمن) في انعتاقها المتدرج من المركزية واتحادها أخيرًا بالمطلق (برهمن) (ص 37-51)؛ والمعتقد الألوهي، الذي يمثل حلاً وسطًا بين المعتقدين السابقين – ويمثِّل له بالزرادشتية التي يظهر فيها مفهوم دينامي للتاريخ يكون فيه للأخلاق والحرية والمسؤولية الإنسانية دور حاسم في تعيُّن الوجود وصيرورة الكون (ص 51-54).

* * *

ربما كان من الممكن تقصِّي بذور الثنوية في الديانة المصرية القديمة (الفصل الثالث). فللإله رع في الديانة المصرية الشمسية، حيث الشمس مبدأ الحياة والحق، خصم مبين هو الثعبان الضخم أپوفيس الذي يمثِّل لمبدأ الظلمة. وفي أسطورة أوزيريس (ص 70-72)، يقوم إله الشر سِتْ بقتل أوزيريس ويكيد لكلٍّ من زوجه إيزيس وولدهما حورس ("الصقر"). غير أن بعض قدماء المصريين اعتبر رع (أو أي إله خيِّر عمومًا) بمثابة الإله الخالق الكوني، فيما اعتبر بعضهم الآخر سِتْ إلهًا عظيمًا لا يخلو من الخير من بعض الجوانب، فأقام له دور العبادة (ص 75). مهما يكن من أمر، فقد كان سِتْ أخا أوزيريس الشقيق، الأمر الذي يشير، ميثولوجيًّا، إلى وحدة أصلية انبثق عنها كلاهما.

بالمثل، تحفل أساطير الشرق القديم بمشاهد الصراع بين الآلهة، من ناحية، وبين المردة أو الوحوش أو الشياطين، من ناحية ثانية. فالميثولوجيا البابلية، على سبيل المثال، تصف الصراع الذي دار بين مردوخ وتعامة (ثنائية كون/عَماء)؛ ومَشاهد تلك الدراما الكونية كافة تشي بنوع من الثنوية، غير أنها ليست متبلورة تمامًا بعدُ، حيث القوى المتناوئة ينبثق بعضُها من بعض أو تربط فيما بينها صلة نَسَب، الأمر الذي يشير إلى صدورها جميعًا عن أصل واحد.

زبدة القول إن هذه الديانات القديمة، وإنْ كانت قد بلورت شكلاً من أشكال الثنوية، تمثَّل عمليًّا في الإعلاء من شأن الأخلاق الفردية في تعيين مصير الفرد والحساب الذي يلقاه في الآخرة، إلا أنها لم تصل به إلى نهاياته المنطقية: ثنوية جذرية وثنوية أخلاقية تامة (ص 75-76).

* * *

تختلف الثنوية الزرادشتية عن بقية التيارات السابقة بطابعها المنهجي الذي يتلازم فيه مفهوما الوحدانية والثنوية (ص 82). وفي هذه الديانة الراقية نشهد "ميلاد الشيطان" (الفصل الرابع): ففيها يدور كل ما هو خيِّر حول الإله الأعظم أهورا مزدا (أورمَزد)، مبدأ الحق، بينما يدور كل ما هو شرير حول أهرا منيو (أهريمن)، قوة الباطل؛ وفيها نرى قوى الخير وقوى الشر تصطف متقابلةً في تناظُر يكاد أن يكون تامًّا. والروح الخيِّر والروح الشرير كلاهما أصلي في الخلق، ولا يحقق "كسر التناظر" إلا اليقين بأن أورمَزد هو الأقوى وبأن أهريمن سوف يُهزَم في مآل تاريخ الكون والإنسان.

غير أن هذه الصورة هي التي يمكن استظهارها بالاستناد إلى أدبيات الأڤستا، المتأخرة نسبيًّا؛ أما أناشيد الگاتها، أقدم النصوص الزرادشتية التي وصلتنا، فالصورة فيها ليست على هذا القدر من الوضوح: التناظر فيها أقل كمالاً، وليس من المؤكد أن الروح الشرير مستقل عن أورمَزد ومساو له في الأبدية. ففي إحدى نصوص الگاتها، يَردُ ذكرُ الروح الخيِّر (سپينتا منيو) والروح الشرير (أهرا منيو) على أنهما "توأمان" يتنافسان منذ البداية، "يختار" أحدهما الحق فيما "يختار" الآخر الباطل؛ وهذا، بنظر السواح، دليل على أن الروحين صدرا عن مبدأ أصلي واحد وأن الشرير صار شريرًا بمحض اختياره، و"الاختيار هو جوهر الأخلاق" (ص 83). وعلى كل حال، فإن الروح الشرير ليس مناوئًا لأورمَزد مباشرة، بل للروح الخيِّر. فأغلب الظن أن أورمَزد كان في الأصل إلهًا مطلقًا، متعاليًا عن التضاد.

ولقد أتت الزرادشتية بعدد من المفاهيم الأصيلة في تاريخ الدين، أهمها (ص 98-101):

  1. المفهوم الدينامي التطوري للتاريخ
  2. الطبيعة الأخلاقية للوجود ودور الأخلاق في تطهير النفس
  3. الشراكة بين الألوهة والإنسان وتعاونهما على إصلاح العالم
  4. وحدانية الإله
  5. أصل الشر وفكرة الشيطان
  6. حرية الإنسان ومسؤوليته
  7. مفهوم "الإنسانية" كحركة جماعية في التاريخ
  8. مفهوم المخلِّص (المسيائية)
  9. مصير الروح
  10. نهاية الزمن وتجديد التاريخ

ولا تزال مفاعيل هذه المفاهيم سارية في حياة البشر الدينية إلى يوم الناس هذا.

* * *

تظهر التصوراتُ الثنوية في اليهودية (الفصل الخامس) في القلب من مفهوم الألوهة نفسه، الأمر الذي لم يؤدِّ إلى تمايُز مبدأ واضح يمثِّل للشر وإلى تبلوره، بل فتح الباب على إشكاليتَي "التوحيد" و"الأخلاق" اللتين لم يتوصل الفكر التوراتي إلى حلِّهما إبان تدوين أسفار العهد القديم القانونية، التي يُكثِر فراس السواح من إيراد نصوص مستقاة منها تأييدًا لوجهة نظره. فالتوحيد التوراتي، في أحسن الأحوال، "وحدانية عبادة"، على حدِّ اصطلاح السواح، أي

[…] شكل من أشكال التعددية […] يتميز بعبادة إله واحد والإخلاص له دون بقية الآلهة التي لا يُنكَر وجودُها، وإنما تُستبعَد من الحياة الدينية للجماعة لصالح ذلك الإله المعبود (ص 104)،

وليس تنزيهًا خالصًا لمفهوم الألوهة، بوصفها "العلَّة الأولى والمآل الأخير"، بما يؤسِّس لمنظومة أخلاقية مُحْكمة. ومن هنا "الإشكالية الأخلاقية" التي تتبدى في سِيَر حياة "المختارين" الذين أسند إليهم الربُّ أدوارًا مهمة في حياة الجماعة:

إن عدم توصُّل إله التوراة إلى موقف متسق من مسألة الأخلاق، سواء في ما يتعلق بسلوكه الخاص أم بمطلبه الأساسي من شعبه، قد جعل الشخصياتِ الرئيسيةَ في الرواية التوراتية تسلك بدوافع من محاكماتها الآنية، دون الاستناد إلى أية مرجعية أخلاقية. (ص 123)

غير أن هذا لم يَحُلْ دون ظهور الشيطان على حلبة دراما الشعب اليهودي، "رغم ضآلة دوره وقلة حيلته"، كشريك ليهوه، تارة، وكأداة منفذة لرغباته، طورًا (ص 128). وقل الشيء نفسه عن "لاهوت الملائكة" المتبلور في أسفار التوراة المتأخرة بفعل التأثيرات الرافدينية والفارسية:

[…] ما يميِّز مفهوم الملائكة في التوراة عن مفهوم الملائكة الفارسي هو أن الملائكة التوراتية ليست كائنات نورانية خيِّرة تقف في وجه الشياطين وتكافح الشر في العالم […]، بل هي البطانة الخاصة التي تحيط بيهوه الملك، وتحمل عرشه كلما زار الأرض، وتنفِّذ ما يوكل إليها من مهمات: فمنها للمهمات الخيِّرة ومنها للمهمات الشريرة، وغالبًا ما يختلط الفريقان حتى يصعب التمييز بين ملائكة النور وملائكة الظلام. (ص 134)

من هنا وصف السواح للمعتقد التوراتي بأنه "زرادشتية مقلوبة على رأسها" (ص 153)، تختص اليهودية وفقًا له بالإله الشمولي، وترسم تاريخ الكون، ليس كنهاية للزمن الدنيوي بانتصار قوى الخير، كما في الزرادشتية، بل كنهاية لتاريخ الشعب اليهودي حصرًا بتتويجه سيدًا على الأمم كافة وممثِّلاً ليهوه على الأرض. وبذلك يفقد الصراع الأخلاقي بين الخير والشر غائيَّته الميتافيزيقية، ويعدم صياغةَ تصورات أخروية ناضجة عن البعث والحساب (ص 150-152)، كالتي تجلَّت لاحقًا في كلٍّ من المسيحية والإسلام، اللذين يفصِّل المؤلف في عرضهما في الفصلين العاشر والحادي عشر (الأخير) في سبك أخاذ، بما يتسامى بالطبيعة البشرية للإنسان، فردًا وجماعة، من حالة السقوط من النعمة الإلهية إلى الحالة الفردوسية البدئية[5].

* * *

إذا كانت أسفار العهد القديم القانونية تمثِّل، بالمعنى الرمزي التأويلي، خلاصة لتطور البشرية الوئيد، منذ بداياتها البهيمية حتى بلوغها عتبة التوحيد والاهتداء إلى "فكرة الله" المنزَّه في أسفار الأنبياء (ص 104)، فإن احتكاك اليهود بالتراث الروحي للأمم الأخرى في العصر الهلنستي أدى إلى "ثورة دينية صامتة" أبدعت، من داخل الديانة اليهودية، فكرًا رؤيويًّا جديدًا استمر من حيث توقفتْ أسفار الأنبياء واستنفد إمكاناتها التأويلية، ممهدًا للطفرة المسيحية اللاحقة.

ولقد صيغ هذا الفكر في النصوص التي عُرفتْ بالأسفار "المنحولة" (أي المنسوبة إلى غير كاتبها الحقيقي) أو الأسفار "غير القانونية"، التي يتوفر السواح على دراسة نماذج لها ويورد منها مقاطع مطولة في الفصل السادس من كتابه، مثل: سفر أخنوخ الأول وسفر عزرا الرابع وكتاب اليوبيليات ووصايا الأسباط الإثني عشر ونصوص قمران (مخطوطات البحر الميت) وسفر أسرار أخنوخ (أخنوخ الثاني) وكتاب حياة آدم والهاجاده (أسفار التلمود القصصية). وأهم الأفكار الجديدة التي أغنت هذه الأسفارُ بها الإيديولوجيا التوراتية (ص 156-157)، بما يتقاطع مع إضافات الزرادشتية إلى الفكر الديني العالمي، هي:

  1. مشكلة الشر ولاهوت الشيطان الكوني
  2. مشكلة الأخلاق والمسؤولية
  3. التوحيد (في مقابل "وحدانية العبادة")
  4. التاريخ الدينامي القائم على جدلية الخير والشر والارتقاء بالوجود
  5. الأخروية والمسيائية
  6. مفهوم "الإنسانية" (في مقابل مفهوم "الشعب المختار")

* * *

لقد أجمعتْ العقائد الغنوصية (الفصل السابع)، بالتساوق مع المسيحية الباطنية (ولاسيما في الإنجيل الرابع، حيث يصح الكلام على "ثنوية يوحناوية" تصف الشيطان بـ"أمير هذا العالم")، على نَسْخ "العهد القديم" بين يهوه وبني إسرائيل، جزئيًّا على الأقل، وعلى تعديل جذري لقصة التكوين التوراتية (هبوط صوفيا من عالم الأفلاك الروحانية – "الإيونات" – وإنجابها ملائكة المادة – "الأرخونات" – الذين خلقوا العالم)، فأسَّست لـ"عهد جديد" بين الإله الحق وبين بني الإنسان قاطبة (ص 208-211).

ويعود "اعتدال" الثنوية الغنوصية إلى أن الثنوية فيها طارئة على الوجود، وليست أصلية في الطبيعة الإلهية المحضة؛ إذ إنه، في المنظور الغنوصي، لا توجد صلة مباشرة بين الله (الآب الأعلى) وبين العالم: فالقدرات الدنيا والعمياء – ويهوه، "صانع العالم" أو "أميره"، في عِدادها – التي صنعت العالم مباشرة وتسلَّطت عليه (ص 204)، مع أنها من أصل إلهي، فإنها لا تعرف الله، بل "تقاومه" (= شيطان)، وتتسلط ظلمًا على النفوس، حتى مجيء نبيٍّ مخلِّص يأخذ على عاتقه التغلب عليها من أجل تخليص النفوس عن طريق الغنوص ("المعرفة") الذي هو

[…] فعالية روحانية تقود إلى معرفة الأسرار الإلهية عبر تجربة باطنية تقود إلى الكشف والاستنارة. […] هذه المعرفة هي وحدها الكفيلة بتحرير الروح الحبيسة في إطار الجسد المادي والعالم المادي الأوسع، لتعود إلى العالم النوراني الأسمى الذي صدرت عنه. (ص 204)

وهذا النوع من الثنوية، التي يتقابل فيها قطبا الله والعالم (ثنوية "شاقولية")، يختلف عن الثنوية الزرادشتية "الأفقية" (حيث العالم صنعة الله المباشرة وخيِّر إجمالاً، لكن مبدأ الشر يتسلل إليه ويدخل في صراع مع مبدأ الخير، حتى ينتصر الخير أخيرًا)، ويختلف كذلك عن الثنوية المانوية المطلقة (الفصل الثامن) التي ابتعدت عن الثنوية الغنوصية حصرًا، بحيث إن التضاد فيها لم يعد بين الله والعالم، بل بالحري بين الله والمادة (ص 230). فالعالم، بنظر ماني، الذي عدَّل الغنوص مستلهمًا الثنويتين الفلسفية (روح/مادة) والزرادشتية معًا، نظام وَضَعَه الإلهُ من أجل تمكين النفس الإنسانية من الخلاص عن طريق المعرفة حصرًا.

* * *

ملاحظتنا "الفنية" الطفيفة على كتاب السواح، بهذا الصدد، أنه خصَّ الثنوية الغنوصية بفصل من الكتاب صغير نسبيًّا بعنوان "يهوه: شيطان الغنوصية" مستقل عن فصل "الشيطان في اللاهوت المسيحي". فربما كان من الأجدى، على الصعيد المعرفي، إخراج دراسة الغنوص من مجال تاريخ الديانات العام وإدراجه في مبحث تاريخ اللاهوت المسيحي. ذلك أن النظرية القائلة بأن الغنوص عبارة عن جملة من الهرطقات (الزندقات) المسيحية وبأنه كان قبلها تيارًا دينيًّا مستقلاً لم تجد لها حتى الآن سندًا مقنعًا؛ إذ لم يعثر الباحثون حتى الآن على نصٍّ غنوصي واحد سابق للمسيحية، وأقدم الغنوصيين المعروفين كانوا جميعًا مسيحيين، ترعرعوا في الوعاء الثقافي والروحي للمسيحية، باعتبارها بوتقةً عامةً انصهر فيها سائر التياراتُ الدينية الشائعة في القرون الأولى بعد المسيح. وفي رأينا أن تعاليم يسوع الأصلية التي تشكِّل باطن المسيحية لا يصح تأويلُها وفهمُها إلا في ضوء الغنوص[6].

* * *

يبقى أن نقول إن فراس السواح مفكر سوري فذ يقف في طليعة المعرِّفين بأعماق الخبرة الدينية والروحية – الواحدة في الجوهر – في العالم العربي، إن لم نقل إنه من الثلة النادرة التي تجاهد في هذا الميدان وحدها[7]. وهذا التكريم الذي نشارك فيه اليوم لا يرقى إلى "تكريمه" الفعلي، المتمثل في إسهامه في التنشئة الفكرية لجيل جديد خال من أدواء الانغلاق الفكري والتعصب والتحزب والاعتقاد باحتكار الحقيقة المطلقة والنجاة إلخ.

فراس السواح، بلا ريب، رائد من رواد الانفتاح والمحبة في سورية ودنيا العرب.


[1] يكتفي السواح بهذه العبارة وحدها (كتاب المخاطبات، فقرة 26) ليختم على كتابه في "الثنوية" الكونية!

[2] راجع: فراس السواح، دين الإنسان: بحث في ماهية الدين ومنشأ الدافع الديني، دار علاء الدين، دمشق، طب 1: 1994.

[3] فراس السواح، الرحمن والشيطان: الثنوية الكونية ولاهوت التاريخ في الديانات المشرقية، دار علاء الدين، دمشق، طب 1: 2000. وقد ألقِيتْ المداخلة التي شكلت نواة هذه القراءة في ندوة تكريم فراس السواح في "رابطة الخريجين الجامعيين"، حمص (سورية)، 25/10/2003.

[4] تبقى الثنوية الإپستمولوجية (أو الخاصة بنظرية المعرفة) التي تحيل على المعرفة بوصفها تتوقف على مقولتين للوجود: الذات والموضوع؛ وهذه لم يتطرق إليها الكاتب مباشرة نظرًا لتناوُله الثنوية في نطاق الأديان المشرقية حصرًا.

[5] لن نتطرق في هذه القراءة إلى ما جاء في هذين الفصلين، تاركين للقارئ مفاجأة التذوق الماتع، مشيرين فقط إلى الجهد الكبير المبذول في تصنيفهما باعتماد المؤلف مقاييس فكرية راقية ومستقلة، خارجة عن نطاق كلٍّ من اللاهوت المسيحي والكلام الإسلامي التقليديين.

[6] في كتابه الوجه الآخر للمسيح: موقف يسوع من اليهود واليهودية وإله العهد القديم ومقدمة في المسيحية الغنوصية (دار علاء الدين، دمشق، طب 1: 2004)، عاد السواح وتبنى وجهة النظر هذه في قوة.

[7] من هذه الثلة نذكر المفكر اللبناني الكبير أديب صعب الذي يبحث أيضًا في النتائج الاجتماعية المترتبة عن هذه الرؤية الشاملة.

تأملات في الحياة والإنسان (ندره اليازجي) – سمير كوسا

تأمُّلات في الحياة والإنسان

سمير كوسا*

أجد نفسي، وأنا أستهل هذه الأسطر، في وضع حرج! فكيف يمكن لي الكلام بموضوعية على كتاب حرره كاتب ارتبطتُ به – ولا أزال – إبان سنوات طويلة؟ وكيف يمكن لي، إنْ كان عندي انتقاد، أن أوجِّهه إلى هذا الصديق المقرب؟ لا أجد حلاً لهذه المعضلة إلا بأن أقبل ما سيخط قلمي من آرائي ومشاعري.

حين أتذكر بداية السبعينيات ولقائي الأول مع ندره اليازجي يخالجني شعور بالحنين والشوق. كان اليازجي أيامئذٍ أستاذًا للغة الإنكليزية والفلسفة وعلم الاجتماع، لكنه قرر، منذ أواسط الستينيات، أن يدرِّس مادة التربية الدينية؛ وقد نبع قراره ذاك من شعوره العميق بأن التعليم الديني تحول، في أكثر الأحيان، إلى مجرد ترديد لكلمات أفرغَتْ من كلِّ معنى عقلي ومضمون وجودي. والحق أنه عندما يستمع المرء إليه – وخاصة الشباب الذين لم ينتهِ المجتمع بعدُ من "صقلهم" وإثقالهم بالأعراف والتقاليد – ينتابه شعور بأن ثمة أبعادًا وأعماقًا أخرى – أو على الأقل رؤى مختلفة – لحياتنا اليومية وللطروحات اللاهوتية، لم يسبق أن تنبَّهنا إلى وجودها من قبل. ويضيف اليازجي أن ولوج هذه الأبعاد الأخرى يتم عبر تجربة داخلية-صوفية تسقط من خلالها – بحسب درجة عمق التجربة ونضجها – الغشاوةُ التي حجبتْ عنا معاينة الواقع كما هو، في داخلنا وفي الخارج.

