الإمام الثاني عشر (هنري كوربان) – بلال لزيق

الإمام الثاني عشر[1]

العالم الموازي

بلال لزِّيق

في افتتاح القول، لا مناص لنا من ذكر أن مقاربة العرفان الشيعي، موضوعاتٍ ورجالاتٍ ومنطلقاتٍ وتبريرًا وغايةً – كان، ولا يزال، مغمورًا، محدودًا بنطاقات ضيقة في مجال الإسلاميات، بل حتى في المجال الشيعي بالأخص. ومَن تناولَه بحقٍّ وموضوعية من المستشرقين لا يتجاوز عددُهم عدد أصابع اليدين، كأمثال لوي ماسينيون وهنري كوربان وأنِّه-ماري شيمِّل ووليم تْشِتِّك وتوشيهيكو إيزوتسو، – حتى إن الأخير، على سبيل المثال، غير مذكور البتة في موسوعة المستشرقين لعبد الرحمن بدوي، مع أن له العديد من المؤلفات والأبحاث القيِّمة في مجال التصوف الإسلامي، الشيعي تحديدًا[2] – وهذا أمر غريب حقًّا ومدعاة للتساؤل!

خاتم الولاية المحمدية

ثم إنه لا بدَّ من الإشارة إلى أن جُلَّ القول في هذا المقام – إن لم يكن كله – يتناول وقائع حقيقية، لكنها ليست مادية، بل روحية؛ وهذه الوقائع، على الرغم من روحيتها، واقعية. لكن «واقعيتها» ليست من نوع واقعية الوقائع التاريخية الخارجية؛ إذ هي لا تتخذ مكانًا لها في سلسلة التوالي الزمني الخارجي. إن تفسير أية حقيقة روحية انطلاقًا من تاريخ إعلانها على الملأ هو ما يُطلَق عليه اسمُ «التاريخانية» historicisme، الأمر الذي طالما أدى إلى وقوع التباس بين زمان النفس وبين الزمان الواقع في التاريخ.

استنادًا إلى القول السابق، فإن السؤال المحوري يصير: إذا كان الوحي قد خُتِمَ، وإذا كان عصر البعثات الإلهية قد تم، وإذا كان محمد «خاتم النبيين» ولم يعد من بعده نبي آخر («لا نبي بعدي») وكانت رسالته «خاتمة الرسالات»، فهل يستبطن هذا «الختم» للبعثة النبوية أن الصلة بين عالمَي اللاهوت والملكوت، بين الله والإنسان، قد انقطعت؟ وهل إن الفيض الإلهي على الإنسان قد وصل إلى مداه الأخير، بحيث يصح أن نطلق على هذا الإنسان بأنه «الإنسان الأخير» بالمعنى اللاهوتي؟

إن ما انقضى ولم يعد ممكنًا هو أن تكون هناك شريعة أو «رسالة تشريعية» جديدة؛ إنما لا بدَّ من أن يكون «في أمتي عبادٌ ليسوا بأنبياء ولكن يغبطهم النبيون». هاهنا أدرك

[…] التراث الشيعي مؤشِّر افتتاح دائرة جديدة، دائرة الولاية، دائرة الهداية الروحية. لقد أدرك التشيع كمَن تردَّد فيه الصدى العميق لواقع أليم يتمثل في أن الناس في عُسْرها لم يعد لها نبي تنتظره بعد خاتم المرسلين. لذلك فإن أكثر الناس قد أوقفت نفسها تعصبًا على حراسة الرسالة المقفلة، وتصبح فكرة خاتم النبوة علامة على مأساة بشر انغلقوا في ماض لا مستقبل له. (ص 214)

… ماض لا مستقبل له في عمره المديد!

twelfth_imam

العدد التام للأئمة هو اثنا عشر. ومن دون استكمال هذا العدد تكون الإمامة ناقصة وغير مكتملة. لذا إذا كان الإمام الحادي عشر، الحسن العسكري، قد استشهد في العام 260 للهجرة، من جهة أولى، وإذا كانت الأرض لا تخلو من حجة-إمام، ظاهرًا كان أو باطنًا، لأن من دونه لن يكون بمقدور الإنسانية أن تحافظ على كينونتها، إذ هو السبب الوحيد المتصل بين السماء والأرض بعد أفول نجم نبوة التشريع، من جهة ثانية، فكيف للإمام الثاني عشر أن يغطي تمام الزمان حتى يوم القيامة؟ كيف للإنسان أن يحيا تلك الحياة الطويلة التي امتدت قرونًا دون أن يتسلل إليها الفساد والتلاشي والموت؟ هل ثمة «في البين» معجزة أو كرامة أو عمل استثنائي مباشر لليد الإلهية في الأمر؟!

مافتئ العلماء عبر العصور يجهدون في تسويغ هذا العمر المديد للإمام بقولهم بأنه يمكن للمرء، إذا ما اعتمد نظامًا غذائيًّا نباتيًّا معينًا، أن يمتد به العمر آمادًا طويلة، ويمثلون لذلك بالأنبياء نوح والخضر وإدريس، متناسين أو متجاهلين أو غافلين عن أن السؤال يبقى مطروحًا: إذ كيف لهؤلاء أيضًا أن يطول بهم العمر إلى هذه المدة؟!

في العالمين المادي والمثالي

بعد أن يصف هنري كوربان هذا الوعي بـ«السذاجة»، يجد أن الحل يكمن بالتسليم بوجود عالم المثال mundus imaginalis؛ إذ ثمة خشية مفادها، إذا لم يتم التسليم بهذا «العالم الموازي» لعالمنا، أن كل تعليل لن يؤدي سوى إلى تدمير موضوعه:

إن الحضور المستتر للإمام ومعاصرته المستمرة بين الأزمان ليسا قطعًا استعارة أخلاقية أو تمثيلاً أسطوريًّا، بل هما واقعية عالم المثال الذي فرضت فلسفته النبوية نفسها على السهروردي والأفلاطونيين الفرس، لأنهم علموا أنه من دون وجود هذا العالم ما كان لهم أن يفهموا واقعية الأحداث الروحية الغيبية فوق الطبيعية. (ص 82-83)

وهكذا تُفهَمُ القدرةُ التي يرفض بها الوعي الشيعي أن يتيه في ضلالين مميتين: ضلال العجز – عجز غير المؤهَّلين لإدراك التجلِّيات الإلهية، بتشديدهم الركيك على أن الإمام الآتي لم يولد بعد؛ أو ضلال أبعد، هو اعتراض المشكِّكين: لقد ولد الإمام، لكنه توفي في حياة والده. لذا كان

[…] من المستحيل على الوعي الشيعي أن يتخيل قبولاً ما بأمر ما يكون صدًى أو استباقًا لـ«الرب مات» [قول نيتشه في هكذا تكلم زرادشت: «لقد مات الله»]، وذلك لأن الإمام الثاني عشر هو شخصية تُقدِّم نمطًا عن التطلعات العميقة، كالتطلعات المقابلة في المسيحية، مع خريستولوجيا الجسد الروحاني للمسيح. (ص 84)

إذًا، لا يمكن الولوج في الحديث عن الإمام المنتظَر، زمانًا ومكانًا وغيبةً ورؤيةً ووظيفة، دون الارتكاز بداهةً إلى الإيمان بوجود عالمين: المادي والمثالي، المُلْكي والملكوتي، البدني والنفسي. فمن دون تخطِّي، أو بالأحرى تطوير العالم الأمپيري (عالم المحسوسات) وتصعيده لنصل إلى ذلك العالم المثالي، الأغنى صورًا والأوسع وجودًا والأبقى حياةً من عالمنا هذا، لا يمكن الركون إلى نظرية «الإمام المنتظَر»، الحاضر ملكوتًا والغائب مُلكًا، والاطمئنان إليها؛ ولن يكون ثمة إمكان للإقرار بذلك العالم أو تأويل لـ«الغيبة الكبرى» للإمام دون الإقرار بهذا «العالم الموازي» لعالمنا – عالم «تتجسَّم فيه الأرواح وتتروَّح فيه الأجسام»، وفقًا لتعبير الفيض الكاشاني.

وعلى الرغم من روحية هذا العالم، فإنه عالم متحقق وحقيقي، وليس وهمًا أو غير واقعي. والقوة التي بها يوصَل إلى تلك العوالم الروحية والواقعية معًا يطلق عليها عرفاؤنا مصطلح «القوة المتخيِّلة»، لكنْ لا بمعنى غير حقيقي ولاواقعي imaginaire، بل بالمعنى المثالي imaginal. وهذا الالتباس الذي وقع فيه الفكر الغربي

[…] يفترض مسبقًا تدنِّي القوة المتخيِّلة نفسها، وتدنِّي موضوعها، وتدنِّي وظيفتها المتعلقة. وإذا ما جرت مماهاةُ ذلك مع الاستيهام، حصل الأدهى؛ فيصير العالمُ الذي رسمتْ هيئتَه تلك القوةُ يوطوپيًّا، ويصير الإنسان الواثق بهذه الجارحة صاحب نزعة يوطوپية ومصابًا بذُهان الاضطهاد، مهلوِسًا، منفصم الشخصية. (ص 140-141)

إن إدراكات هذه الجارحة اللطيفة ليست استيهامات ولا أوهامًا؛ إذ إن الأحداث الحقيقية التي تتاح معايشتُها ليست من الأسطورة (في شيء) ولا من التاريخ (ص 139).

في التاريخ القدسي

لذا فقد أمكن القول إن عالم النفس، عالم الملكوت، موجود في كل محل وليس في أي محل. وهذا يعني أن في أرجاء عالمنا المحسوس كلها يمكن أن يدهم الملكوت، وأنه يمكن للملكوت اختراق كل ناحية من أنحاء عالمنا، دون أن يكون الملكوت جزءًا من العالم المحسوس (ص 139).

من هنا كان تاريخ الإمام الغائب – التاريخ المستسر – والتاريخ القدسي تاريخًا وزمانًا وسيطًا «بين الأزمان». وكل حدث يقع في هذا الزمان المستسر يمثل قطيعةً في التاريخ العام لأنه لا يدخل في التاريخ الذي يخضع للسببية التاريخية. إن التاريخ المستسر للإمام الثاني عشر يتناقض مع

[…] وسواس التاريخانية المادية للوقائع، ومن دونه لا يمكن لنا أن نتصور أن ثمة وقائع واقعية. […] ومع ذلك، فهو يسود الوعي الديني الشيعي منذ أكثر من عشرة قرون؛ بل إنه هو تاريخ هذا الوعي الذي يحياه التشيع في صحبة الحضور الغائب للإمام الثاني عشر، في تفانٍ وشغف، منذ قرون نافت على العشرة. (ص 76)

لا يمكن شرح التاريخ الغيبي للإمام الثاني عشر بآلية قوانين السببية التاريخية. إنه يقع على الجهة المقابلة لجهة اللاهوتيين والفلاسفة الذين «يبحثون عن الربِّ في التاريخ»:

إن تاريخ الإمام الثاني عشر هو تخلُّص من التاريخ (بالمعنى السائد). وإذا لم نفهم ذلك فلن نستطيع الدخول إلى عالم الإمام، وسنلجأ إلى تعليلات «علمية» قد تكون نتيجتها الأجلى إلغاء ما نسعى إلى تعليله. (ص 92)

وليس هذا من الأسطورة في شيء، كما قد يُظَن، بل إنه يمكن لنا القول بأنه يقع في مكان ما فوق التاريخ ودون الأسطورة.

إن جميع التعليلات الاجتماعية والسياسية التي حاولت شرح التشيع على مستوى قوانين السببية التاريخية (فقط) هي تعليلات تُجانِب ما يكوِّن ماهية الوعي الشيعي وموضوعه، لأن زمان الإمامة يظل «بين الأزمان»:

لا يتعلق الأمر بمشروعية سياسية ولا بيوطوپيا اجتماعية، ولكن بما يكوِّن مغزى الإمامة الذي بدأ مع فجر الإنسانية مع شيث بن آدم، كأول إمام (وصي) لأول نبي، وينتهي مع ظهوره أو مجيء آخر وصيٍّ لآخر نبي. لقد بتنا نستطيع فهم ما يحرك الإمامية، في حميَّة وورع واجتهاد، نحو شخص الإمام الثاني عشر. (ص 81)

في الرؤية والغيبة

ولأن الأمر كذلك فإن إدراك الإمام، أو بالأحرى رؤيته، لا تتم بأدوات مادية، كالحواس المادية التي بها تُدرَك الأشياءُ في عالمنا هذا وتُرى. إن أداة الإدراك، هاهنا، هي «عين النفس التي لا تنام»، كما قال فيلون الإسكندري وكما وافق عليه عرفاؤنا أيضًا. إن شخصية الإمام، في ظهوره واستتاره، لا تخضع للقوانين الفيزيائية والأحيائية والمادية التاريخية:

فمَن لم يستطع أن يرى بغير الطريقة التي يدرك بها أيَّ موضوع في العالم الخارجي لن يرى الإمام الغائب عن الإدراك الحسي، حتى لو كان الإمام ماثلاً أمامه. لذا فإن ظهور الإمام، رجعته، لا تحصل ما لم يستيقظ وعي الناس؛ إنه لا يتحقق في «ما بين الأزمان» إلا لعدد قليل ممَّن يختارهم الإمام بنفسه ممَّن لديهم الوعي الروحي، لا مجرد العلم الظاهري الذي يقدر عليه حتى الحيوان. (ص 57)

إن وعي الناس هو المحدِّد الحقيقي والمفصل الواقعي لرؤية الإمام أو عدمها. فظهوره وغيبته متوقف على مستوى الوعي الروحي للناس: إذا كان الإمام غائبًا فلأن الناس غير قادرين على رؤيته، غير مؤهَّلين لها؛ فهم مَن «غابوا» عنه، وليس هو مَن «غاب» عنهم!

وفي النتيجة، ينتهي كوربان إلى خلاصتين أساسيتين:

– الأولى: إن

[…] التشيع يرفض أن يكون مستقبله وراءه: فبخلاف الإسلام السنِّي الأكثري الذي لم يعد للإنسانية في نظره، بعد النبي الأخير، من جديدٍ تنتظره، يحافظ التشيع على المستقبل مفتوحًا، بإعلانه أنه حتى بعد مجيء خاتم الأنبياء، ثمة أمور بعدُ للانتظار، أي إظهار المعنى الروحي للرسالات التي أتى بها الأنبياء الكبار. تلك كانت المهمة التأويلية التي تولاها الأئمة الأطهار. […] لكن هذا الإدراك الروحي لن يكون كاملاً إلا في نهاية عصرنا، عند ظهور الإمام الثاني عشر، الإمام الغائب في الوقت الحاضر والقطب العرفاني لهذا العالم.[3]

– الثانية: إنه يجب على الفكر الغربي، من الآن فصاعدًا، ألا يستبعد أو يستغرب أو يقصي من أبحاثه ودراساته فكرةَ شخص كونيٍّ منتظَر، سواء سُمِّيَ "الإمام" أو "المخلِّص" أو "المصلح" أو "المسيح":

إن كل ما ظهر ويستمر في الظهور على الوعي الشيعي في صورة الإمام الثاني عشر وأحداث سيرته: ولادته، غيبته، ظهوراته، مجيئه كفارقليط – إن ذلك كله ينبغي له، من الآن فصاعدًا، أن يكون له معنى عند الغربي، ومن الآن فصاعدًا، ينبغي ألا يكون الطرح الشيعي عن الإمام الغائب قصيًّا عن دراساتنا [الغربية] في الميتافيزيقا الأخروية. (ص 239)

زبدة القول إن كتاب كوربان الإمام الثاني عشر نصٌّ لا غنى عنه لكل راغب حقًّا في فهم سرِّ حضور الإله في التاريخ.


[1] هنري كوربان، الإمام الثاني عشر (في الإسلام الإيراني – مشاهد روحية وفلسفية للإسلام، الكتاب السابع)، بترجمة نواف محمود الموسوي، دار الهادي، بيروت، 2007.

[2] صدرتْ مؤخرًا ترجمة لكتابه الإنسان في القرآن في مقاربة لسانية إبداعية؛ ونحن بصدد ترجمةٍ وتعليق على مؤلَّف له قيِّم عن فلسفة الملا هادي السبزاوري.

[3] هنري كوربان، عن الإسلام في إيران – مشاهد روحية وفلسفية، دار النهار، بيروت، 2000، ج 1، ص 27.

التقمص (ديمتري أڤييرينوس) – هڤال يوسف

مقالة في التقمُّص

قراءة نقدية

هڤال يوسف*

صدر الكتاب الثاني من سلسلة "الحكمة"[1] التي يقوم عليها الباحث ديمتري أڤييرينوس بعنوان مقالة في التقمص[2]. يحوي الكتاب، بالإضافة إلى "مقالة في التقمص بحسب التعاليم الثيوصوفية"، ثلاثة نصوص للمفكر الثيوصوفي وليم ك. دجدج تحمل عناوين "العَوْد للتجسُّد" و"كَرْمى" و"حِكَم في كَرْمى"، ترجمَها إلى العربية توفيق شمس وديمتري أڤييرينوس.

reincarnation

موضوع البحث، في حقيقته، يتجاوز سؤال التقمُّص، الشائك والعسير، وذلك لأن قضية كهذه لا يمكن فصلها عن مجمل الأسئلة والأسرار الوجودية حول حقيقة الإنسان وماهيته، حول الحياة – معنًى وغايةً –، وحول الوجود بكلِّيته وما يكتنفه من مجاهل معرفية لا تزال تحتفظ بعذريتها بعيدًا عن متناول الفضول الإنساني.

يتماس التقمُّص مباشرة مع الموت وما يفرزه من تساؤلات وقضايا شغلت معظم الفلاسفة والعلماء والمفكرين على مرِّ العصور. يقول الراحل دَگْ همِّرشولد، الأمين العام الأسبق للأمم المتحدة:

لو ذهبنا حتى جذر الموضوع فإن فكرتنا عن الموت هي التي تقرِّر إجاباتنا عن جميع الأسئلة التي تطرحها الحياة.[3]

في محاولته لتجاوز الموت، وفي أثناء بحثه عن ينبوع الحياة والخلود والأبدي، طرح الإنسان إجابات عدة بقيت محل جدل طويل. بعض تلك المذاهب والأفكار لا يزال محتفظًا بحيويته في وقتنا الراهن، وخاصة تلك التي اعتمدت مفهوم التقمص أو "العَوْد للتجسد" reincarnation لبنةً أساسيةً في بناء منظوماتها العقائدية والفكرية.

يرتبط التقمُّص ارتباطًا وثيقًا بعلم الأخرويات أو "النشوريات" eschatology، أي الاعتقاد باستمرار الحياة بعد الموت، أو بالحري، اعتبار الموت سيرورة من سيرورات الوجود؛ فهو، بالتالي، تحوُّل وانتقال، لا إلى عالم آخر مفارق، بل إلى حالة أخرى – ذلك لأن من المبادئ الأساسية للثيوصوفيا Theosophy، التي ينطلق منها المؤلف في دراسته للتقمُّص، النظر إلى الكون بوصفه كائنًا واحدًا لا يتجزأ، لا يولد ولا يموت، أزليًّا غير محدود (ص 16).

بالعودة إلى الكتاب الذي بين أيدينا، لا يحاول المؤلف مَنْطَقَةَ آرائه أو "فَكْرَنتها"، وذلك لأنه يتناول ما يتجاوز حدود المنطق والفكر، ولأن الكلام على المطلق واللاتناهي والأزل والأبد إلخ يقع خارج حدود التذهُّن والتصوُّر. يؤكد ذلك الحسين بن المنصور الحلاج في "طاسين الفهم"، إذ يقول:

أفهام الخلائق لا تتعلق بالحقيقة، والحقيقة لا تليق بالخليقة. الخواطر علائق، وعلائق الخلائق لا تصل إلى الحقائق.[4]

من هذا المنطلق، فإن المؤلف، عبر شرحه للمبادئ الأساسية التي يقوم عليها "دين الحكمة" (الثيوصوفيا)، لا يحاول إقناعنا بقدر ما يحاول تعريفنا بهذه العقيدة التي ترى الكون كائنًا واحدًا لا يتجزأ: "حي وعاقل – ككل وفي كل جزء من أجزائه. وهو، في كلِّيته، تجلٍّ لمكوِّنه الذي هو الله أو الواحد أو المطلق" (ص 16). لا خوف هنا من الوقوع في الإشكالية الأرسطية حول حدوث العالم أو قِدَمِه، لأن "الله، من هذا المنظور، ليس كائنًا مستعليًا transcendent على الكون" (ص 16). بيد أننا نقع هنا في المحذور، حيث يجب اجتناب كل محاولة لتقديم تعريف، وذلك لأن أية محاولة للتعريف بـ"الله" بوصفه خالقًا تقود لا محالة إلى التعريف بما ليس هو "الله". ولقد نبَّه ديونيسوس الأريوپاغي إلى هذا الأمر حين قال:

ليس لأحد ممَّن يحبون الله فوق كل حق أن يجوز له تمجيد جوهر الألوهية السامي – الذي هو الوجود الأعلى والخير الأسمى – على أنه كلمة أو عقل أو حياة أو ماهية، بل على أنه مفارق لكل وصف وحركة وخيال وتخمين ولفظ وفكر وتصوُّر وماهية ووضع وثبات ووحدة وحدود ونهائية، بل وبأي شيء آخر على الإطلاق[5]

– الكلام الذي ينسجم مع القول الهندوسي: "ليس هذا، ليس ذاك". ولكن، كما أسلفنا، لا يحاول المؤلف إقناعنا، الأمر الذي يدفعه إلى الحديث عن خلود الكون، حيث "كل ذرة حية فهي لا تفنى، لكنها في تطور (تفتُّح) أبدي" (ص 17). فالخلود، بمعنى سرمدية أزلية-أبدية، مفهوم نظري غير قابل للتذهُّن؛ وبالتالي، فإنه ينضوي تحت المحتوى الإيماني، لا المعرفي. وفي الحقيقة، إن كونًا لامتناهيًا، مكانًا وزمانًا، هو شيء غير معقول. لكن الثيوصوفيا، باعتبارها هذه الوحدة بين "الله" والكون، لا تتناقض مع ذاتها، وذلك لأن "القوانين سارية في كل شيء، من الذرة إلى المجرة. […] تناغُم الكل تناغُم واحد غير منقسم" (ص 17).