هناك، إذن، في نظر اليازجي، وعي كوني، هو الوجود الحقيقي الوحيد (وحدة الوجود). أما عالمنا فيمكن لنا تصوُّره – دون أن ننسى أن هذه الصورة مبسَّطة – على أنه آخر حلقة من سلسلة من الفيوض، انغلق فيها ذاك المبدأ الواحد تدريجيًّا على ذاته، حتى ظهر عالمنا أخيرًا في كثرته المتناقضة. يهدف وجودنا، إذن، إلى العودة، في حياتنا اليومية وعلى مستوانا، إلى وحدة الأعماق هذه التي لم ننفصل عنها لحظة واحدة!

ليس التصور السابق خاصًّا باليازجي وحده، بل نجده كذلك لدى مفكرين ومؤلفين عديدين، وفي التصوف بخاصة، على اختلاف مدارسه: الإسلامي، المسيحي، الهندوسي، البوذي، إلخ، وفي شتى البقاع والأزمنة، حيث عُبِّر عن هذه الوحدة الوجودية بحسب لغة العصر الموافق وروحه[1]. لكن ما يميِّز اليازجي هما حساسيته وتعبيره الخاص عن هذا المبدأ من خلال رؤيته لدور الفرد في هذا الكل الواحد، في ماضيه وحاضره ومستقبله.

ويستعمل اليازجي لغة اليوم ومعارفه الموسوعية التي استقاها من فروع المعرفة البشرية العديدة في بسطه لتصوراته هذه. وخلافًا للعديد من المفكرين الذين يتبنون هذا التصور، فهو لا يدعو إلى الانعزال عن المجتمع بحثًا عن خلاص فردي، بل إلى مشاركة وجودية حقيقية من خلال فنِّ حياة أشبه بتصوف عقلي. ويقدِّم اليازجي خمسة أسس لحياة متوازنة، لا يمكن في الحقيقة فصل بعضها عن بعض، كما قد يوحي تعدادها التالي:

1. اللقاء بالآخرين: فهُمْ يمثلون انعكاسًا لنا، كما أننا نمثل انعكاسًا لهم – شريطة أن يكون لقاؤنا بهم اجتماعًا، لا "تجمعًا".

2. التأمُّل بأنواعه: وهو يفتح الباب على مشاركة وجدانية في جوهر عالمنا، من شأنها أن تفتح حواسنا الباطنة على عوالم نفسية وروحية، تتخلل العالم المادي وتتعالى عنه في آن.

3. تذوُّق الفنون: كالاستماع إلى الموسيقى الراقية (الكلاسيكية خاصة) التي تزيد من إحساسنا بجمال الأشياء وبعمقها الخفي.

4. العمل الاجتماعي: المشاركة في الحياة اليومية والاقتصادية لمجتمعنا، لأن اجتماعية الإنسان لا تنفصل عن إنسانيته.

5. القراءة التي توسِّع من آفاقنا وتشحذ عقولنا وتهيؤها لتلقِّي المعرفة الحقيقية وللتعبير عنها.

أما أهم ما يميز اليازجي، بنظري، فهو واقعه المعيش. وأقصد أن عددًا كبيرًا من المؤلفين الذين يدعون إلى تجاوز الذات والعطاء إلخ هم أحوج من قرائهم إلى مثل هذه النصائح! أما مَن يلتقي باليازجي فإنه يجد فيه مثالاً حيًّا على الأفكار التي ينادي بها: ليس عنده أي انفصال بين المفكر وأفكاره.

هكذا عرفت ندره اليازجي، وهكذا أتصوره وأفهمه. ولست أدعي أني وفَّيت فكرَه – الذي سأعود إليه أدناه – شيئًا من حقِّه، أو حتى أني فهمته على الوجه الصحيح؛ ولست أقصد كذلك أني أتفق مع كل ما فهمت من هذا الفكر، على الرغم من تقاربي منه.

صدرتْ لليازجي كتب متعددة، استودعها تأملاتِه الخاصة في مسائل حياتية وفلسفية عديدة[2]. ويلمس القارئ في كلٍّ من هذه الكتب تلك الرؤية الواحدية للوجود. ولا أخفي هنا أنني أفضل كلمة اليازجي المحكية على كلمته المكتوبة التي لا تتصف، برأيي، بشحنة الشعور والحضور القويِّ الآسر ذاتها.

ولعل أشهر كتابات اليازجي هي تلك التي اختصت باللاهوت الديني، ككتابيه رد على اليهودية واليهودية المسيحية ورد على التوراة[3]. وقد بيَّن اليازجي فيهما كيف انحرف الدين اليهودي المنظم عن التجربة الروحية الحق، ليصير مشروعًا سياسيًّا جرف معه غالبية المذاهب المسيحية المُمأسَسة التي تخلت إلى حدٍّ كبير عن روحية تعاليم المسيح. ونحن، إنْ كنا نرى بوضوح آثار هذا المشروع الاجتماعية والسياسية، نتبين أن المؤلف مضى باستقصائه إلى أبعد من هذا أيضًا، ليكتشف كيف أنه، بهدف تحقيق هذا المشروع، تم الاندساس في الفكر العالمي والنشاط الاجتماعي، كما نجد في كثير من المذاهب الفكرية المعاصرة، من ماركسية وفرويدية إلخ.

nadra_CR_5

انجذب اليازجي كذلك، منذ أوائل السبعينيات، إلى الفكر العلمي الحديث وفلسفة العلوم، لعله يتلمس فيهما، من خلال دراسة المادة والحياة والنفس، دليلاً على وحدة الأعماق – وحدة الوجود؛ فكان أن ترجم، مثلاً، كتاب تِلار دُه شاردان ظاهرة الإنسان، الذي يصف تطور الحياة وبلوغها، في كلِّ مرحلة من مراحل التطور، عتبة وعي جديدة وبنية أكثر تعقيدًا؛ وترجم كذلك كتاب صديقه روبير لِنْسِن الطفرة الروحية للألفية الثالثة[4] الذي حاول فيه المؤلف، عبر العلوم الحديثة، وخاصة الفيزياء، تبيان وحدة الوجود، وقدَّم كذلك وصفًا لسيرورة الأنا processus du moi، من انغلاقها الضيق إلى انفتاحها على الكلِّي.

mutation_spirituelle

أصدر اليازجي كذلك كتاب المادة والروح: تأليف جديد[5] الذي جمع فيه دراسات اقتبسها عن مصادر ثيوصوفية مختلفة، تتحدث عن مستويات الوجود المختلفة، عن بنية الإنسان الباطنة وتطوره بحسب هذه المستويات، وعن التقارب بين بعض الطروح العلمية والأفكار الروحية.

وأخيرًا، صدر لليازجي كتاب المبدأ الكلِّي[6] الذي حاول فيه، عبر عدة دراسات، الاستفادة من أحدث الأفكار في الفيزياء، في علم النفس، إلخ، وتلقيحها بأفكاره الروحية، ليبيِّن كيف يمكن لنا أن نفهم الوحدة عبر التعدد والتنوع، وكيف يمكن للأفكار العلمية الحديثة أن تمثل نواة تطور اجتماعي حقيقي.

nadra_CR_3

والحق أن "المبدأ الكلِّي" اليوم، في المعرفة الحديثة، يضرب بجذوره في التفكير المنظوماتي systemic thinking (علم المنظومات) الذي ينظر إلى الأشياء والكائنات على أنها واحدات لا يمكن تقسيمها دون أن تفقد الوحدة خاصيتها؛ وبعبارة أخرى، لا يمكن اشتقاق خواص كلِّية ما من خواص عناصرها المركِّبة (أو الأصغر): فكأن الكون عبارة عن كلِّيات تندرج في كلِّيات أكبر، أكبرها الكون (المنظور وغير المنظور).

nadra_CR_2

وإذا كان الكتاب الذي نحن بصدده، كتاب تأملات في الحياة والإنسان[7]، يجمع بين دفتيه نصوص ستٍّ من المحاضرات التي ألقاها اليازجي في الثمانينيات، فإننا نجد فيه الأفكار السابقة ذاتها، يتطرق إليها المؤلف من زوايا مختلفة ليزيدها تدقيقًا ووضوحًا. أترك الحديث للمؤلف في مقدمته:

تعبِّر هذه التأملات عن فكرة واحدة تتخلل فصول الكتاب. إنها محاولة صادقة تهدف إلى إحداث "تعديل" في وجهات النظر العديدة السائدة التي بحثت واقع الإنسان والحياة؛ إنها "رؤيا" تُمِدُّ الإنسانَ بفاعلية تطوير ذاته، ليتم تساوقُه وانسجامُه مع نفسه، مع الحياة والطبيعة، ومع الكون. (ص 13)

وفصول الكتاب الستة[8] هي على التوالي:

1. معالم الشخصية المتكاملة

2. الرجل والمرأة

3. فلسفة الجنس

4. فلسفة القلق

5. المعرفة سبيل إلى التكامل النفسي

6. العلم والحكمة ومصير الإنسان

ويدرس المؤلف، في غالبية المرات، كلاً من هذه المواضيع على مستويات عدة، منطلقًا من الواقع الظاهر، ليرى من ورائه حقيقة أعمق تفسِّره وتبرر وجوده. وأحب هنا أن أفتح قوسًا أعتقد أنه على جانب كبير من الأهمية.

قد لا نتفق مع وجهة النظر التي انطلق منها المؤلف – وأقصد وحدة الوجود – وعلى أن هدف الحياة يتمثل في وعي هذه الوحدة – وهذا من حقِّنا؛ لكننا يجب أن نعي، في الوقت ذاته، أن أي منطلَق (أو مبدأ) آخر لا يمتلك، من وجهة النظر العلمية، قوة أو حجة أكبر. فمثلاً، لا شيء يبرهن على المبدأ المادي الذي يدعي أن الحياة ظهرت نتيجة مصادفة موفقة غير محتملة (في صورة ديالكتيكية أم لا)؛ فيبقى تبنِّي هذا المبدأ (أو غيره) مشروعًا من وجهة النظر العلمية، على أنْ لا يتناقض والتجربة. المسألة تكمن، إذن، في نوعية البرهان وسُبُله. ولندلل على ذلك ببعض الأمثلة.

ينطلق المنطق، مثلاً، من مسلَّمات يتعامل معها، ليصل إلى نتائج صحيحة. ويمثل هذا التعامل عملية برهان/اشتقاق النتيجة؛ ويُفترَض أن المسلَّمات السابقة لا يتناقص بعضها مع بعض[9]. ويستعمل العلم التجريبي، من طرفه، التجربة ليبني عليها رؤية أو استنتاجًا أعم، يبقى صالحًا إنْ لم تخالفه تجربة أخرى، أو ليتحقق من رؤية ما ومن مبلغ تَوافُقها مع الواقع. وبحسب اليازجي، يوجد، إضافة إلى أنواع البراهين السابقة، برهان ذاتي، يمكن لكلٍّ منا اختباره، ألا وهو التجربة الروحية الداخلية. ولا يتسع المجال في هذا المقام للحديث عن مشكلة البرهان[10].

وبالعودة إلى كتابنا، فلنُبرز كيف يعالج المؤلف موضوعاته، ولننظر، على سبيل المثال، إلى فصل "فلسفة الجنس" (ص 39-47). لقد بتنا نعرف مما سبق الفكرة المحورية-الأساسية التي يدور حولها تأمل اليازجي. هنا يبيِّن المؤلف أن الغريزة لدى الحيوان، في صورة عامة، ذات طابع بيولوجي بحت؛ أما في الإنسان، فلا شيء من هذا: إذ تتحول الغريزة إلى دافع يتجاوز البيولوجي الخام. الغذاء، مثلاً، يلعب في الإنسان دوره البيولوجي، لكنه يتحول كذلك إلى فكر. في الإنسان، إذن، درجات نمو لا توجد في الحيوان، كما أن في الحيوان – في صورة عامة – درجات نمو لا توجد في النبات. كل خلل في هذا النمو، مهما كان سببه، يؤدي بنا، إذن، إلى مشكلات عديدة: بيولوجية، نفسية، روحية… وعلى هذا الأساس، يمثل الجنس في الإنسان لقاءً جسديًّا-نفسيًّا. لكن لنترك الحديث للمؤلف:

يأخذ الجنس، الذي تشترك فيه الروح والمادة، شكلاً جديدًا، يتحول فيه الحب إلى محبة. فهو مادي يعبِّر عن اندفاع لاواع، هو الجانب البيولوجي؛ وهو روحي يعبِّر عن غاية ويعمل فيه الفكر والإرادة. وعندما يتحول الحب إلى محبة يحافظ الجنس على قاعدته المادية، لكنه لا يعبِّر عن الانفعال والاندفاع التلقائي، بل عن عمل تقوم به المادة لكي تحقق الغاية من وجودها. (ص 44)

يمكن لنا، بناءً على درجات النمو آنفة الذكر، أن نفهم تحليل المؤلف لفلسفة القلق، للرجل والمرأة، لمعالم الشخصية المتكاملة، إلخ. فكأن مشكلات الإنسان، على أنواعها، تنجم عن خلل في النمو السابق، أو عن توقُّفه عند مرحلة ما، أو عن عدم الاعتراف (في العديد من الفلسفات ومدارس التربية) بوجود إمكانية نمو تتعدى حدود النمو البيولوجي-الفكري فينا. لا غرابة عندئذٍ أن نرى أن التطور التقني العارم في هذا العصر لم يحل مشكلات البشرية التي دفعت إليه؛ إذ إن ثمة انفصامًا للعقلي-المنطقي عن الحدسي-الأخلاقي فينا. يقول المؤلف في فصل "العلم والحكمة ومصير الإنسان":

إن تراجُع الإنسان الأول أمرٌ يشير إلى تراجُع روح الحكمة واستغراق العقل في العلم، وإلى تحوُّله عن صوفيا أو ثيوصوفيا – الحكمة أو الحكمة الكلِّية – إلى فيلوصوفيا، محبة الحكمة [الفلسفة]. إذن فالحكمة هي صوفيا، ثيوصوفيا، الوعي، المعرفة المباشرة، الحدس، وحدة الموضوع والفكر، الاتصالية دون الانفصالية؛ ومحبة الحكمة، فيلوصوفيا، هي العقل الباحث عن سرِّ الوجود، الباحث عن جوهره، العقل الذي يقدِّم ذاته على الموضوع؛ هي الانفصال دون الاتصال، هي الثنائية التي أدتْ إلى ازدواجية الفكر الإنساني وفصام الشخصية الإنسانية؛ هي العلم في صورته الفكرية. (ص 90)

لا يتسع لي المجال هنا للتعليق على الأفكار العديدة التي يوردها المؤلف. وأشير، مرة أخرى، إلى أني، في صراحة، أتفق معها عمومًا، مع اختلافي على بعض التفاصيل والمصطلحات المستعمَلة. وأعتقد جازمًا أنه قد آن الأوان لأن نكتشف تلك المدرسة الفكرية التي يتحدث اليازجي باسمها… آن الأوان كذلك لأن نوسِّع من أفقنا، ونفتح قلوبنا، كما يدعو المؤلف، بهدف بناء الإنسان الكلِّي/الكامل وتحقيق وحدة الأعماق في عالم الظاهر.


* مُجاز في الرياضيات واختصاصي في البرمجة المعلوماتية، راح، بعد تحصيل واسع في الفلسفة والعلوم والإپستمولوجيا، ينقب عن جوهر الخبرة الروحية المحرِّرة. كتب وترجم العديد من المقالات، وراجع الكثير من الكتب الفلسفية والعلمية والروحية، وأجرى حوارات متميزة مع العديد من الفلاسفة والعلماء والمفكرين المعاصرين لمجلتَي الصفر ومعابر (www.maaber.org) وغيرهما، وهو المراسل في كندا لمجلة الألفية الثالثة (www.revue3emillenaire.com) الفرنسية الفصلية التي تُعَد من خيرة الدوريات التي تتناول مختلف تجليات الخبرة اللاثنوية المحرِّرة في عالمنا اليوم.

[1] من أسُس فكر ندره اليازجي الإقرار الفعلي بالوحدة الجوهرية للخبرات الروحية كافة، كونها تعبيرات متنوعة عن الروح الإنساني الواحد؛ ومن هنا ترجمته، منذ الستينيات، للكتاب المرجعي الممتاز الفكر الفلسفي الهندي، من تأليف الفيلسوف الهندي الكبير س. رادهاكرشنان بالاشتراك مع تشارلز مور (مكتبة النهضة العربية، بيروت، 1968). (المحرِّر)

[2] نحيل القارئ الراغب في التعرف إلى فكر ندره اليازجي إلى الأعمال الكاملة للمؤلف التي صدر منها حتى الآن سبعة مجلدات. (المحرِّر)

[3] ندره اليازجي، الأعمال الكاملة، مج 5، دار أمواج، بيروت، 2001.

[4] روبير لنسن، التطور النفسي في الألف القادمة، دار الغربال، دمشق، 1982.

[5] ندره اليازجي، الأعمال الكاملة، مج 3، "دراسات في فلسفة المادة والروح"، دار الغربال، دمشق، 1999؛ ص 173-292.

[6] ندره اليازجي، الأعمال الكاملة، مج 3، ص 5-171.

[7] صدرت الطبعة الأولى من هذا الكتاب عن دار الغربال، دمشق، 1988؛ ثم صدرت الطبعة الثانية منه بعنوان "تأملات في الحياة النفسية" ضمن الأعمال الكاملة، مج 2، "دراسات في الحياة النفسية والاجتماعية"، دار الغربال، دمشق، 1998؛ ص 7-150. (المحرِّر)

[8] أضاف اليازجي إلى الطبعة الثانية ثلاثة فصول جديدة تحمل عناوين: "المرح والصحة النفسية"، "الشعور بالنقص والدافع إلى الكمال"، "سيكولوجية الحلم والنوم واليقظة". (المحرِّر)

[9] من أجل شرح مستفيض لمشكلة البرهان في المنطق والرياضيات، راجع: فايز فوق العادة، منعطف الرياضيات الكبير، وزارة الثقافة السورية، دمشق، 1987.

[10] للتوسع، أحيل المهتم إلى كتاب كِنْ ولبر الممتاز Ken Wilber, Eye to Eye الذي يدرس مفهومَي الحقيقة والبرهان، بأنواعهما ومستوياتهما، ويتكلم مطولاً على البرهان في نطاق التجربة الداخلية.

“من رآني في المنام فقد رآني” – پيار لوري

"من رآني في المنام

فقد رآني"

دور رؤية النبي محمد

في الروحانيات الإسلامية*

پيار لوري**

تدور هذه المحاضرة حول الدور الديني لرؤى المنام في الإسلام، وبالأخص حول طائفة منها فريدة في بابها: رؤية المؤمنين للنبي محمد.

لقد أقرَّ المأثور الإسلامي من فوره، كما هو معلوم، أنه يجوز للرؤيا أن تصير ناقلاً خطيرًا لرسائل من رتبة فائقة للطبيعة. فالقرآن يؤكد ذلك مرارًا، كما في حالة إبراهيم الذي رأى في المنام أنه يذبح ولده، فصدَّق الرؤيا وأوَّلها كأمر إلهي (سورة الصافات 102، 105)؛ وقصة يوسف الصدِّيق، كما وردت في السورة الموسومة باسمه، تسرد رؤى يوسف بن يعقوب طفلاً (الآيات 4-6)، كما تسرد تأويله لرؤيتَي الفتَيَين السجينين معه في مصر (الآيتان 36، 41)، ثم أخيرًا تأويله لرؤيا فرعون نفسه (43-49)، بالتطابق مع النص التوراتي[1]. وفي النص الكريم أيضًا إشارتان إلى خبرتين رؤيويتين كابدهما محمد نفسه: إسراؤه إلى القدس الشريف[2] ودخوله والمسلمين المسجدَ الحرامَ مُحرمين، "محلِّقين رؤوسـ[ـهـ]ـم ومقصِّرين" (سورة الفتح 27). وصحة رسائل الرؤى مثْبتة في القرآن فيما يخص غير الأنبياء، وربما غير المؤمنين أيضًا، على اعتبار أن صاحبَي يوسف السجينين، وفرعون مصر كذلك (وثلاثتهم مشركون)، بحسب الآيات من سورة يوسف التي ذكرنا أعلاه، قد تبلغوا رؤًى تبيَّن بعد تأويلها أنها مُنذِرة بوقوع خطب جلل.

إلى ذلك، فإن الحديث والسيرة النبوية أصْرَح بهذا الخصوص: إنهما يؤكدان أن محمدًا كثيرًا ما كان يرى الرؤى وأنه أوْلى اهتمامًا كبيرًا لهذه الرسائل الليلية، سواء التي تخصه أو التي تخص أصحابه[3]، فكان إذا أصبح اليوم يجمع من حوله مجلس كبار الصحابة ويبادرهم بالسؤال عما إذا كان أحد منهم رأى من رؤيا خلال الليل؛ وكان كثيرًا ما يقص عليهم ما رأى في منامه ويؤوِّله، لكن رؤى غيره من المؤمنين كانت تؤخذ بالحسبان هي الأخرى. كان من شأن هذا أن يؤدي إلى نتائج ملموسة للغاية: إقامة الأذان للصلاة، على سبيل المثال، كانت نتيجة رؤيتين متواردتين رآهما رجلان من صحابة النبي (عبد الله بن زيد الأنصاري وعمر بن الخطاب).

لكن ثَمَّ مزيدًا: يبدو أن محمدًا أكد أن المؤمنين بعد وفاته – أي بعد انقطاع الرسالة النبوية عن العالم كافة – سيستفيدون من "المبشِّرات"، أي، على حدِّ ما جاء في صحيح البخاري، "الرؤيا الصالحة" (أو "الرؤيا الحسنة"، بحسب صحيح مسلم) التي "يراها المسلم أو تُرى له"؛ وهذه، بحسب كتب السنَّة، "جزء من ستة وأربعين جزءًا من النبوة"[4] – وهي إشارة ذات تبعات لا يُستهان بها. إلى ذلك، أكد الرسول في حديث آخر أن "مَن تحلَّم بحلم لم يرَه"، أي كذب في منامه، مسؤول عن فعلته في حضرة العدل الإلهي[5]. ولسوف يشتد دور الرؤى في آخِر الزمان، كما يؤكد أيضًا حديث آخَر: "إذا قَرُبَ الزمانُ لم تكد رؤيا المؤمن تكذب"؛ وبذا تتأكد كلَّ التأكيد وظيفةُ الرؤيا كتجلٍّ حيٍّ لصورة من صور الوحي بعد وفاة النبي. لكنما يجدر بنا أن ندقق بأن الحديث لا يأخذ هنا إلا بالرؤى "الصالحة" ("بشرى من الله")، طارحًا من فوره تجليات المنام الأخرى التي يعدُّها من قبيل "حديث النفس"؛ وهذا الأخير يقابل خصوصًا ظهور انشغالات عادية في أثناء النوم – انشغالات اليقظة على الأخص –، حيث إن هذه الرسالة من الشخص إلى نفسه لا تأتي بجديد ذي دلالة أو فائدة.

كما ترد في الحديث أيضًا "وسوسات الشيطان" التي تستهدف تخويف الرائي وزعزعة ضميره[6]؛ إذ يبدو أن للشيطان سبيلاً إلى ضمير الرائين فعلاً، لكن في الإمكان دفعَه بشعائر "وقائية"، وخصوصًا بالتعوذ والصلاة: "إذا رأى أحدكم رؤيا يكرهها فليتفل عن يساره ثلاثًا، وليستعذْ بالله من الشيطان ثلاثًا، وليتحول عن جنبه الذي كان عليه" (صحيح مسلم)؛ "إذا رأى أحدكم ما يكره فليقمْ وليصلِّ ولا يحدِّث به الناس" (الصحيحان). مطروحة كذلك من مجال تعبير الرؤيا "أضغاث الأحلام"، الأمر الذي يشي بمبدأ "المعقولية الشرعية" الذي يتحكم بتعبير الرؤيا في الإسلام[7].

وأخيرًا، فإن فقهاء المسلمين لم يكونوا جاهلين بالأحلام الناجمة عن مجرد الاضطرابات الفسيولوجية: "رؤيا تريها الطبائع إذا اختلفتْ وتكدَّرت على المرء" (راجع: الدينوري، ج 1، ص 98-99؛ والإشارة هنا إلى النظريات الأرسطية)، لكن الأدبيات التي سوف نوردها هنا لا تأخذها بالحسبان هي الأخرى.

يمكن للرؤيا "الصالحة" أن تطرأ بحسب كيفيتين ممكنتين: يمكن للمَلَك الموكل بالرؤيا أن يهبط على مقربة من النائم ويبلِّغه رسالة بعينها؛ كما يمكن لنفس النائم أن تفارق جسمه، فتعرج إلى السماء حتى تقترب من عرش الله ومن اللوح المحفوظ الذي خُطَّتْ عليه المقادير[8]، ثم تحتفظ بعد إيابها إلى الجسم بصورة أمينة نوعًا ما عما استطاعت إدراكه إبان معراجها[9]. وفي كلتا هاتين الحالتين النموذجيتين، يندرج هذا الكشف الفردي في مذهب التوحيد لدى أهل السنَّة والجماعة، بما أن الله قطعًا هو الذي يبادر فيهما إلى تبليغ العبد رسالة؛ وإن نقاء سريرة الرائي، في كلتا الحالتين، هو الذي يحدد مقدار وضوح المعلومة المتبلَّغة.

إلى ذلك، فإن واحدًا من مفاتيح تأويل الرؤى في إطار هذا التسنُّن المشترك يقوم على حديث نود في هذه المحاضرة أن نبين مغزاه. يُنسَبُ إلى النبي قولُه: "مَن رآني في المنام فقد رآني [في اليقظة]، فإن الشيطان لا يتخيل بي"[10]. وقد ورد هذا الحديث في كتب السنَّة بأكثر من رواية، مما يؤكد صحته، لكنْ يشي بتعدد تأويلاته طوال القرون الأولى للهجرة. وهكذا، بعد "مَن رآني في المنام…"، نجد أيضًا: "… فقد رآني"، "… فسيراني في اليقظة"، "… فكأنما رآني في اليقظة"، "… فقد رأى حقيقة"، "… فقد رآني حقًّا". والجملة السببية المتعلقة بجواب الشرط عن عجز الشيطان ترد أحيانًا كذا: "… فإن الشيطان لا يتخيل بي"، "… فإن الشيطان لا يتمثل بي"، "… ولا ينبغي للشيطان أن يتصوَّر بصورتي" – وكلٌّ من هذه الروايات ينطوي أصلاً على تفسير يخصُّه. إن هذا الحديث المحمدي على جانب كبير من الأهمية طبعًا لأنه لا يدل على أقل من نوع من استمرار النبوة في أمَّة المسلمين بعد انتقال النبي إلى الرفيق الأعلى.

بالطبع استفاد علم التعبير الإسلامي الكلاسيكي من هذا الحديث استفادة جمة. فهو يدل بالفعل أن النبي إذا رُئي في المنام فهو لا يرمز إلى شيء آخر، أي لا يحيل إلا إلى شخصه بالذات، لا إلى دالٍّ أبعد. من ناحية أخرى، فإن مثل هذه الرؤيا بالضرورة صحيح، غير كاذب، إلهي المصدر يقينًا. أما فيما يتعدى ذلك فتوافُق الآراء أكثر ترددًا[11].

مواقف الفقهاء

تراءى النبي لبعض المؤمنين في منامهم ترائيًا باكرًا في التاريخ الديني للإسلام؛ وهذا ما كان إلا ليطرح حتمًا مشكلات فقهية[12]. ذلك أن النبي، بنظر المسلمين جميعًا، قد مات فعلاً، ورفاته مدفون بالمدينة المنورة في الروضة الشريفة بالمسجد النبوي، ولن تقوم قيامة أحد قبل يوم الدين. فهل يعاد خلقُ شخص محمد الجسماني عند ظهوره في المنام، أم أن ما يرسله الله للرائي هو مجرد "خيال"؟ وهذا الترائي، أهو عبارة عن كائن واع يتخذ صفة جسمانية بعينها؟ وهل يتطابق مظهر النبي هذا مع صورته التي قُبض عليها، أم أنه يتخذ مظهرًا آخر؟ وإذا اختلف مظهره، هل ثَمَّ معيار يتطابق معه هذا المظهر أم أنه اتفاقي فحسب[13]؟ وكيف يمكن له أن يتراءى احتمالاً لأكثر من راءٍ في وقت واحد؟ وإذا كانت رؤية النبي في المنام حقيقية، هل يجوز لمَن يراه أن يدَّعي لنفسه منزلة "صحابي" (على غرار معاصريه)، لا بل منزلة ناقل الحديث؟

إذا جزنا، في الواقع، عن تأويل بعض الفقهاء العقلانيين الذين يرون أن هذه الترائيات من قبيل "الرؤى القلبية"[14]، فإن جمهور المفسِّرين، على اختلافهم على التفاصيل، متفقون على مسألة جوهرية: رؤية النبي في المنام رؤيا حقيقية، لكنها ليست مادية، بل تقابل تمثيلاً لروحه في صورة بشرية. وقد أسهب الفقيه الوسيطي الكبير أبو حامد الغزالي (ت 1111) خصوصًا في شرح هذه المسألة في أكثر من موضع من كتبه ورسائله؛ وهو يخلص إلى أن رؤية النبي تقابل تمثيلاً رمزيًّا لروح النبي: "فما رآه [الرائي] من الشكل ليس هو روح النبي وجوهره، ولا شخصه، بل مثاله على التحقيق" – أي بوصفها، بحسب الغزالي، "مثال واسطة بين النبي وبين [الرائي] من تعريف الحق إياه"، و"معنى [المثال] الصادق أن الله تعالى خلق مثل هذه الواسطة بين الرائي وبين النبي في تعريف بعض الأمور"[15]؛ وفي عبارة فريتس ماير (ص 39)، ليس ما يُرى من قبيل "المثل" Abbild، بل من قبيل "المثال" Sinnbild.

ولقد قام تيار، أضحى غالبًا، لمزيد من تدقيق هذا الرأي؛ وهو يرى أن هذه الرؤية يمكن لها أن تطرأ بكيفيتين اثنتين. يمكن لها أن تبدو جلية للغاية، فتقابل عندئذٍ – من حيث المبدأ – مظهر محمد التاريخي: إذ ذاك فإن مَن يتراءى هو النبي بذاته، حيث تتطابق الذات مع كيان شخصه مُدرَكًا بالخيال (رواية الحديث: "… فسيراني")؛ لكنْ يمكن لها، في مناسبات أخرى، أن تتراءى ناقصة أو مبهمة: وإذ ذاك فالمرئية هي صفة جزئية من صفات النبي التي تتمثل عندئذٍ تمثيلاً رمزيًّا (رواية الحديث: "… فكأنما رآني")[16]. من منظار كهذا، تتوقف درجة جلاء الرؤيا على نقاء روح صاحب الرؤيا نفسه، "لأنه صلى الله عليه وسلم كالمرآة الصقيلة ينطبع فيها ما يقابلها"، على حدِّ قول النابلسي (ص 594). مثل هذه الخبرة الرؤيوية لا يأتي بشيء يُتعلَّم عن طبيعة محمد نفسه، بل يكشف عن عناصر من الحالة الذهنية للرائي. وقد قام فريتس ماير بجمع تفصيل الحجج وخلاصة الحلول المقترَحة في مقال خصَّصه للأمر[17].

يجدر بنا هنا التذكير بأن هذه التأكيدات تندرج في كلِّ تصور لكيفية بقاء نفوس الموتى قبل قيام الساعة. وبالفعل، تفضي النصوص المأثورة التي تورد حصول "استجواب" يلي الموت الجسماني وتكفين الجثمان ودفنه مباشرة، وبقاء أرواح الشهداء من المجاهدين "في حواصل طيور خضر"، والعلاقات المتبادلة بين الأحياء والموتى، إلخ – تفضي هذه النصوص جميعًا إلى تأكيد حقيقة بُعد برزخي للوجود، هي حالة جسمانية لطيفة تحيا فيها أنفُس المتوفين، فتحس وتشعر وتتواصل فيما بينها ومع الأحياء على الأرض. وقد أخذ معبِّرو الرؤيا تلقائيًّا بهذه التصورات عن الآخرة، وبالفعل قلما طرحوا على أنفسهم أسئلة بهذا الشأن على الصعيد العقيدي؛ ومن ثَمَّ ليس هاهنا مقام التوسع في الأمر. حسبنا أن نشدِّد على أهمية الرهان: النبي محمد حي، وهو يستطيع بذلك أن يتواصل في الخيال مع أي مسلم. وهذا النمط من التواصل الرؤيوي من نفس إلى نفس من شأنه أن يكون أنقى وأشف وحتى أحق من اتصال مادي في الزمان والمكان العاديين، حيث إن "الحس الروحاني أشرف من الحس الجسماني، لأن الروحاني دالٌّ على ما هو كائن، يعني الرؤيا، والحيواني دالٌّ على ما هو موجود، يعني اليقظة" (الدينوري، ج 1، ص 90، ناقلاً عن أرسطوطاليس)؛ والنبي محمد، وإنْ لم يقمْ من بين الأموات عند المسلمين نظير يسوع عند المسيحيين، فإن حضوره بواسطة المبشِّرات في المنام والمشاهَدات في اليقظة ظل دومًا أشيع بكثير بين المسلمين، بمن فيهم أكثرهم تواضعًا من الرجال والنساء الذين ليسوا بالضرورة من كبار الصوفية أو الأولياء المعترَف بهم.

هذا النوع من الرؤى الذي يتراءى فيه شخص النبي محمد كانت له مكانة طولى في النشاط الديني والثقافي للإسلام الوسيطي. ونحن مدينون لأعمال ليئة كِنْبرگ بملاحظات دقيقة حول الدور الذي أنيط بها في النقاشات الفكرية حول علم الحديث (كِنْبرگ، 1993؛ راجع أيضًا: كاتْس، ص 220)، ومذاهب الشريعة (كِنْبرگ، 1985؛ وهناك أمثلة أخرى يوردها كلٌّ من گولدتسيهر وكِسْتِر)، وقراءات القرآن (كِنْبرگ، 1991)، أو حتى الأدبيات في محض الأخلاق، بوصفها عوامل إضفاء للشرعية[18].

وفي مجال التصوف أيضًا، كانت اللقاءات في المنام مع النبي كثيرة. فعلى سبيل المثال: يورد الترمذي الحكيم (ت في أوائل القرن العاشر) في بدو شأنه، سيرته الذاتية الروحية المختصرة، عدة رؤى تراءى له فيها النبي تثبيتًا لمنزلته كوارث محمدي ولمقامه في مراتب الولاية[19]. كذلك فإن روزبهان بقلي الشيرازي (ت 1206) وضع هو الآخر كتابًا مستقلاً يصف فيه المشاهَدات الكبرى التي وسمتْ تطوره الروحي والتي يؤدي فيها النبي محمد دورًا حاسمًا في إجازة كرامته كوليٍّ متحقق[20]؛ وهو يؤكد فيه رؤيته النبيَّ أكثر من ألف مرة، ليس على هيئات بشرية متنوعة وحسب، ولكنْ كنور محض.

أما ابن عربي فهو يورد هو الآخر عدة رؤى أو مبشِّرات في اليقظة تراءى له فيها النبي محمد وكلَّمه، وكتابه الأشهر فصوص الحكم، على حدِّ قوله، قد تبلَّغه من فم محمد في مبشِّرة أريَها سنة 627 هـ/1229 م في دمشق[21]؛ كما أنه وضع رسالتين خصصهما لرؤى النبي في المنام[22]. ودراسة ي. كاتْس (1996) الحديثة حول السيرة الذاتية الرؤيوية لمحمد الزواوي، وهو متصوف مغربي مغمور من القرن الخامس عشر، إنما هي مثال على ذلك: فهو يصف على التفصيل محادثاته مع النبي بمناسبة حوالى مئة من الرؤى امتدت على عشر سنوات. وهذه السطوة للرؤيا النبوية لم تخْبُ البتة في العصر الحديث. بذا فإن الشيخ أحمد التجاني، مؤسِّس الطريقة التجانية، أقام شرعية منزلته ومكانة طريقته على صلته الرؤيوية المباشرة مع النبي (هذا ليس إلا مثالاً واحدًا من بين العديد من الأمثلة). وهذا النمط من الخبرة لا يختص به الشيوخ الكبار المعترَف بهم.

تعبير الرؤيا الشعبي

على كل حال، ليست نصوص كبار المتكلِّمين أو الصوفية هي التي سوف نرجع إليها هنا، بل سوف نرجع إلى مستوى أكثر عمومية من مستويات الخبرة الدينية؛ فظهور النبي في المنام لم يقتصر على حلقات الصوفية، بل هيهات أن يكون ذلك. ولنلحظ، مع ذلك، أنه لا يوجد أي حدٍّ فاصل بين رؤى أهل التصوف ورؤى سواهم؛ فمذهب الصوفية في رؤى المنام ليس مختلفًا أساسًا عن التصور العام، حيث يمكن لعامة المؤمنين أن يَخبَروا في منامهم خبرةً من مرتبة روحانية. والواقع أن آلاف المسلمين ذكروا حصول مثل هذه الرؤى منذ بدايات الإسلام؛ ووُضعت خصيصًا لهذه المسألة بعينها تصانيف كثيرة إلى حدٍّ ما، ليس كتاب السيوطي الذي درسه فريتس ماير (1985) إلا أشهرها؛ كما أحصى توفيق فهد ستة عشر عنوانًا لكتب وصلتنا مخصصة لهذا الموضوع حصرًا[23]؛ وهذا الأخير يشغل في المقالات العامة في تعبير المنام أيضًا بابًا أو أكثر.

إن الكتب التي نود أن نلخص فحواها هنا لا تضارع طموحًا رواياتِ مشايخ الصوفية؛ فهي عبارة عن منتخبات من المأثور في تأويل الرؤيا جُمِعَت وقُيِّدَت منذ القرون الأولى للهجرة. ونحن نستعمل مصطلح "أثر" هنا قصدًا، وذلك لأن الأمر عبارة عن نقل شبيه نوعًا ما بنقل روايات الحديث أو السيرة. ومن المحتمل أن تدبُّر التعبير قد نما في فترة مبكرة جدًّا من الإسلام، منذ بدايات الجماعة على الأرجح[24]. وقد ضاع من تلك المنتخبات الأولى الكثير، لكن جزءًا لا يُستهان به من المواد التي جُمعتْ أعيد استعمالُها، وكثيرًا ما أوردها بنصِّها مصنِّفون أحدث وصلتنا كتبُهم؛ فهؤلاء قد "اقتبسوا"، قرنًا بعد قرن، عناصر هامة من نصوص أولئك، من دون إشارة إلى أصحابها في الغالب، بحيث إن بنيانًا من التصانيف في تعبير الرؤيا قد تكوَّن ككلٍّ متجانس على الرغم من طول الفترة المعنية. فإذا اكتفينا لهذه الدراسة بالعناوين الرئيسية لفن التعبير حصلنا على المراجع الأساسية التالية:

1) يبرز كتاب القادري في التعبير (انتهى في العام 1006)، الذي وضعه علامة نيسابور أبو سعد الدَّيْنَوَري، بوصفه أضخم كتب هذا البنيان. وهو يقتبس من كتب القدماء، ولاسيما من كتاب تعبير المنام لأرطاميدُورس الإفسُسي[25]، كما يفيد من عناصر تعبير الرؤيا عند النصارى واليهود إلخ، مشددًا على دور هذا الفن كعلم نبوي في الإسلام في مقدمة نظرية هامة[26].

2) وُضِعَ كتاب البشارة والنذارة في تعبير الرؤيا لأبي سعيد الواعظ الخركوشي (ت في العام 1015) في نيسابور أيضًا حوالى الفترة نفسها التي وُضِعَ فيها الكتابُ السابق، ومن الواضح منه أنه يخاطب جمهورًا أكثر شعبية وأقل حظًّا من الثقافة من جمهور القادري.

3) كتاب كامل التعبير لأبي الفضل التفليسي (علامة وطبيب، ت حوالى العام 1203) هو قاموس بمواضيع الرؤى باللسان الفارسي كُتِبَ خصيصًا لسلطان روم (الأناضول)؛ وهو عبارة عن منتخبات من مصادر أقدم، وهو بهذه المثابة كتاب قيِّم للغاية. وبالفعل، فإن التفليسي نقل إلى الفارسية فقرات كاملة من مؤلِّفين أقدم، مدققًا أسماءهم تدقيقًا واضحًا، بما يتيح تحديدًا أفضل لتاريخ ظهور العديد من التأويلات؛ فبفضله أمكن لنا التعرف إلى فقرات طويلة من هذه المصادر، أعاد الدينوري أو سواه من المصنِّفين نَسْخَها من غير تدقيق للأصل.

4) في حوزتنا أيضًا كتاب الإشارات في علم العبارات لغرس الدين بن شاهين (الذي عاش في مصر وتوفي في العام 1468). وقد اجتهد في تأويلاته المرتبة بحسب المواضيع أن ينعش تعبير الرؤيا بوصفه فنَّ تكهُّن إسلامي بامتياز، وذلك كي يدحض فنونًا أخرى شائعة من فنون الكهانة ذات شرعية دينية مريبة.