أحد هذه القوانين هو قانون كرمى karma الذي سنعود إليه لاحقًا. غير أننا نجد أنفسنا هنا أمام معضلة غير قابلة للحل في العلاقة بين الـ"كائن"، الذي هو "شعاع Ray في الكل ومنه" والذي "ينطوي بالقوَّة in potentia على صفات الكل ومقوِّماته كافة" (ص 17)، وبين هذا "الكل"، وذلك لأن كون "الشعاع" ينطوي بالقوَّة على صفات الكل لا يعني البتة أنه يساوي الكل أو أنه قادر على أن يكون كلاًّ بذاته. فاللامتناهي لا يُدرَك، وإنما يُتناهى إليه؛ الأمر الذي بيَّنه ابن عربي في شرحه على مقولة سهل التُّسْتَري حين قال: "إن للألوهية سرًّا، لو ظَهَرَ، لبَطُلَتِ الألوهية"؛ إذ قال الشيخ الأكبر: "الألوهية مرتبة للذات لا يستحقها إلا الله"[6].

ترى الثيوصوفيا في الحياة مدرسة يتعلم فيها المرء من أجل

[…] بلوغ مستوى من الوعي هو الوعي المنعكس على ذاته، أي وعي الوعي […]. وعندما يخترق "المدرك" حدود ظاهر الأشياء إلى بواطنها يتعرف، كشفًا، وجود العاقلة الصادرة عن أصل الوجود – في نفسه وفي غيره من البشر الفانين الذين يتجلَّى من خلالهم الإنسان الخالد. (ص 18-19)

ولأنه "لا حدود للحكمة وللتعلم" (ص 19)، فالإنسان في حاجة إلى حيوات عديدة لحصول هذا التجلِّي. بيد أننا نسأل من منطلق "لاحدِّية" الحكمة أو لامحدوديتها: هل يتوقف التطور عند "الإنسان الخالد" أم يستمر؟ والإجابة سوف تكون طبعًا: يستمر! عندئذٍ نتساءل: ماذا بعد الكمال؟!

في البحث عن الأصول الكتابية الأولى لعقيدة التقمُّص، يعود بنا ألبرت شڤايتْسِر إلى الأسطورة القمرية القديمة التي تقول:

كل أولئك الذين يغادرون هذه الأرض يذهبون إلى القمر. فنفوسهم تملأ البدر، والهلال المتناقص يجعلهم يولدون من جديد. إن القمر باب السماء، وعندما يعرف المرء كيف يرد عليه يترككم تمرون. ومَن لا يعرف الجواب يحيله إلى ماء ويعيده مطرًا إلى الأرض. وهناك، [يثاب] بحسب ما قدَّمتْ يداه وبحسب ما يملك من معرفة. […] والحقيقة أنكم عندما تصلون إلى القمر يسألكم: "من أنت"؟ عند ذلك يجب أن تجيبوا: "أنا أنت". وكل مَن يقدم هذا الجواب يتركه القمر يمر.[7]

ويعيد شڤايتْسِر أصل هذه الأسطورة تاريخيًّا إلى سكان الهند السابقين للفتح الآري، حيث يؤكد عدم وجود أي أثر لها في الأناشيد الڤيدية، إلى كونها تبدو غريبة عن التصوف البرهمني.

كذلك نرى أن أزلية الوجود هي من ضمن تعاليم كرشنا لأرجونا في البهگڤدگيتا Bhagavadgītā، حيث يقول: "غير أني لم أكن غير موجود، ولا أنت ولا أولئك الرجال الحكماء، ولن يتوقف أي منا أن يوجد هنا"[8]. ويقول في موضع آخر: "لا وجود لما لم يوجد، أما ما هو حقيقي فإنه لن يكون غير موجود"[9]. أما بخصوص التقمُّص فيقول كرشنا: "كما يتخلص المرء من ملابسه ويلبس ملابس جديدة، كذلك الروح المتجسِّدة تتخلص من الأجساد وتدخل أجسادًا جديدة"[10]. وأما عن دورة الولادة والموت فيقول: "حيث إن الموت مؤكد لمن يولد فإن الولادة مؤكدة لمن يموت"[11].

وبالعودة إلى الكتاب قيد القراءة، نرى المؤلف يستنتج "بالقياس العقلي" أن "الكون […] صادر عن المطلق" (ص 19). وعلى الرغم من أنه لم يشرح كيفية هذا "الصدور"، يمكن لنا مقارنة مفهوم هذه الكلمة مع مفهوم "الفيض" الأفلوطيني. ولكن، ألا يفترض هذا الصدور عن المطلق مبتدأ زمانيًّا، وبالتالي، منتهًى زمانيًّا أيضًا؟ الثيوصوفيا تقول: لا، لأن المطلق ليس مفارقًا للكون، ولأن الكون قابع أصلاً في كمون المطلق، ولأن مادة الكون "مجلى من مجالي واحدية ما بعد الروح الذي يمكن لنا أيضًا أن نسميه الحياة" (ص 20). وبما أن المادة والروح تجلِّيان للمطلق الكلِّي الخالد، فهما غير قابلين للفناء؛ وبالتالي، فإن "الحياة كلِّية الحضور omnipresent […] غير قابلة للزوال" (ص 21).

ويرى المؤلف أن الحياة طاقة، وأن الطاقة تخضع لقوانين طبيعية. من هذه القوانين الراحة والنشاط. وبالتالي، وبما أن كل فعل هو طاقة، فإن هذه الطاقة سترتد علينا مساويةً لفعلنا، مما يعني توازنًا وتناغمًا وتواكلاً "بين كل واحدات الحياة المتساوقة في التطور" (ص 22)؛ الأمر الذي ينفي "المصادفة" أو "الحظ"، ليحل محلَّه القانون الكوني الذي هو قانون "لا يخطئ وغير شخصي impersonal" (ص 23). هنا يقع المؤلف في تناقض حين يقول: "من هنا ليس لأي صلاة أو التماس مرفوع لإله أو شفيع أن يمنع القانون من السريان" – نقول "تناقُض" لأن الصلاة أيضًا "فعل"؛ فإنْ كانت الصلاة "صالحة" فلِمَ لا تعود على صاحبها بالخير؟ أليس هذا هو القانون؟!

ينطلق المؤلف، بعد ذلك، راصدًا الحركة الدائرية أو اللولبية في الطبيعة، ليصل إلى إثبات سريان هذا التواتر في الإنسان عبر مفهومي التقمُّص وكرمى – موضوعَي الكتاب.

في إطار شرحه لـكرمى يوضح المؤلف أن "الجذر السنسكريتي كْر kri يتضمن معنى "الفعل" ويدل ضمنًا على دورة العلَّة والمعلول. كرمى هو قانون الدينامية الروحية law of spiritual dynamics" (ص 24). وهو يستشهد بالطبيعة وظواهرها، كتعاقب الليل والنهار والفصول وأطوار القمر إلخ، ليدل على دورية التطور الكوني وليصل، بالتالي، إلى أن هذه الدورية تستوجب الولادة بعد الموت بهدف الوصول بالإنسان إلى غايته الأسمى: الألوهة (ص 25-27). وبالتالي، فإن الكون "مدرسة شاسعة" (ص 28)، والبشر فيها تلاميذ يتعلمون ويختبرون، وتستمر دورات الولادة والموت حتى التخرُّج من مدرسة الكون. وهكذا فإن قانون العلة والمعلول "سار أبدًا، سواء وعيناه أم لم نعِه؛ وبسريانه تصاغ مصائر الأشياء" (ص 30)؛ الأمر الذي قد يقودنا إلى أن النتيجة معروفة مسبقًا، فيما ذهب إليه الجبريون. لكن المؤلف يبيِّن أن هذا "السريان المتواصل للقانون يتولد من إرادة الإنسان الحرة وحدها ويتوقف عليها" (ص 30)؛ وبالتالي، فكل علة هي "معلول معلولها"، على حدِّ قول ابن عربي. وبذلك يبدو كرمى قانونًا لاجبريًّا، يعتمد على سيرورة أفعال الشخص الاختيارية.

لكننا نعود إلى الاختلاف مع المؤلف في حديثه عن المعجزات التي ينفي وجودها، وذلك لأن "كل شيء […] واقع تحت حُكم القانون. [و]هذا يعني بالضرورة أن الله لا يستطيع خرق قوانينه" (ص 33). وهذه الفكرة تقترب من عقيدة المعتزلة والفكر الأرسطي حول ضرورة الفعل الإلهي تبعًا للقانون. ولكن، هل يمكن الحديث عن "إله" مقيَّد الإرادة بقانونه؟!

وباعتبار أن جميع القضايا الآنفة الذكر تعتمد في معالجتها على السؤال المركزي: "ما هو الإنسان؟" فإن المؤلف يتحدث عن الإنسان بوصفه كائنًا سبعي البنيان من حيث تكوينه؛ لكنه يقتصر في نقاشه على أبعاد ثلاثة، ألا وهي الجسم والنفس والروح (ص 36-37). ولأن النفس هي ما يجعل الإنسان بشرًا، فإنه يوضح هذه الفكرة بقوله: "النفس […] نفسان: نفس دنيا […] زائلة […] تسمِّيها الثيوصوفيا أنيَّة الشخصية personal ego […]؛ ونفس عليا […] تتصف بالديمومة […] يُصطلَح على تسميتها بأنيَّة الفردية individual Ego" (ص 37). وبطبيعة الحال، فالنفس الأبدية، أي "أنيَّة الفردية أو الذات الواعية للإنسان قبل الولادة"، هي التي تتجسَّد، وهي التي تبقى بعد الموت (ص 39).

انطلاقًا من التعريف السابق للإنسان، فإن "الإنسان السوي [يعمل] في ثلاثة عوالم – الجسماني والنفساني والذهني" (ص 39) في الوقت نفسه. ويتم الانعتاق من إسار القانون عندما يبلغ الإنسان بوعيه مرتبة الروح. يحتاج الإنسان للعديد من الدورات الحياتية للوصول إلى هذه المرتبة؛ وبالتالي، فإن دورات التقمُّص هي "الامتداد الزمني الضروري لسريان قانون السببية law of causality" (ص 43). والسؤال هنا هو: كيف؟ ولماذا؟

يقول الكتاب: "تشتمل الولادة على سرٍّ مزدوج: […] سر نموِّ المضغة […]. وهناك، ثانيًا، اتحاد النفس بالبدن" (ص 55). ولذلك يؤكد على ضرورة تأمين محيط مناسب لنمو الطفل لأن "الجسم العاجز قد يحوي نفسًا أينعت حكمة" (ص 58). إنما يجب على هذه النفس المولودة أن تحقق استقلالها عن المحيط بأن تصبح قادرة على تحقيق كموناتها تحقيقًا حرًّا (ص 59).

تجري الحياة في تيارين عبر المسار الإنساني: "أولهما جريان النفس (العليا) الخالدة عبر أجسام متعاقبة […]؛ وثانيهما جريان الحياة من جيل إلى جيل" (ص 59)، تحقيقًا لهدف الإنسانية في التطور وصولاً إلى الكمال: "العودة إلى بيت الآب"، بحسب تعبير المؤلف المقتبس عن الإنجيل (ص 60) – التطور الذي يواصل عمله، مؤكدًا على الأخوَّة الكونية بين الموجودات، من خلال قانون النمو، وذلك لأننا "ننمو بوحدتنا مع كلِّ شيء" (ص 35). فالصلاح، في هذا السياق، هو "القيام بالأعمال المتناغمة مع التناغم العام للكون" (ص 34)، بينما الطلاح هو "الأفعال والخواطر والمشاعر غير المتناغمة" (ص 35). وبالتالي، فالقانون "ينسحب على الصعيد الأخلاقي بمقدار ما ينسحب على الصعيد الجسماني" (ص 35). ويتم هذا النمو عبر دورات الولادة والموت.

تميِّز الثيوصوفيا بين النوم والموت، على الرغم من أن "الموت ليس مختلفًا جدًّا عن النوم" (ص 60): فالنوم انسحاب مؤقت للوعي، بينما الموت يعني مفارقة الجسم نهائيًّا. وتؤكد هذه التعاليم أن الموت الفعلي يحصل قبل الموت الظاهري بمدة طويلة، وذلك حين تتبيَّن الذات العليا انتهاء مهمة "شعاعها" في البدن (ص 61).

ويسير بنا الكتاب في رحلة يصف خلالها حوادث ما بعد الموت، دون براهين بطبيعة الحال، إنما بالاعتماد على التعاليم الثيوصوفية وخبرات الحكمة القديمة، وصولاً إلى تصفية الحساب مع الطبيعة، ليتم التطهُّر من الرغبات والمنازع الشريرة، ولتكون النفس قادرة على مصاحبة الذات العليا للسمو إلى "أرض الآلهة" Devachan (ص 64)، حيث يتحدَّد مستوى الـديڤاخان الذي ستقيم فيه النفسُ طردًا مع مستوى الوعي الذي بلغتْه على الأرض (ص 64). وهكذا يتحدَّد نعيم المرء أو جحيمه بحسب ما قدَّم فيما سلف. ويتم التأكيد صراحة على أن الفردوس وجهنم حالتان، وليسا مكانين. ويقول المؤلف، في جرأة يُحسَد عليها: "تلكم هي قدرة الفكر" (ص 64).

أما مسيرة ما بعد الموت، فتتم عبر مراحل من التأملات، ابتداءً بالأشكال والصور، وصولاً إلى معاينة "الذات" وجهًا لوجه (ص 65). ويحاول المؤلف الإفادة من حالات "الموت السريري المؤقت" (ص 67) للتدليل على صحة هذه الفكرة وصوابها، لكني لا أعتقد أن الأمر بهذا الوضوح وبهذه البساطة. واستنادًا إلى ما سبق، يوصي المؤلف بضرورة مساعدة المحتضر على الانسحاب من جسمه وبعدم إطالة مدة الحداد عليه (ص 68).

يختتم المؤلف مقالته قائلاً:

إن العبرة الكبرى من التقمُّص هي أننا ننطوي على قدرات لانهائية، وفرص أبدية، وغاية إلهية. الثيوصوفيا تعلِّمنا أننا شرارات من لهب واحد، صَدَرنا عن المنبع الأصلي للوجود، ولا بدَّ أن "نعود" إليه يومًا […]. (ص 69)

ويضيف في لغة شاعرية: "التقمُّص هو إيقاع الوجود نفسه. […] التقمُّص تأكيد على أن للحياة معنًى وقصدًا. […] التقمُّص هو العاتق العظيم" (ص 70).

أما فيما يتعلق بملاحق الكتاب – وهي عبارة عن دراسات حول كرمى لدجدج، فلم نرَ ضرورةً للتوقف عندها، لأن معظم الأفكار الواردة فيها جاءت في المقالة السابقة، باستثناء ما يتعلق منها بميكانيزم عمل كرمى، الذي هو في حدِّ ذاته موضوع شائك يحتاج إلى دراسة مطوَّلة، آخذين بعين الاعتبار مختلف الآراء والاجتهادات.

فيما عدا ذلك، يحوي الكتاب الكثير من الأفكار الجدية. وقد استطاع المؤلف، بمنطقه الهادئ الدقيق، وصْل الفقرات والآراء بعضها ببعض بدراية وحكمة، مما أعطى الدراسة قيمة حقيقية. أما ما يؤخذ على البحث فهو توجُّهه إلى الخواص دون العوام – وربما كان هذا الأمر ميزة له، لا مأخذًا عليه! – ولكن قد تتوفر إمكانية إيصال المضمون إلى عدد أكبر من الناس.


* كاتب ومترجم ومحرِّر في مجلة معابر (www.maaber.org)؛ صدر من ترجمته عن الروسية مؤخرًا: ليڤ تولستوي، مختارات من كتاباته الفكرية والفلسفية، معابر للنشر، دمشق، 2009.

[1] جاء في تقديم السلسلة: "المقصود بالحكمة ذلك الموروث الروحي الإنساني المشترك الموغل في القِدَم الذي وصلنا بالنقل وبالخبرة بواسطة الوجه الباطن للأديان والفلسفات القديمة، ويعود بإسناده إلى الخبرات الروحية الكبرى التي حققها الجنس البشري عبر مسيرته المضنية باحثًا عن حقيقة وجوده والتي تجسدت، ولا تزال، في حياة وتعاليم حكماء وعارفين من جميع الشعوب والأزمنة."

[2] ديمتري أڤييرينوس، مقالة في التقمص في ضوء التعاليم الثيوصوفية، ويليها مقالان في العود للتجسد وكرمى و"حكم في كرمى" لوليم ك. دجدج، دار مكتبة إيزيس، دمشق، 1998؛ يقع الكتاب في 112 صفحة من القطع المتوسط.

[3] نقلاً عن: ريتشارد شتاينباخ، معنى الحياة والموت، بترجمة هدى موسى، دار الحوار، اللاذقية، ط 2: 1996، ص 31.

[4] الحلاج، الطواسين وبستان المعرفة، من إعداد رضوان السح، دار الينابيع، دمشق، 1994، ص 47.

[5] نقلاً عن جيمس كارس، الموت والوجود، بترجمة بدر الديب، المجلس الأعلى للثقافة بمصر، 1998، ص 81.

[6] ابن عربي، الفتوحات المكية، دار صادر، بيروت، مج 1، ص 42.

[7] ألبير شويتزر، فكر الهند، بترجمة يوسف شلب الشام، دار طلاس، دمشق، ط 1: 1994، ص 47-49. والأسطورة مأخوذة عن أوپنشاد كَوشيتكي 1.

[8] شاكونتالا راو شاستري، الباجاڤادجيتا (كتاب الهند المقدس)، بترجمة رعد عبد الجليل جواد، دار الحوار، اللاذقية، طب 2: 2005، ص 30.

[9] المصدر نفسه، ص 31.

[10] المصدر نفسه، ص 32.

[11] المصدر نفسه، نفس الصفحة.

خطاب إلى الأمم المتحدة – ج. كريشنامورتي

خطاب إلى الأمم المتحدة

ج. كريشنامورتي

"نَحِّ الكتاب، الوصف، التقليد، المرجعية،
وامض في سبيلك مكتشفًا بمفردك."

ج. كريشنامورتي

تقديم

ولد جِدُّو كريشنامورتي في قرية صغيرة من جنوب الهند في 12 مايو/أيار 1895 وتوفي في 17 فبراير/شباط 1986 في أوهَيْ، كاليفورنيا.

في العام 1929، تخلى كريشنامورتي عن الدور الذي أنيط به بوصفه "المعلم العالمي" المنتظَر، مفككًا التنظيمات "الروحية" التي طوقتْه، منطلقًا في مهمة، نذر لها حياتَه كلها، لـ"تحرير الإنسان تحريرًا مطلقًا غير مشروط" من القيود والإشراطات كافة، بما فيها القيود والإشراطات التي يفرضها الدين المنظم، ومن الاتكال على المرجعيات الدينية والروحية المختلفة، فجاب العالم طوال 65 سنة، ملقيًا العديد من الأحاديث والمطارحات العامة ومُجريًا لقاءات وحوارات خاصة مع آلاف الناس من جميع الأعمار والخلفيات والاختصاصات، مصرًّا دائمًا أنه فقط "من خلال تغيير كامل في قلوب الأفراد وعقولهم يمكن لتغيُّر في المجتمع وللسلام في العالم أن يحدث". وقد ظل على هذا حتى قبيل وفاته بأسابيع قليلة.

لم يعتنق كريشنامورتي أي مذهب، كما لم يبشر بأية عقيدة، بل صاغ تعليمه الفريد وحده، منصرفًا انصرافًا كليًّا إلى رصد دائم لآليات الذهن البشري في كتابات ومحاضرات ومحاورات ويوميات جُمعتْ في أكثر من 80 كتابًا وفي آلاف التسجيلات الصوتية والمرئية وتُرجمتْ إلى حوالى 50 لغة. والقضايا الدائمة التي تصدى لها، والتي تتناول أصل المشكلات البشرية والتحرر النفسي بالإدراك التام للعملية الذهنية، بوَّأتْه مكانةً خاصةً بوصفه واحدًا من أكثر متكلِّمي القرن العشرين وكتَّابه تشكيكًا في الفكر المستكين إلى يقينياته: إذ إن كريشنامورتي كان يريد تحرير البشر نفسيًّا لكي يكونوا على تناغُم مع أنفسهم وأشباههم ومع الطبيعة. وقد علَّم أن الإنسان هو صانع البيئة التي يعيش فيها وأن إيقاف كابوس العنف المستمر منذ آلاف السنين لا يتم إلا بتحول جذري في النفس البشرية. وقد اكتفى بإعطاء إشارات حول "فن" القيام بهذا التحول؛ إذ ما من طريق ولا منهج لبلوغه لأن "الحقيقة أرض بلا دروب": على كلِّ واحد أن يقوم بالعمل بمفرده، دون اللجوء إلى أي معلم أو مرجعية من أي صنف كانت؛ فالحياة بأسرها هي المعلم.