5) كتاب المنتخب في تعبير الرؤيا لأبي علي الخليلي الداري (مصنِّف مغمور من القرن الخامس عشر، لم يصلنا له غير هذا الكتاب) عبارة عن مجموعة متأخرة من نصوص أقدم، منها النصوص المذكورة أعلاه. وقد حظي هذا الكتاب، المعروف تحت عناوين متنوعة[27] والمنسوب إلى ابن سيرين، بانتشار أوسع من أي كتاب سواه، حتى صار المرجع الرئيس للقراء المعاصرين. ومع أن هذا التكديس للمعطيات القديمة، على غير ترتيب في الغالب، يفتقر أحيانًا إلى الاتساق فإن محتواه المتنوع يجعله قيِّمًا هو الآخر. فهو يسهب، مثلاً، في أخلاقيات تعبير الرؤيا أو في الأحلام ذات الأصل الفسيولوجي البحت[28].

6) أخيرًا، فإن تعطير الأنام في تفسير المنام، قاموس تعبير الرؤيا الذي وضعه الفقيه الشرعي والصوفي الدمشقي الشهير عبد الغني النابلسي (ت في العام 1731 واتسمت حياته الروحية بعدد من الرؤى الحاسمة)، يستعيد مختارات من نصوص سابقة ويرتبها ترتيبًا أبجديًّا بحتًا، مضيفًا إليها النزر اليسير من الشروح من عنده. لكنْ فلنلحظ أن النابلسي هو وحده بين مصنِّفينا مَن توقف بعض الشيء عند تقييم الأحاديث التي تتناول الرؤى وعند النتائج العقيدية لرؤية النبي في المنام (النابلسي، ص 593-594).

هذه الأدبيات، على ما نرى، تمتد على أكثر من سبعة قرون من التاريخ، لكن عدد الإحالات والمراجع المشتركة، كما سبق أن قلنا، يضفي عليها صفة التجانس والتكامل؛ وهذا ما يجيز لنا أن نتناولها كبنيان متسق من شأنه أن يحلَّل بوصفه كذلك[29].

فلندقق الآن بضعة نقاط جوهرية حول بنية هذه الأدبيات في تعبير الرؤيا. إن المعطيات المنقولة فيها لا تقابل بتاتًا مجموعة من الرؤى الفردية، المفهرسة والموصوفة على هذا الأساس، بل هي عبارة عن ملحوظات مختصرة ومنمَّطة وعن مفاتيح تأويلية كثيرًا ما يتكرر ورودُها من منتخب إلى آخر، كما سبق أن رأينا، وقلما نجد فيها روايات للرؤى تامة ومتصلة، بل نجد خصوصًا تعدادًا لواحدات سردية مختزَلة (على سبيل المثال: "مَن رأى النبي في المنام راكبًا فإنه…"؛ "مَن رأى لحيته الكريمة سوداء ليس فيها بياض فإنه…"؛ إلخ). لدينا هنا من حيث المبدأ تصوُّر عن أداء الرؤيا عبر ارتباط الصور بدوالٍّ ثابتة بعينها: فقد سادت فكرة مفادها أن الرمز المنامي الواحد لا بدَّ أن تقابله تأويلاتٌ ثابتة؛ إذ إن الرأي المعاكس، القائل بأصالة كل صورة منامية فردية، ما كان له، والحال هذه، إلا أن يعطِّل وجود فن التعبير من أصله. وقد حاول بعض المصنِّفين، إلى ذلك، أن يؤسِّسوا لتعبير الرؤيا كعلم من علوم الدين، ذي قواعد ثابتة (هي معطيات القرآن الكريم والحديث الشريف، بالإضافة إلى أقدم التأويلات) يمكن أن تُشتَق منها تأويلاتٌ ثانويةٌ عن طريق القياس[30]؛ لكن هذه المحاولات سرعان ما باءت بالإخفاق أمام غزارة المواد التي تراكمت على كرِّ القرون والتي تعذَّر التحقق منها – بما يشهد شهادة غير مباشرة للصلة الحقيقية بين مزاولة هذا النشاط التأويلي وبين الكتابة النظرية فيه. بذا ظل موقف واضعي التصانيف يتوخى الحذر ويأخذ بالضدين في أغلب الأحيان: إنهم بالفعل لا يزودون قارئهم بـ"مفاتيح للرؤى" جاهزة للاستعمال، تحيل بمقتضاها روايةٌ بعينها تلقائيًّا إلى تأويل ثابت بعينه، بل نجد فيها، في الغالب الأعم، قوائم بواحدات مختزَلة مجردةً من الشروح. وحتى في حالة القواميس المرتبة على أكثر ما يكون الجمود، كقاموسَي التفليسي والنابلسي، فإن قلة الاتساق بين مختلف التأويلات الواردة للمادة الواحدة لَصارخةٌ. وإذن فالأرجح أن مُزاول تعبير الرؤيا هو الذي كان يضطلع باستلهام هذه الملحوظات في تأويل كل رؤيا يُعمِلُ فيها فطنتَه، بطريقته وبحسب منطق كل حالة على حدة.

أما وأن هذه هي حال القرون الخوالي، ما هي القيمة التاريخية التي تمثلها هذه النصوص في نظرنا الآن، نحن أبناء القرن الحادي والعشرين؟ في رأيي أننا يجب أن نقرأها بوصفها تسوية بين المواضيع المتكررة رؤيتها في المنام فعلاً والمفهرسة وبين التأويلات المعيارية التي أثبتت على كرِّ القرون ما هو "قابل للرؤية" حقًّا. وبهذا فإن نطاقًا تأويليًّا خاصًّا بالإسلام السنِّي قد تعيَّن منذ عصر الدينوري، نُبذتْ منه العناصرُ التي لا توافق السنَّة وحتى الشطط الأخلاقي. من هنا فإنه لَمِنَ التوهم أن نتوقع من هذه النصوص مكتشفات رمزية كبرى – من قبيل استخلاص "لاوعي جمعي" للإسلام الوسيطي، على سبيل المثال. في المقابل، فإن بالإمكان تبيان ملاحظات أكثر تواضعًا، لكنها خصبة ربما، على سريان المعاني في الخيال السنِّي.

إذا قمنا الآن باستنطاق ما تنمُّ لنا عنه هذه النصوص حول مغزى الرؤى التي يُرى فيها النبي محمد ماذا يتيسر لنا أن نجد؟ نجد، بادئ ذي بدء، أنها تتوضع في الإطار الأوسع لرؤى الأنبياء. المؤلفون أو المصنِّفون يضعون على رأس التصنيف، في الغالب الأعم، الرؤى المتعلقة بالله والملائكة والأنبياء والصحابة والتابعين والأولياء والمواضيع الدينية الرئيسة؛ وهم يفعلون ذلك، أغلب الظن، احترامًا للمواضيع الأكثر حرمة، ولكن أيضًا لكون هذه المواضيع تنساق أصلاً لميول مشتركة لا تنطبق على المعطيات الأكثر دنيوية والمشروحة شرحًا غزيرًا في الأبواب التالية. وبين هذه الرؤى التي يختص بها المجال الحرام تبرز الرؤى المتعلقة بمحمد؛ إذ هي تمثل نوعًا من التحقق أو الذروة. وبالفعل، كما يؤكد ابن سيرين[31]، لا مناص من تمييز منزلة النبي الذي يتجلى في رؤيا بعينها: فقد يكون نبيًّا "قليل الشأن" أو نبيًّا "عظيم الشأن" أو واحدًا من الأنبياء "أولي العزم"، إبراهيم وموسى وعيسى ومحمد نفسه؛ فتكون "الشحنة التأويلية" مختلفة لكل حالة على حدة: رؤية أحد هؤلاء الأربعة في المنام مبشِّرة بالرئاسة والفوز؛ أما ظهور نبي "قليل الشأن" فهو، في المقابل، مجرد تصديق للطهارة الدينية. وغني عن القول إن لترائي محمد من بين هؤلاء الأربعة فأل عظيم، كما يومئ إلى ذلك التفليسي مقتبسًا عن الكرماني (التفليسي، ص 36).

التأويلات العامة

إن ظهور النبي محمد في المنام، كما هو متوقع، إشارة مواتية للغاية عمومًا. فالدينوري يخلص بهذا الصدد إلى القول: "وجملة الأمر في تأويل رؤيته عليه السلام أن رؤيته رحمة تغشى صاحب الرؤيا والمكان الذي يرى فيه وأهله، لقوله تعالى: "وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين" [الأنبياء 107]" (الدينوري، ج 1، ص 142). أما الخركوشي فهو يعبِّر تعبيرًا شاعريًّا عن فوائد مثل هذه الرؤى: "طوبى لمن رأى [النبي] في حياته فاتَّبعه، وطوبى لمن رآه في منامه بعد وفاته. فإنه إنْ رآه مديون قضى الله تعالى دَيْنه؛ وإن رآه مريض شفاه الله تعالى؛ وإن رآه ممتحَن كفاه الله تعالى؛ وإن رآه محارب نَصَرَه الله تعالى؛ وإن رآه صَرور [به فاقة] رَزَقَه الله تعالى حجَّ البيت الحرام…" (صح 22، أ-ب). ويتوالى النص، الطويل نسبيًّا، بالاندفاع نفسه: فيض خيرات على الميسورين، بما أنه يبشر رجلاً غنيًّا بالمزيد من الغنى، تعداد للمصائب والمحن التي تبشر رؤية النبي بالنجاة منها، إلخ. وهذا التعداد يستعيده الداري (ص 72)؛ وإننا لنقع على فقرات مشابهة لدى المصنِّفين الآخرين (التفليسي، ص 37-39؛ ابن شاهين، ص 66؛ النابلسي، ص 594، 595، 597).

إن مجرد حضور النبي بمكان طَلْق فيه إشارة إلى الحفظ والخير المعنوي واليسار (التفليسي، ص 37، 38)؛ وفي سياق القتال، يبشِّر حضورُه المغلوبَ بالانتصار على أعدائه (ابن شاهين، ص 66)، إلخ. لكنما إذا اتفق لمحمد أن يبدي للنائم استنكاره، بل غضبه حتى، فذاك لأن هذا الأخير قد تهاون في دينه أو لأنه اعتنق بدعًا مخالفة للسنَّة. إن غضب النبي ينذر عمومًا بالبلاء (التفليسي، ص 36)؛ لكن واقع الأمر هو أن الرؤيا، حتى في مثل هذه الحالات، ناتجة من فضل أو من اصطفاء إلهي، بما أن الغاية من الإنذار، كما يفسر ابن سيرين (في التفليسي، ص 38)، هي بلوغ النجاة. يؤيد هذه الفكرة تأويل آخر متكرر: إذا رأى المرء في المنام أنه تحول في صورة النبي فهذا يعني أنه سوف يكابد المحن نفسها التي كابدها محمد في حياته (كذا عند التفليسي، ص 38). وفي الحاصل، كما يلحظ النابلسي، فإن رؤية النبي في المنام "بشارة للرائي بحسن العاقبة في دينه ودنياه"، وذلك بحسب حاله: "إن كان عابدًا بلغ إلى منازل أهل الكرامات، وإن كان عاصيًا تاب وأناب إلى الله تعالى، وإن كان كافرًا اهتدى" – ذلك أنها تنطبع على مرآة النفس، "وعلى قدر ذاتـ[ـه] وصفاء مرآتـ[ـه] تتنزل لـ[ـه] رؤيتُه عليه السلام في المنام" (النابلسي، ص 594-595؛ وبالمؤدى نفسه، ابن شاهين، ص 66).

ورسالة الرؤيا كثيرًا ما يكون المغزى منها دينيًّا. فهي عبارة عن بشرى للرائي بالمنن والبركات، وحتى، بكل صراحة، بشرى له بأنه "من أهل الجنة ومن الفائزين" (ابن شاهين، ص 66)؛ حتى إن حديثًا يورَد بهذا الخصوص: "مَن رآني في المنام فلن يدخل النار"[32] (الدينوري، ج 1، ص 93؛ الخركوشي، صح 21، أ؛ الداري، ص 72؛ النابلسي، ص 593). لكنما يمكن للوعد أيضًا أن يتعلق بالمجال محض الدنيوي (شفاء، مال، رئاسة…)؛ فالواقع أن هذين المجالين متداخلان تمامًا بنظر المؤوِّلين الذين لا حاجة عندهم إلى الفصل بينهما في بابين مستقلين: فالبركة النبوية تشمل كلتا الحياة المادية والحياة الدينية جميعًا.

بذا، إذا رأى بعض التجار أنه يزور قبر الرسول فهذا عبارة عن وعد بأنه يصيب مالاً عظيمًا (الدينوري، ج 1، ص 142؛ الداري، ص 72-73)، من دون أن تُذكَر الفوائد الروحية. وفي كلتا الحالتين – المغزى الدنيوي أو المغزى الديني من الرسالة –، كثيرًا ما تنطوي هذه الرؤى على بُعد يخص الجماعة: فمن شأنها أن تخص شخص الرائي وحده، لكنها كثيرًا ما تخص أيضًا أتباع ملَّة محمد في مدينته أو بلاده، بل حتى أمَّة محمد عمومًا: "رؤية الرجل الواحد رسولَ الله في منامه لا تختص به، بل تعمُّ جماعة المسلمين" (الداري، ص 73؛ النابلسي، ص 596). وهذا يصح بالأحرى إذا رأى الرؤيا إمامُ المسلمين أو كانت تخص مسئولين سياسيين أو عسكريين. ومهمَن كان رائي الرؤيا فإن الحديث يحضُّه على أن يحدِّث بها غيره من المؤمنين مادام في فحواها فائدة معنوية لهم.

أما وقد قلنا ما قلنا، ما هي الدلائل والتفاصيل التي تتيح توجيه التأويل؟ بين الرئيسي منها، لهيئة النبي أهمية عظيمة، وكذلك لنوع الثياب التي يلبسها. فإن في مجرد رؤيا محمد في هيئة حسنة ولابسًا ثوبًا نفيسًا وعدًا بالثواب على صالح الأعمال في الدنيا والآخرة، أو باللطف في البلايا، خاصة إذا بدا عليه الرضا والبشاشة؛ وهذا – نكرر – قد يكون عبارة عن رسالة مخصوصة بفرد بعينه وقد تكون المعنيةَ بها جماعةُ الإسلام أيضًا (الدينوري، ج 1، ص 141؛ التفليسي، ص 35). على الضد من ذلك، إذا بدا النبي شاحب اللون، مهزولاً، ناقصًا بعض الجوارح، أو رثَّ الكسوة، فإن الرسالة معاكسة: إنها تعني أن الرائي أو أهالي بلاده متهاونون في الدين أو ضالون عنه أو مستهترون به (الدينوري، ج 1، ص 141؛ التفليسي، ص 37، 38؛ ابن شاهين، ص 66؛ الداري، ص 73)، ولاسيما إذا رآه غضبان عبوس الوجه.

وليس من نافل القول هنا أن نلحظ بأن تفسير الحديث قد أخذ بالحسبان مثل هذا النمط من التأويل القائم على هيئة جسد النبي. بذا فإن المحدِّث الكبير ابن حجر العسقلاني يبين، فيما يخص الحديث الذي نحن بصدده، أن جسد النبي في المنام قد يشير إلى مقدار صلاح دين الرائي؛ وبالتالي، فإن كمال الجسد المرئي أو نقصه يترجَم بحسب هذه المقاربة القياسية. ومنه فإن رؤية جسد النبي وقد اعتراه شين أو نقص تدل على وجود خلل خطير في الدين، وربما على ظهور البدعة؛ فصاحب الرؤيا المبتدع [= الزنديق] مَن أحرز في المنام عنده عضوًا من أعضاء النبي (الدينوري، ج 1، ص 142؛ الداري، ص 73؛ النابلسي، ص 596). لكلٍّ من هذه التفاصيل أهميته، لأنها تبين أن صورة النبي – على الضد مما قد يشي به الحديثُ المدروس هنا – تحيل إلى أسانيد أخرى عديدة غيرها هي، وهذا على غرار جميع الخلائق الأخرى التي تظهر في الرؤى في الحاصل.

من ناحية أخرى أيضًا، تستحق الانتباه صورةُ جسد النبي كرمز جامع إلى الأمَّة أو الدين: "فإن رؤية جسده تامًّا صلاح جماعة الإسلام" (الدينوري، ج 1، ص 141؛ التفليسي، ص 38). إذ يمكن لمظهر محمد الجسدي أن يعكس بالفعل طبيعة سلطة الإمام أو السلطان: "إن رآه عليه السلام أعظم ما يكون فإن الإمام تعظم رياسته وسلطانه" (النابلسي، ص 596). وغلاظة عنقه وسعة صدره وطول ساقيه وانفراج أصابع يده أو قبضها إلخ تدل على صفات الإمام المعنوية وسلوكه في السياسة والحرب وتدبير المال والأرزاق (النابلسي، ص 596). متكرِّرة أيضًا هي صورة دم النبي: "إنْ رأى أنه شرب دمه عليه السلام حبًّا فيه خفيةً فإنه يُستشهَد في الجهاد" (الدينوري، ج 1، ص 142؛ النابلسي، ص 595). أما نبش قبر أحد من الأنبياء فيعني في بساطة جمع علم النبي وإحياء سنَّته، "وإنْ وجد من عظمه شيئًا يكون اتِّباعه أبلغ وحصل مراده من ذلك" (ابن شاهين، ص 66). من هذا القبيل تأويل ابن سيرين لرؤيا والد الفقيه الكبير أبي حنيفة، صاحب المذهب الحنفي، الذي رأى ابنه يدخل قبر النبي محمد وهو غلام، فيجمع عظامه ثم يخرج بها (الدينوري، ج 1، ص 144).

إلى ذلك، فإن سِنَّ شخص النبي تستوجب التأويل هي الأخرى: "من رآه شيخًا فهو في غاية سلم، ومن رآه شابًّا فهو في غاية حرب"؛ "ومن رأى النبي صلى الله عليه وسلم في صورة شاب طويل فإنه يكون في الناس فتنة وقتل، وإن رآه وهو شيخ كبير فإن الناس في عافية" – وذلك تبعًا للمنحنى التاريخي لسيرة محمد (النابلسي، ص 593، 597). كذلك يهم كثيرًا سلوك النبي المحتمل حيال الرائي: "إن رآه مقبلاً عليه فهو خير للرائي، وعكسه بعكسه" (النابلسي، ص 593). وكثيرًا ما يحصل أن يعطي النبيُّ الرائيَ شيئًا من مستحبِّ متاع الدنيا أو من طعام أو شراب؛ والحال، فإن طبيعة هذه العطية وجوهرها النفيس أو الرديء يشيران إلى ما يخبئه المستقبل القريب للرائي أو لأهله (الدينوري، ج 1، ص 142؛ وعنه يأخذ الداري، ص 73). فإن ناوله، على سبيل المثال، مما يُستحب نوعُه من الفاكهة، كالرطب والعسل، فإنه يحفظ القرآن وينال من العلم بقدر ما ناوله؛ أما إذا رآه يكسوه ملبوسًا دلَّ ذلك على التقوى، لاسيما إن كانت الكسوة بيضاء أو خضراء (التفليسي، ص 38؛ النابلسي، ص 596). كما يمكن لصلة خاصة أن تنعقد بين محمد والرائي، الذي قد يتفق له أن يرى نفسه لابسًا ملبوس النبي (ابن شاهين، ص 67)، أو يرى نفسه كأنه ابنه وليس من نسله، دلالةً على خلوص إيمانه ويقينه؛ أو حتى كأنه أبوه، وهو بالعكس أمر مشئوم يدل على وهن دينه وضعف إيمانه ويقينه (الدينوري، ج 1، ص 142؛ الداري، ص 73؛ النابلسي، ص 596، 597)، نظرًا لأن عبد الله بن عبد المطلب مات على الشرك. أخيرًا، فإن موت النبي أو جنازته ينذران بمصيبة وشيكة، في بقعة بعينها إذا اتفق للحدث أن يقع فيها، أو بموت واحد من نسل الرائي (التفليسي، ص 38؛ الداري، ص 72؛ النابلسي، ص 595).