لهذه الأسباب مجتمعة، كانت التربية واحدة من اهتماماته الرئيسية: إذا استطاع الطفل أن يتعلم رؤية الإشراطات القومية والدينية والمذهبية والاجتماعية إلخ التي ينشأ عليها، والتي تقوده حتمًا إلى النزاع، فإنه يقدر عندئذٍ أن يعي أنه العالم وأن العالم فيه؛ ولعله يستطيع بذلك أن يصبح كائنًا بشريًّا يتصف بذكاء رفيع يلهمه السلوك السليم آنًا بآن. فالأحكام المسبقة وسائر المعتقدات تحول بين الذهن وبين لمس الحقيقة والحرية والمحبة.

شهد القرن الذي عاش فيه كريشنامورتي حربين عالميتين، عنفًا قوميًّا وطائفيًّا وسياسيًّا مستمرًّا، مجازر جماعية لم يسبق لها مثيل، تطورًا وتكاثرًا في أسلحة الدمار الشامل، بالإضافة إلى التضخم السكاني وانهيار البيئة الطبيعية وتفتُّت المؤسسات الاجتماعية. وهذه الكوارث كلها زرعت الخوف في قلوب البشر واليأس من قدرة الإنسان على حل مشكلاته. لذا خصَّ كريشنامورتي هذه الأزمة العالمية باهتمام كبير في أحاديثه كلِّها، داعيًا المستمعين إليه إلى أن يولوا انتباههم الجدِّي للبنى والاستعدادات النفسية التي تولد العنف والألم في حياتهم.

أصرَّ كريشنامورتي طوال عمره على أنه لا يريد أتباعًا؛ ولذلك لم يؤسس أية منظمة ولم يُحِطْ نفسه بجماعة من الأتباع أو المريدين، ولم يُجِزْ لأحد بعينه أن يخلفه أو يفسر تعاليمه أو يشرحها، بل اكتفى بأن يطلب من الذين يشاركونه اهتماماته الملحَّة هذه أن يحافظوا، بعد موته، على سجلٍّ أمين لأحاديثه وكتاباته للأجيال القادمة، بما يجعلها متوفرة للجمهور على أوسع نطاق.

ج. كريشنامورتي متكلمًا في الأمم المتحدة

بعد إلقاء الخطاب التالي من على منبر الأمم المتحدة، كان من المقرر تقليدُ كريشنامورتي وسامَ الأمم المتحدة للسلام للعام 1984، لكنه اعتذر عن قبوله انسجامًا مع تعاليمه التي لم يراع فيها التشريفات الدنيوية من أي نوع.

* * *

كريشنامورتي: مطلوب منِّي أن أتكلم على السلام العالمي فيما يتعدى الذكرى الأربعين لميلاد الأمم المتحدة.

عاش النوع البشري – الإنسان – على هذه الأرض طوال ما يزيد عن الخمسين ألف عام، وربما مدة أطول بكثير، أو مدة أقل. وإبان هذا التطور الطويل كلِّه، لم يجد الإنسانُ "السلام على الأرض": السلام في الأرض[1] ظل يبشِّر به، قبل المسيحية بوقت طويل، قدماءُ الهندوس والبوذيون. وإبان هذا الزمن كله، ما انفك الإنسان يعيش في نزاع، لا في نزاع مع جيرانه وحسب، بل ومع قومه هو، مع مجتمعه هو، مع أسرته؛ مافتئ يقاتل، يصارع ضد الإنسان، طوال الخمسة آلاف سنة الأخيرة، وربما أكثر. تاريخيًّا، ظلت الحروب تنشب عمليًّا كل عام. ونحن لا نزال في حالة حرب. أعتقد أن هناك أربعين حربًا مندلعة في الوقت الحالي. ورجال الدين – ليس الكاثوليك وحسب، بل الجماعات الأخرى أيضًا – تكلموا على "السلام في الأرض" وعلى النية الطيبة بين البشر؛ لكنه لم يحل قط – لم ننعم بالسلام على الأرض. تكلموا فقط على السلام عند الموت، حيث يذهب المرء إلى الجنة وينعم بالسلام هناك!

والمرء يتساءل، إذا كان على شيء من الجدية أصلاً، لماذا يقتل إنسانٌ إنسانًا آخر – باسم الله، باسم السلام، باسم إيديولوجيا ما، أو في سبيل "وطنه"، مهما يكن معنى هذه الكلمة، أو من أجل الملك أو الملكة، إلى آخر ما هنالك من مساخر. لعلنا جميعًا نعرف هذا الواقع: واقع أن الإنسان لم يعشْ قط في سلام على هذه الأرض، التي مافتئت تُدمَّر تدميرًا بطيئًا، ولماذا لا يستطيع الإنسان أن يحيا في سلام مع كائن إنساني آخر. و[نعرف] لماذا توجد أمم منفصلة – وهي في النهاية عصبية قبلية مضخَّمة. والأديان، سواء المسيحية أو الهندوسية أو البوذية، هي الأخرى يحارب بعضها بعضًا. الأمم تتحارب، الجماعات تتحارب، الإيديولوجيات جميعًا، سواء كانت الروسية أو الأمريكية أو أية فئة أخرى من الإيديولوجيات، في حرب، في نزاع، بعضها مع بعض. وبعد العيش على هذه الأرض طوال هذه القرون العديدة، ما الذي يحول دون الإنسان والحياة في سلام على هذه الأرض البديعة؟ ما انفك هذا السؤال يُطرَح مرارًا وتكرارًا. تم إنشاء منظمة كهذه [الأمم المتحدة] حول هذه الفكرة. فما هو مستقبل هذه المنظمة بالذات؟ بعد السنة الأربعين [على نشوئها]، ما الذي يخبئه المستقبل؟

الزمن عامل غريب في الحياة. الزمن هام جدًّا بنظرنا جميعًا. والمستقبل هو ما هو حاضر: المستقبل هو الآن، لأن الحاضر، الذي هو الماضي أيضًا، معدِّلاً نفسه الآن، يصير المستقبل. لا تزال دورة الزمن، مسار الزمن، هو هو. والآن، ليس فيما يتعدى الأربعين سنة من عمر هذه المنظمة، بل الآن، في الوقت الحاضر، إذا لم يحصل أي تغيير جذري، طفرة أساسية ما، سيكون المستقبل على ما هو الحاضر الآن. ذلك مبرهَن عليه تاريخيًّا، وبوسعنا أن نبرهن عليه في حياتنا اليومية.

إذن فالسؤال في الواقع هو: هل الكائنات البشرية، أنتم ونحن، الجالسون على المنصة، – وأعتذر عن مجلسي المرتفع هنا، – كائنات إنسانية حقًّا؟ فمادمنا – بعضنا مع بضع، أو الرجل مع المرأة – في نزاع دائم، لن يكون سلام على هذه الأرض. قد يتكلم المرء عليه إلى ما لا نهاية. الكنيسة الكاثوليكية الرومانية تتكلم على "السلام في الأرض"، لكنهم كانوا أيضًا مسئولين عن حروب مروِّعة في الماضي: مئة عام من الحرب والتعذيب وسائر ألوان الفظائع التي أساؤوا بها إلى الإنسان. هذه كلها حقائق، وقائع، وليست من بنات أفكار المتكلم. والأديان، بما فيها الإسلام والهندوس والبوذيون إلى آخرها، شنَّ كل منها نوعه الخاص من الحرب. وهكذا فإن المستقبل فيما يتعدى الذكرى الأربعين هو ما يجري الآن.

يتساءل المرء عما إذا كان الناس يدركون ذلك. الحاضر ليس الماضي وحسب، بل هو ينطوي على المستقبل أيضًا: الماضي معدِّلاً نفسَه على الدوام عِبْرَ الحاضر ومُسقِطًا المستقبل. إذا لم نكف عن الخصومات والنزاعات والخلاف والكراهية الآن فسيظل الأمر على حاله غدًا. بوسعك أن تمدِّد ذلك الغد ألف سنة، لكنه مع ذلك سيظل الغد.

لذا يجب علينا أن نتساءل عما إذا كنا، كبشر، – أفرادًا أو طوائف، أو في أسرة، – عما إذا كنا نستطيع أن نحيا في سلام بعضنا مع بعض؟ المنظمات لم تحل هذه المشكلة. بوسعك أن تعيد التنظيم، لكن الحرب تظل مستمرة. المنظمات، إذن، سواء المنظمات العالمية أو أي صنف خاص من المنظمات الهادفة إلى إحلال السلام، مثل هذه المنظمات لن تفلح أبدًا لأن البشر، فرديًّا، جماعيًّا، قوميًّا، مافتئوا في نزاع. الأمم القوية، مثل أمريكا أو روسيا، في حرب بعضها على بعض – اقتصاديًّا وإيديولوجيًّا وفعليًّا – وإنْ لم يصل الأمر إلى سفك الدماء. إذن فالسلام لا يمكن له قطعًا أن يوجد على هذه الأرض بوجود قوميات، وهي، كما قلنا، عصبية قبلية معظمة. القوميات تمنح شيئًا من الأمان: الإنسان في حاجة إلى الأمان، فيستثمر في القومية، أو في إيديولوجيا أو معتقد معيَّن. المعتقدات، الإيديولوجيات، إلى ما هنالك، جزأت الإنسان. والمنظمات لا يمكن لها قطعًا أن تُحِلَّ السلامَ بين الإنسان والإنسان لأنه يؤمن بشيء معيَّن، يؤمن بإيديولوجيات معيَّنة، يؤمن بالله، فيما غيرُه لا يؤمن.

أتساءل إذا كان المرء قد انتبه يومًا إلى أن الأديان القائمة على كتاب – كالقرآن أو الكتاب المقدس – تصير متعصبة، ضيقة، وأصولية جدًّا. وأديانٌ مثل الدين الهندوسي والبوذي لديها عدد لا يُحصى من الكتب، تُعتبَر جميعًا مقدسة، حقيقية، نازلة رأسًا من فم الله! إنها ليست بهذا القدر من التعصب، إنها متسامحة، تستوعب. إذن، هناك هذا النزاع الدائر بين هؤلاء الذين يتكئون في إيمانهم على الكتب وبين أولئك الذين لا يتكئون في إيمانهم على أي كتاب؛ ونزاع، إذن، بين أهل الكتاب وبين الذين يقبلون كتبًا عديدة. أتساءل عما إذا كان المرء على وعي بهذا كله.

ونحن نتساءل في عمق، إذا كنتم على شيء من الجدية أصلاً، إنْ كنا – أنتم وأنا وأولئك المنخرطون في منظمات – نستطيع أن نحيا في سلام بعضنا مع بعض؟ السلام يتطلب قدرًا كبيرًا من الفطنة، وليس مجرد التظاهر ضد شكل معين من أشكال الحرب، ضد قنبلة نووية أو ذرية، إلى ما هنالك. تلك نواتج أذهان وأدمغة متحصنة بالقومية، بشكل معيَّن من الاعتقاد أو الإيديولوجيا؛ وبذا فإنها تزود بالأسلحة – الدول القوية، سواء روسيا أو أمريكا أو إنكلترا أو فرنسا – [تزود] بالأسلحة بقية دول العالم، وهي كذلك تتكلم على السلام، فيما هي تزود بالأسلحة!

إنه لعالم شاسع صفيق، والصفاقة لا يمكن لها أن تطيق العطف والرعاية والمحبة. أظننا فقدنا تلك الخاصية – صفة الرحمة. لا تحلِّلوا ماهية الرحمة – فهي يمكن تحليلها في سهولة بالغة. ليس بمقدوركم تحليل المحبة؛ فالمحبة لا تقع ضمن نطاق الدماغ، لأن الدماغ هو أداة الإحساس، هو مركز سائر ردود الأفعال والأفعال، ونحن نحاول أن نجد السلام والمحبة ضمن هذا النطاق المحدود. وهذا يعني أن الفكر ليس المحبة لأن الفكر قائم على التجربة – وهي محدودة – وعلى المعرفة – وهي دومًا محدودة، سواء الآن أو في المستقبل. المعرفة، إذن، محدودة دومًا. وبالحصول على المعرفة، المحتواة في الدماغ كذاكرة، ينبع الفكر من تلك الذاكرة. وهذا يمكن للمرء رصدُه في بساطة وسهولة بالغتين إذا فحص عن نفسه، إذا نظر في نشاط فكره وتجربته ومعرفته. ليس المرء مضطرًّا إلى قراءة أي كتاب أو إلى أن يصير اختصاصيًّا لكي يفهم.

الفكر، إذن، محدود دومًا، سواء الآن أو في المستقبل. ونحن نحاول أن نحل مشكلاتنا كلها، التكنولوجية والدينية والشخصية جميعًا، عِبْرَ نشاط الفكر. الفكر ليس المحبة جزمًا؛ فالمحبة ليست الإحساس أو اللذة، وهي ليست نتاجًا للرغبة؛ إنها شيء مختلف كل الاختلاف. فحتى يجد المرء تلك المحبة، التي هي الرحمة، والتي تتصف بفطنتها الخاصة، عليه أن يفهم نفسه، أن يفهم ما نحن – ليس من خلال التحليل، بل بفهم مآسينا نحن، ملذاتنا نحن، معتقداتنا نحن.

أينما ذهبتم في العالم قاطبة، كما تعلمون، تجدون البشرية، البشر، يتألمون، لأسباب متنوعة: قد تكون تافهة، أو تعود إلى حادثة ماضية عميقة جدًّا جدًّا تسببتْ في الألم أو الأسى. وكل إنسان على هذه الأرض يكابد هذا، بدرجة صغرى أو نتيجة حادثة هائلة، كالموت. الأسى قاسم مشترك بين البشر أجمعين؛ إنه ليس أساك أو أساي، بل هو أسى البشرية، جزع البشرية، وجعها، عزلتها، يأسها، عدوانيتها. إذن، أنتم ونحن بقيةُ البشرية؛ نفسانيًّا، لسنا كائنات بشرية منفصلة. قد تكون امرأة أو رجلاً، قد تكون طويلاً أو أسمر أو قصيرًا، إلى ما هنالك؛ لكننا داخليًّا، نفسانيًّا (وهو الأهم بكثير)، نحن بقية البشرية. أنت بقية البشرية: فإذا قتلتَ إنسانًا آخر، إذا تنازعت وإنسانًا آخر، فأنت مدمِّر نفسك لا محالة. تستطيع أن ترصد هذا في دقة شديدة جدًّا إذا نظرتَ إلى نفسكَ من دون مواربة.

إذن، لا يمكن أن يحل سلام إلا حين البشرية، حين أنت وأنا، يزول كل نزاع من أنفسنا. رُبَّ قائل يقول: "حين يحقق المرء، أو يضع حدًّا لكلِّ نزاع في نفسه، كيف سيؤثر هذا في بقية البشرية؟" هذا سؤال قديم جدًّا جدًّا. لقد طُرحَ قبل المسيح – إنْ وُجِدَ أصلاً – بآلاف من السنين. وعلينا أن نسأل إن كان من الممكن للأسى والألم والجزع إلى ما هنالك أن تنتهي فينا يومًا؟ إذا انكبَّ المرء فاحصًا، راصدًا، في انتباه عظيم، كما تنظرين أنتِ في انتباه شديد، حين تمشطين شعركِ، أو أنتَ، حين تحلق ذقنك، بخاصية الانتباه تلك، محتدةً، تستطيع أن ترصد نفسك – بتلاوينها ودقائقها كلها. والمرآة هي علاقتك بين البشر: في تلك المرآة تستطيع أن ترى نفسك كما أنت بالضبط. لكن غالبيتنا ترتعب من رؤية ما نحن؛ وبهذا ننمي فينا بالتدريج المقاومة والإحساس بالذنب وسائر المساخر الأخرى. وبذلك لا نطلب أبدًا الحرية الكاملة – لا حرية أن تفعل ما يحلو لك، بل التحرر من الاختيار. فحيثما توجد خيارات متعددة توجد التباسات عديدة.

فهل بمقدورنا أن نحيا السلام على هذه الأرض في تفهُّم كبير للإنسانية؟ – وهو فهم نفسك فهمًا عميقًا للغاية، ليس بحسب عالِم نفس أو محلِّل ما (فهؤلاء أيضًا يحتاجون إلى تحليل!). إذن، نحن نستطيع، من دون اللجوء إلى المهنيين، بوصفنا أناسًا عاديين بسطاء، نستطيع أن نرصد أمزجتنا الخاصة، ميولنا. هل في إمكان دماغنا (والمتكلم ليس اختصاصيًّا في مادة المخ) – ودماغُنا مافتئ مشروطًا على الحرب، على الكره، على النزاع؛ إنه مشروط خلال هذه الفترة الطويلة من التطور – هل في إمكان ذلك المخ بخلاياه، التي تختزن الذاكرات كلها، أن يتحرر من إشراطه بالذات. من السهل جدًّا، كم تعلمون، الجواب عن مثل هذا السؤال. إذا طال بك الاتجاه شمالاً أيام حياتك كلها، مثلما أن البشرية طال بها المضي في اتجاه معيَّن، وهو نزاع، وأتاك أحدهم وقال: "هذا لا يقود إلا إلى طريق مسدود" – وهو جادٌّ، وربما كنت أنت جادًّا – ثم قال: "امض جنوبًا أو امض شرقًا أو إلى أية جهة أخرى غير هذه"، حين تتحول فعلاً عن تلك الجهة تحدث طفرة في خلايا المخ نفسها لأنك تكون بذلك قد كسرت القالب. وذلك القالب يجب أن يُكسَر الآن، وليس بعد أربعين سنة أو مئة.

فهل يمكن للبشر أن يتصفوا بالحيوية والطاقة على تحويل أنفسهم إلى كائنات إنسانية متحضرة، فلا يقتتلون؟

الرئيس: هل لنا أن نطرح أسئلة؟

ك: أجل، سيدي، اسألوا ما بدا لكم. يسرني ذلك!

الرئيس: الوقت متاح لنا لطرح بعض الأسئلة، والسيد كريشنامورتي تلطف بالموافقة على الإجابة عن أية أسئلة تطرحونها. حين تطرح سؤالاً الرجاء أن ترفع يدك لكي يتم توصيل الصوت. شكرًا.

سؤال: أنا أسأل سؤالاً يخص حاجتي إلى تعبير روحي أشعر أني متصل به. هل أنا مسموع؟ لا أظن ذلك. أشعر بإحساس بانعدام الصلة ما انفك يصلني. أتشوق إلى اتصال روحي، مع نفسي ومع غيري من الناس في هذه المجموعة، يهبنا إحساسًا بالتسامي. هذا ما أتشوق إلى اختباره في هذه المحاضرة: إحساسًا روحيًّا أرقى بالوحدة، بدلاً من التعبير الفكري.

ك: بادئ ذي بدء، لا أفهم كلمة "روحي". هل الأمر عاطفي، رومانسي، إيديولوجي، أو شيء ما مبهم في الجو، أم هو مواجهة الواقع، ما يجري الآن، في أنفسنا وفي العالم جميعًا؟ ذلك أنكم أنتم العالم، لستم منفصلين عن العالم. نحن أوجدنا هذا المجتمع، وبالتالي، نحن ذلك المجتمع. ومهما تكن الخبرات التي تحصل للمرء – ما يُسمَّى الخبرات الدينية والروحية – عليه أن يشكك في تلك الخبرات بالذات؛ على المرء أن يتحرى، أن يكون شكاكًا. أتساءل إنْ كنتم تدركون أن كلمة "شكِّية" – التحري، الاستقصاء – لا تلقى تأييدًا في العالم المسيحي، بينما هي في البوذية والهندوسية واحدة من الأمور الجوهرية: عليك أن تشكك في كل شيء، حتى تكتشف تلك الحقيقة أو تقع عليها؛ وهي ليست حقيقتك أو حقيقة أيٍّ آخر كان، بل الحقيقة.

وهذا الاستقصاء ليس "فكريًّا". فالفكر ليس إلا جزءًا وحسب من البنية الإنسانية الكلِّية. على المرء أن ينظر إلى العالم وإلى نفسه ككائن كلاني. والحقيقة ليست شيئًا قيد الاختبار. إذا سمحتَ لي أن أنوِّه، مَن هو المختبر في معزل عن الخبرة؟ أليس المختبر جزءًا من الاختبار؟ لولا ذلك لما استطاع أن يعرف أية خبرة حصلت له. إذن، المختبر هو الاختبار؛ المفكِّر هو الفكرة؛ الراصد، بمعناه النفساني، هو المرصود. لا فرق ثمة. وحيثما وُجِدَ فرق، فَصْل، هناك يتسلِّل النزاع. ومع إنهاء النزاع ثمة حرية – وإذ ذاك فقط يمكن للحقيقة أن تنوجد. وهذا كله ليس "فكريًّا"، كرمى لله! هذا شيء يحياه المرء، ويكتشفه.

سؤال: شددتَ كثيرًا على الاستقصاء والتشكيك. أتساءل إن كنت تستطيع أن تخبرني إنْ كان الإيمان يلعب دورًا في ذلك أيضًا.

ك: ما هو الإيمان؟ بماذا تؤمن؟ يؤمن أحدهم بتجربة ما، فيما يؤمن آخر بمعتقد ما، أو برمز، إلى ما هنالك. لماذا يؤمن الإنسان أصلاً؟ هل يؤمن من جراء الخوف، من جراء عدم اليقين، من جراء إحساس بعدم الأمان؟ حين تؤمن، كهندوسي مثلاً، برمز من الرموز، وتتمسك بذلك الإيمان، أو بذلك الرمز، إذ ذاك تكون في حرب مع بقية العالم. أما الاستقصاء في رفق، في تؤدة، التحري، التساؤل، فمنه عندئذٍ ينبثق الوضوح. ولا بدَّ من الوضوح لفهم ما هو أبدي.

سؤال: في الختام قلتَ إننا في حاجة إلى كَسْر قالب النزاع بين البشر. وسؤالي لك هو: هل ترى ذلك كشيء أشبه بالسياق التطوري سيحصل لا محالة؟ أم تَراه كشيء علينا جميعًا أن نكدَّ كدًّا شديدًا في سبيل تحقيقه؟ وثمة عبارة تجري على مثل هذا النحو: "في أوقات الظلام تبدأ العين ترى". ولماذا تراني أطرح عليك هذا؟ – لأن الأمر، بمعنى ما، إما سوف يحصل، وإما لن يحصل. ولكن كيف تَراه سيحصل في نظرك؟

ك: لا أفهم سؤالك تمامًا، سيدي.

س: طيب. أنت تتحدث عن كَسْر القالب: للإنسان قالب، للمخ قالب، وعلى هذا القالب أن يُكسَر لكي يحلَّ سلام في العالم.

ك: جزمًا.

س: فهل ترى كَسْرَ ذلك القالب كحركة فاعلة أم كتقدم طبيعي في تطور الإنسان؟

ك: أترانا، سيدي، تطوَّرنا أصلاً؟

س: أظننا نتطور تطورًا متواصلاً.

ك: إذن، فأنت تقبل التطور – التطور النفساني، إذ نحن لا نتكلم عن التطور البيولوجي أو التطور التقني – التطور النفساني. بعد مليون سنة، بعد خمسين ألف سنة، هل تغيرنا تغيرًا عميقًا؟ ألسنا بدائيين جدًّا، همجيين؟ إذن، فأنا أسال إن كنت ستدقق في إمكانية وجود تطور نفساني أصلاً. أنا أشكك في ذلك. شخصيًّا، في نظر المتكلم، لا وجود لتطور نفساني: هناك فقط إنهاء الأسى، الألم، الجزع، العزلة، اليأس، إلى آخر ما هنالك. لقد تعايش الإنسانُ وذلك طوال مليون سنة. وإذا اتكلنا على الزمن، وهو الفكر، – فالزمن والفكر متواكبان – إذا اتكلنا على التطور، إذ ذاك فإن ألف سنة أو أكثر سوف تمضي، وسنبقى على ما نحن عليه من همجية!

سؤال: سؤالي هو: ماذا يجب أن يحصل حتى يمكن للتطور النفساني، كما يفهمه المتكلم، أن يبدأ؟

ك: ماذا عن التطور النفساني؟ لا أفهم السؤال تمامًا.

س: قلتَ إنك لا تعتقد بأن تطورًا نفسانيًّا قد حصل. سؤالي هو: ماذا يمكن أن يحصل حتى يكون، حتى يمكن لتطور نفساني أن يحصل؟

ك: سيدتي، أخشى ألا نكون قد فهمنا واحدنا الآخر. لقد عشنا على هذه الأرض، كما نعلم من التاريخ، كما ومن التحري القديم، – عشنا على هذه الأرض مدة خمسين ألف سنة أو أكثر أو أقل. وإبان فترة التطور الطويلة تلك، ظللنا، نفسانيًّا، داخليًّا، ذاتيًّا، همجيين إلى هذا الحد أو ذاك – نكره بعضنا بعضًا، نقتل بعضنا بعضًا. والزمن، بما هو التطور، لن يحلَّ تلك المشكلة. فهل من الممكن، كما نسأل، لكل كائن إنساني، بما هو بقية العالم، – هل يمكن لتلك الحركة النفسانية أن تتوقف حتى نرى شيئًا جديدًا؟

سؤال: أردت أن أسألك السؤال نفسه في عبارة مختلفة: ماذا يجب علينا أن نفعل حتى نفعِّل هذه المقاومة حيال التطور؟ أود أن أقول شيئًا واحدًا آخر. كان الدكتور [ديڤيد] بوهم حاضرًا هنا في الشهر الماضي، وقال الشيء نفسه الذي تقوله أنت في عبارة أخرى؛ إنه عالِم، وقد شرح المشكلة نفسها. أتساءل عمَّا تظن أن في إمكاننا أن نفعله حالاً لكي نفعِّل هذا؟

ك: فهمت. ماذا يمكن لك أن تفعل حالاً؟ صحيح؟ تغيَّرْ تغيرًا تامًّا! – نفسانيًّا وخارجيًّا في آنٍ معًا. الثورة النفسانية أولاً – ليس التطور، بل الثورة – تغيَّرْ تمامًا. ذلك هو العمل الحقيقي للإنسانية، وليس محاولة التلهِّي عنه بأمور ثانوية.

سؤال: لقد قررتَ أن شرطًا هامًّا من شروط فهم البشرية هو البدء في فهم أنفسنا فهمًا واضحًا. هل تتوقع تحقُّق ذلك ضمن هذه الغرف، في غضون الأربعين سنة المقبلة، في الأمم المتحدة؟ – بحيث إن فهم البشرية، من خلال فهمنا أنفسَنا، سيصير جزءًا من صنع القرار على الصعيد العالمي.

ك: لا أستطيع أن أجيب عن هذا السؤال لأنني لا أنتمي إلى المنظمة. اسأل الرؤساء!

س: أود أن أضيف نبرة أخرى – نبرة تشجيع أكبر ربما – إلى سؤالي. لقد أشرتَ إلى أن المنظمات قد لا تأتي بالجواب؛ وأشرتَ كذلك إلى أن تاريخ البشرية ينزع بك إلى التشاؤم حول المستقبل أو الخلاص. أعتقد أن الأمر يعتمد على طبيعة المنظمات وعلى ما إذا كانت هذه المنظمات تلبي مصالح البشرية وعلى استعدادها للتطور، كما تتطور الأمم المتحدة وسواها من الجماعات، وكما يتطور البشر – على افتراض أننا لن نبيد أنفسنا عن بكرة أبينا، وعلى افتراض أننا نستطيع أن نتواصل بواسطة ذلك التعاطف والاحترام المدوَّنين في جيناتنا أيضًا. لا نهاية لما قد نستطيع أن نفعله على هذا الكوكب وخارجه. والمعنى المتضمن هنا، الذي أعتنقه، هو أننا تطورنا لأن لدينا المقدرة على الحب وعلى التعاون، وأننا لسنا هالكين ميئوسًا منهم لمجرد أننا نُظهر الكره والخوف والجشع وأننا استسلمنا في الماضي لمثل هذه الشرور. لكن لدينا في وجود الأمم المتحدة، في حدِّ ذاته، مثالاً على مقدرة الإنسان على النمو وعلى اتخاذ أهداف مشتركة. أعتقد أن الحاضر لا يتضمن المستقبل وأننا نستطيع، بالعمل النشيط في الحاضر، أن نؤثر في مستقبلنا وفي نجاتنا. لذا أسأل: ما هو الجواب عن السؤال الذي طرحتَه حول أن المرء، حين يحقق السلام في نفسه، كيف سيؤثر على بقية البشرية، بالنظر إلى المهلة الزمنية المحدودة؟

ك: ما هو السؤال، سيدي؟

س: سؤالي كان: حين يحقق المرء السلام في نفسه، كيف سيؤثر ذلك في بقية البشرية من دون وجود بُنى تنظيمية؟

ك: لقد شرحتُ ذلك، سيدي، شرحتُه. قولك: إذا تغيرتُ، كيف سيؤثر ذلك في البشرية، في بقية العالم؟ أليس هذا هو السؤال، سيدي؟ على رسلك، سيدي.

س: أجل، هذا هو السؤال.

ك: أعتقد، إذا أجزتَ لي أن أنوِّه بكلِّ احترام، أن هذا السؤال سؤال خاطئ. تغيَّرْ، تَرَ ما يحدث. هذا شيء هام للغاية حقًّا. علينا أن ننحِّي جانبًا جميع القضايا الجانبية. أرجوك أن تدرك هول هذا الأمر: أنك أنت بقية الإنسانية – نفسانيًّا. أنت الإنسانية. فسواء كنت تعيش في الهند، روسيا، الصين، أو في أمريكا أو أوروبا، أنت بقية الإنسانية، لأنك تتألم، ولأن الجميع على هذه الأرض يتألم بطريقته الخاصة. نحن نتشارك في هذا الألم؛ إنه ليس ألمي أنا. إذن، فأنت، حين تطرح سؤال: أي فارق سينجم عن تغيري أو تغيرك، إذا أجزت لي أن أنوِّه بكلِّ تواضع، ينم سؤالك هذا عن خطأ جوهري. أنت تتجنب القضية المركزية. ويبدو أننا لا نواجه أبدًا القضية المركزية، التحدي المركزي الذي يتطلب منا أن نحيا حياة مختلفة تمامًا، ليس كأمريكيين، روسيين، هنود، بوذيين، أو مسيحيين.

أتساءل فيما إذا كنتم تدركون أن المسيحيين كانوا مسئولين عن قتل بشر أكثر من أية ملة دينية أخرى بكثير. لا تغضبوا، أرجوكم! ثم جاء الإسلام، العالم الإسلامي؛ ثم الهندوس والبوذيون جاؤوا بعد ذلك بكثير. إذن، إذا قال المسيحيون المزعومون، بمَن فيهم الكاثوليك، – وهم حوالى ثمانمائة مليون إنسان، – إذا قال هؤلاء: "كفانا حروبًا"، سيكون لكم السلام على هذه الأرض. لكنهم لن يقولوا ذلك. وحدهما البوذية والهندوسية قالتا: "لا تقتل، لأنك إنْ قتلت – وهم يؤمنون بالتقمص – سوف تدفع الثمن في العمر التالي". لذلك لا تقتل، لا تقتل أقل الأشياء ضآلة، باستثناء ما يجب عليك أن تتغذى به من خضار وما إليها، لكنْ لا تقتل. نحن، كبراهمة، لم ننشأ على هذا النحو، على ألا نقتل ذبابة، ألا نقتل الحيوانات لنقتات بها. لكن هذا كله مضى. لذا، أرجوكم، نحن ننوِّه بأن القضية المركزية لإيقاف الحروب هي أنك يجب أن تضع حدًّا لصراعاتك أنت، لنزاعاتك أنت، لبؤسك وألمك أنت.

لماذا نختار؟ – باستثناء الأشياء المادية – بين قماشين جيدين، ملبَسين، بين سيارتين. أنت تختار عندئذٍ بسبب وظيفة هذه الأشياء، سرعتها، إلى ما هنالك. لكنْ نفسانيًّا، لماذا تختار أصلاً؟ لماذا يوجد هذا الخيار؟ هناك خيار طبعًا: تستطيع أن تنتقل من بلدة إلى أخرى، من عمل إلى آخر – ليس في روسيا، ليس في العالم الاستبدادي؛ ففي العالم التوتاليتاري أنت عالق في مكانك، لا يُسمَح لك بالتنقل إلا بموافقة رؤسائك[2]. وفي هذه البلاد، في مجتمع ديمقراطي مزعوم، لديك خيار في أن تفعل كلَّ ما يحلو لك – وأن تسمي ذلك حرية – أن تُشبع رغباتك، أن تصيب نجاحًا عظيمًا. لديك في ذلك خيارات لا تحصى! لكننا نتكلم على الخيار في المجال النفساني. إذا كنت ترى الأشياء رؤية واضحة جدًّا ينعدم الخيار. ومن سوء الحظ أننا لا نرى الأشياء رؤية واضحة. لا نرى في وضوح أن القومية أحد أسباب الحرب؛ لا نرى في وضوح أن الإيديولوجيات تنسل الحروب، سواء كانت الإيديولوجيات الماركسية، أو لينين، أو لونك الإيديولوجي الخاص. إذن فنحن نختار بين إيديولوجيا وأخرى، بين دين وآخر، بين مجموعة وأخرى – ونتوهم أننا أحرار! هذا، على العكس، يشي بالتشوش. وحين نكون مشوَّشين نتصرف تصرفات مشوَّشة، وبالتالي، نضاعف التشويش، كما يفعل السياسيون – سامحوني!

سؤال: لدينا هنا سؤال مكتوب للسيد كريشنامورتي: هل تؤمن بما يسمَّى الروح المتحققة؟

ك: هل تؤمن بما يُسمَّى أرواحًا متحققة؟ لا أعرف ماذا يعني ذلك. تمهَّل، سيدي.

سؤال: أنا آسف. أنت الآن تتكلم من على منبر عام، وحالما تنتهي هذه المحاضرة سوف تعود ربما إلى خلوة لعلها عزيزة جدًّا عليك. إذن، هناك عند الغالبية من الكائنات البشرية في هذا العالم فَصْلٌ بين الحياة العامة والحياة الخاصة. هل لك أن تعلِّق على هذا التقسيم؟ هل تشعر بأنه يقود إلى النزاع؟ هل هو ضروري؟

ك: بين الحياة العامة والحياة الخاصة؟ هل هذا هو السؤال؟ لماذا تفصل بينهما؟ لماذا نفصل بين الحياة العامة، وكأنها شيء ما في الخارج، وبين الحياة الخاصة؟ لو كان المرء يحيا حياة صحيحة، منضبطة، ليس فكريًّا، بل كلانيًّا، إذ ذاك لا تعود ثمة حياة خارجية وحياة خاصة. كلانيًّا، يعني أن تحيا ككائن إنساني كلي، ليس كطائفي، ليس كفرد، ليس كذهن، أو دماغ، ضئيل وضيع، يتصرف لمصلحتنا الذاتية. آسف إذا كنتُ بهذا الإلحاح. هل انتهينا، سيدي؟

الرئيس: هناك سؤالان آخران.

سؤال: إذا كنت تعيش في سلام، واتفق للطاغية أن يهجم، ألا تدافع؟

ك: ماذا ستفعل عند ذاك؟ إذا كنت تعيش في سلام وهاجمك طاغية أو لص، ماذا ستفعل؟ هذا هو السؤال. هل تحيا في سلام ليوم أو يومين فحسب، أم تحيا حياتك كلها في سلام؟ لو أنك عشت في سلام لسنوات عديدة، إذ ذاك سوف تتصرف التصرف السليم حين تُهاجَم.

أيها السادة، لقد دأب المتكلم على هذا الكلام طوال الستين سنة الأخيرة، وأكثر – في العالم أجمع، باستثناء ما وراء الستار الحديدي؛ فقبل الحرب كان يطوف أوروبا كلها – وهذه الأسئلة طُرِحَتْ على المتكلم طوال ستين عامًا. النموذج نفسه بات يكرِّره الجيلُ الشاب، تكرِّره مدنيةٌ فتية، مثل أمريكا؛ الأسئلة نفسها، بالنية نفسها: الإيقاع بالمتكلم، أو فهم المتكلم حقًّا، أو فهم أنفسهم. فلو أنك حظيت بسوء حظ – أو حسن حظ – الكلام طوال ستين سنة فستعرف الإجابات كلها والأسئلة كلها. ليس هناك فارق بين السؤال والجواب: إذا فهمتَ السؤال فهمًا عميقًا حقًّا لأدركتَ أن الجواب كامن في السؤال.

الرئيس: السيد روبرت ميللر يود أن يطرح سؤالاً.

روبرت ميللر: طيب، لا أود أن أطرح سؤالاً، بل أن أهنئك على تصريحك، وأن أؤكد أنني، وقد عايشت هذه المنظمة ما يناهز الأربعين عامًا وبلغت من العمر أكثر من ستين عامًا، توصلت إلى النتيجة نفسها التي توصلت إليها أنت. نحن جميعًا مبرمَجون: نُبرمَج على أمَّة، على إيديولوجيا، على دين – وجميع هؤلاء كائنات بشرية متشظِّية. استغرقني الأمرُ أربعين سنة من الإقامة في هذا البيت لكي أبطِلَ برمجتي على الجنسيتين الاثنتين أو الثلاث التي فُرضَتْ علي؛ وفي كلِّ مرة كنت أحصل كذلك على سلاح لكي أطلق في الاتجاه الآخر! وهاهنا، بعد أن قُدِّرَ لي أن أرى العالم في كلِّيته وأرى الإنسانية في كلِّيتها، استخلصت أن الأهم هو أن تكون إنسانًا من أن تكون يهوديًّا أو كاثوليكيًّا أو فرنسيًّا أو روسيًّا أو أبيض أو أسود.

ك: صحيح تمامًا.

ر م: وفي معتقدي أنه محرَّم عليَّ أن أقتل مهما كان السبب، لا في سبيل أمَّة، ولا في سبيل دين، ولا في سبيل إيديولوجيا. وهذه هي الخلاصة التي هي خلاصتك أنت أيضًا.

ك: هل هي خلاصة، سيدي، أم أنها واقع؟

ر م: هذا هو واقعي.

ك: هذا صحيح! ليست خلاصة.

ر م: لن أحاجج حول الأديان، بل سأذكِّر بأن "عينٌ بعين وسنٌّ بسن" ليست بالضبط وصية مسيحية. المسيح، على العكس، رأى أن الطريقة السلامية هي الاهتمام برفاقك البشر، واتصافنا بالرحمة والمحبة تجاه بعضنا بعضًا. لكني أود أن أعرف كيفية كَسْر قالب المواجهة هذا بين البشر. لا أتكلم على الدول، لأن الدول تتشكل من البشر، والحكومات أيضًا؛ فالبشر هم الذين يحكمون البلدان. كيف يمكن لنا أن نحطم هذا القالب؟ كيف لم تتمكن الإنسانية من ممارسة مبادئ بهذا الوهج كالتي كرز بها المسيح من أجلنا، ونصَّتْ عليها جميعُ الأديان أيضًا؟ أود فعلاً أن أتبين فيما إذا كنا نستطيع أن نجد صيغة أو حلاً لكَسْر قالب المواجهة والكره الرهيب ذاك، حتى بين الأسَر، كما نوَّه بذلك كريشنامورتي، لأن الأمر ليس مجرد حرب بين أمم وحسب. ثمة دومًا مواجهة، حتى بين الأطفال: ترى أحدهم مع ماما، فيما الآخر يريد أن يكون هو معها. ذلك القالب، كيف نكسره؟

ك: هل لي أن أجيب عن سؤالك؟ نحن مبرمَجون، كالكمپيوترات – نحن كاثوليك، پروتستانت، بوذيون، إلخ. فكما نوَّه السيد (؟)، نحن مبرمَجون. هل ندرك أو نرى فعليًّا، فعليًّا، وليس نظريًّا أو إيديولوجيًّا – هل نرى فعليًّا أننا مبرمَجون؟ أم أنه ليس إلا تصريحًا عَرَضيًّا؟ إذا رأيت أنك فعليًّا مبرمَج، هل تدرك عواقب كونك مبرمَجًا؟ واحدة من هذه العواقب كانت الكراهية، أو الحرب، أو فَصْلَ نفسك عن الآخرين. إذا أدرك المرء أنه مبرمَج، مضغوط، يُكال له الوعظ، وإذا رأى المرء ذلك حقًّا، فإنه يتخلَّى عنه وحسب، ولا يحتاج إلى "صيغة" له. حالما تشكِّل صيغةً فإنك تقع في شِراكها؛ وإذ ذاك فإنك تصير مبرمَجًا من جديد لأنك تملك برنامجك الخاص وذاك الآخر يعطيك برنامجًا آخر. المهم، إذن، هو إدراك واقع أنك مبرمَج، ليس فكريًّا، بل بدمك وطاقتك جميعًا.

الرئيس: بسبب ضيق الوقت، لن نتمكن من طرح المزيد من الأسئلة. بالنيابة عن "جمعية السلام في الأرض" وعن "الحركة من أجل عالم أفضل"، نود أن نشكر ضيفنا المحاضر الموقر والأخ الزميل والسفير باري، وهما الرئيسان الفخريان للجمعية، ونشكركم جميعًا على تجشمكم مشقة المجيء لحضور محاضرة اليوم.

يبقى عليَّ أن أؤدي مراسيم بسيطة جدًّا قبل أن تغادروا. كان السيد كريشنامورتي هنا في العام الماضي في 17 نيسان، حوالى الوقت الذي احتفلنا فيه بيوم "السلام في الأرض". وهذا العام حبانا حسنُ الطالع أن نستقبله بمناسبة الذكرى الثانية والعشرين لـ"السلام في الأرض" – وقد سبق لكم أن سمعتم بالأمر. بالنيابة عن "جمعية السلام في الأرض" في الأمم المتحدة، نتشرف بتقليدك، سيد كريشنامورتي، أيها المعلِّم العالمي، وسامَ الأمم المتحدة للسلام للعام 1984.

المترجم عن الإنكليزية: ديمتري أڤييرينوس


[1] باللاتينية في الخطاب pacem in terris: إشارة إلى تسبيح الملائكة مبشِّرين الرعاةَ بميلاد المسيح: "المجد لله في العلى، والسلام في الأرض للناس أهل رضاه" (إنجيل لوقا 2: 14)؛ وقد تسمَّتْ إحدى الجمعيات المنبثقة عن الأمم المتحدة بهذه العبارة. (المحرِّر)

[2] ألقى كريشنامورتي هذا الخطاب قبل انهيار جدار برلين وسقوط المنظومة الاشتراكية. (المحرِّر)

مذهب الباطن في الإسلام – رونيه گينون

مذهب الباطن في الإسلام

التصوُّف: ملامح عامة*

guenon_05_1925

رونيه گينون**

لعل العقيدة الإسلامية، من بين العقائد النقلية جميعًا، أوضحها اختصاصًا بقسمين متمايزين ومتكاملين، تصح تسميتُهما بمذهب الظاهر exotérisme ومذهب الباطن ésotérisme. وهذان القسمان هما، على حدِّ الاصطلاح العربي، الشريعة (حرفيًّا: "الطريق العريض"[1])، وهي مشتركة بين عامة الناس [العوام][2]، والحقيقة، وهي ما يختص به صفوةُ القوم [الخواص]، لا بمقتضى قرار اعتباطي نوعًا ما، بل بحُكْم طبيعة الأشياء نفسها، من حيث إن جميع الناس لا يتصفون بالقابلية أو بـ"المؤهلات" المطلوبة لبلوغ معرفتها. وهما كثيرًا ما يشبَّهان، تعبيرًا عن طابعهما "الظاهري" و"الباطني"، بـ"القشر" و"اللب"، أو حتى بمحيط الدائرة ومركزها. فالشريعة تتضمن كل ما تُطلَق عليه بلغة الغرب صفةُ "ديني" بحصر المعنى، وبالأخص ذلك الجانب الاجتماعي والشرعي الذي يندرج، في الإسلام، في الدين جملةً. ولنقل إن الشريعة هي، قبل كل شيء، قاعدة للعمل، في حين أن الحقيقة معرفة خالصة – على أن يُفهَم من ذلك تمام الفهم أن هذه المعرفة هي التي تضفي على الشريعة معناها السامي والعميق، بل هي علَّة وجودها الحقيقية، بحيث إن منزلتها من الشريعة منزلة المبدأ حقًّا، مثلما أن المركز هو من محيط الدائرة مبدؤها، على الرغم من أن الوعي بذلك ليس من نصيب عموم المشتركين في المنقول.