كذلك فإن تكرار رؤى بعينها يؤخذ بالحسبان على نحو طبيعي للغاية: "من رأى النبي صلى الله عليه وسلم كثيرًا، وليس في رؤياه مكروه، لم يزل خفيف الحال" (الدينوري، ج 1، ص 140). لكنما يتدخل هنا بالأخص متحول آخر، ليس شكلانيًّا لكنه ذاتي، ونعني حال الرائي الشخصية – مكانته الاجتماعية أولاً: رؤيا الإمام أو السلطان لا بدَّ أن تؤوَّل على حدة، إذ لا تنطبق عليه القواعد التي تنطبق على عامة المسلمين. كل فئة اجتماعية وكل سِنٍّ وكل انتماء مِلِّي مولِّد في الواقع لخيال منامي يختص به على نحو ما، وينبغي لمعبِّر الرؤيا أن يأخذه بالحسبان (التفليسي، ص 14-17). لكن هذا يتعلق أيضًا – وبالأخص – بحال سريرته. فالنابلسي يذكِّر، مستندًا إلى مصادر نقلية، بأن النفس البشرية مرآة تلتقط ساعة النوم الصور التي تتراءى لها؛ فكلما كانت المرآة صقيلةً علَّمتْها صورةُ النبي التي تنطبع عليها أمورًا أفْيَد. وفي واقع الأمر، يعكس مظهرُ صورة النبي الحالَ الباطنة للرائي (النابلسي، ص 594). والمراد من ذلك أولاً هو موقفه الديني الإجمالي: فالعاصي أو الواهن الإيمان أو غير الصالح لا يكون أي تراءٍ نبوي مواتيًا له، حتى في إطار موضوع تديُّن (من ذلك إطار حج البيت الذي يورَد على سبيل المثال)؛ فالمقصود منه دومًا هو التحذير الصارم (الدينوري، ج 1، ص 141). أما الكافر فيمكن له بالفعل أن يتلقى في المنام رسالة "صالحة"، لكنها تقابل بالضرورة إنذارًا ملحًّا. وبذا يحيَّد خطرُ إضفاء الشرعية على آراء فاسدة تصدر عن أناس على هامش السنَّة. يؤخذ بالحسبان، أخيرًا، المفعول الذاتي في لحظة الرؤية و/أو الاستيقاظ بعينها – ما يسمِّيه الدينوري الضمير: "الضمير في الرؤيا أقوى من النظر" – ثم الأثر الذي يتركه هذا المفعول في اليقظة (الدينوري، ج 1، ص 108-109، 140). وهذا عنصر حاسم في إرشاد التأويل؛ الأمر الذي يتطلب من معبِّر الرؤيا إصغاءً منتبهًا ومتواصلاً إلى رواية صاحب الرؤيا طالب مشورته. إذ إن هذا ما يتيح فرز طبيعة الرؤيا ومغزاها الحقيقي، بحسب ما إذا ترافقت في المنام ثم تلاها عند الاستيقاظ فرحٌ خالص، مثلاً، أو ندم، إلخ.

ثمة أيضًا رسائل لفظية يبلِّغها النبي للرائي. في هذه الحال، ينبغي لعباراته بحذافيرها أن تؤخذ على محمل الصدق. إن مجرد سماع امرئ نبيًّا يكلِّمه لَبشرى بأنه سيصيب نصيبًا من علم ذلك النبي (الكرماني، ينقل عنه التفليسي، ص 36). ويبدو أن هذا المبدأ – خطاب النبي واضح، لا مواربة فيه ولا رموز، ويجب قبوله، وعند الاقتضاء، تحديث الناس به كما هو – واضح للوهلة الأولى ولا لبس فيه. لكن التأويل يتعقد في حالاتِ عباراتٍ (تذكرها تصانيفنا) من قبيل التناقض يفوه بها محمد أو تصرفات يأتي بها غير متوقَّعة من نبي. نحن هنا نمس مسألة دقيقة: فقد يحصل مثلاً، كما يشير ابن شاهين، أن يأمر أحد الأنبياء الرائي بما يخالف الشريعة (ص 66)، الأمر الذي يوجد موقفًا فيه شبهة. والدينوري يستنكر الأحلام التي يعمل فيها نبيٌّ من الأنبياء عمل الفراعنة أو يتكلم مثلهم بوصفها أضغاثًا؛ وخبث هذا النمط من الأحلام يُستشف، على ما كتب، من هذا التفصيل غير المقبول أو ذاك: "وكل شيء رأيته ناقصًا فاعلم أنه من الأضغاث، والأضغاث تدل على الشر الحاضر" (الدينوري، ج 1، ص 98)[33]. القضية، على نحو ما، مفروغ منها؛ لكن الحديث المذكور أعلاه ينص، خلافًا لذلك، على أن صورة النبي أبعد من متناول الشبهات الشيطانية. فكيف يعلَّل هذا؟ هناك بضع طُرُق للتعليل يمكن إعمالُها بحسب مصنِّفينا:

1) مبدأ اتساق العقيدة: رؤية نبي أو مَلَك أو وجيه من وجوه الدين يأتي معصيةً (أو يأمر بإتيانها) هي من البُعد عن المعقولية بحيث إن ظهورًا كهذا يُطرَح في فئة الأضغاث. لكن طبيعة الضلالة أو الهلوسة المذكورة – قد تكون عبارة عن وسوسة شيطانية و/أو عن شين في نفس الحالم – لا تلقى البتة إيغالاً في التحليل. الحديث يؤكد أن الشيطان "لا يتخيل" بمحمد؛ وإذن فإن الخيال المرئي في المنام ليس "خيال" النبي. لكن لدى الشيطان، على ما يبدو، من القدرة ما يوسوس به بهذا القدر من الوهم لراءٍ عاص أو واهن الدين. وهذه المشكلة لا نجد لها تعليلاً أوفى: أغلب الظن أنه ليس لدى مصنِّفينا اهتمام بالمرة للتوغل في الآليات السرِّية للكذب والوهم؛ أو لعلهم قد استشعروا الصعوبة الفقهية العقيدية التي تثيرها هذه النقطة.

2) تفسير رؤيا بعينها: الأمر بمخالفة الشريعة الذي يلقيه النبي قد يُفهَم كإنذار ساخر من فساد دين الرائي. إنه يعني، كما كتب ابن شاهين موردًا الحديث: "إذا لم تستح من الله فاصنعْ ما شئت" (ص 66). والحال، فإن الرؤيا حق، لكنها مجعولة على سبيل الزجر والوعيد.

3) تطبيق مبدأ تعبير المنام في تأويل المعنى بضدِّه ومقلوبه: "يقلب الشاهد الرؤيا فيجعل الخير شرًّا والشرَّ خيرًا". بذا فإن رؤية الحامل أنها ماتت وحُمِلَتْ، والناس يبكون عليها من غير رنة ولا نوح، دلالة على أنها تلد ابنًا وتُسَرُّ به، وعكسه بعكسه (الدينوري، ج 1، ص 96؛ الداري، ص 38). المسألة هنا، إذن، مسألة تأويلية بحتة. وبذا يُستوثَق من صدق الرؤية المعنية، كما في الرؤيا السابقة؛ لكنما، كما في تلك الحالة بالدقة، فإن مبدأ وضوح الخطاب والسلوك النبويين وجلاء معناهما هو الذي يتعرض للشبهة. وإذن فإن النبي يتكلم في الوقت المناسب بالرموز والمفارقات، كشأن غالبية المواضيع الأخرى التي تنبثق في المنام.

إن عالِمًا سُنيًّا ذائع الصيت مثل ابن حجر العسقلاني يؤيد هذا النوع من التفسير كل التأييد. فبخصوص أحلام يوعز فيها النبي إلى الرائي بمخالفة الشرع – كأنْ يأمره بقتل نفْس بغير حق مثلاً –، يميز ابن حجر بين الرؤيا المباشرة الحق وبين الرؤيا الرمزية، حيث ينبغي التفتيش عن المراد من رؤيا مريبة، كرؤية المثال الذي أوردناه، بتأويلها رمزًا (الحالتان 2 و3 المذكورتان أعلاه). بذا فإن التشويه الذي يعتور صورة النبي لا يخصه هو، بل هو ناجم عن شين في نفس الرائي؛ حتى إنه يقتبس هنا كلام الدينوري بحذافيره (ج 1، ص 141)، مشيرًا في السياق إلى درجة قبول تعبير المنام في إطار الثقافة الدينية العالِمة. وإذن فإن الالتباس يقيم في النقص الذي جُبلتْ عليه نفوسُ غالبية البشر، الأمر الذي يشدِّد، إلى ذلك، على الضرورة المُلحَّة لعلم التعبير الذي وحده قادر أن يجتنب عثرات الأحلام الخادعة.

مهما يكن من أمر، فإن الله، كما يذكر الداري، فعَّال لما يريد، وقد يريد أن يرسل رسائل في المنام كما يشاء ولمن يشاء: إنه يقدر أن يرسلها بواسطة المَلَك الموكل بها أو بواسطة الشيطان. وإذ ذاك فلا مناص من التمييز، بحسب السنَّة، بين "الرؤيا" الصادقة وبين "الحلم" الخبيث؛ لكن الأصل الإلهي للرؤية ثابت في كلتا الحالين، لأن "الله سبحانه هو الخالق لجميع ما يُرى في المنام من خير أو شر" (الداري، ص 26). فإذا وُجِدَ اللبسُ واضطربت نفسُ الرائي، عليه عند استيقاظه أن يؤدي فروض الشرع بحذافيرها، لا أن يمتثل لإيعاز الرؤية، حتى إذا أوعز به إليه خيالُ النبي. وهذه النقطة حاسمة، لأنها تذكِّر بالحد الفاصل دومًا بين وظيفة الرؤيا كجزء من النبوة وبين الشريعة التي سُنَّتْ للبشر في حالة اليقظة والتي ستبقى سارية المفعول حتى قيام الساعة وانقضاء الأزمنة التاريخية. ففي الحالات النموذجية كلها، نرى أن تعبير المنام ينغلق بذلك في حلقة تأويلية: كل فحوى مخالف للسنَّة أو غير أخلاقي سرعان ما يُعزى إلى حال الرائي أو إلى مقدرته على التأويل، ولا يجوز له بأي حال من الأحوال أن يضفي شرعية على أقل ثغرة في صرح عقيدة أهل السنَّة والجماعة أو أخلاقهم.

لقد كان بالإمكان أن يُستشعَر مما ذهبنا إليه في مستهل كلامنا أن من شأن ظهور النبي في المنام أن يصبح شكلاً قويًّا من أشكال استمرار الكرامة النبوية بعد وفاة محمد في العام 632؛ بيد أن الواقع التاريخي، كما رأينا لتوِّنا، جاء خلاف ذلك.

أجل، إن الرؤى التي ظهر فيها محمد كانت كثيرة على كرِّ القرون، أكثر قطعًا من الرؤى التي ظهر فيها غيره من الأنبياء أو الملائكة؛ وقد فاقت أهميتها بكثير، على كل حال، أهمية ترائيات الله نفسه، وهي أندر وأدق تأويلاً. كانت رؤية محمد في المنام مشحونة دومًا بسلطان قاهر لا يُشكَّك فيه بتاتًا؛ الأمر الذي يفسِّر، خلافًا لما ينمُّ عنه الحديث المدروس هنا، أن شخصه راح يحيل إلى دوالٍّ أخرى عديدة سواه (الإمام، الوالدين، الأمَّة، الدين…). غير أن الحواجز الإپستمولوجية والعقيدية التي أقامها علماء السنَّة أفلحت في حصر رهاناتها في مجالات محددة بعينها. فقد يكون المقصود هو مجال الحياة الخاصة البحتة، فيخص الترقِّي الخُلُقي والديني لذات الرائي؛ كذلك الرؤى المقصودة بها الأمَّة والمفهرسة في مصنفاتنا قُبلَتْ وأوِّلَتْ في إطار مواز تمامًا: حثٌّ على الحمد عند المكروه وعلى التوبة عند المعصية. لا جديد، كما نرى، على الرسالة المحمدية: المطلوب دومًا عبارة عن مجرد تفعيل لموقف المؤمن وجهاده في هذه الدنيا. وبهذا تمكَّن مذهب أهل السنَّة، عبر نشاط ذكي ومنهجي، من أن يستعيد لصالحه قوة الرؤيا وشحنتها الرمزية، مشذبًا جميع عناصرها الملتبسة أو المخرِّبة، جاعلاً منها أداة شرعنة واستمداد دينيين.

المترجم عن الفرنسية: ديمتري أڤييرينوس

المراجع الإسلامية

ابن سيرين، تفسير الأحلام الكبير، راجع: الداري.

ابن شاهين، غرس الدين (1993)، الإشارات في علم العبارات، بتحقيق سيد كسروي حسن، بيروت: دار الكتب العلمية.

– التفليسي، حبيش بن إبراهيم (1994)، كامل التعبير، بتحقيق محمد حسين ركن زاده آدميت، تهران: كتابفروشي إسلامي.

الخركوشي، أبو سعيد الواعظ، البشارة والنذارة في تعبير الرؤيا، مخطوط، حاجي بشير آغا كتابخانه، 348.

الداري، أبو علي (1995)، تفسير الأحلام (منسوب إلى ابن سيرين)، بيروت: منشورات دار مكتبة الحياة.

الدينوري، أبو سعد (1997)، كتاب التعبير في الرؤيا أو القادري في التعبير، في جزأين، بتحقيق فهمي سعد، بيروت: عالم الكتب.

الغزالي، أبو حامد (2006)، مجموعة رسائل الإمام الغزالي، 1-7، بيروت: دار الكتب العلمية.

النابلسي، عبد الغني (1991)، تعطير الأنام في تعبير المنام، بيروت: دار الكتب العلمية.

المراجع الأجنبية

– ABDEL-DAÏM, Abdallah (1958), L’oniromancie arabe d’après Ibn Sīrīn, Damas : Presses Universitaires de Damas.

– BLAND, Nicholas (1856), "On the Muhammedan Science of Tābir or Interpretation of Dreams," Journal of the Royal Asiatic Society, pp. 118-179.

– FAHD, Toufic (1987), La divination arabe, Paris : Sindbad.

– FAHD, Toufic (1997), Études d’histoire et de civilisation islamiques, vol. I, Istanbul : Isis.

– IBN ABĪ AL-DUNYĀ, Morality in the Guise of Dreams—A Critical Edition of Kitāb al-Manām, with an Introduction by Leah Kinberg, Leiden: Brill.

– KATZ, Jonathan (1996), Dreams, Sufism and Sainthood—The Visionary Career of Muhammad al-Zawāwī, Leiden: E.J. Brill.

– GOLDTZIHER, Ignaz (1912), "Addendum to Krenkow: ‘The Appearance of the Prophet in Dreams’," Journal of the Royal Asiatic Society, pp. 503-506.

– KINBERG, Leah (1985), "The Legitimization of the Madhāhib through Dreams," Arabica, XXXII.

– KINBERG, Leah (1986), "Interaction Between This World and the Afterworld in Early Islamic Tradition," Oriens, XXIX-XXX.

– KINBERG, Leah (1991), "The Standardization of the Qur’ān Readings—The Testimonial Value of Dreams," The Arabist, Budapest Studies in Arabic, III-IV.

– KINBERG, Leah (1993), "Literal Dreams and Prophetic Hadīths in Classical Islam—A Comparison of Two Ways of Legitimization," Der Islam, LXX.

– KINBERG, Leah (1994), see: IBN ABĪ AL-DUNYĀ.

– KISTER, M.J. (1974), "The Interpretation of Dreams—An Unknown Manuscript of Ibn Qutayba’s ‘Ibarāt al-Ru’yah," Israel Oriental Studies, IV.

– KRENKOW, F. (1912), "The Appearance of the Prophet in Dreams," annexed to his article "The Tarīkh-Baghdād (vol. XXVII) of the Khatīb… al-Baghdādi, Journal of the Royal Asiatic Society, pp. 77-99.

Les rêves et les sociétés humaines (1967), Éd. Par Gustav E. von Grunebaum et Roger Caillois, Paris : Gallimard.

– LORY, Pierre (1998), « Les rêves dans la culture musulmane », Islam de France, VI.

– MASSIGNON, Louis (1963), « Thèmes archétypiques et onirocritique musulmane », dans Opera Minora II, Beyrouth : Dar al-Maaref.

– MEIER, Fritz (1985), « Eine Auferstehung Mohammeds bei Suyūtī », Der Islam, LXII ; repris dans Essays on Islamic Piety and Mysticism (1999), English trans. by J. O’Kane, Leiden: Brill.


* نص محاضرة ألقِيَتْ في المركز الثقافي الفرنسي في دمشق في 2009/12/16.

** دكتور في الدراسات العربية والإسلامية، اختصاصي في التصوف. مدير دراسات في "المدرسة التطبيقية للدراسات العليا" (السوربون). نشر مؤلفات ومقالات عديدة في التفسير الصوفي للقرآن ولصنعة الكيمياء العربية وفي تعبير الرؤيا في التراث الإسلامي. يشغل حاليًّا منصب المدير العلمي في المعهد الفرنسي للشرق الأدنى (دمشق).

[1] راجعه في سفر التكوين 37: 9-10؛ 40: 5-22؛ 41: 1-36. (المترجم)

[2] الإسراء مبهم المعالم (بيت المقدس ليس مذكورًا في النص بلفظه)؛ يؤوِّله الحديث بمعنى واقعي بوصفه انتقالاً بالجسم، لكن الآية 60 من سورة الإسراء تورده صراحةً بلفظة "رؤيا": "وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس".

[3] للاطلاع على لمحة موجزة عن رؤى النبي وأصحابه، راجع: فهد، 1987، ص 255-289 [ت ع: توفيق فهد، الكهانة العربية قبل الإسلام، بترجمة حسن عودة ورندة بعث وتقديم رضوان السيد، دمشق: قدمس للنشر والتوزيع، 2007، ص 181-204]. يعتمد فهد كتب المؤرخين (ابن هشام؛ ابن سعد) خصوصًا، لكننا نقع على روايات مشابهة في صحيح الحديث أيضًا.

[4] وفي بعض الروايات: "جزء من أربعين"، "جزء من سبعين"، إلخ؛ فروايات هذا الحديث متباينة، ولهذا التباين أهميته أحيانًا. للاطلاع على مجموع مراجع هذا الحديث، راجع: كِنْبرگ، 1993، ص 283، الحاشية 12.

[5] "الكذب في المنام اشتد فيه الوعيد" (ابن حجر)، وذلك لأن الرؤيا في المنام، بمقدار ما هي رسالة إلهية، فإن الكذب فيها في الحاصل افتراء على الله، وهو بهذه المثابة مثل الشرك بالله، وشأن الكاذب فيها شأن صانع الصنم المذكور في الحديث نفسه ("مَن صوَّر صورة")، الذي يصور هو الآخر "صورة" كاذبة على الله.

[6] جاء في الحديث أن أعرابيًّا أتى محمدًا يسأله تأويل حلم رأى فيه كأن عنقه ضُربت وسقط رأسه، فاتبعه فأخذه فأعاده، فلم يرَ النبي في الحلم إلا وسوسة من الشيطان ونصح للأعرابي ألا يكترث به ولا يقصه على الناس.

[7] راجع الفقرة التي يطرح فيها الدينوري (ج 1، ص 98) الأحلام التي يبدي فيها الله أو الأنبياء أو الملائكة سلوكًا شائنًا (كما سنبيِّن لاحقًا) بوصفها وسوسات وأضغاثًا؛ وليس هذه وحسب، بل والأحلام غير المعقولة أيضًا: كأنْ يرى المرء أنه نبتت من السماء أشجار أو طلعت من الأرض نجوم، أو يرى الفيل قملة أو الأسد نملة. إن اتساق العقيدة الدينية منسجم هنا تمامًا مع اتساق نواميس الكون، كلاهما مطبوع بالتناغم نفسه.

[8] في الكوسمولوجيا الإسلامية الوسيطية نجد أفلاك السموات السبع وفلك النجوم الثابتة، يطوقها أو يحيط بها عرش الله؛ وعلى مقربة من العرش المحيط يوجد اللوح المحفوظ الذي خُطَّتْ عليه أقدارُ الكائنات كلها والعلمُ بما كان وما يكون وما سيكون.

[9] كان هذان المفهومان عن الرؤيا موجودين منذ القديم، وقد وضع الفلاسفة شروحًا عليهما؛ وحين جاء الفكر السنِّي الغالب صدَّق كليهما بالاستناد إلى أحاديث متفاوتة الصحة.

[10] للاطلاع على المراجع النصية لهذا الحديث في صحيح الحديث، راجع: أ.ي. ڤِنْسِنْك، توافُق الحديث النبوي وقرائنه، ليدن: برل، 1936، مادة "منام"؛ كِنْبرگ، 1993، ص 285، الحاشية 16.