لكن هذا ليس كل شيء: يصح كذلك قولنا بأن مذهب الباطن لا يتضمن الحقيقة وحسب، بل يتضمن الوسائل المخصصة للوصول إليها أيضًا؛ ومجموع هذه الوسائل هو ما يُسمَّى الطريقة، أي "النهج" أو "الدرب" الذي يقود من الشريعة إلى الحقيقة. فإذا عدنا إلى الصورة الرمزية لمحيط الدائرة، يمثَّل للطريقة بالشعاع [نصف القطر] الذاهب منها إلى المركز؛ وعندئذٍ يستبين لنا ما يلي: كل نقطة من نقاط محيط الدائرة يقابلها شعاع، والأشعة جميعًا – وهي أيضًا ذات عدد كبير غير معيَّن – تؤدي بالمثل إلى المركز. ويصح قولنا إن عدد هذه الأشعة بعدد الطرق الملائمة للكائنات "الواقعة" عند مختلف نقاط محيط الدائرة، وذلك بحسب تنوع طبائعهم الشخصية؛ لذا يقال إن "الطرق إلى الله كنفوس بني آدم". بذا فإن "الطرق" عديدة، واختلافها فيما بينها يكون أشد كلما كان النظر إليها أقرب إلى نقطة انطلاقها على المحيط؛ لكن الغاية واحدة، لأنه ليس ثمة إلا مركز واحد وحقيقة واحدة. وبقول أدق، تُمَّحى الاختلافات الابتدائية بامِّحاء "الإنِّية" (من "أنا")، أي لدى بلوغ مراتب الوجود العليا، حيث تفنى صفات العبد أو الخلق (الفناء)، التي ليست إلا قيودًا فحسب، ولا تبقى إلا الصفات الإلهية (البقاء)، فيتصف الكائن بها في "فرديته" أو "ذاته".

يُصطلَح بالعربية على تسمية مذهب الباطن عمومًا – منظورًا إليه على هذا النحو بوصفه يتضمن الطريقة والحقيقة، أي بما هو الوسائل والغاية جميعًا – بـالتصوف، الذي لا يؤديه [بالفرنسية] إلا مصطلح "مُسارَرة" initiation تأدية دقيقة (ستكون لنا عودة إلى هذه النقطة لاحقًا). لقد نحت أهل الغرب كلمة "صوفية" çûfisme [أو soufisme] للدلالة على مذهب الباطن في الإسلام تخصيصًا (في حين يجوز لكلمة "تصوف" أن تنطبق على كلِّ عقيدة باطنية ésotérique أو مُسارَرية initiatique، أيًّا كان الشكل النقلي الذي تنتمي إليه)؛ لكن هذه الكلمة، عدا عن كونها تسمية اتفاقية مبتذلة تمامًا، تبدي سيئةً مؤسفةً بعض الشيء: إذ إن آخرها isme يوحي إيحاءً يكاد أن يكون حتميًّا بفكرة مذهب خاص بـ"مدرسة" بعينها، في حين أنه لا شيء من ذلك في الواقع وأن "المدارس" ليست هنا سوى طُرُق، أي – اختصارًا – مناهج متنوعة، من غير أن يكون ثَمَّ في حقيقة الأمر أي اختلاف عقيدي، وذلك لأن "التوحيد واحد"، كما يقال.

أما فيما يخص اشتقاقات هذه التسميات فمصدرها قطعًا كلمة صوفي. لكن بخصوص هذه الكلمة لا بدَّ بدايةً من إيراد الملاحظة التالية: لا يحق لأحدهم أبدًا أن يدَّعي أنه "صوفي"، اللهم إلا عن جهل مطبق، لأنه بذلك يبرهن أنه ليس كذلك حقًّا، من حيث إن هذه الصفة بالضرورة "سر" بين الصوفي المتحقق وبين الله؛ يجوز للمرء فقط أن يصف نفسه بأنه "متصوف"، وهو مصطلح ينطبق على كلِّ داخل في سلك التصوف، مهما تكن الدرجة التي بلغها منه. أما الصوفي، بالمعنى الحق لهذه الكلمة، فهو فقط مَن بلغ أعلى الدرجات.

لقد عَزَتِ المزاعمُ إلى كلمة "صوفي" نفسها أصولاً بالغة التنوع؛ لكنْ أغلب الظن أن هذه المسألة متعذرة الحل من وجهة النظر التي يؤخذ بها في أغلب الأحيان. لذا نسارع إلى القول بأن لهذه الكلمة من الأصول المفترَضة، التي لا يفوق أيٌّ منها الأصولَ الأخرى أو يقل عنها جوازًا، أكثر من أن يكون لها حقيقةً أصلٌ بعينه؛ إنما ينبغي، في الحقيقة، أن يُرى فيها بالحري تسميةٌ رمزيةٌ صرف أو، إنْ شئت، أثرُ ضرب من "الجفر" chiffre، لا حاجة له، بما هو كذلك، إلى اشتقاق لساني حصرًا، ولاسيما أن هذه الحالة ليست إلى ذلك فريدة من نوعها؛ إذ إن بالوسع إيجاد حالات أخرى مشابهة في منقولات أخرى. أما "الاشتقاقات" المزعومة فليست في حقيقة الأمر إلا نظائر صوتية تُقابلها فضلاً عن ذلك فعلاً، وذلك تبعًا لقوانين رمزيةٍ بعينها، صلاتٌ بين أفكار شتى أتت كذا لتتجمع تجمعًا عَرَضيًّا نوعًا ما حول الكلمة التي نحن بصددها.

لكنْ هنا، بالنظر إلى خاصية اللسان العربي (وهي إلى ذلك خاصية يشترك فيها مع اللسان العبري)، لا بدَّ من استنباط المعنى الأول والأساس من الأعداد: ما هو في الواقع جدير بالملاحظة على وجه الخصوص هو أننا بجمعنا القيم العددية للحروف التي تتألف منها كلمة صوفي نجد أن مجموعها يساوي مجموع القيم العددية لحروف "الحكمه الإلهيه"[3]. الصوفي الحق، إذن، هو المتحقق بهذه الحكمة أو هو، بعبارة أخرى، "العارف بالله"، لأن الله لا يُعرَف إلا بذاته – وتلكم هي فعلاً الدرجة العليا و"التامة" في معرفة الحقيقة[4].

بوسعنا أن نستخلص من كل ما تقدَّم بضع نتائج هامة: أولاها أن "الصوفية" ليست بتاتًا شيئًا "مضافًا" إلى عقيدة الإسلام، شيئًا لعله أتى والتحق بها فيما بعد ومن خارج، بل هي بالعكس قسم أساسي منها، بما أن هذه العقيدة تصير من دونها واضحة النقص، بل حتى ناقصة من "أعلاها"، أي من حيث مبدؤها نفسه. إن الافتراض المجاني تمامًا بوجود أصل أعجمي للتصوف (يوناني أو فارسي أو هندي) يناقضه مناقضةً صريحةً كونُ وسائل التعبير التي يختص بها مذهبُ الباطن في الإسلام وثيقة الصلة بتكوين اللسان العربي نفسه؛ وإذا كانت ثمة بلا مراء تشابهات مع عقائد من الرتبة نفسها موجودة في أماكن أخرى، فتعليل ذلك تعليل طبيعي تمامًا من غير ما حاجة للُّجوء إلى "اقتباسات" افتراضية، لأنه بما أن الحقيقة واحدة فإن جميع العقائد النقلية متماثلة بالضرورة من حيث جوهرُها، مهما يكن تنوع الصور التي تكتسي بها. إلى ذلك، فيما يخص مسألة الأصول هذه، سيان إنْ تكن كلمة صوفي نفسها ومشتقاتها (تصوف، متصوف) وُجدت في اللغة منذ البداية أو لم تظهر إلا في فترة متأخرة نوعًا ما، وهو موضوع جدل كبير دائر بين المؤرخين؛ فقد يكون أن الأمر وُجِدَ فعلاً قبل الكلمة الدالة عليه، إما بتسمية أخرى وإما من غير أن يستشعر القومُ حاجةً إلى إطلاق تسمية عليه.

على كل حال – وهذا يجب أن يكفي للبتِّ في المسألة بنظر كل مَن لا ينظر فيها "من خارج" وحسب –، يشير المنقول صراحة إلى أن مذهب الباطن، شأنه شأن مذهب الظاهر، يصدر مباشرة من تعليم النبي [محمد] نفسه، حيث إن لكل طريقة أصيلة ونظامية في الواقع سلسلة إسناد لانتقال البركة ترتقي في النهاية دومًا إليه عبر عدد متفاوت الكبر من [المشايخ] الوسطاء. وحتى إذا اتفق لاحقًا لبعض الطرق أن "تقتبس" فعليًّا – والأصح منه قولُنا "تطوِّع" – بضعة تفاصيل من مناهجها الخاصة (مع أن بالإمكان فعلاً، هاهنا أيضًا، تعليل التشابهات تعليلاً سليمًا بحيازة المعارف نفسها، بالأخص فيما يتعلق بـ"علم الأنفاس" بفروعه المختلفة)، ليس لهذا إلا أهمية جد ثانوية ولا يؤثر على الجوهر في شيء. فالحقيقة هي أن "الصوفية" عربية عروبة القرآن نفسه الذي تستمد منه مبادئها المباشرة؛ بيد أن إيجاد هذه المبادئ يقتضي أن يُفهَم القرآنُ ويؤوَّل تبعًا للحقائق التي تكوِّن معناه العميق، وليس بمجرد التدبُّرات اللغوية والمنطقية والكلامية التي يتبعها علماء الظاهر ("علماء الرسوم"، كما يسميهم الصوفية) أو فقهاء الشريعة الذين لا تشمل صلاحية كفاءتهم إلا مجال الظاهر. فنحن هنا بالفعل بصدد مجالين مختلفين اختلافًا بينًا، ولهذا لا يمكن أبدًا لأي تناقض أو خلاف فعلي أن ينشب بينهما؛ ذلك أن من الواضح، إلى ذلك، أنه لا تجوز من أي وجه المقابلةُ بين مذهب الظاهر ومذهب الباطن، بما أن المذهب الثاني، على العكس، يتخذ من الأول قاعدته ونقطة استناده الضرورية، وأن كلاً منهما ليس في الحقيقة سوى أحد جانبَي أو وجهَي العقيدة الواحدة ذاتها.

ثم لا مناص لنا من لفت النظر إلى أن مذهب الباطن في الإسلام، على العكس من رأي شديد الشيوع حاليًّا بين أهل الغرب، لا يمت بصلة إلى "السرَّانية" mysticisme – وكل ما بينَّاه حتى الآن لممَّا ييسِّر فهم أسباب ذلك. فالسرَّانية، أولاً، تبدو في الواقع شيئًا تختص به المسيحية حصرًا، ولا يمكن ادعاء الوقوع في غيرها على مكافئات دقيقة نوعًا ما إلا من جراء مقارنات باطلة؛ وأغلب الظن أن بعض التشابهات الخارجية في استعمال بعض العبارات هي في الأصل من هذا اللبس، لكنما لا يجوز لها أن تبررها بتاتًا مع وجود اختلافات من حيث الجوهر كلِّه. فالسرَّانية برمَّتها تنتمي، بالتعريف حتى، إلى المجال الديني، وهي، بالتالي، من صلاحية مذهب الظاهر حصرًا؛ ناهيكم أن الغاية التي ترمي إليها هي جزمًا من أبعد ما يكون عن رتبة المعرفة الخالصة. من ناحية أخرى، فإن "السرَّاني" le mystique لا يختص بمنهج، من حيث إن موقفه موقف "منفعل" passif ويقتصر بالنتيجة على تلقي ما يطرأ عليه "عفوًا"، إذا صح القول، ومن غير أية مبادرة [فاعلة] من جانبه؛ وبالتالي، فإنه من المحال أن توجد "طريقة" سرَّانية، لا بل إن مثل هذا الأمر لا يُعقَل لأنه عمقيًّا من قبيل التناقض. علاوة على ذلك، فإن السرَّاني، بحُكْم كونه منعزلاً دومًا، وذلك من جراء الخاصية "المنفعلة" لـ"تحقُّقه"، لا شيخ له، أي لا "مرشد روحيًّا" (الأمر الذي لا يمت بالطبع بصلة إلى مفهوم "مرشد الضمير" directeur de conscience بالمعنى الديني مطلقًا)، ولا سلسلة تنتقل إليه عبرها "لطيفة روحانية" influence spirituelle (نحن نستعمل هذه العبارة لتأدية معنى كلمة بركة العربية بأدق ما يمكن)، حيث ثاني هذين الأمرين [حصول البركة] هو النتيجة الفورية للأول [وجود الشيخ]. ذلك أن انتقال "اللطيفة الروحانية" انتقالاً نظاميًّا هو ما تتسم به "المُسارَرة" أصلاً، بل هو حتى عمادها الأساس، وهذا ما يبرِّر استعمالنا هذه الكلمة أعلاه ترجمةً لكلمة "تصوف". فمذهب الباطن [التصوف] الإسلامي، مثله إلى ذلك كمثل كل مذهب باطن حق، ذو خاصية "مُسارَرية"، ولا يجوز أن يكون شيئًا غير ذلك؛ وحتى من غير التوغل في مسألة اختلاف الغايات – وهو اختلاف ناجم إلى ذلك من اختلاف المجال نفسه الذي يرجع إليه كل منهما – يجوز لنا القول إن "الطريق السرَّاني" و"الطريق الصوفي" متنافرين جذريًّا، وذلك بحُكْم خصائص كلٍّ منهما[5]. وهل لنا، برهانًا على ذلك، أن نضيف أن العربية تعدم كلمة تصح بها ترجمةُ كلمة mysticisme ترجمة تقريبية حتى، وذلك من فرط ما تمثل الفكرةُ التي تعبِّر عنها هذه الكلمة شيئًا غريبًا كل الغرابة عن المنقول الإسلامي؟

إنما العقيدة الصوفية من حيث جوهرُها، عقيدة ميتافيزيقية بحتة، بالمعنى الحقيقي والأصلي لهذه الكلمة؛ لكنها في الإسلام، كما في الأشكال النقلية الأخرى، تشتمل بالإضافة إلى ذلك، بمثابة تطبيقات مباشرة نوعًا ما على سائر المجالات العَرَضية contingents، على جملة معقدة كاملة من "العلوم النقلية" sciences traditionnelles؛ وهذه العلوم، بمقتضى تعلقها بالمبادئ الميتافيزيقية التي تتوقف عليها وتُشتق منها اشتقاقًا تامًّا، وبحُكْم استمدادها من هذا الارتباط، ومن "التوضيعات" transpositions التي يتيحها، قيمتَها الحقيقية كلها، إنما تشكل بذلك، وإنْ يكُ على مرتبة ثانوية وتابعة للأولى، جزءًا لا يتجزأ من العقيدة نفسها، وليست البتة إضافات مفتعلة نوعًا ما أو نافلة. ثمة هاهنا شيء يبدو مستعصيًا بصفة خاصة على أفهام أهل الغرب، أغلب الظن لأنهم يعدمون عندهم أية نقطة مقارنة بهذا الخصوص. غير أن مثل هذه العلوم وُجِدَ في الغرب، في العصور القديمة وفي العصر الوسيط، لكن هذه أمور يتناساها المُحدَثون كل التناسي، فيجهلون طبيعتها الحق وكثيرًا ما لا يتصورون وجودها حتى؛ وخصوصًا منهم الذين يلتبس عليهم مذهب الباطن بالسرَّانية، لا يدرون ما يمكن أن يكون عليه دور هذه العلوم ومنزلتها، من حيث إن هذه العلوم تمثل بالطبع معارف هي من أبعد ما يكون عن انشغالات السرَّاني، مما يجعل إدراجها في "الصوفية" بنظرهم من قبيل اللغز المبهم.

كذا هو علم العدد والحروف [حساب الجُمَّل] الذي أشرنا أعلاه إلى مثال عليه تأويلاً لكلمة "صوفي" والذي لا نقع عليه في صورة مشابهة إلا في القبالة العبرية بالنظر إلى التقارب اللصيق بين اللسانين اللذين يفيدان للتعبير عن هذين المنقولين الباطنيين [التصوف الإسلامي والتصوف الإسرائيلي]، وهما لسانان يمكن لهذا العلم وحده أن يتيح فهمهما العميق حتى. كذا هي أيضًا سائر العلوم "الكوسمولوجية" [= الكونية] الداخلة جزئيًّا تحت باب ما يشار إليه باسم "الهرمسية"؛ ولا مندوحة لنا من الإشارة بهذا الصدد إلى أن الخيمياء alchimie لا يفهمها بمعنى "مادي" بحت إلا الجهلة الذين ليست الرمزية symbolisme عندهم إلا حرفًا ميتًا، أولئك بالذات الذين نعتَهم خيميائيو العصر الوسيط الحقيقيون بوصمة "النافخين" و"حارقي الفحم" والذين كانوا الرواد الأصلاء للكيمياء الحديثة، حتى إذا لم يكن لهذه أن تتشرف كثيرًا بمثل هذا الأصل! بالمثل، فإن علم النجوم astrologie – وهو علم كوسمولوجي آخر – هو في الواقع شيء مختلف كل الاختلاف عن "فن التكهُّن" أو "العلم الظنِّي" الذي لا يريد المُحدَثون أن يروا فيه غير ذلك؛ ذلك أن هذا العلم يتصل قبل كل شيء بمعرفة "القوانين الدورية" التي تؤدي دورًا هامًّا في العقائد النقلية كافة.

هناك، إلى ذلك، توافق معيَّن بين جميع هذه العلوم التي هي، من وجهة نظر معينة، وبحُكْم أنها تنبثق أصلاً من المبادئ نفسها، أشبه بالتمثيلات المختلفة للشيء الواحد نفسه: بذا فإن علم النجوم والخيمياء وحتى علم الحروف ليست، إذا جاز القول، إلا ترجمة للحقائق نفسها إلى اللغات الخاصة بمختلف رُتَب الحقيقة، يجمع بينها قانون القياس الكلِّي analogie universelle الذي هو من كلِّ توافق رمزي أسُّه وأساسُه؛ وبمقتضى هذا القياس بالذات تجد هذه العلوم، عبر توضيع مناسب، تطبيقاتها في مجال "العالم الصغير" وفي مجال "العالم الكبير" على حدٍّ سواء، وذلك لأن سيرورة المُسارَرة تستعيد السيرورة الكوسمولوجية نفسها في أطوارها كافة[6].

ولا مناص، إلى ذلك، لكي يُتحصَّل على وعي تام بهذه الترابُطات كلِّها، من بلوغ مرتبة عالية جدًّا من مراتب التصوف، وهي مرتبة تسمَّى مرتبة الكبريت الأحمر[7]؛ والواصل إلى هذه المرتبة يستطيع، عبر العلم المسمَّى سيمياء (وهي كلمة لا يجوز أن تلتبس بالكيمياء)، وبإجرائه تحويلات معينة على الحروف والأعداد، أن يؤثر على الكائنات والأشياء التي توافق هذه الحروف والأعداد في النظام الكوني. وما الجفر – وهو، بحسب المأثور، علم يعود بأصله إلى سيدنا الإمام علي نفسه – غير تطبيق لهذه العلوم بعينها على التنبؤ بأحداث المستقبل؛ وهذا التطبيق، الذي تتدخل فيه بالطبيعة "القوانين الدورية" التي ألمحنا إليها لتوِّنا، علم يلبي، لمَن يفهمه حق فهمه ويعلم تأويله (لأن ثمة هاهنا ضربًا من "الكتابة السرية" cryptographie، الأمر الذي ليس إلى ذلك أعجب في الحقيقة من تدوين رموز علم الجبر)، كل ما يلبيه العلم المضبوط والرياضي من شروط الصرامة العلمية. وبالوسع إيراد العديد من "العلوم النقلية" الأخرى التي ربما بدا بعضها أغرب حتى في أعين الذين لم يتعودوا هذه الأمور؛ لكننا يجب أن نكتفي بما أوردنا، إذ لا نقدر أن نتوسع في الأمر أكثر من غير أن نتخطى إطار هذا العرض، حيث يضطرنا المقام إلى التزام العموميات.

أخيرًا، لا بدَّ لنا من إضافة ملحوظة أخيرة بالغة الأهمية لفهم الخاصية الحقيقية للعقيدة الصوفية حق فهمها، ألا وهي أن هذه العقيدة ليست بتاتًا قضية "تبحُّر" ولا يصح تعلمُّها مطلقًا بمطالعة الكتب على غرار تحصيل المعلومات العادية و"الدنيوية" profanes. ذلك أن كتابات أكبر المشايخ نفسها لا تفيد إلا "حوامل" supports للتفكر وحسب؛ فالمرء لا يصير متصوفًا البتة لمجرد أنه قرأها، وهي تبقى أصلاً مستغلقة غالبًا على أفهام مَن ليسوا "مؤهلين" كل الأهلية. فبالفعل، لا بدَّ، قبل كل شيء، من الاتصاف باستعداد أو قابلية فطرية معينة ليس بمقدور أي جهد أن يقوم مقامها؛ ولا بدَّ بعدئذٍ من الانتساب إلى سلسلة نظامية، لأن نقل "اللطيفة الروحانية" الذي يُتحصَّل عليه عبر هذا الانتساب هو، كما أسلفنا، الشرط اللازم الذي لا تتم مُسارَرة من دونه البتة، وإنْ يكُ على أولى الدرجات. وهذا النقل، إذ يُكتَسب اكتسابًا لا يزول، يجب أن يكون منطلَقًا لعمل محض باطني، لا يمكن للوسائل الخارجية بأسرها أن تكون له أكثر من عون وسند، لكنهما يبقيان ضروريين مادام يجب أن تؤخذ بالحسبان طبيعةُ الكائن البشري كما هو بالفعل؛ فبهذا العمل الباطني وحده يستطيع الكائن أن يرتقي من درجة إلى درجة، إذا كان ذلك بمستطاعه، حتى ذروة مراتب التصوف، حتى مرتبة "الهوية المطلقة" lʼIdentité Suprême، وهو مقام مطلق الديمومة وغير مشروط، يتعالى عن قيود كل وجود عَرَضي زائل – مقام الصوفي الحق.

المترجم عن الفرنسية: ديمتري أڤييرينوس


* Cahiers du Sud, 1947, pp. 153-154 ; repris dans René Guénon, Aperçus sur l’ésotérisme islamique et le Taoïsme, Gallimard, 1973, pp. 13-28.

** فيلسوف فرنسي (1886-1951)، ولد في بلوا (فرنسا) وتوفي بالقاهرة. شُغف بالروحانيات منذ حداثة سنِّه، فدفعه الفضول إلى اختبار معظم مدارسها الحديثة، حتى اهتدى أخيرًا إلى تصور متكامل عن وحدة المأثورات "الدينية" الأصيلة في العالم قاطبة، بوصفها تعبيرات متنوعة متفرعة عن "منقول قديم" Tradition Primordiale واحد، فاطمأن إليه وراح، بالتوازي مع حياة باطنية غنية، يكتب فيه المقالات والكتب والرسائل، مؤسِّسًا بذلك لمذهب "نقلي" traditionnaliste مازال أثرُه ساري المفعول حتى يومنا هذا. من مؤلفاته الكثيرة الهامة: الإنسان ومآله بحسب الڤيدنتا، أزمة العالم الحديث، رمزية الصليب، الثالوث الأكبر، لمحات عن المُسارَرة. (المحرِّر)

[1] الشريعة: "الظاهر المستقيم من المذاهب"، بحسب القاموس المحيط. (المحرِّر)

[2] ما بين معقوفتين […] من تدخل المترجم لبيان المقصود. (المحرِّر)

[3] وفقًا لحساب الجُمَّل، الحكمه الإلهيه = (1 + 30 + 8 + 20 + 40 + 5) + (1 + 30 + 1 + 30 + 5 + 10 + 5) = صوفي = 90 + 6 + 80 + 10 = 186. (المحرِّر)

[4] في كتاب في التصوف موضوع بالعربية، لكنه ذو ميول حديثة للغاية، عنَّ لمؤلف سوري، بلغ إلى ذلك من قلة معرفته بنا أنه حسبنا "مستشرقًا"، أن يوجِّه إلينا نقدًا غريبًا في بابه نوعًا ما: فهو، إذ قرأ – لا ندري كيف – "الصوفية" بدلاً من صوفي (العدد الخاص من Cahiers du Sud للعام 1935 حول الإسلام والغرب)، خُيِّل إليه أن حسابنا مغلوط؛ ولما أراد من بعدُ أن يتولى الحساب على طريقته، توصل بفضل عدة أغلاط في القيم العددية للحروف إلى إيجاد (وهذه المرة كمكافئ لـ"الصوفي" [بأل التعريف]، وهو غلط أيضًا) الحكيم الإلهي [= (1 + 30 + 8 + 20 + 10 + 40) + (1 + 30 + 1 + 30 + 5 + 10) = 186]، من غير أن ينتبه، فضلاً عن ذلك، إلى أن لهاتين الكلمتين، بما أن الياء الواحدة تساوي هاءين، المجموع العددي نفسه لكلمتَي الحكمه الإلهيه بالضبط! نحن على علم بأن تعليم المدارس الحالي بات يجهل استعمال الأبجد ولم يعد يستعمل إلا تسلسل الحروف النحوي الصرف [أ، ب، ت، ث، إلخ]، لكن مثل هذا الجهل عند شخص يتنطح لمعالجة هذه المسائل لمما يتخطى الحدود المسموح بها… مهما يكن من أمر، فإن "الحكيم الإلهي" و"الحكمه الإلهيه" كليهما ينطوي على المعنى نفسه في حقيقة الأمر؛ بيد أن لأولى هاتين العبارتين خاصية غير مألوفة بعض الشيء، في حين أن الثانية – تلك التي أشرنا إليها نحن – على العكس نقلية تمامًا.

[5] لا نرى من جانبنا أي حرج في اعتماد مصطلح سرَّانية (باليونانية: mustikismos، وأصلها من mustêrion، "سر"، ومن mustês، "مُسارَر") للدلالة على ما يميز التصوف عن تديُّن عامة المسلمين، على أن يتضمن هذا المصطلح المعنى الذي قصده به، مثلاً، "العارفون بالله" من الآباء الشرقيين الأوائل ومن سار على نهجهم في الغرب، مثل الصوفي الألماني الكبير يوهَنْ (الأستاذ) إكْهَرْت (1260-1327)؛ إذ إن هؤلاء استعملوه حصرًا للدلالة على كل ما يتصل بمعرفة "الأسرار" mustêria (اللاهوتي الروسي ڤلاديمر لوسكي، مثلاً، لا يتردد في استعمال عبارة "الإلهيات السرَّانية" mustikê theologia). لكن تفصيل هذا الرأي يحتاج إلى إفراد بحث خاص ليس هاهنا مجاله. (المحرِّر)

[6] مثلما أن المبدأ يتجلَّى "نزولاً"، في سيرورة الفيض الكوني عن الواحد، عبر مراتب الوجود كافة، من المرتبة العليا إلى المرتبة الدنيا (من نقطة الدائرة إلى محيطها)، كذلك يستعيد المُسارَر في معراجه الصوفي "صعودًا" – كون العالم الصغير صورة مختصرة عن العالم الكبير – مراتب الوجود كافة، من الدنيا إلى المبدأ (من محيط الدائرة إلى نقطتها). (المحرِّر)

[7] "الكبريت الأحمر" من ألقاب الشيخ الأكبر محيي الدين بن عربي. (المحرِّر)

أصول الفلسفة العربية – فيليپ ڤالا

أصول الفلسفة العربية*

فيليپ ڤالا**

اسمحوا لي أن أستهل هذه المحاضرة معرفًا بالكلمات التي استعملتُها في عنوانها، لعلِّي بذلك أتمكن من استجلاء مضمونها بعض الشيء.

بادئ ذي بدء، ماذا ينبغي لنا أن نستشف من كلمة أصول؟ لعل الأصح بالعربية أن نتكلم على نَسَب الفلسفة العربية أو نسبتها بدلاً من الكلام على "أصولها" المفترَضة. فبـ"نَسَب" الفلسفة العربية أعني بالفعل معرفة أسلاف هذه الفلسفة الذين كان الفلاسفة العرب أنفسهم يطلقون عليهم تسمية "القدماء من اليونانيين" أو "القدماء" وحسب، بمعنى الأسلاف. وأسارع إلى لفت أنظاركم إلى أن هذه الإشارة تلميح من العرب إلى أنهم كانوا يعدُّون أنفسهم بمثابة "ورثة" هؤلاء الأسلاف الإغريق أو "أخلافهم"، إذا جاز لي القول؛ وبعبارة أخرى، كانوا يجاهرون بصحيح انتسابهم شرعًا إلى العقل اليوناني. ففي العصر الذي نحن بصدده ما كان لأحد أن يطلق تسمية "أجداد" أو "أسلاف" على أناس مختلَف على ميراثهم أو مشكوك فيه.

وبـ"نَسَب" الفلسفة العربية أعني، من ناحية أخرى، كيفيات انتقال معرفة الإغريق إلى العرب: ما هي المسالك التاريخية والجغرافية التي وصلت بواسطتها علوم الإغريق إلى العالم العربي؟ ومَن هم الأفراد أو، عند الاقتضاء، ما هي المؤسسات التي تُرجِمَتْ بواسطتها الفلسفةُ المكتوبةُ باليونانية إلى اللسان العربي؟ هذان سؤالان جوهريان لا مناص من الإجابة عنهما إذا ما شئنا أن نتبين ما كانت عليه الفلسفة العربية، في بواكيرها على الأقل.

هناك نقطة ثانية لا بدَّ من توضيحها في العنوان: ما المقصود بـ"الفلسفة العربية"؟ حتى يُفهَم معنى هذا السؤال يجب التمعن في كلمة فلسفة. وبما أنه لا يوجد لدينا بعدُ معجم تاريخي للِّسان العربي، لا أستطيع أن أحدد تاريخًا دقيقًا لظهور مفردة فلسفة، لكن بوسعنا أن نرجِّح ظهورها بدءًا من القرن الثاني للهجرة (القرن الثامن للميلاد). مهما يكن من أمر، فالمؤكد أن كلمة فلسفة تعريب للكلمة اليونانية philosophia. غير أن التعريب يختلف عن الترجمة، ومن شأن هذه المسألة اللسانية أن تذكِّرنا بأنه لم يكن في الثقافة العربية أصلاً ما يكافئ الفلسفة اليونانية، وهو سبب استشعار العرب الحاجة إلى تعريب الكلمة اليونانية مباشرة، لكنْ في صورة تشي بأصلها اليوناني، بحيث يكون بالإمكان تبيان هذا الأصل عند الاقتضاء، كما فعل أبو نصر الفارابي، كبير فلاسفة القرن الرابع للهجرة، على سبيل المثال، بادئًا بالإشارة، كما فعلتُ لتوِّي، إلى أن "اسم الفلسفة يوناني وهو دخيل في العربية"، على حدِّ قوله. وهذا بالضبط ما أخذه على الفلسفة جميعُ خصومها حتى القرن الرابع عشر على الأقل: هي "دخيلة" على اللسان العربي بوصفه لغة القرآن، وبالتالي، "دخيلة" على الوحي نفسه.

والحال، فقد كان بوسع العرب أن يترجموا كلمة philosophia اليونانية ولا يكتفوا بتعريبها إلى فلسفة. لا ريب أن ثمة محاولات لترجمتها، بدءًا قطعًا بكلمة "حكمة"، لا بل "حكمة إلهية". لذا لا مناص، توضيحًا للأمور ودرءًا للالتباسات الممكنة بقدر المستطاع، من تدقيق فوري لمعنى كلمة فلسفة وتبيان ما يميزها من مصطلح الحكمة الإلهية. فالفلسفة كانت بنظر جمهور أكابر الفلاسفة الناطقين بالعربية (الكندي، الفارابي، فلاسفة "مدرسة بغداد"، ابن سينا، ابن ميمون، ابن باجة، ابن رشد)، قبل كل شيء، نهجًا يقوم على قواعد في البرهان شديدة الصرامة، قواعد وضع صيغتها النهائية أرسطاطاليس (أرسطو)، تلميذ أفلاطون. بعبارة أخرى، لم تكن الفلسفة، في مقدماتها على الأقل، تمت بصلة إلى حكمة مستعلية، يشير إليها مصطلح الحكمة الإلهية إشارة صريحة. لذا تقتضيني الأمانةُ على فكرهم وتدقيقُ موضوع محاضرتي ألا أتكلم على الحكمة الإلهية، بل على ذلك النهج العقلاني المأثور عن أرسطو فحسب.

كما أن هناك نقطة أخيرة لا بدَّ من توضيحها في عنوان هذه المحاضرة: لِمَ الكلام على "فلسفة عربية"، وليس على "فلسفة إسلامية"، حسبما درج عليه الاستعمالُ اليوم؟ السبب الأول – وهو السبب الأجلى أيضًا – هو أن الفلاسفة لم يكونوا جميعًا مسلمين، بل هيهات: فبين وجهائهم كان هناك أيضًا يهود ومسيحيون كتبوا بالعربية، ناهيكم عن الوثنية منهم، مثل ثابت بن قرة، وعن منكري الوحي، مثل أبي زكريا الرازي، وعن المشككين، مثل ابن الراوندي. فحتى يشملهم المصطلحُ الذي يشار به إلى النشاط العقلي الذي زاولوه جميعًا، لا بدَّ لهذا المصطلح من أن يجتنب التلون المِلِّي، حتى إذا كان من البديهي أن جميع هؤلاء الفلاسفة عاشوا في مجتمع إسلامي جزمًا.

إلى هذا السبب الأول لاجتناب مصطلح فلسفة إسلامية يضاف سببٌ ثانٍ لا يقل عنه وجاهة من حيث المضمون: حين كان المسلمون واليهود والمسيحيون والصابئة وغيرهم يشتغلون بالفلسفة فإنهم لم يفعلوا ذلك أصلاً لتأويل القرآن أو التوراة أو العهد الجديد، بل فعلوه سعيًا منهم في تعيين ما يتيسر للبشر أن يفهموه بخصوص العالم والإنسان. بذا، كانت منطلقاتهم المشتركة، نظريًّا على الأقل، عناصر معرفية يقبلها كل إنسان، ألا وهي معطيات العقل البشري، دون التماس أي وحي بعينه. وإذا أجزت لنفسي الإصرار على هذه النقطة فلأن الفلاسفة الذين أحدثكم عنهم اتخذوها عقيدة، إذا جاز القول، وكانوا جميعًا، أو أغلبهم، يستنكرون فكرة الانطلاق من أشياء أخرى غير معطيات العقل، كما فعل مثلاً في الإسكندرية، في القرن السادس، المسيحي يوحنا فيلوپونس، المعروف بالعربية باسم يحيى النحوي، الذي أجمع جمهور فلاسفتنا، أو كادوا يُجمعون، على السخرية منه بوصفه "الأسوة السيئة" التي يجب الحرص على عدم التأسي بها! فبالفعل، كان يوحنا فيلوپونس قد ارتكب في نظرهم خطيئة لا تُغتفر، حينما عارض أرسطو باسم الاعتقاد (المشترك، إلى ذلك، بين الأديان الإبراهيمية الثلاثة) بخلق العالم؛ إذ إن معارضة أرسطو على هذا النحو كانت برأيهم معارضةً للعقل بالذات، باسم اللاعقلاني في أسوأ الأحوال، وفي أحسنها، باسم لغة شاعرية غير متماسكة من حيث الأساس.

زبدة القول إن الفلاسفة كانوا يميزون تمييزًا قاطعًا بين الفلسفة والدين تمييزَهم بين منطلقات كلٍّ منهما: إما معطيات العقل فيما يخص الفلسفة، وإما معطيات الوحي فيما يخص علم الكلام. فالخلط بين المقدمات والمنهجيات الخاصة بكلٍّ من هذين النهجين يقود لا محالة، على حدِّ رأيهم، إلى خراب الفلسفة كنهج مستقل؛ إذ إن استقلالية الفلسفة والعقل – وهذه نقطة على غاية من الأهمية – كانا العماد الأساس الذي يقوم عليه طلبُهم العلم، في مواجهة نظيره عند المتكلمين الذين كانوا يقصدون بـ"العلم" شيئًا مختلفًا كل الاختلاف. وبعيدًا عن أية مفارقة منطقية، لا نجد هذه الصرامة المنهجية فقط عند المناطقة من ذوي المراس الصعب، كأبي نصر الفارابي، لكننا نجدها أيضًا عند اللاهوتيين من الفلاسفة، مثل المسيحي يحيى بن عدي واليهودي موسى بن ميمون.

ثمة قطعًا طيف كامل من التلاوين لا بدَّ من إضافته إلى هذه اللوحة، لأنني لا أنتوي اختزال تاريخ الفلسفة العربية إلى تعارُض لا يلين بين أنصار العقل الأرسطي وبين فقهاء الدين. بيد أنه لا مندوحة لنا من الانطلاق من هذا الإطار المفهومي – من هذه "المواجهة"، إذا شئتم – حتى نفهم الظاهرة الثقافية التي هي قوام "الفلسفة العربية".

أما وقد قيل ذلك، فإن مصطلح فلسفة عربية حتى هو في الواقع من أردأ ما يكون، لأن أغلب الفلاسفة الذين أتيت على ذكر أسمائهم لم يكونوا، كما تعلمون، من غير العرب وحسب، بل كتبوا أحيانًا في ألسُن غير اللسان العربي، كثابت بن قرة الذي كتب بالسريانية أو ابن سينا الذي كتب بالفارسية، على سبيل المثال لا الحصر. لذا فإن مصطلح "فلسفة عربية"، مأخوذًا على الإجمال، هو من قبيل التقريب ليس إلا. فحتى نتقيد بالصرامة التامة، ينبغي لنا أن نضيف إلى كلمة "فلسفة" صفة مستقاة من رجوعهم المشترك إلى أرسطو وأن نتكلم على الفلسفة الأرسطية أو المشائية باللسان العربي، مؤجلين التعريف الدقيق بـ"أرسطية" كلٍّ منهم على حدة. أيًّا ما كان الأمر، فإني مكلِّمكم على أصول هذه الفلسفة بعينها.

* * *

لا بدَّ أنكم استنتجتم أنه يجب الرجوع إلى أرسطو نفسه، أو بالأحرى، إلى تكوين بنيان النصوص الأرسطية لمعرفة ما ورثه العرب بالضبط. لقد استقر هذا البنيان على الصورة التي وصلتنا تقريبًا بفضل رجل يدعى أندرونيقوس الرودي، الخليفة الحادي عشر على رأس المدرسة المؤسَّسة في أثينا، أخذ على عاتقه ترتيب المقالات ونَشَرَها للمرة الأولى قبل حلول العصر المسيحي بعدة عقود، بعد زهاء 250 عامًا على موت أرسطو. ولقد كابدت هذه النصوص قبل نشرها للمرة الأولى، كما ونصوص تلميذه الأول ثاوفرسطس، حوادث من قبيل الخيال. فقد حُفِظَتْ في الواقع مدفونةً تحت تَلْعة طوال زهاء قرن، بين أواسط القرن الثالث والنصف الأول من القرن الثاني قبل الميلاد، وذلك اجتنابًا لمصادرتها. فالأسرة التي ورثتْها والتي لم تستفد منها البتة، اللهم إلا الحَجْر عليها، أرادت من ذلك بالفعل الحيلولة بينها وبين أسرة پرغامون (حاضرة توجد أطلالها اليوم في منطقة إزمير في تركيا) المَلَكية التي كانت تسعى آنذاك في اقتناء مكتبة. فإذا صح وجود "عناية ربانية" ترعى الفلاسفة يبدو أنها تدخلت في تلك اللحظة من التاريخ بالذات تدخلاً محسوسًا. وإننا بالفعل لنتساءل عَرَضًا عما كان سيؤول إليه التاريخ الفكري للبحر متوسط وأوروبا لولا هذا الاكتشاف!

أخذت نصوص أرسطو فور نشرها، كما هو متوقع، تغذي النظر العقلي لمفكري المدرسة الأرسطية، ولاسيما الإسكندر الأفروديسي، الوارد ذكره مرارًا في المصادر العربية، وكذلك، بصفة عامة، جملة النظر الفلسفي في العالم اليوناني. والأمر الذي يهمُّنا بالأكثر من منظار ظهور الفلسفة العربية هو ما جرى بعدئذٍ. فمنذ القرن الثالث الميلادي، ضُمِّنَ بنيانُ النصوص الأرسطية، وبالأخص المقالات في المنطق، في برنامج لدراسة الفلسفة على شوطين: كان الشوط الأول عبارة عن دراسة مصنفات أرسطو، بدءًا بالضبط من المقالات في المنطق؛ أما الشوط الثاني، الذي لم يكن أرسطو غير مدخل إليه، فكان عبارة عن دراسة كتب أفلاطون. والمدرسة التي وُضِعَ لها هذا البرنامجُ الدراسيُّ سميت بعد ذلك بوقت طويل بالمدرسة الأفلاطونية المُحدَثة التي كان مؤسِّسها، أو مؤسِّساها بالأصح، فيلسوفين متنافسين، وكلاهما، إلى ذلك، سوري الأصل: كان الأول يدعى فرفيريوس الصوري، وقد عاش، فيما نعلم، بين العامين 234 و305؛ أما الثاني، يمليخا الأفامي، فقد عاش بين العامين 230 و330 قادمًا من قنَّسرين، الواقعة حاليًّا في لبنان، كما برهن على ذلك برهانًا حاسمًا زميلُنا جوليان أليكو، النزيل العلمي في المعهد الفرنسي للشرق الأدنى.

كلا هذين الفيلسوفين مذكور في المصادر العربية. وقد كتب أولهما مقالة ممهِّدة لمنطق أرسطو، درسها العرب وعلقوا الشروح عليها حتى القرن السابع عشر على الأقل، سواء مباشرةً، اعتبارًا من ترجمتها العربية، أو على نحو غير مباشر، اعتبارًا من الخلاصة التي وضعها الأبهاري في القرن الثالث عشر للشرح الذي وضعه ابن سينا بنفسه على هذا النص.