[11] من ذلك شرح استعمال سين التنفيس في رواية "… فسيراني في اليقظة" الذي استدعى تفسيرات متخبطة أحيانًا: كأنْ لا يخص الحديث غير المعاصرين لمحمد؛ أو لعل المراد منه أن الرائي سيفهم معنى ما رأى حين يستيقظ؛ أو لعل المقصود هو حال المؤمن بعد القيامة، وعدًا بصحبة النبي في الجنة. أما الغزالي فيؤوِّل بحسب مذهبه: إدراك الصورة الرمزية يمنح مدخلاً أعمق إلى روح النبي نفسه: "جوهر النبوة – أعني الروح المقدسة الباقية من النبي بعد وفاته – منزهة عن اللون والشكل والصورة، ولكن تنتهي تعريفاته إلى الأمَّة بواسطة مثال صادق ذي شكل ولون وصورة" (رسالة المضنون به على غير أهله). أما كرنكوڤ (1912) فهو يومئ، في المقابل، إلى أن هذا الاستقبال يشير إلى الحال التي كان عليها نص الحديث في حياة محمد، بينما تقابل الروايات الأخرى تحريفات لاحقة على النص بعد موته.

[12] إن مسألة طبيعة الرؤيا نفسها قد دفعت الفقهاء إلى التفكر: فهي متداخلة بالفعل مع التصورات عن العلاقة بين الجسم والنفس (المذكورة صراحة في القرآن الكريم: سورة الزمر 42؛ سورة الأنعام 60)، وبالتالي، عن طبيعة النفس الفردية وبقائها في الآخرة وكيفيات القيامة.

[13] تنص إحدى روايات الحديث الذي نحن بصدده على أن "مَن رآني في المنام فقد رآني حقًّا، فإني أُرى في كل صورة"، غير أن المحدِّث ابن حجر العسقلاني يرى في كتابه فتح الباري أنه ضعيف الإسناد نظرًا لأن أحد ناقليه خولط في عقله في آخر عمره؛ لكنه يستحق إيراده على الأقل. راجع أيضًا: النابلسي، ص 593.

[14] قصدوا من ذلك خبرة كشفية قاهرة لا تترك مجالاً للشك في حضور النبي، لكنها خلو من التمثيل البصري.

[15] راجع: الغزالي، رسالة المضنون به على غير أهله. ويدقق الغزالي: "الرسول أيضًا لا يُرى [في المنام]؛ فإن المرئي مثاله، لا عينه؛ فقوله: "مَن رآني في المنام فقد رآني" هو نوع من التجوز معناه: كأنه رآني، وما سمع من المثال كأنه سمع مني". (المترجم)

[16] نلحظ هاهنا مثالاً جيدًا على تفسير للحديث يجتهد في شرح مختلف روايات الحديث الواحد وفي الاستفادة من كلٍّ منها: تنطبق كل رواية بالفعل على حالة بعينها من حالات خبرة الرؤية، وبذا تُنحَّى المسألةُ المطروحةُ بخصوص صحة الروايات المأثورة المتباينة.

[17] راجع: ماير (1985) الذي يسعى خصوصًا إلى تميُّز الكيفيات الدقيقة لبقاء النبي في الآخرة عند مختلف المفكرين المسلمين الذين تطرقوا إلى المسألة. ومن الجدير بالملاحظة أن الرأي الذي تقول به السلفية، والذي مفاده أن محمدًا قد مات وأن النبوة انقطعت عنه وأن روحه تقيم جغرافيًّا في المدينة المنورة وحدها، بقي أقليًّا طوال القرون وحتى يومنا هذا. للاطلاع على تعريف دقيق بكيفيات رؤية النبي، راجع: المقال نفسه، ص 39.

[18] إن شروح ل. كِنْبرگ على كتاب المنام لابن أبي الدنيا الذي حققتْه وقدَّمتْ له (1994) لَتُبرز بداهة النص: الرؤى (أو الحكايات الواردة بصفتها رؤى) المختارة هنا ترمي جميعًا إلى تعزيز شرعية الإسلام السنِّي المعوِّل على الحديث وشرعية أخلاقه الدينية وشرعية نبذه لبعض التيارات (الاعتزال، التشيع، إلخ).

[19] بات في مستطاعنا الرجوع إلى ترجمة إنكليزية حسنة التقديم والحواشي لهذا النص في مفهوم الولاية في التصوف الإسلامي المبكر، قام لها ب. رادتْكه ونقلها إلى الإنكليزية ج. أوكين، رتشمُند: كورزُن پرس، 1996. للاطلاع على الرؤى المذكورة، راجع: ص 18، 28، 30، 31؛ والفهرست، مادة "حلم". [راجعْها بنصِّها العربي في: أبو عبد الله الحكيم الترمذي، كتاب ختم الأولياء، بتحقيق عثمان يحيى، بحوث ودراسات بإدارة معهد الآداب الشرقية، مج 19 (بيروت: المطبعة الكاثوليكية، 1965)، ص 16، 25، 26، 28. (المترجم)]

[20] كان هنري كوربان قد درس كتاب كشف الأسرار في رباعيته عن الإسلام في إيران، مج 3 (باريس: گليمار، 1972)؛ وقد عني پول بالنفا بترجمة نصِّه كاملاً وتقديمه تقديمًا وافيًا (باريس: سوي، 1996).

[21] راجع: ابن عربي، فصوص الحكم، بتحقيق وشرح أبي العلا عفيفي، دار الكتاب العربي، بيروت: طب 2: 1980، ج 1، ص 47. (المترجم)

[22] للاطلاع على دور الخيال الرؤيوي في تصوف ابن عربي، راجع: هـ. كوربان، الخيال الخلاق في تصوف ابن عربي، باريس: فلاماريون، 1958 [ت ع: فريد الزاهي، كولن: الجمل، 2008]. [أحصى عثمان يحيى ضمن كتابه مؤلفات ابن عربي: تاريخها وتصنيفها (بترجمة أحمد محمد الطيب، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2001) كتابًا بعنوان المبشرات من الأحلام فيما رُوي عن النبي من الأخبار في المنام أو المبشرات الكبير (ص 542). (المترجم)] إلى ذلك، فقد بسط الشيخ الأكبر مذهبًا شاملاً ذهب فيه [استنادًا إلى الحديث الشريف: "إن الناس نيام، فإذا ماتوا انتبهوا"] إلى أن اليقظة نوع من المنام بالقياس إلى "اليقظة" الحقيقية الوحيدة التي هي الوعي الإلهي: "فاعلم أنك خيال، وجميع ما تدركه، مما تقول فيه: ليس أنا، خيال. فالوجود كله خيال في خيال، والوجود الحق إنما هو الله […]" (راجع: فصوص الحكم، "الفص اليوسفي"، ص 99-106).

[23] راجع: فهد، 1987، ص 329 [ت ع: ص 234]؛ و1997، ص 44 و102، حيث يلحظ أن الأدبيات المسيحية لم تخصِّص لهذه المسألة أي كتب مكافئة.

[24] مرارًا ما يرد اسم سعيد بن المسيب، الذي عاش في أول العهد الأموي، وكذلك اسم ابن سيرين (654-728) بالأخص، في النصوص المتأخرة. وقد قُيِّدتْ التشخيصات والروايات المؤسِّسة في منتخبات منذ القرنين الثالث والرابع للهجرة، نذكر من أهمها المقالات المنسوبة إلى جعفر الصادق وابن سيرين وأبي اسحق الكرماني. للاطلاع على عرض حول ولادة جنس تعبير الرؤيا في الثقافة الإسلامية، راجع: فهد، 1987، ص 309-328 [ت ع: ص 218-234]؛ و1997، ص 38-43، 70-72. كذلك يحوي مقال ن. بلنْد الرائد (1856) عناصر تاريخية مفيدة، وإنْ كانت وثائقُه آنذاك لا تزال مبعثرة بعض الشيء.

[25] راجع: أرطاميدُورس الإفسُسي، كتاب تعبير الرؤيا، نقله من اليونانية إلى العربية حنين بن إسحاق، وقابله بالأصل اليوناني وحققه وقدم له توفيق فهد، دمشق: المعهد الفرنسي للدراسات العربية، 1964. (المترجم)

[26] عقد لويس ماسينيون حول كتاب القادري سمنارات في الكوليج دُه فرانس طوال سنتين (في العام 1941-42 وفي العام 1942-43)؛ للاطلاع على مَحاضرها، راجع: حوليات الكوليج دُه فرانس، السنة 41 (1941) والسنة 42 (1942)، وكذلك السنة 51 (1951). وقد حاول ماسينيون، الذي كان يشتغل آنذاك على نصوص لروزبهان بقلي وابن عربي أيضًا، أن يربط بين معطيات تعبير الرؤيا الإسلامي وبين الرمزية الصوفية للألوان والمقامات الموسيقية والعطور والطُّعوم؛ وقد خَلُصَ إلى نتيجة مفادها التالي: "من الممكن إذن أن يُستعلَم استعلامًا غير مباشر عما قبل تاريخ المجتمعات بواسطة پاليونطولوجيا أحلامية تمامًا مثلما يمكن، بواسطة التحليل النفسي، النبش عن السيرة الطفلية المنسية للراشد" (السنة 42، ص 94).

[27] منها: منتخب الكلام في تفسير الأحلام، تفسير الأحلام الكبير، إلخ. (المترجم)

[28] يراجَع في هذه المسألة بالأخص: الدينوري، ج 1، ص 98-99؛ والتفليسي، ص 5 وما يليها وص 13 وما يليها.

[29] لقد اصطفينا هنا بالطبع عددًا قليلاً نسبيًّا من المؤلفات إذا ما قيس إلى الفهرست الذي وضعه ت. فهد (1987، ص 330 وما يليها [ت ع: ص 235-258]) والذي يضم 158 عنوانًا عربيًّا؛ لكننا نرى جزمًا أنها النصوص الأكثر إحاطة والأكثر مرجعية في العصر الوسيط – وحتى أيامنا هذه.

[30] نحيل بهذا الخصوص إلى التعبير المنسوب إلى ابن قتيبة؛ راجع: فهد، 1987، ص 316-328 [ت ع: ص 224-231]، وبالأخص كِسْتِر، 1974.

[31] التفليسي، ص 53. بابن سيرين نقصد هنا المصنِّف من القرن الثالث الهجري الوارد ذكره أعلاه (الحاشية 24)، ولا نقصد أبا علي الداري، مصنِّف المنتخب في تعبير الرؤيا.

[32] لا بدَّ هنا من الربط بين هذا الحديث وبين رواية الحديث المذكور أعلاه "… فسيراني في اليقظة" الذي أوِّل كذلك تأويلاً أخرويًّا. راجع أعلاه الحاشية 11.

[33] راجع الحاشية 7 أعلاه. هذه النقطة حاسمة: حتى تصدَّق الرؤيا على أنها "صالحة" لا بدَّ من تأويلها وفقًا للسنَّة – وبذلك تنغلق الحلقة التأويلية.

فلسفة اللاعنف (ديڤيد مكرينولدز) – دارين أحمد

فلسفة اللاعنف*

دارين أحمد**

ليس اللاعنف وليد الحاضر فقط، بل هو، كما يؤكد اللاعنفيون الكبار، قديم قِدَمَ البشرية. غير أنه انتقل على صعيد الواقع، بدءًا من التجربة الگاندهية في تحرير الهند، من الأنساق الضيقة إلى النسق الرحب، أي تحول من مجرد حالات فردية أو جماعية، إلا أنها متفرقة وذات أثر محدود في التاريخ، إلى عامل مهم في صنع التاريخ. بعبارة أخرى، لا يزال النزاع هو العامل المحرك لمسيرة التاريخ، إلا أن إدارة النزاع اتخذت بُعدًا جديدًا، أكثر إنسانية، مع دخول اللاعنف كإستراتيجية فعالة للوصول إلى حل.

قبل أن نستعرض الكتاب محور المقال[1]، سنعرج على بعض المغالطات في فهم اللاعنف التي تشكل عقبة كبيرة تحول دون انتشار هذا التجديد الفكري-الواقعي في نظرتنا إلى مشكلاتنا المحلِّية والعالمية وفي علاقتنا معها. ويمكن لنا تلخيص هذه المغالطات في نقاط ثلاث:

– الأولى، لافعالية اللاعنف: لا يزال يُنظَر إلى اللاعنف على أنه انسحاب من الفعل، انسحاب "سلبي" قوامه العجز والضعف. ومن أسباب انتشار هذه النظرة نذكر:

1. التاريخ الذي مجَّد العنف على حساب السِّلْم والذي تستلهمه الآن مجتمعاتنا المتهالكة كمنبع وحيد لإحيائها.

2. الإعلام، بمنافذه كلها، مساهمٌ أساسي في توكيد العنف وتجاهُل التجارب اللاعنفية.

3. طريقة تفكير "أبيض-أسود" التي تقسم الواقع إلى حيزين متعارضين لا يمكن الجمع بينهما، وتلصق صفات أزلية دائمة بكل حيز منهما، بحيث يغدو من المتعذر رؤية العلاقة بينهما أو فهمها إلا بعين التناحر الأبدي؛ هذا إلى الترافق مع نحوها – أي طريقة التفكير هذه – إلى الاختزال أكثر وأكثر: فالشجاعة والقوة والجسارة والإقدام قد تُختزل إلى "التدميرية" التي توسَم بالإيجاب، فيما التنازل والصبر والتحمل والرقة والمسالمة تُختزل إلى الضعف الذي يوسَم بالسلب[2].

4. استبدال "العدو" بـ"الخصم": ففي حين يُعَدُّ الخصمُ إنسانًا أو دولة صاحب مصالح متعارضة مع مصالحنا وينبغي لكلينا محاولة التوصل إلى تسوية، يُعَدُّ العدو "شيئًا" لاأخلاقيًّا لا يمكن، بالمطلق، التعامل معه إلا بتدميره.

– الثانية، اللاعنف والمثالية: لا يزال اللاعنف، خاصة في ثقافتنا العربية، مرادفًا للمقولة المثالية المسيحية: "مَن لطمك على خدِّك الأيمن فحوِّل له الآخر". ولهذا الترادف مساوئ تتمثل أساسًا في نقطتين اثنتين:

1. الأولى في أنه يقصِر اللاعنف على دين واحد في ثقافة لا يزال فيها الدين هو عامل الهوية الرئيسي، وهي ثقافة تحملها أغلبية ديموغرافية مسلمة، في واقع يُعَدُّ فيه الإسلامُ (الأصولي) أحد منابع العنف الفكرية. المشكلة الأساسية في هذا القَصْر هي في تناقُضه مع واحدة من أهم ميزات اللاعنف: إنه مكان مفتوح للجميع، أطفالاً وشبانًا وشيبًا، نساءً ورجالاً، أقوياء وضعفاء، أصحاء وسقيمين، على العكس من العنف الذي يتغذى على شباب وصحة و"ذكورة" المنافحين عنه.

بهذا المعنى، يمثل اللاعنف نقلة على المستوى الإنساني: فمن التراتب البطريركي الذي يفرضه العنف عبر الأدوار الموكولة إلى أشياعه، إلى المساواة التي يقدِّمها اللاعنف للمشاركين فيه؛ إذ يستطيع كل شخص أن يكون فعالاً على قدر إمكانه، وعلى المستوى نفسه، دون أية تمييزات جندرية أو عمرية أو ثقافية.

2. الثانية في تناقُض مثالية المقولة المسيحية مع واقعية اللاعنف: فاللاعنف، كما يقول ديڤيد مكرينولدز، لا يُعرف إلا على محك الواقع؛ وهو ليس نظرية فلسفية أو أخلاقية فقط، على الرغم من ارتباطه الوثيق بالفلسفة والأخلاق، بل هو، أيضًا، إستراتيجية واقعية قد تنجح وقد تخفق بحسب ظروف استعمالها، إلا أنها – وهذه ميزة أساسية أيضًا من ميزات اللاعنف – توحِّد بين الغاية والوسيلة، مما يساهم، حتى في حال إخفاق حركة لاعنفية ما في الوصول إلى الهدف المحدد آنيًّا، في التأسيس لمجتمع أفضل هو الغاية النهائية للفعل الإنساني.

3. ثالثًا: اللاعنف و"التقنية": اللاعنف ليس تقنية أو إستراتيجية معزولة عن الهدف المطلوب. طبعًا من الممكن استعمال تقنية اللاعنف ضمن تقنيات أخرى عنفية، لكن اللاعنف يفقد بذلك فعاليته الإستراتيجية. بهذا الصدد يقول جان-ماري مولِّر، أحد المفكرين اللاعنفيين الذين يجوز أن نطلق عليهم صفة "پراغماتيين"، إن نشاطًا فيه 90% لاعنف و10% عنف هو نشاط عنيف استُعمِلَتْ فيه تقنيات لاعنفية! وهذا ما ينزع عن اللاعنف، في حال اعتماده كإستراتيجية نضال، فعالية أثره التي ينبغي له أن يوقعها في الخصم وفي الرأي العام وفي المشاركين فيها كذلك.

إن تجاوز المغالطات السابقة شديد الأهمية عند الرغبة في التعرف إلى الفكر اللاعنفي الذي يقدم هذا الكتاب الذي بين أيدينا بعضًا منه.

philosophy_of_nonviolence

يتحدث الكتاب عن اللاعنف من منطلق تجربة حية خاضها المؤلف، مركزًا على مجمل القناعات التي تشكلت من الواقع كما ومن قراءات متعددة، فيبدأ من افتراض أساسي يقتضيه اللاعنف، وهو نسبية رؤية الإنسان للحق، أي عدم قدرة أي إنسان على الوثوق ثقة مطلقة بأنه على حق ونفي هذه الثقة عن الآخر "الخصم". الواقع في تغيُّر دائم، وهذا التغير يتم عبر النزاع، مما يعني وجودًا دائمًا للخصم. الجديد الذي يقدِّمه اللاعنف هو إدارة جديدة للنزاع، إدارة أكثر إنسانية تأخذ بعين الاعتبار فرادة الكائن الإنساني – الذي هو الخصم أيضًا.

تغيير الواقع لا يمكن له أن يتم من دون ألم. لكننا، في المقابل، لن نتحول إلى ممجِّدين للألم، حتى لو كان ذلك باسم "العدالة". وهنا يتناول مكرينولدز مفهوم العدالة، مميزًا بينها وبين الثأر: فالعدالة ليست هي الثأر أبدًا، وإذا كنا نريد التغيير فيجب أن نتحرك نحو الأمام، لا أن ندور في الحلقة المغلقة للثأر[3]. هذا التحرك لا يمكن له أن يحدث من دون تجاوُز، على الرغم من أن التجاوز قد ينقض العدالة في أبسط مفاهيمها. في اختصار، العدالة هي سعينا في تحقيق شروط أكثر إنسانية لحياة البشر، هي إصلاح ما أفسده غيرنا، لا في المزيد من الإفساد المقابل.

هل يتطلب اللاعنف خصمًا إنسانيًّا؟ ويتساءل مكرينولدز في صيغة أخرى: "ولكن ماذا عن هتلر؟" ويجيب بأنه لا يمكن معرفة أثر اللاعنف في مواجهة مثل هذا الخصم؛ فاليهود لم يكونوا لاعنفيين، بل سلبيون. كما أن هناك توثيقات مهمة لانتصارات لاعنفية عديدة في أوروبا على النازية: ففي النرويج حصل إضراب ناجح للمعلِّمين ضد تدريس الإيديولوجيا النازية؛ وفي بلغاريا حالت المقاومة المدنية العفوية دون ترحيل اليهود خارج البلاد.

ويبين مكرينولدز أن الإنكليز والأمريكيين في الجنوب لم يكونوا باللطف المزعوم عنهم في صراعهم مع الهنود أو مع "حركة الحقوق المدنية" على التوالي. صحيح أن الظروف ساعدت على إنجاح الثورة اللاعنفية في كلا المكانين وأفشلتْها في أماكن كثيرة أخرى، إلا أنه لا مناص من أن يُفهَم أن اللاعنف قد يخسر أيضًا، مثله كمثل العنف تمامًا، إلا أنه يتميز بأن هدفه النهائي ليس النصر فقط، بل تغيير الواقع نفسه؛ وهو ما ينجح فيه، حتى لو لم يحقق غايته الآنية، عبر "البرنامج البنَّاء" الذي لا يكتمل النشاط اللاعنفي من دونه.

غاية النشاط اللاعنفي متضمَّنة في وسيلته: گاندهي لم يسعَ إلى خروج الإنكليز من الهند "فقط"، بل ألح على استقلال الهنود أنفسهم أولاً، مؤكدًا عليه ومجاهدًا في سبيله (مسيرة الملح ودولاب الغزل مثالان رائعان على ذلك)؛ سيزار تشاڤير كان أول مؤسِّس لنقابة للعمال الزراعيين في الولايات المتحدة، وقد عمل على توعية العمال بحقوقهم وبمخاطر المبيدات الحشرية، بالإضافة إلى أنه أعاد إليهم الأمل بقدرتهم على إحداث أثر؛ مارتن لوثر كينگ فعل ذلك أيضًا من خلال فعل شديد البساطة كالمشي.