* * *

كانت للمدرسة الأفلاطونية المُحدَثة خصائص عدة يجدر بنا أن نسلط عليها انتباهنا. أولى هذه الخصائص من حيث الأهمية (مع أن أهل الاختصاص حتى كثيرًا ما يمرون بها مرور الكرام) هو أن برنامج هذه المدرسة كان يتخطى بكثير إطار الفلسفة البحتة. فالأمر كان بالفعل في ذهن فرفيريوس، وأكثر منه في ذهن يمليخا ومريديه، عبارة عن تأليف رصين ومنهجي بين فلسفة أفلاطون وبين جوانب التراث اليوناني كافة منذ هوميروس: فالأديان والروحانيات والأدب والشعر والفلسفة والعلوم والفنون وسائر مكوِّنات الثقافة اليونانية كانت مدعوة إلى الائتلاف في كنف أفلاطون وفيثاغورث في سبيل نَظْم ردٍّ متسق على الدين الحديث الظهور والوقوف صفًّا واحدًا أمامه، ذلك الدين الذي كان يزعم تارةً بأنه فلسفة الكلمة Logos الإلهي نفسه، وطورًا يندِّد بالمماحكات الهلينية – وبهذا الدين نعني المسيحية طبعًا.

عديدون هم أعضاء المدرسة الأفلاطونية المُحدَثة، من فرفيريوس حتى أواخر ممثليها في القرن السادس، ولاسيما من مدرسة أثينا، ممَّن اشتهروا بمعارضتهم العنيدة لهذا الدين الذي كان بنظرهم صيغة محرَّفة، شعبية وفظة، للعلم اليوناني الذي كانوا يعدون أنفسهم وحدهم ممثِّليه الشرعيين.

فهل هذه الصيغة للتراث اليوناني بعينها هي التي ورثها العرب؟ نعم ولا، كما سنرى.

الخاصية الثانية لهذه المدرسة، أو لفرعها المستقر في الإسكندرية على الأقل، هي أن التشديد فيها، على ما يبدو، كان على تأويل مقالات أرسطو، وبالأخص على مقالاته في المنطق. وهذه النقطة تتيح الإصرار على عامل كان حاسمًا للشكل الذي اتخذته الفلسفة في القرون التالية، عند العرب وعند اللاتين على حدٍّ سواء.

كان الشرح الاتباعي على النصوص الفلسفية هو النشاط الفكري المفضل عند الفلاسفة منذ القرن الأول قبل الميلاد، وليس الإبداع المذهبي الحر، يقوم له أفرادٌ يعتبرون أنفسهم خالصين من ديون سابقيهم، كما قد يُظن؛ فالوفاء للقدماء – أفلاطون وأرسطو – كان على العكس القاعدة الذهبية المعمول بها، بحيث كان التفكر يجري انطلاقًا من معطيات موجودة سلفًا من أجل الكشف عن معانيها، وذلك من غير الحياد عن مقاصد المؤسِّسَين الأصلية. ولعلكم ستلحظون معي أن الاشتغال بالفلسفة كان بذلك أقرب إلى الهيكلية التي نجدها في فقه "أديان الكتاب".

النتيجة الأولى لهذا النشاط التفسيري كانت ترتيب مذاهب الأقدمين وتنسيقها على نظام معين أغلب الظن أن أفلاطون وأرسطو لم يجتهدا في تقعيدها وتنسيقها على هذا النحو. مهما يكن من أمر، فقد درجت العادة منذ ذلك العصر على تصور النشاط العقلي كمجرد تفسير حرفي لبنيان النصوص كما قيَّدها على صورتها النهائية، فيما كان يُظن، المؤسِّسان الكبيران. ولقد ظل أساتذة مدرسة الإسكندرية ورثة هذه الممارسة حتى القرن السادس، لكن أعضاءها، أكثر من أعضاء أية مدرسة أخرى، قيَّدوا جميع قواعدها وأشواطها وتفاصيلها، بحيث طوَّعوا العلم للتعليم وأضفوا بذلك أكثر ما يمكن من الاتساق على برنامج التحصيل الذي كلمتكم عليه لتوِّي، فصارت معهم الفلسفةُ حقيقةً تعليمًا مخصصًا للطلاب، غايتها التأهيل على قواعد المعرفة العقلانية التي وضعها أرسطو قبل نحو عشرة قرون. وهذا كله، كما ستلحظون معي، موافق للمثال الإغريقي الذي كان يطلق تسمية "جامعة" universitas على مجموع مدارس الفلسفة في أثينا.

ها قد صرنا الآن في صلب المكوِّنين الرئيسين لما أضحى "الفلسفة العربية" فيما بعد: فعن مدرسة أثينا ورث الفلاسفة العرب، في جملة ما ورثوا، فكرة أن الفلسفة مسعى عقلي وروحي في آنٍ معًا، وبالتالي، مالوا إلى اعتبارها دينًا مستقلاً، دينًا للخاصة من أهل العقل؛ وعن مدرسة الإسكندرية تعلموا كل شيء تقريبًا عن الفلسفة نفسها، أي أرسطو والشروح على مقالاته وفنون التأويل والشرح جميعًا. بيد أن هذه الشروح الإسكندرانية كانت قد تلقفت نتائج نشاط تأويلي يعود، كما رأينا، إلى القرن الأول قبل الميلاد؛ وهذا يعني أن المادة المفاهيمية المتراكمة كانت مما لا يُستهان به. وما تبقَّى من الفلسفة بحصر المعنى مما انتقل إلى العالم العربي إما ضُمِّن، بصورة أو بأخرى، تضمينًا متناغمًا في مخطط العلوم وفي الهيكلية التعليمية للعلم الموروث عن أساتذة الفلسفة في مدرسة الإسكندرية، وإما أقحِم فيه قسرًا؛ وهذان – كلا الهيكلية والمخطط – ظلا مثالاً علميًّا وقدوة في الصرامة المنهجية يُحذى حذوُهما طوال الفترة التي دام فيها الانصراف إلى شرح أرسطو، أي حتى القرن الثاني عشر الميلادي.

* * *

أما وقد بانت لنا الخطوط الكبرى لما انتقل إلى العالم العربي، يجدر بنا أن نتبيَّن طُرُق انتقال هذا الإرث اليوناني وكيفياته. أما طُرُق هذا الانتقال فأرى له، من جانبي، طريقين اثنين: أولهما – وهو الذي نعرف عنه بعض الشيء، وسوف أتكلم عليه على الفور – طريق أوساط أرباب الأدب والدين السريان أو السوريين؛ والثاني – وهو الذي نكاد لا نعرف عنه شيئًا والذي يدور حوله سجالٌ بين أهل الاختصاص – هو طريق أوساط صابئة مدينة حرَّان الواقعة شمال بلاد الرافدين، شمال حلب وشرقها على الجانب التركي من الحدود الحالية.

إن أخذ العالم العربي للفلسفة اليونانية لم يتم مباشرة عن الإغريق الوثنيين قطعًا لأن هؤلاء، كما هو معلوم، كانوا في القرن الثاني الهجري قد اندثروا منذ قرن على الأقل. إلى ذلك، فإن هذا النقل لعلوم الإغريق إلى الشرق بدأ في وقت لم تكن الإمبراطورية العربية الإسلامية موجودة بعدُ بوصفها كذلك. فكان لا بدَّ من وجود وسيط رئيس، وهذا الوسيط هو العالم الناطق بالسريانية متمثلاً، والحال هذه، إما بأفراد من رجال الدين على الأغلب، وإما بأعلام علمانيين مرموقين، منهم سرجيوس (سركيس) الراشعيني الذي سأقول فيه بضع كلمات لأنه يقدم لنا مَعْلَمًا تاريخيًّا وجغرافيًّا منورًا.

تبوأ سركيس رئاسة الطب في مدينة من شمال سورية واقعة عند منابع الخابور، ونحن لا نعرف إلا تاريخ وفاته في العام 536 م. وما نعرفه عن حياته العلمية يجيز لنا أن نتعرف في شخصه إلى واحد من ممثلي التيار الفكري الذي كان يرى في المسيحية فلسفةً ودينَ وحي على حدٍّ سواء. فهو بالفعل ناقل ديونيسوس الأريوپاغي الذي تأثرتْ كتاباتُه بالأفلاطونية المُحدَثة تأثرًا جمًّا؛ ويقال فيه أيضًا إنه كان قارئًا متبحرًا في أوريجينس، عالِم اللاهوت المسيحي الذي نشط في القرن الثالث للميلاد وكان مقربًا جدًّا، من حيث العديد من المباحث، من الفلسفة الأفلاطونية. إلى ذلك، عُرفتْ عن سركيس ترجماتُه إلى السريانية لثلاثين مقالة من مقالات الطبيب الإغريقي جالينوس (131-201 م). وأغلب الظن أنه حصَّل علمه في هذا المجال حتى أتقنه في الإسكندرية؛ وفي مدرسة الإسكندرية الأفلاطونية المُحدَثة تابع تحصيله للفلسفة، مطَّلعًا بالأخص على كتاب المقولات لأرسطو، الذي كان المدخل إلى تحصيل المنطق والمدخل إلى الفلسفة عمومًا.

كان سركيس ممثلاً لانفتاح العالم السرياني على التأثير اليوناني ولاستقلالية الفكر التي كانت تسري فيه منذ القرن الرابع. وبالفعل، فإنه اعتبارًا من القرن الرابع، وبمقدار ما كانت المسيحية السريانية تزداد ثقة بنفسها ويقل شعورها بخطر الوثنية التي كانت آيلة إلى الانحطاط، راح الموقف المناوئ للهلينية سابقًا ينقلب إلى مودة عقلية متعاظمة؛ وبذلك انتقل القوم، حتى القرن السابع، وفيما يتعداه، حتى القرن الثالث عشر، من موقف النابذ للميراث اليوناني ولمثاله في التأهيل العقلي paideia إلى موقف تبنِّيهما المتحمس. فبنظر سركيس، باتت ترجمة المصنفات اليونانية وتأليف المقالات الفلسفية يصبان في مطمح واحد، ألا وهو استملاك المعرفة العلمية والفلسفية الهلينية.

وفي صورة أعم، تكاثرت بؤر الثقافة اليونانية أو اليونانية-السريانية في العالم السرياني إبان القرن الخامس. بذا حافظت مدارس علم اللاهوت في الرها ونصيبين وطيسفون سلوقية وحرَّان على تعليم النحو وعلم البيان بوصفهما لازمين لتحصيل اللاهوت؛ وكانت الأديرة مراكز لترجمة علوم الإغريق وتعليمها أيضًا، فكان دير قنَّسرين على الفرات ودير مار متى قرب الموصل، على سبيل المثال، ذائعَي الصيت في القرنين السابع والثامن.

وبين الأعلام الكبار الذين وسموا بسِمَتهم نقل الآداب العلمية اليونانية إلى السريانية، وبالأخص ترجمة أرسطو وتأويله، لا بدَّ من ذكر الأسماء التالية: پروبا (القرن السادس)، بولس الفارسي (القرن السادس)، ثاودوروس من كرخ جُدَّان، الذي كان صديقًا وزميلاً لسركيس الراشعيني، سويرس النصيبيني (السبختي، ت 667 م)، أطناس (أثناسيوس) البلذي (ت 686 م)، جرجيس العرب أو أمة العرب (القرن السابع)، يعقوب الرهاوي (ت 709 م)، ثاوفيلس الرهاوي (ت 791 م).

ويبدو أن هؤلاء المصنِّفين اطلعوا من الشروح الإسكندرانية الكبرى على منطق أرسطو، وخصوصًا الشروح على كتب المقولات والعبارة De interpretatione والتحاليل الأولى، غير أنهم لم ينهضوا لترجمتها، بل اكتفوا بالاستفادة منها. كما يبدو أنهم كانوا مطلعين أيضًا على كتاب ما بعد الطبيعة لأرسطو، غير أنهم، في المقابل، لم يطلعوا على ما يبدو على مقالات أرسطو في الطبيعيات والأخلاق.

خلاصة القول إن في إمكاننا أن نميز في عملهم جميعًا سمة بارزة، ألا وهي الأهمية التي أوْلوها للمنهجية وللقواعد الأرسطية في التعقل، حيث أجمعوا على الاعتراف بمكانة أرسطو أستاذًا بلا منازع للمعرفة العلمية والمنطق، كما ولمنهجية هذه المعرفة، أيًّا كان العلم المعتبَر.

بذا فإن هذا الرأي وخيارات القراءة المتفرعة عنه كانت إرهاصات لحركة الترجمة الكبرى إلى العربية التي بدأت في القرن الثامن. وإذن فإن الفلسفة العربية ليست مدينة للسريان وحدهم بالمحاولة الأولى لتطويع مصطلحات الفلسفة اليونانية للغات الساميَّة، بل هي مدينة أيضًا لخيار حاسم يتعلق بأساس الاجتهاد الفلسفي، وهو خيار عاد العرب وأخذوا به، فجددوه وأضفوا عليه بُعدًا لا يقارَن بكل ما عُمِل قبلئذٍ. وبعبارة واحدة، صار أرسطو حقيقةً "المعلم الأول" للفلاسفة العرب، مثلما بدأ بإصابة هذه المكانة عند السريان.

قبل أن أتناول ما سُمي عن حق بـ"النقل التحصيلي" translatio studiorum (وهو مصطلح لاتيني المقصود منه أن النصوص ليست وحدها ما يُنقَل، بل منهج قراءتها وتأويلها أيضًا)؛ قبل أن أتطرق إلى ذلك، أقول، لا بدَّ لي أيضًا من قول كلمة في الطريق الثاني التي وصل العلم اليوناني بواسطته إلى العالم العربي.

في العام 529 أو 530 للميلاد – مازال أهل الاختصاص مختلفين على التاريخ –، أغلِقَتْ مدرسةُ أثينا الأفلاطونية المُحدَثة على أثر إبرام فرمان إمبراطوري يحرِّم على جميع سكان أثينا – وثنيين ومسيحيين – تعليم الفلسفة في هذه المدينة؛ الأمر الذي اضطر أساتذة المدرسة – وجميعهم من الوثنيين المناضلين، ونصفهم سوري الأصل – إلى اتخاذ طريق المنفى. ونحن نعلم أنهم لجأوا إذ ذاك إلى طيسفون، حيث بلاط كسرى الأول أنوشروان الذي حكم بين العامين 531 و578 بعد الميلاد. غير أنهم لم يلبثوا هناك إلا سنة أو سنتين على الأكثر وعادوا إلى ديار الروم، من غير أن نستطيع البت في المكان الذي استقروا فيه يومذاك. وإني لأعفيكم من سماع تفصيل الأسباب، الممل بعض الشيء، التي تحملني على الظن بأن واحدًا منهم على الأقل ألقى عصا الترحال في ديار مضر، في حرَّان تحديدًا، وهي مدينة كانت تجتمع فيها ميزتان على الأقل: كانت داخلة ضمن حدود الدولة الساسانية وغير بعيدة عن حدود الدولة البيزنطية. حسبي أن ألحظ أن تلك المدينة شهدت قطعًا ازدهار معرفة نقلية وثنية حتى القرن الرابع للهجرة (القرن العاشر للميلاد). بذا فإن عوامل بعينها، وبالأخص الأهمية التي يبدو أن دراسة الرياضيات احتفظت بها، ترجِّح أن الفلسفة اليونانية الأثينية الأخيرة قد خلَّفتْ ذرية في حرَّان[1]. أيًّا ما كان الأمر، فقد كان في مقدور الفيلسوف والرياضي ثابت بن قرة، الصابئي الحرَّاني الأصل والعالم الذي لا يضارع باليونانية وآدابها، أن يظل، في عزِّ القرن العاشر، على ثنائه للفكر الوثني، العلمي منه والديني، الذي كان في نظره منبع جميع الخيرات التي أنعِمَ بها على البشر منذ فجر الأزمان؛ ثناء كان – ويجدر التنويه بذلك – مبطَّنًا بنقد مباشر للمسيحية، بالضبط على غرار الخطابات المعادية للمسيحية للمأثور الأثيني الأفلاطوني المُحدَث. إلى ذلك أضيف أن هذا الثناء على الوثنية والانتصار لها في القرن التاسع يُنسَب إلى رجل عاش في بغداد في العصر العباسي.

* * *

لنأتِ الآن إلى حركة الترجمة الكبرى التي مكنت من ظهور ثقافة عالمة عربية حصرًا وتمخضت عنها حياةٌ عقليةٌ فيها من العزم والغنى ما يستحق الكثير من الإعجاب.

لن أولي اهتمامي طبعًا إلا للفلسفة ولمترجميها، لكنْ لا بدَّ من الإشارة إلى أن هذه الحركة الواسعة تخص جميع العلوم اليونانية أيضًا: الطب والرياضيات، ومنها الجومطريقى (الهندسة) والأرثماطيقى (الحساب) وعلم الفلك والموسيقى؛ وكذلك البصريات والفلاحة (الزراعة) وعلم الحيل (الميكانيكا). لقد كان جانب من هذه العلوم، إلى ذلك، جزءًا لا يتجزأ من برنامج تحصيل الفلسفة نفسها، ولاسيما الرياضيات التي كانت، إلى جانب علوم أخرى، تفيد تعليمًا ممهِّدًا لدراسة الفلسفة بحصر المعنى.

لقد تواصلت الحركة الأولى لترجمة الأعمال اليونانية إلى السريانية – تلك الحركة التي قادتنا حتى أواخر القرن السابع – إبان القرن العاشر، بعد عدد من الصدامات والتخلفات الناجمة عن الفتوحات الإسلامية، لكنها لم تبلغ تلك السعة التي وصفتُها لتوِّي إلا في القرن التاسع، قبل أن تتوقف نهائيًّا في القرن العاشر – هذا فيما يخص الإطار الزمني.

إن أقدم ترجمة لكتاب من كتب أرسطو إلى العربية تشي، أولاً، بما كان مأمولاً في البداية من الفلسفة اليونانية، ثم بالسياق التاريخي لاستقبالها الأول. والترجمة التي نحن بصددها هي ترجمة الطوپيقى، وهي مقالات يستعرض فيها أرسطو ويعرِّف بشروط الجدل أو بمختلف الأشكال التي يمكن للحِجاج الفلسفي أن يتخذها، وبعبارة واحدة، ما عُرف بالعربية بـصناعة الجدل. وهذه الترجمة تعود إلى العام 782، ويقال إن الخليفة العباسي المهدي (ت 785) عهد بها إلى الجاثليق (الأسقف) النسطوري طيماثاوس الأول الذي قام بنفسه بترجمة سريانية للمقالات عن اليونانية، ثم نقلها إلى العربية آنذاك صديقٌ له يدعى أبا نوح.

إن استعمال المسيحيين لهذا النص أصلاً في مناظراتهم مع المسلمين – حول التثليث، مثلاً لا حصرًا – هو ما يفسِّر اختيار المسلمين نصًّا أقل ما يقال فيه إنه يشق على الترجمة، إذ كان ينبغي لهم أن يردوا على أسئلة مناظريهم المحرجة مستعملين الأسلحة الديالكتيكية نفسها؛ وهذا ما يسوغ الترجمة السريانية الجديدة، فالعربية، لمقالة كانت نسخة سريانية أخرى منها متوفرة منذ القرن السابع. وبوسعنا إبداء الملاحظات نفسها في خصوص مقالة أرسطو الثانية التي تُرجمت إلى العربية في الثلث الأول من القرن التاسع، ألا وهي السوفسطيقى أو الخطابة، حيث نجد وصفًا لمختلف أنماط السفسطة المستدَل عليها في كلام أحد المحاورين وسُبُل تفنيدها. وهاتان الترجمتان معاصرتان للمناظرات الدينية بين المسيحيين والمسلمين التي كان أرسطو يقوم فيها مقام الحَكَم غير المتحيز، إذا جاز التعبير.

* * *

تسنَّمت حركة الترجمة ذروتها في القرن التاسع مع أسرة حنين بن اسحق: الأب حنين وابنه اسحق وابن أخيه حُبيش، مع أعوانهم، أمثال ابن الجوهري وعيسى بن يحيى؛ ثم تألفت عصبة المترجمين المجتمعين حول أول الفلاسفة العرب الكبار، أبي يوسف الكندي (ت 873 م)، الذي كان يموِّل الترجمات ثم يصلحها، مع أنه لم يكن ملمًّا باليونانية. ثم تواصلت ترجمة مقالات أرسطو فيما يُعرف (بشيء من الشطط) بـ"مدرسة بغداد" في القرن العاشر وبداية القرن الحادي عشر.

فلنبدأ بأسرة حنين بن اسحق الذي توفي في العام 260 للهجرة (873 م). كان حنين، وكذلك ابن أخيه حُبيش وزميلهما الصابئي ثابت بن قرة، أشبه ما يكونون بموظفين لدى أسرة بني موسى، وهم أنفسهم من كبار العلماء ويحظون برعاية الخليفة المأمون. إننا على جهل تام بنسب بني موسى، وحتى بملَّتهم، وهذا على الرغم من اسمهم؛ أما موظفوهم فنعلم أنهم كانوا مأجورين متفرغين "للنقل والملازمة". وحنين نفسه قد توفر على نقل مصنفات طبية وعلمية، لكنْ من غير أن ينصرف إليها بالكلية، بما أننا ندين له بجوامع compendium مقالة أرسطو كتاب الآثار العلوية التي تتناول الظواهر السماوية، كما يشير عنوانها. تضاف إلى هذه الترجمتان السريانيتان الجديدتان لـمقولات أرسطو وكتاب العبارة، حيث قام ابنه اسحق بنقل هاتين المقالتين إلى العربية عن السريانية.