اللاعنف يبني غايته، إذن، عبر أنشطته ذاتها؛ وهو بذلك يتميز عن العنف الذي يضيف إلى الخسارات خسارات جديدة، ويرجئ الإيجابية إلى زمن مجهول غالبًا ما تضيع فيه الإيجابية ذاتها، كما يؤكد التاريخ.


* عن موقع الأوان: http://www.alawan.org.

** شاعرة سورية، محرِّرة في مجلة معابر (www.maaber.org).

[1] ديڤيد مكرينولدز، فلسفة اللاعنف، بترجمة ديمتري أڤييرينوس، معابر للنشر، دمشق، 2009.

[2] الضعيف، في هذا الفكر، عنيف كامن: إذ إن "سِلْمه" ليس ناتجًا من قوته، كما يفترض اللاعنف، بل ناتج من نقص إمكانات العنف لديه؛ فمتى تغيرت ظروف هذه الإمكانات تبادَلَ الأدوار مع التدميري في سهولة لا تخفى على أحد.

[3] راجع: جان ماري-مولِّر، "الانتقام ليس حقًّا من حقوق الإنسان!"، http://samawat.org/articles/vengeance_no_human_right_muller. (المحرِّر)

الإمام الثاني عشر (هنري كوربان) – بلال لزيق

الإمام الثاني عشر[1]

العالم الموازي

بلال لزِّيق

في افتتاح القول، لا مناص لنا من ذكر أن مقاربة العرفان الشيعي، موضوعاتٍ ورجالاتٍ ومنطلقاتٍ وتبريرًا وغايةً – كان، ولا يزال، مغمورًا، محدودًا بنطاقات ضيقة في مجال الإسلاميات، بل حتى في المجال الشيعي بالأخص. ومَن تناولَه بحقٍّ وموضوعية من المستشرقين لا يتجاوز عددُهم عدد أصابع اليدين، كأمثال لوي ماسينيون وهنري كوربان وأنِّه-ماري شيمِّل ووليم تْشِتِّك وتوشيهيكو إيزوتسو، – حتى إن الأخير، على سبيل المثال، غير مذكور البتة في موسوعة المستشرقين لعبد الرحمن بدوي، مع أن له العديد من المؤلفات والأبحاث القيِّمة في مجال التصوف الإسلامي، الشيعي تحديدًا[2] – وهذا أمر غريب حقًّا ومدعاة للتساؤل!

خاتم الولاية المحمدية

ثم إنه لا بدَّ من الإشارة إلى أن جُلَّ القول في هذا المقام – إن لم يكن كله – يتناول وقائع حقيقية، لكنها ليست مادية، بل روحية؛ وهذه الوقائع، على الرغم من روحيتها، واقعية. لكن «واقعيتها» ليست من نوع واقعية الوقائع التاريخية الخارجية؛ إذ هي لا تتخذ مكانًا لها في سلسلة التوالي الزمني الخارجي. إن تفسير أية حقيقة روحية انطلاقًا من تاريخ إعلانها على الملأ هو ما يُطلَق عليه اسمُ «التاريخانية» historicisme، الأمر الذي طالما أدى إلى وقوع التباس بين زمان النفس وبين الزمان الواقع في التاريخ.

استنادًا إلى القول السابق، فإن السؤال المحوري يصير: إذا كان الوحي قد خُتِمَ، وإذا كان عصر البعثات الإلهية قد تم، وإذا كان محمد «خاتم النبيين» ولم يعد من بعده نبي آخر («لا نبي بعدي») وكانت رسالته «خاتمة الرسالات»، فهل يستبطن هذا «الختم» للبعثة النبوية أن الصلة بين عالمَي اللاهوت والملكوت، بين الله والإنسان، قد انقطعت؟ وهل إن الفيض الإلهي على الإنسان قد وصل إلى مداه الأخير، بحيث يصح أن نطلق على هذا الإنسان بأنه «الإنسان الأخير» بالمعنى اللاهوتي؟

إن ما انقضى ولم يعد ممكنًا هو أن تكون هناك شريعة أو «رسالة تشريعية» جديدة؛ إنما لا بدَّ من أن يكون «في أمتي عبادٌ ليسوا بأنبياء ولكن يغبطهم النبيون». هاهنا أدرك

[…] التراث الشيعي مؤشِّر افتتاح دائرة جديدة، دائرة الولاية، دائرة الهداية الروحية. لقد أدرك التشيع كمَن تردَّد فيه الصدى العميق لواقع أليم يتمثل في أن الناس في عُسْرها لم يعد لها نبي تنتظره بعد خاتم المرسلين. لذلك فإن أكثر الناس قد أوقفت نفسها تعصبًا على حراسة الرسالة المقفلة، وتصبح فكرة خاتم النبوة علامة على مأساة بشر انغلقوا في ماض لا مستقبل له. (ص 214)

… ماض لا مستقبل له في عمره المديد!

twelfth_imam

العدد التام للأئمة هو اثنا عشر. ومن دون استكمال هذا العدد تكون الإمامة ناقصة وغير مكتملة. لذا إذا كان الإمام الحادي عشر، الحسن العسكري، قد استشهد في العام 260 للهجرة، من جهة أولى، وإذا كانت الأرض لا تخلو من حجة-إمام، ظاهرًا كان أو باطنًا، لأن من دونه لن يكون بمقدور الإنسانية أن تحافظ على كينونتها، إذ هو السبب الوحيد المتصل بين السماء والأرض بعد أفول نجم نبوة التشريع، من جهة ثانية، فكيف للإمام الثاني عشر أن يغطي تمام الزمان حتى يوم القيامة؟ كيف للإنسان أن يحيا تلك الحياة الطويلة التي امتدت قرونًا دون أن يتسلل إليها الفساد والتلاشي والموت؟ هل ثمة «في البين» معجزة أو كرامة أو عمل استثنائي مباشر لليد الإلهية في الأمر؟!

مافتئ العلماء عبر العصور يجهدون في تسويغ هذا العمر المديد للإمام بقولهم بأنه يمكن للمرء، إذا ما اعتمد نظامًا غذائيًّا نباتيًّا معينًا، أن يمتد به العمر آمادًا طويلة، ويمثلون لذلك بالأنبياء نوح والخضر وإدريس، متناسين أو متجاهلين أو غافلين عن أن السؤال يبقى مطروحًا: إذ كيف لهؤلاء أيضًا أن يطول بهم العمر إلى هذه المدة؟!

في العالمين المادي والمثالي

بعد أن يصف هنري كوربان هذا الوعي بـ«السذاجة»، يجد أن الحل يكمن بالتسليم بوجود عالم المثال mundus imaginalis؛ إذ ثمة خشية مفادها، إذا لم يتم التسليم بهذا «العالم الموازي» لعالمنا، أن كل تعليل لن يؤدي سوى إلى تدمير موضوعه:

إن الحضور المستتر للإمام ومعاصرته المستمرة بين الأزمان ليسا قطعًا استعارة أخلاقية أو تمثيلاً أسطوريًّا، بل هما واقعية عالم المثال الذي فرضت فلسفته النبوية نفسها على السهروردي والأفلاطونيين الفرس، لأنهم علموا أنه من دون وجود هذا العالم ما كان لهم أن يفهموا واقعية الأحداث الروحية الغيبية فوق الطبيعية. (ص 82-83)

وهكذا تُفهَمُ القدرةُ التي يرفض بها الوعي الشيعي أن يتيه في ضلالين مميتين: ضلال العجز – عجز غير المؤهَّلين لإدراك التجلِّيات الإلهية، بتشديدهم الركيك على أن الإمام الآتي لم يولد بعد؛ أو ضلال أبعد، هو اعتراض المشكِّكين: لقد ولد الإمام، لكنه توفي في حياة والده. لذا كان

[…] من المستحيل على الوعي الشيعي أن يتخيل قبولاً ما بأمر ما يكون صدًى أو استباقًا لـ«الرب مات» [قول نيتشه في هكذا تكلم زرادشت: «لقد مات الله»]، وذلك لأن الإمام الثاني عشر هو شخصية تُقدِّم نمطًا عن التطلعات العميقة، كالتطلعات المقابلة في المسيحية، مع خريستولوجيا الجسد الروحاني للمسيح. (ص 84)

إذًا، لا يمكن الولوج في الحديث عن الإمام المنتظَر، زمانًا ومكانًا وغيبةً ورؤيةً ووظيفة، دون الارتكاز بداهةً إلى الإيمان بوجود عالمين: المادي والمثالي، المُلْكي والملكوتي، البدني والنفسي. فمن دون تخطِّي، أو بالأحرى تطوير العالم الأمپيري (عالم المحسوسات) وتصعيده لنصل إلى ذلك العالم المثالي، الأغنى صورًا والأوسع وجودًا والأبقى حياةً من عالمنا هذا، لا يمكن الركون إلى نظرية «الإمام المنتظَر»، الحاضر ملكوتًا والغائب مُلكًا، والاطمئنان إليها؛ ولن يكون ثمة إمكان للإقرار بذلك العالم أو تأويل لـ«الغيبة الكبرى» للإمام دون الإقرار بهذا «العالم الموازي» لعالمنا – عالم «تتجسَّم فيه الأرواح وتتروَّح فيه الأجسام»، وفقًا لتعبير الفيض الكاشاني.

وعلى الرغم من روحية هذا العالم، فإنه عالم متحقق وحقيقي، وليس وهمًا أو غير واقعي. والقوة التي بها يوصَل إلى تلك العوالم الروحية والواقعية معًا يطلق عليها عرفاؤنا مصطلح «القوة المتخيِّلة»، لكنْ لا بمعنى غير حقيقي ولاواقعي imaginaire، بل بالمعنى المثالي imaginal. وهذا الالتباس الذي وقع فيه الفكر الغربي

[…] يفترض مسبقًا تدنِّي القوة المتخيِّلة نفسها، وتدنِّي موضوعها، وتدنِّي وظيفتها المتعلقة. وإذا ما جرت مماهاةُ ذلك مع الاستيهام، حصل الأدهى؛ فيصير العالمُ الذي رسمتْ هيئتَه تلك القوةُ يوطوپيًّا، ويصير الإنسان الواثق بهذه الجارحة صاحب نزعة يوطوپية ومصابًا بذُهان الاضطهاد، مهلوِسًا، منفصم الشخصية. (ص 140-141)

إن إدراكات هذه الجارحة اللطيفة ليست استيهامات ولا أوهامًا؛ إذ إن الأحداث الحقيقية التي تتاح معايشتُها ليست من الأسطورة (في شيء) ولا من التاريخ (ص 139).

في التاريخ القدسي

لذا فقد أمكن القول إن عالم النفس، عالم الملكوت، موجود في كل محل وليس في أي محل. وهذا يعني أن في أرجاء عالمنا المحسوس كلها يمكن أن يدهم الملكوت، وأنه يمكن للملكوت اختراق كل ناحية من أنحاء عالمنا، دون أن يكون الملكوت جزءًا من العالم المحسوس (ص 139).

من هنا كان تاريخ الإمام الغائب – التاريخ المستسر – والتاريخ القدسي تاريخًا وزمانًا وسيطًا «بين الأزمان». وكل حدث يقع في هذا الزمان المستسر يمثل قطيعةً في التاريخ العام لأنه لا يدخل في التاريخ الذي يخضع للسببية التاريخية. إن التاريخ المستسر للإمام الثاني عشر يتناقض مع

[…] وسواس التاريخانية المادية للوقائع، ومن دونه لا يمكن لنا أن نتصور أن ثمة وقائع واقعية. […] ومع ذلك، فهو يسود الوعي الديني الشيعي منذ أكثر من عشرة قرون؛ بل إنه هو تاريخ هذا الوعي الذي يحياه التشيع في صحبة الحضور الغائب للإمام الثاني عشر، في تفانٍ وشغف، منذ قرون نافت على العشرة. (ص 76)

لا يمكن شرح التاريخ الغيبي للإمام الثاني عشر بآلية قوانين السببية التاريخية. إنه يقع على الجهة المقابلة لجهة اللاهوتيين والفلاسفة الذين «يبحثون عن الربِّ في التاريخ»:

إن تاريخ الإمام الثاني عشر هو تخلُّص من التاريخ (بالمعنى السائد). وإذا لم نفهم ذلك فلن نستطيع الدخول إلى عالم الإمام، وسنلجأ إلى تعليلات «علمية» قد تكون نتيجتها الأجلى إلغاء ما نسعى إلى تعليله. (ص 92)

وليس هذا من الأسطورة في شيء، كما قد يُظَن، بل إنه يمكن لنا القول بأنه يقع في مكان ما فوق التاريخ ودون الأسطورة.

إن جميع التعليلات الاجتماعية والسياسية التي حاولت شرح التشيع على مستوى قوانين السببية التاريخية (فقط) هي تعليلات تُجانِب ما يكوِّن ماهية الوعي الشيعي وموضوعه، لأن زمان الإمامة يظل «بين الأزمان»:

لا يتعلق الأمر بمشروعية سياسية ولا بيوطوپيا اجتماعية، ولكن بما يكوِّن مغزى الإمامة الذي بدأ مع فجر الإنسانية مع شيث بن آدم، كأول إمام (وصي) لأول نبي، وينتهي مع ظهوره أو مجيء آخر وصيٍّ لآخر نبي. لقد بتنا نستطيع فهم ما يحرك الإمامية، في حميَّة وورع واجتهاد، نحو شخص الإمام الثاني عشر. (ص 81)

في الرؤية والغيبة

ولأن الأمر كذلك فإن إدراك الإمام، أو بالأحرى رؤيته، لا تتم بأدوات مادية، كالحواس المادية التي بها تُدرَك الأشياءُ في عالمنا هذا وتُرى. إن أداة الإدراك، هاهنا، هي «عين النفس التي لا تنام»، كما قال فيلون الإسكندري وكما وافق عليه عرفاؤنا أيضًا. إن شخصية الإمام، في ظهوره واستتاره، لا تخضع للقوانين الفيزيائية والأحيائية والمادية التاريخية:

فمَن لم يستطع أن يرى بغير الطريقة التي يدرك بها أيَّ موضوع في العالم الخارجي لن يرى الإمام الغائب عن الإدراك الحسي، حتى لو كان الإمام ماثلاً أمامه. لذا فإن ظهور الإمام، رجعته، لا تحصل ما لم يستيقظ وعي الناس؛ إنه لا يتحقق في «ما بين الأزمان» إلا لعدد قليل ممَّن يختارهم الإمام بنفسه ممَّن لديهم الوعي الروحي، لا مجرد العلم الظاهري الذي يقدر عليه حتى الحيوان. (ص 57)

إن وعي الناس هو المحدِّد الحقيقي والمفصل الواقعي لرؤية الإمام أو عدمها. فظهوره وغيبته متوقف على مستوى الوعي الروحي للناس: إذا كان الإمام غائبًا فلأن الناس غير قادرين على رؤيته، غير مؤهَّلين لها؛ فهم مَن «غابوا» عنه، وليس هو مَن «غاب» عنهم!

وفي النتيجة، ينتهي كوربان إلى خلاصتين أساسيتين:

– الأولى: إن

[…] التشيع يرفض أن يكون مستقبله وراءه: فبخلاف الإسلام السنِّي الأكثري الذي لم يعد للإنسانية في نظره، بعد النبي الأخير، من جديدٍ تنتظره، يحافظ التشيع على المستقبل مفتوحًا، بإعلانه أنه حتى بعد مجيء خاتم الأنبياء، ثمة أمور بعدُ للانتظار، أي إظهار المعنى الروحي للرسالات التي أتى بها الأنبياء الكبار. تلك كانت المهمة التأويلية التي تولاها الأئمة الأطهار. […] لكن هذا الإدراك الروحي لن يكون كاملاً إلا في نهاية عصرنا، عند ظهور الإمام الثاني عشر، الإمام الغائب في الوقت الحاضر والقطب العرفاني لهذا العالم.[3]

– الثانية: إنه يجب على الفكر الغربي، من الآن فصاعدًا، ألا يستبعد أو يستغرب أو يقصي من أبحاثه ودراساته فكرةَ شخص كونيٍّ منتظَر، سواء سُمِّيَ "الإمام" أو "المخلِّص" أو "المصلح" أو "المسيح":

إن كل ما ظهر ويستمر في الظهور على الوعي الشيعي في صورة الإمام الثاني عشر وأحداث سيرته: ولادته، غيبته، ظهوراته، مجيئه كفارقليط – إن ذلك كله ينبغي له، من الآن فصاعدًا، أن يكون له معنى عند الغربي، ومن الآن فصاعدًا، ينبغي ألا يكون الطرح الشيعي عن الإمام الغائب قصيًّا عن دراساتنا [الغربية] في الميتافيزيقا الأخروية. (ص 239)

زبدة القول إن كتاب كوربان الإمام الثاني عشر نصٌّ لا غنى عنه لكل راغب حقًّا في فهم سرِّ حضور الإله في التاريخ.


[1] هنري كوربان، الإمام الثاني عشر (في الإسلام الإيراني – مشاهد روحية وفلسفية للإسلام، الكتاب السابع)، بترجمة نواف محمود الموسوي، دار الهادي، بيروت، 2007.

[2] صدرتْ مؤخرًا ترجمة لكتابه الإنسان في القرآن في مقاربة لسانية إبداعية؛ ونحن بصدد ترجمةٍ وتعليق على مؤلَّف له قيِّم عن فلسفة الملا هادي السبزاوري.

[3] هنري كوربان، عن الإسلام في إيران – مشاهد روحية وفلسفية، دار النهار، بيروت، 2000، ج 1، ص 27.

التقمص (ديمتري أڤييرينوس) – هڤال يوسف

مقالة في التقمُّص

قراءة نقدية

هڤال يوسف*

صدر الكتاب الثاني من سلسلة "الحكمة"[1] التي يقوم عليها الباحث ديمتري أڤييرينوس بعنوان مقالة في التقمص[2]. يحوي الكتاب، بالإضافة إلى "مقالة في التقمص بحسب التعاليم الثيوصوفية"، ثلاثة نصوص للمفكر الثيوصوفي وليم ك. دجدج تحمل عناوين "العَوْد للتجسُّد" و"كَرْمى" و"حِكَم في كَرْمى"، ترجمَها إلى العربية توفيق شمس وديمتري أڤييرينوس.

reincarnation

موضوع البحث، في حقيقته، يتجاوز سؤال التقمُّص، الشائك والعسير، وذلك لأن قضية كهذه لا يمكن فصلها عن مجمل الأسئلة والأسرار الوجودية حول حقيقة الإنسان وماهيته، حول الحياة – معنًى وغايةً –، وحول الوجود بكلِّيته وما يكتنفه من مجاهل معرفية لا تزال تحتفظ بعذريتها بعيدًا عن متناول الفضول الإنساني.

يتماس التقمُّص مباشرة مع الموت وما يفرزه من تساؤلات وقضايا شغلت معظم الفلاسفة والعلماء والمفكرين على مرِّ العصور. يقول الراحل دَگْ همِّرشولد، الأمين العام الأسبق للأمم المتحدة:

لو ذهبنا حتى جذر الموضوع فإن فكرتنا عن الموت هي التي تقرِّر إجاباتنا عن جميع الأسئلة التي تطرحها الحياة.[3]

في محاولته لتجاوز الموت، وفي أثناء بحثه عن ينبوع الحياة والخلود والأبدي، طرح الإنسان إجابات عدة بقيت محل جدل طويل. بعض تلك المذاهب والأفكار لا يزال محتفظًا بحيويته في وقتنا الراهن، وخاصة تلك التي اعتمدت مفهوم التقمص أو "العَوْد للتجسد" reincarnation لبنةً أساسيةً في بناء منظوماتها العقائدية والفكرية.

يرتبط التقمُّص ارتباطًا وثيقًا بعلم الأخرويات أو "النشوريات" eschatology، أي الاعتقاد باستمرار الحياة بعد الموت، أو بالحري، اعتبار الموت سيرورة من سيرورات الوجود؛ فهو، بالتالي، تحوُّل وانتقال، لا إلى عالم آخر مفارق، بل إلى حالة أخرى – ذلك لأن من المبادئ الأساسية للثيوصوفيا Theosophy، التي ينطلق منها المؤلف في دراسته للتقمُّص، النظر إلى الكون بوصفه كائنًا واحدًا لا يتجزأ، لا يولد ولا يموت، أزليًّا غير محدود (ص 16).

بالعودة إلى الكتاب الذي بين أيدينا، لا يحاول المؤلف مَنْطَقَةَ آرائه أو "فَكْرَنتها"، وذلك لأنه يتناول ما يتجاوز حدود المنطق والفكر، ولأن الكلام على المطلق واللاتناهي والأزل والأبد إلخ يقع خارج حدود التذهُّن والتصوُّر. يؤكد ذلك الحسين بن المنصور الحلاج في "طاسين الفهم"، إذ يقول:

أفهام الخلائق لا تتعلق بالحقيقة، والحقيقة لا تليق بالخليقة. الخواطر علائق، وعلائق الخلائق لا تصل إلى الحقائق.[4]

من هذا المنطلق، فإن المؤلف، عبر شرحه للمبادئ الأساسية التي يقوم عليها "دين الحكمة" (الثيوصوفيا)، لا يحاول إقناعنا بقدر ما يحاول تعريفنا بهذه العقيدة التي ترى الكون كائنًا واحدًا لا يتجزأ: "حي وعاقل – ككل وفي كل جزء من أجزائه. وهو، في كلِّيته، تجلٍّ لمكوِّنه الذي هو الله أو الواحد أو المطلق" (ص 16). لا خوف هنا من الوقوع في الإشكالية الأرسطية حول حدوث العالم أو قِدَمِه، لأن "الله، من هذا المنظور، ليس كائنًا مستعليًا transcendent على الكون" (ص 16). بيد أننا نقع هنا في المحذور، حيث يجب اجتناب كل محاولة لتقديم تعريف، وذلك لأن أية محاولة للتعريف بـ"الله" بوصفه خالقًا تقود لا محالة إلى التعريف بما ليس هو "الله". ولقد نبَّه ديونيسوس الأريوپاغي إلى هذا الأمر حين قال:

ليس لأحد ممَّن يحبون الله فوق كل حق أن يجوز له تمجيد جوهر الألوهية السامي – الذي هو الوجود الأعلى والخير الأسمى – على أنه كلمة أو عقل أو حياة أو ماهية، بل على أنه مفارق لكل وصف وحركة وخيال وتخمين ولفظ وفكر وتصوُّر وماهية ووضع وثبات ووحدة وحدود ونهائية، بل وبأي شيء آخر على الإطلاق[5]

– الكلام الذي ينسجم مع القول الهندوسي: "ليس هذا، ليس ذاك". ولكن، كما أسلفنا، لا يحاول المؤلف إقناعنا، الأمر الذي يدفعه إلى الحديث عن خلود الكون، حيث "كل ذرة حية فهي لا تفنى، لكنها في تطور (تفتُّح) أبدي" (ص 17). فالخلود، بمعنى سرمدية أزلية-أبدية، مفهوم نظري غير قابل للتذهُّن؛ وبالتالي، فإنه ينضوي تحت المحتوى الإيماني، لا المعرفي. وفي الحقيقة، إن كونًا لامتناهيًا، مكانًا وزمانًا، هو شيء غير معقول. لكن الثيوصوفيا، باعتبارها هذه الوحدة بين "الله" والكون، لا تتناقض مع ذاتها، وذلك لأن "القوانين سارية في كل شيء، من الذرة إلى المجرة. […] تناغُم الكل تناغُم واحد غير منقسم" (ص 17).

أحد هذه القوانين هو قانون كرمى karma الذي سنعود إليه لاحقًا. غير أننا نجد أنفسنا هنا أمام معضلة غير قابلة للحل في العلاقة بين الـ"كائن"، الذي هو "شعاع Ray في الكل ومنه" والذي "ينطوي بالقوَّة in potentia على صفات الكل ومقوِّماته كافة" (ص 17)، وبين هذا "الكل"، وذلك لأن كون "الشعاع" ينطوي بالقوَّة على صفات الكل لا يعني البتة أنه يساوي الكل أو أنه قادر على أن يكون كلاًّ بذاته. فاللامتناهي لا يُدرَك، وإنما يُتناهى إليه؛ الأمر الذي بيَّنه ابن عربي في شرحه على مقولة سهل التُّسْتَري حين قال: "إن للألوهية سرًّا، لو ظَهَرَ، لبَطُلَتِ الألوهية"؛ إذ قال الشيخ الأكبر: "الألوهية مرتبة للذات لا يستحقها إلا الله"[6].

ترى الثيوصوفيا في الحياة مدرسة يتعلم فيها المرء من أجل

[…] بلوغ مستوى من الوعي هو الوعي المنعكس على ذاته، أي وعي الوعي […]. وعندما يخترق "المدرك" حدود ظاهر الأشياء إلى بواطنها يتعرف، كشفًا، وجود العاقلة الصادرة عن أصل الوجود – في نفسه وفي غيره من البشر الفانين الذين يتجلَّى من خلالهم الإنسان الخالد. (ص 18-19)

ولأنه "لا حدود للحكمة وللتعلم" (ص 19)، فالإنسان في حاجة إلى حيوات عديدة لحصول هذا التجلِّي. بيد أننا نسأل من منطلق "لاحدِّية" الحكمة أو لامحدوديتها: هل يتوقف التطور عند "الإنسان الخالد" أم يستمر؟ والإجابة سوف تكون طبعًا: يستمر! عندئذٍ نتساءل: ماذا بعد الكمال؟!

في البحث عن الأصول الكتابية الأولى لعقيدة التقمُّص، يعود بنا ألبرت شڤايتْسِر إلى الأسطورة القمرية القديمة التي تقول:

كل أولئك الذين يغادرون هذه الأرض يذهبون إلى القمر. فنفوسهم تملأ البدر، والهلال المتناقص يجعلهم يولدون من جديد. إن القمر باب السماء، وعندما يعرف المرء كيف يرد عليه يترككم تمرون. ومَن لا يعرف الجواب يحيله إلى ماء ويعيده مطرًا إلى الأرض. وهناك، [يثاب] بحسب ما قدَّمتْ يداه وبحسب ما يملك من معرفة. […] والحقيقة أنكم عندما تصلون إلى القمر يسألكم: "من أنت"؟ عند ذلك يجب أن تجيبوا: "أنا أنت". وكل مَن يقدم هذا الجواب يتركه القمر يمر.[7]

ويعيد شڤايتْسِر أصل هذه الأسطورة تاريخيًّا إلى سكان الهند السابقين للفتح الآري، حيث يؤكد عدم وجود أي أثر لها في الأناشيد الڤيدية، إلى كونها تبدو غريبة عن التصوف البرهمني.

كذلك نرى أن أزلية الوجود هي من ضمن تعاليم كرشنا لأرجونا في البهگڤدگيتا Bhagavadgītā، حيث يقول: "غير أني لم أكن غير موجود، ولا أنت ولا أولئك الرجال الحكماء، ولن يتوقف أي منا أن يوجد هنا"[8]. ويقول في موضع آخر: "لا وجود لما لم يوجد، أما ما هو حقيقي فإنه لن يكون غير موجود"[9]. أما بخصوص التقمُّص فيقول كرشنا: "كما يتخلص المرء من ملابسه ويلبس ملابس جديدة، كذلك الروح المتجسِّدة تتخلص من الأجساد وتدخل أجسادًا جديدة"[10]. وأما عن دورة الولادة والموت فيقول: "حيث إن الموت مؤكد لمن يولد فإن الولادة مؤكدة لمن يموت"[11].

وبالعودة إلى الكتاب قيد القراءة، نرى المؤلف يستنتج "بالقياس العقلي" أن "الكون […] صادر عن المطلق" (ص 19). وعلى الرغم من أنه لم يشرح كيفية هذا "الصدور"، يمكن لنا مقارنة مفهوم هذه الكلمة مع مفهوم "الفيض" الأفلوطيني. ولكن، ألا يفترض هذا الصدور عن المطلق مبتدأ زمانيًّا، وبالتالي، منتهًى زمانيًّا أيضًا؟ الثيوصوفيا تقول: لا، لأن المطلق ليس مفارقًا للكون، ولأن الكون قابع أصلاً في كمون المطلق، ولأن مادة الكون "مجلى من مجالي واحدية ما بعد الروح الذي يمكن لنا أيضًا أن نسميه الحياة" (ص 20). وبما أن المادة والروح تجلِّيان للمطلق الكلِّي الخالد، فهما غير قابلين للفناء؛ وبالتالي، فإن "الحياة كلِّية الحضور omnipresent […] غير قابلة للزوال" (ص 21).

ويرى المؤلف أن الحياة طاقة، وأن الطاقة تخضع لقوانين طبيعية. من هذه القوانين الراحة والنشاط. وبالتالي، وبما أن كل فعل هو طاقة، فإن هذه الطاقة سترتد علينا مساويةً لفعلنا، مما يعني توازنًا وتناغمًا وتواكلاً "بين كل واحدات الحياة المتساوقة في التطور" (ص 22)؛ الأمر الذي ينفي "المصادفة" أو "الحظ"، ليحل محلَّه القانون الكوني الذي هو قانون "لا يخطئ وغير شخصي impersonal" (ص 23). هنا يقع المؤلف في تناقض حين يقول: "من هنا ليس لأي صلاة أو التماس مرفوع لإله أو شفيع أن يمنع القانون من السريان" – نقول "تناقُض" لأن الصلاة أيضًا "فعل"؛ فإنْ كانت الصلاة "صالحة" فلِمَ لا تعود على صاحبها بالخير؟ أليس هذا هو القانون؟!

ينطلق المؤلف، بعد ذلك، راصدًا الحركة الدائرية أو اللولبية في الطبيعة، ليصل إلى إثبات سريان هذا التواتر في الإنسان عبر مفهومي التقمُّص وكرمى – موضوعَي الكتاب.

في إطار شرحه لـكرمى يوضح المؤلف أن "الجذر السنسكريتي كْر kri يتضمن معنى "الفعل" ويدل ضمنًا على دورة العلَّة والمعلول. كرمى هو قانون الدينامية الروحية law of spiritual dynamics" (ص 24). وهو يستشهد بالطبيعة وظواهرها، كتعاقب الليل والنهار والفصول وأطوار القمر إلخ، ليدل على دورية التطور الكوني وليصل، بالتالي، إلى أن هذه الدورية تستوجب الولادة بعد الموت بهدف الوصول بالإنسان إلى غايته الأسمى: الألوهة (ص 25-27). وبالتالي، فإن الكون "مدرسة شاسعة" (ص 28)، والبشر فيها تلاميذ يتعلمون ويختبرون، وتستمر دورات الولادة والموت حتى التخرُّج من مدرسة الكون. وهكذا فإن قانون العلة والمعلول "سار أبدًا، سواء وعيناه أم لم نعِه؛ وبسريانه تصاغ مصائر الأشياء" (ص 30)؛ الأمر الذي قد يقودنا إلى أن النتيجة معروفة مسبقًا، فيما ذهب إليه الجبريون. لكن المؤلف يبيِّن أن هذا "السريان المتواصل للقانون يتولد من إرادة الإنسان الحرة وحدها ويتوقف عليها" (ص 30)؛ وبالتالي، فكل علة هي "معلول معلولها"، على حدِّ قول ابن عربي. وبذلك يبدو كرمى قانونًا لاجبريًّا، يعتمد على سيرورة أفعال الشخص الاختيارية.

لكننا نعود إلى الاختلاف مع المؤلف في حديثه عن المعجزات التي ينفي وجودها، وذلك لأن "كل شيء […] واقع تحت حُكم القانون. [و]هذا يعني بالضرورة أن الله لا يستطيع خرق قوانينه" (ص 33). وهذه الفكرة تقترب من عقيدة المعتزلة والفكر الأرسطي حول ضرورة الفعل الإلهي تبعًا للقانون. ولكن، هل يمكن الحديث عن "إله" مقيَّد الإرادة بقانونه؟!

وباعتبار أن جميع القضايا الآنفة الذكر تعتمد في معالجتها على السؤال المركزي: "ما هو الإنسان؟" فإن المؤلف يتحدث عن الإنسان بوصفه كائنًا سبعي البنيان من حيث تكوينه؛ لكنه يقتصر في نقاشه على أبعاد ثلاثة، ألا وهي الجسم والنفس والروح (ص 36-37). ولأن النفس هي ما يجعل الإنسان بشرًا، فإنه يوضح هذه الفكرة بقوله: "النفس […] نفسان: نفس دنيا […] زائلة […] تسمِّيها الثيوصوفيا أنيَّة الشخصية personal ego […]؛ ونفس عليا […] تتصف بالديمومة […] يُصطلَح على تسميتها بأنيَّة الفردية individual Ego" (ص 37). وبطبيعة الحال، فالنفس الأبدية، أي "أنيَّة الفردية أو الذات الواعية للإنسان قبل الولادة"، هي التي تتجسَّد، وهي التي تبقى بعد الموت (ص 39).

انطلاقًا من التعريف السابق للإنسان، فإن "الإنسان السوي [يعمل] في ثلاثة عوالم – الجسماني والنفساني والذهني" (ص 39) في الوقت نفسه. ويتم الانعتاق من إسار القانون عندما يبلغ الإنسان بوعيه مرتبة الروح. يحتاج الإنسان للعديد من الدورات الحياتية للوصول إلى هذه المرتبة؛ وبالتالي، فإن دورات التقمُّص هي "الامتداد الزمني الضروري لسريان قانون السببية law of causality" (ص 43). والسؤال هنا هو: كيف؟ ولماذا؟

يقول الكتاب: "تشتمل الولادة على سرٍّ مزدوج: […] سر نموِّ المضغة […]. وهناك، ثانيًا، اتحاد النفس بالبدن" (ص 55). ولذلك يؤكد على ضرورة تأمين محيط مناسب لنمو الطفل لأن "الجسم العاجز قد يحوي نفسًا أينعت حكمة" (ص 58). إنما يجب على هذه النفس المولودة أن تحقق استقلالها عن المحيط بأن تصبح قادرة على تحقيق كموناتها تحقيقًا حرًّا (ص 59).

تجري الحياة في تيارين عبر المسار الإنساني: "أولهما جريان النفس (العليا) الخالدة عبر أجسام متعاقبة […]؛ وثانيهما جريان الحياة من جيل إلى جيل" (ص 59)، تحقيقًا لهدف الإنسانية في التطور وصولاً إلى الكمال: "العودة إلى بيت الآب"، بحسب تعبير المؤلف المقتبس عن الإنجيل (ص 60) – التطور الذي يواصل عمله، مؤكدًا على الأخوَّة الكونية بين الموجودات، من خلال قانون النمو، وذلك لأننا "ننمو بوحدتنا مع كلِّ شيء" (ص 35). فالصلاح، في هذا السياق، هو "القيام بالأعمال المتناغمة مع التناغم العام للكون" (ص 34)، بينما الطلاح هو "الأفعال والخواطر والمشاعر غير المتناغمة" (ص 35). وبالتالي، فالقانون "ينسحب على الصعيد الأخلاقي بمقدار ما ينسحب على الصعيد الجسماني" (ص 35). ويتم هذا النمو عبر دورات الولادة والموت.

تميِّز الثيوصوفيا بين النوم والموت، على الرغم من أن "الموت ليس مختلفًا جدًّا عن النوم" (ص 60): فالنوم انسحاب مؤقت للوعي، بينما الموت يعني مفارقة الجسم نهائيًّا. وتؤكد هذه التعاليم أن الموت الفعلي يحصل قبل الموت الظاهري بمدة طويلة، وذلك حين تتبيَّن الذات العليا انتهاء مهمة "شعاعها" في البدن (ص 61).

ويسير بنا الكتاب في رحلة يصف خلالها حوادث ما بعد الموت، دون براهين بطبيعة الحال، إنما بالاعتماد على التعاليم الثيوصوفية وخبرات الحكمة القديمة، وصولاً إلى تصفية الحساب مع الطبيعة، ليتم التطهُّر من الرغبات والمنازع الشريرة، ولتكون النفس قادرة على مصاحبة الذات العليا للسمو إلى "أرض الآلهة" Devachan (ص 64)، حيث يتحدَّد مستوى الـديڤاخان الذي ستقيم فيه النفسُ طردًا مع مستوى الوعي الذي بلغتْه على الأرض (ص 64). وهكذا يتحدَّد نعيم المرء أو جحيمه بحسب ما قدَّم فيما سلف. ويتم التأكيد صراحة على أن الفردوس وجهنم حالتان، وليسا مكانين. ويقول المؤلف، في جرأة يُحسَد عليها: "تلكم هي قدرة الفكر" (ص 64).

أما مسيرة ما بعد الموت، فتتم عبر مراحل من التأملات، ابتداءً بالأشكال والصور، وصولاً إلى معاينة "الذات" وجهًا لوجه (ص 65). ويحاول المؤلف الإفادة من حالات "الموت السريري المؤقت" (ص 67) للتدليل على صحة هذه الفكرة وصوابها، لكني لا أعتقد أن الأمر بهذا الوضوح وبهذه البساطة. واستنادًا إلى ما سبق، يوصي المؤلف بضرورة مساعدة المحتضر على الانسحاب من جسمه وبعدم إطالة مدة الحداد عليه (ص 68).

يختتم المؤلف مقالته قائلاً:

إن العبرة الكبرى من التقمُّص هي أننا ننطوي على قدرات لانهائية، وفرص أبدية، وغاية إلهية. الثيوصوفيا تعلِّمنا أننا شرارات من لهب واحد، صَدَرنا عن المنبع الأصلي للوجود، ولا بدَّ أن "نعود" إليه يومًا […]. (ص 69)

ويضيف في لغة شاعرية: "التقمُّص هو إيقاع الوجود نفسه. […] التقمُّص تأكيد على أن للحياة معنًى وقصدًا. […] التقمُّص هو العاتق العظيم" (ص 70).

أما فيما يتعلق بملاحق الكتاب – وهي عبارة عن دراسات حول كرمى لدجدج، فلم نرَ ضرورةً للتوقف عندها، لأن معظم الأفكار الواردة فيها جاءت في المقالة السابقة، باستثناء ما يتعلق منها بميكانيزم عمل كرمى، الذي هو في حدِّ ذاته موضوع شائك يحتاج إلى دراسة مطوَّلة، آخذين بعين الاعتبار مختلف الآراء والاجتهادات.

فيما عدا ذلك، يحوي الكتاب الكثير من الأفكار الجدية. وقد استطاع المؤلف، بمنطقه الهادئ الدقيق، وصْل الفقرات والآراء بعضها ببعض بدراية وحكمة، مما أعطى الدراسة قيمة حقيقية. أما ما يؤخذ على البحث فهو توجُّهه إلى الخواص دون العوام – وربما كان هذا الأمر ميزة له، لا مأخذًا عليه! – ولكن قد تتوفر إمكانية إيصال المضمون إلى عدد أكبر من الناس.


* كاتب ومترجم ومحرِّر في مجلة معابر (www.maaber.org)؛ صدر من ترجمته عن الروسية مؤخرًا: ليڤ تولستوي، مختارات من كتاباته الفكرية والفلسفية، معابر للنشر، دمشق، 2009.

[1] جاء في تقديم السلسلة: "المقصود بالحكمة ذلك الموروث الروحي الإنساني المشترك الموغل في القِدَم الذي وصلنا بالنقل وبالخبرة بواسطة الوجه الباطن للأديان والفلسفات القديمة، ويعود بإسناده إلى الخبرات الروحية الكبرى التي حققها الجنس البشري عبر مسيرته المضنية باحثًا عن حقيقة وجوده والتي تجسدت، ولا تزال، في حياة وتعاليم حكماء وعارفين من جميع الشعوب والأزمنة."

[2] ديمتري أڤييرينوس، مقالة في التقمص في ضوء التعاليم الثيوصوفية، ويليها مقالان في العود للتجسد وكرمى و"حكم في كرمى" لوليم ك. دجدج، دار مكتبة إيزيس، دمشق، 1998؛ يقع الكتاب في 112 صفحة من القطع المتوسط.

[3] نقلاً عن: ريتشارد شتاينباخ، معنى الحياة والموت، بترجمة هدى موسى، دار الحوار، اللاذقية، ط 2: 1996، ص 31.

[4] الحلاج، الطواسين وبستان المعرفة، من إعداد رضوان السح، دار الينابيع، دمشق، 1994، ص 47.

[5] نقلاً عن جيمس كارس، الموت والوجود، بترجمة بدر الديب، المجلس الأعلى للثقافة بمصر، 1998، ص 81.

[6] ابن عربي، الفتوحات المكية، دار صادر، بيروت، مج 1، ص 42.

[7] ألبير شويتزر، فكر الهند، بترجمة يوسف شلب الشام، دار طلاس، دمشق، ط 1: 1994، ص 47-49. والأسطورة مأخوذة عن أوپنشاد كَوشيتكي 1.

[8] شاكونتالا راو شاستري، الباجاڤادجيتا (كتاب الهند المقدس)، بترجمة رعد عبد الجليل جواد، دار الحوار، اللاذقية، طب 2: 2005، ص 30.

[9] المصدر نفسه، ص 31.

[10] المصدر نفسه، ص 32.

[11] المصدر نفسه، نفس الصفحة.