ومع اسحق بن حنين لم تعد الترجمة المنهجية إلى العربية تقتصر على مؤلفات أرسطو، بل راحت تشمل الشروح عليها أيضًا. وبين الفلاسفة الآخرين الذين ترجم لهم اسحق لا يرد ذكر الإسكندر الأفروديسي وثامسطيوس وحسب، بل أفلاطون ونماسيوس الحمصي (ت 390 م)، واضع كتاب في طبيعة الإنسان De natura hominis، وپروقلس، الأفلاطوني المُحدَث الكبير من القرن الخامس.

وندين كذلك لحنين وابنه اسحق بوضعهما جملة مفردات سريانية تفيد دراستها فائدة جمة لتوضيح تشكُّل المصطلحات الفنية التي نصادفها في الترجمات العربية للمصنفات في المنطق وفي مقالات المناطقة العرب.

أما فيما يخص المترجمين المجتمعين حول الكندي، فقد استخدم هذا الفيلسوف أفرادًا مؤهلين استطاعوا، من غير أن يكونوا أنفسهم مناطقة أو فلاسفة متمرِّسين، أن يترجموا مع ذلك جملة من النصوص الهامة، بدءًا من كتاب ما بعد الطبيعة لأرسطو وكتاب مختارات من الإلهيات للأفلاطوني المُحدَث پروقلس الذي سبق ذكره. وبالإضافة إلى هذه النصوص، طوَّعوا إلى العربية أيضًا كتابين حظي ثانيهما بنصيب هائل من الشهرة، إنْ بالعربية وإنْ باللاتينية – وأعني كتاب في محض الخير أو كتاب في الخير المحض، الذي عُرف باللاتينية بعنوان Liber de causis. فهذا الكتاب تطويع توحيدي لمقاطع مستقاة هي الأخرى من مختارات من الإلهيات لپروقلس، وكذلك ربما لكتاب آخر من كتب پروقلس بعنوان إلهيات أفلاطون. أما الكتاب الآخر الهام الذي طوعوه للعربية فهو تاسوعات أفلوطينس (بعنوان أثولوجيا أرسطاطاليس، منسوبًا إلى "الشيخ اليوناني" دون تسمية المؤلِّف)، الفيلسوف من القرن الثالث الميلادي الذي يُعد مؤسِّس الأفلاطونية المُحدَثة وواحدًا من أعلام النظر العقلي إبان العصور القديمة المتأخرة.

والكندي نفسه وضع، انطلاقًا من عمل فريق مترجميه، كتابًا كان مطمحه الأول، بالإضافة إلى التباري مع الإغريق، صياغة الفلسفة بحسب قواعد البرهان الرياضي more geometrico، أي البرهان كما نجده مثلاً في الأصول والأركان لإقليدس، الرياضي الإغريقي الكبير من القرنين الرابع والثالث قبل الميلاد. وفيما يخص الاصطلاح، وضع الكندي فضلاً عن ذلك مقالة في التعريفات أسهمت بعض الشيء في تحديد مصطلحات المفاهيم بالعربية، حتى إذا لم يُحذَ حذوُه في خياراته إلا فيما ندر، كما يجب أن نقر.

* * *

أنتقل الآن إلى المدرسة المعروفة باسم "مدرسة بغداد" التي خرَّجت واحدًا من ألمع عباقرة الفلسفة العربية، وأعني به أبا نصر الفارابي، الذي يجوز لنا أن نعتبره أستاذ كلٍّ من ابن سينا وابن رشد على حدٍّ سواء. وباستثناء الفارابي نفسه، الذي كان دينه أقرب ما يكون إلى دين الفلاسفة الأغارقة، كان جميع أعضاء المدرسة المذكورة يدينون بالمسيحية، سواء في ذلك أساتذة الفارابي والذين غدوا طلابه فيما بعد. وبين أساتذته، الذين يُسنِدُ سلسلتهم دون انقطاع حتى الإسكندرية، في رواية هي أقرب إلى الأسطورة منها إلى التاريخ، لا بدَّ لنا من ذكر متى بن يونس ويوحنا بن هيلان (أو غيلان)، الذي أخذ على يديه تحصيله التام للدراسات الأرسطية كما صيغت وعُلِّمت في الإسكندرية – وهو تحصيل كان فيلسوفنا شديد الافتخار به. وعلى حدِّ علمنا، لم يشارك الفارابي بنفسه في العمل الفيلولوجي (الفقهي اللغوي) لتدقيق ترجمات أرسطو الذي اشتغل عليه أساتذتُه وطلابُه هو من بعد. من هذا المنظار، يشغل الفارابي من هذه المدرسة منزلةً أشبه بمنزلة الكندي بين زملائه المترجمين، بمعنى أنه لم يكن على ما يبدو أوفر من الكندي أهليةً للمشاركة في هذا العمل الفيلولوجي، على معرفته الأكيدة بالسريانية.

ولقد علمنا بهذا العمل الذي نحن بصدده مصادفة بفضل مخطوطة تعود، إذا صح التقدير، إلى فترة إنجاز العمل المذكور نفسها في بداية القرن الحادي عشر. وهذه المخطوطة، المحفوظة في باريس، تكشف عن عمل عدة أجيال من العلماء الذين عنوا بمقارنة مختلف الترجمات السريانية المتوفرة لجميع مقالات أرسطو في المنطق، إما للاحتفاظ بدروسها ولترجمتها إلى العربية مباشرة، وإما لتنقيح النص السرياني على الأصل اليوناني، بحيث يحصلون بعده على الترجمة العربية الأكثر أمانة للأصل. ونجد في هذه المخطوطة، إلى وفرة الحواشي الفقهية، تسجيلاً، في أمكنة بعينها، لتأويل الأفلاطونيين المُحدَثين الإسكندرانيين. وهذه الاستعانة بالشروح الإسكندرانية، التي كانت إذن معروفة هي الأخرى، إما بالعربية وإما، على الأرجح، بالسريانية، تبين أن علماءنا لم يألوا جهدًا في محاولة إضاءة معنى النص الذي كانوا بصدد تحريره. وفي أيامنا هذه، يتبع مترجمو أرسطو هذا النهج بحذافيره، وإنْ يكُ فقه اللغة قد سار منذ ذلك الوقت أشواطًا بعيدة قُدُمًا.

وما صنعه أعضاء مدرسة بغداد بجملة مقالات أرسطو في المنطق صنعوه أيضًا، اعتبارًا من مادة أفقر، بمقالة أرسطو الكبرى في الفيزياء، المعروفة بالعربية بعنوان كتاب السماع الطبيعي. وهاهنا أيضًا وصلتنا على الأقل مخطوطة جيدة جدًّا لعملهم التحريري؛ وهذه المخطوطة محفوظة في ليدن، وقد نُشرت، كسابقتها، منذ بضعة عقود بعناية العالِم المصري عبد الرحمن بدوي.

حتى ننهي كلامنا على مدرسة بغداد لا بدَّ لنا أيضًا من الإشارة إلى أمرين اثنين: من جهة، كان هؤلاء المترجمون جميعًا، في الوقت نفسه، شارحين لأرسطو أيضًا، وقد وضع أغلبهم مقالات أكثر شخصية، أكان ذلك في الفلسفة أو في الإلهيات أو حتى في الطب؛ ومن جهة ثانية، فإن المدرسة الشهيرة التي يُنسَبون إليها جميعًا تيسيرًا للبحث لم توجد قط بوصفها مؤسسة، واجتهادُهم، وإنْ يكُ حظي أحيانًا بدعم أنصار رسميين، ظل مع ذلك أشبه بالمغامرة الفردية – وهذان الأمران خطيران، كما سنبينه في خلاصة استنتاجاتنا.

* * *

قبل أن نصل إلى التأملات العامة المتعلقة بخصائص المسار التاريخي الذي اقتفيناه لتوِّنا جاهدين، لا بدَّ لي من إبداء بضع ملاحظات على مآل العمل الذي نهضت له الأجيال الأولى من المترجمين الفلاسفة.

فلنلحظ، بادئ ذي بدء، أن مثال الصرامة والدقة العلميتين الذي وُضع في متناول الناطقين بالعربية بفضل هذه الترجمات قُيض له أن يشهد من الخسوف ما قُيض له من الانبعاث؛ إذ يجوز لنا الكلام مثلاً على "خسوف" فيما يخص الفترة التي انتصر فيها هذا المثال – ويا للمفارقة! – في الأدب الفلسفي. والأدب الفلسفي تيار أدبي أمست فيه الفلسفة ثيمة بيان مبهرج، إذا جاز التعبير، تناسب تزويق أحاديث الصالونات. وأبو حيان التوحيدي خير ممثل للتيار المذكور؛ لكن بوسعنا أن نسمي أيضًا مسكويه الذي، وإنْ كان صاحب مزاج أكثر فلسفية من مُعاصره التوحيدي، لم تكن معرفته بالفلسفة أعمق من معرفة أبي حيان.

أما ابن سينا والمنقول الذي استهلَّه فشأنهما شأن آخر تمامًا، حيث تطاول هذا المنقول حتى القرن السابع عشر في شرق ديار الإسلام. فمع أن الفلسفة عانت قُبيل ابن سينا من انحطاط عابر فإنه من جانبه يمثل للتفتح الكامل للفكر الفلسفي في الإسلام. فهو من كلِّ وجه وريث العمل التحريري والتقعيدي الذي أنجزتْه قبله أجيالُ العلماء الذين كلمتكم عليهم، حتى إن بعضهم كتب مؤخرًا أن ابن سينا يجسد ذروة الفلسفة المنبثقة في المحصلة من مدرسة الإسكندرية نفسها. لكنه "وريث" من نوع خاص بعض الشيء. وبالفعل، فإن أبا علي لا يشرح أرسطو أو يكاد لا يشرحه: إذ لم يصلنا من الشروح التي وضعها غير شروح وجيزة نوعًا ما على المقالة في النفس وعلى ما بعد الطبيعة؛ وهذه الشروح لا يُعتَد بها إذا ما قيست إلى بقية مؤلفاته الضخمة. ذلكم أن ابن سينا تخيَّر نموذجًا آخر، ليس نموذج شرح القدماء، بل نموذج صهر مذاهبهم وإعادة سبكها من جديد. ابن سينا يعيد النظر والتفكر في أرسطو وفي شارحيه ويعيد كتابتهم في آنٍ معًا؛ وإذا اتفق له أن يستبقي شيئًا من عناوين مصنفات أرسطو الذي يعيد كتابته فهو يفعل من غير أن يستشهد به أبدًا. جملة القول إن الفلسفة العربية، مع ابن سينا والناسجين على منواله، لم تعد أرسطية، بل سيناوية بحتة. لقد طُويت صفحة الاقتباس عن العلم اليوناني؛ إذ إن ابن سينا هَضَمَه.

* * *

هذه الملاحظة الأخيرة تقودني إلى خاتمتي. لقد تبين لنا سريعًا نسبيًّا من أي طُرُق وبأية وسائل تشبَّع العالم العربي بالثقافة اليونانية من القرن الثامن إلى القرن الحادي عشر؛ ويجب علينا الآن أن نتساءل عن خصائص هذا "النقل التحصيلي".

في المقام الأول، لا بدَّ أنكم لاحظتم أنني لم أكلمكم البتة على بيت الحكمة المبالغ في شهرته. فبحسب رواية تأريخية معينة، كان بيت الحكمة الشهير هذا هو المؤسسة الخليفية التي قام فيها عدد من العلماء، بدءًا من العام 830 وبتكليف من الخلفاء أنفسهم، بإنجاز جميع الترجمات من اليونانية إلى العربية أو بعضها على الأقل. لكننا بتنا نعلم، اعتبارًا من التحقيق في أقدم النصوص التي ذُكر فيها بيتُ الحكمة، أن الأمر لم يجر على هذا النحو. فلئن صح أن الخلفاء، وبالأخص الخليفة المأمون، أيدوا حركة الترجمة هذه إلى حدٍّ ما، الأصح أن غالبية مموِّلي المترجمين كانوا أفرادًا من مصلحتهم – لأسباب خاصة، مهنية أو سياسية أو حتى مذهبية – أن تكون للعلم اليوناني مكانته في المجتمع المسلم. على كل حال، كلما عدنا بالزمن إلى الوراء تلاشت الصلة المفترَضة بين بيت الحكمة وحركة الترجمة الكبرى التي وصفتُها لكم. بعبارة أخرى، "بيت الحكمة" عبارة عن أسطورة متأخرة.

بوسعنا، إلى ذلك، تعميم هذه الملاحظة وإثبات أن العالم الإسلامي لم يُقِمْ في أي وقت من تاريخه مؤسسات لنقل المعرفة الدنيوية، سواء كانت العلوم أو الطب أو الفلسفة – وذلك لسبب أصيل: لقد ساد الاعتقاد بالفعل بأن هذه المعرفة لا تُنقل أفضل النقل إلا من الأستاذ إلى مريديه، الأمر الذي لم يكن يتطلب إقامة "مؤسسة" بعينها لهذه الغاية.

أمر آخر تجدر الإشارة إليه في خصوص هذا النقل: باستثناء بضعة مترجمين أفراد ممَّن ذكرتُهم، ما من عالم عربي أو ناطق بالعربية واحد بذل جهدًا لتعلُّم اليونانية. فضلاً عن ذلك، ليس هناك غير مثال فريد معروف، في العصر الكلاسيكي، على عالِم مسلم تعلَّم لسانًا أعجميًّا غريبًا عن الإسلام؛ بيد أن هذا اللسان ليس اللسان اليوناني، بل اللسان السنسكريتي الذي أتقنه أبو الريحان البيروني حتى صار قادرًا على الترجمة من العربية إلى السنسكريتية قدرته على الترجمة من السنسكريتية إلى العربية.

بذا، لئن صح بلا أدنى ريب أن مجتمعًا بأكمله تتلمذ على مدرسة قدماء الإغريق العظام، الصحيح أيضًا، على ما يبدو، أن الحاجة إلى تعلُّم لسان هؤلاء لم تلح على أحد. كذلك فإن الإعراض عن اللسان نفسه كان أصلاً أمرًا مفعولاً في الطريقة التي عامل بها بعض المترجمين على الأقل من اليونانية إلى السريانية المخطوطاتِ اليونانيةَ متى انتهوا من الاشتغال عليها: فبدلاً من أن يحتفظوا بهذه المخطوطات كانوا يمحون المكتوب عليها بالحك لكي يكتبوا عليها شيئًا آخر. أما العلماء المسلمون فإن البيروني هذه المرة أيضًا – ويا للمفارقة! – هو الذي يبين لنا أسباب قلة اكتراثهم هذه باليونانية، في جانب منها على الأقل. فقد كتب: "وإلى لسان العرب نُقلتْ العلومُ من أقطار العالم، فدانت وحلَّتْ في الأفئدة وسَرَتْ محاسنُ اللغة منها في الشرايين والأوردة"[2]. بعبارة أخرى، صار اللسان العربي من العلم المنقول بمثابة اللحم والدم وفاق بجماله اللسان الأصل.

كان من شأن هذه الصلة المخصوصة بالماضي وبمصادر العلم التي يشي بها الموقفُ من اليونانية أنْ تعذَّر الرجوعُ إلى الأعمال المترجَمة في نصها الأصلي، ومعه تعذَّر رجوع العقل الفلسفي إلى غرضه الأول. وبذلك حكمت الفلسفة العربية على نفسها بأن لا تستقي من بعدُ إلا من مَعينها وحده، الأمر الذي فعلتْه حقًّا طوال مدة طويلة.

أشكر لكم حسن استماعكم.

المترجم عن الفرنسية: ديمتري أڤييرينوس

للاستزادة راجع:

– بدوي، عبد الرحمن (نصوص حققها وعلق عليها)، أفلاطون في الإسلام، دار الأندلس، بيروت، طب 3: 1982.

– بدوي، عبد الرحمن (حققه وقدم له)، أفلوطين عند العرب، وكالة المطبوعات، الكويت، طب 3: 1977.

– بدوي، عبد الرحمن (دراسات لكبار المستشرقين ألف بينها وترجمها)، التراث اليوناني في الحضارة الإسلامية، وكالة المطبوعات، الكويت/دار القلم، بيروت، طب 4: 1980.

– بدوي، عبد الرحمن، دراسات ونصوص في الفلسفة والعلوم عند العرب، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، طب 1: 1981.

– عباس، إحسان، ملامح يونانية في الأدب العربي، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، طب 2: 1993.

– غوتاس، ديمتري، الفكر اليوناني والثقافة العربية، بترجمة وتقديم نقولا زيادة، المنظمة العربية للترجمة/مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، طب 1: 2003.

– قنواتي، جورج شحاته، المسيحية والحضارة العربية، دار الثقافة، القاهرة، طب 2: 1992.


* نص محاضرة ألقِيت في المركز الثقافي الفرنسي في دمشق في 2009/01/13.

** باحث لدى وزارة الخارجية الفرنسية وعضو مشارك في "مخبر الدراسات حول أديان التوحيد" (المركز الوطني للبحث العلمي). صدر له في العام 2004 كتاب الفارابي ومدرسة الإسكندرية: من مقدمات المعرفة إلى الفلسفة السياسية. اختصاصه الفلسفة العربية الكلاسيكية، وهو حاليًّا نزيل علمي في المعهد الفرنسي للشرق الأدنى (دمشق).

[1] في أثناء تنقيح الترجمة وقعنا على نص للبيروني يؤيد تمامًا ما يذهب إليه فيليپ ڤالا في محاضرته عن دور صابئة حرَّان في انتقال التراث اليوناني إلى العالم العربي، كونهم آنذاك الورثة الباقين لدين الإغريق وروحانياتهم: "ويوجد أكثر هذه الطبقة بسواد العراق، وهم الصابئون بالحقيقة، وهم متفرقون غير مجتمعين ولا كائنين في بلدان مخصوصة بهم دون غيرهم، ومع ذلك غير متفقين على حال واحدة، كأنهم لا يُسندونها إلى ركن ثابت في الدين من وحي أو إلهام أو ما يشبههما، وينتمون إلى أنوش [أخنوخ] بن شيث بن آدم. وقد يقع الاسم على الحرَّانية الذين هم بقايا الدين القديم المغربي البائنون عنه بعد تنصُّر الروم اليونانيين، وينتسبون إلى أغاذيمون وهرمس وواليس ومابا وسوار، ويتدينون بنبوتهم ونبوة أمثالهم من الحكماء. وهذا الاسم أشهر بهم من غيرهم، وإن كانوا تسمَّوا به في الدولة العباسية في سنة ثمان وعشرين ومائتين ليُعَدُّوا في جملة مَن يؤخَذ منه ويُرعى له الذمَّة، وكانوا قبلها يُسمَّون الحنفاء والوثنية والحرَّانية" (أبو الريحان البيروني، كتاب الآثار الباقية عن القرون الخالية، بتحقيق إدوارد زخاو [نسخة بالأوفست عن طبعة لايپزيش: 1923]، دار صادر، بيروت: ب ت، ص 318). (المترجم)

[2] نقلاً عن مقدمة كتاب الصيدنة في الطب، بتحقيق الحكيم محمد سعيد، كراتشي، 1974، ص 12.

على خطى غاندي (حوارات) – لنا عبد الرحمن

على خـطـى غـانـدي

حوارات مع مناضلين روحيين اجتماعيين

بحثًا عن الحقيقة والحرية والسلام

لنا عبد الرحمن

عن دار "معابر للنشر" صدر كتابُ على خطى غاندي[*]، ضامًّا بين دفَّتيه مجموعة "حوارات مع مناضلين روحيين اجتماعيين" – كتابٌ أقل ما يوصف به أنه "ملهِم" لكلِّ مَن يبحث في هذه الحياة عن الحقيقة والحرية والسلام.

on_the_footsteps_of_gandhi

أجرت الحوارات الصحافيةُ الأمريكيةُ كاثرين إنغرام؛ وهي صحافية مختصة في الصحافة الروحية، دأبت خلال عملها على إعداد تقارير حول الشخصيات الكبرى والحركات الروحية والاجتماعية، وبالأخص حول مسألة محورية هي حقوق اللاجئين. من هنا قادتْها هذه القناعات إلى الطواف حول العالم للتحاور مع أصحاب الأسماء الواردة في الكتاب، بغضِّ النظر عن عروقهم وانتماءاتهم؛ لكنْ يظل المشترك بينهم، كما يبين من عنوان الكتاب، هو أن حياة المهاتما غاندي ونضاله وكتاباته كانت منارةً ملهِمة لهم جميعًا.

في مقدمتها للكتاب، تتحدث كاثرين إنغرام عن الظرف الزماني والمكاني الذي دفعها لإجراء هذه الحوارات ثم جمْعِها في كتاب. لم يكن من اليسير صدورُه على الإطلاق، لأن مثل هذه النوعية من الكتب الزاخمة بالمعرفة تحتاج أيضًا إلى نوعية معينة من القراء، سواء في الغرب أو في الشرق؛ لذا توجِّه كلمة شكر لناشر الكتاب ولكلِّ مَن ساعد على ظهوره. وتقول في مقدمتها:

إبان السنوات التالية، وأنا أواصل البحث، حاورتُ معلِّمين روحيين ومناضلين يجسِّدون حالةً من اليقظة بقدر ما يجسِّدون التزام التخفيف من ألم العالم.
[…] إننا نعيش عصرًا خطرًا. إن جهلنا وجشعنا […] قد باتا حليفين لقدرتنا على تدمير أنفسنا، لا نحن وحسب، بل البيئة التي نعيش فيها جميعًا على الكوكب. لم يعد يجوز لنا أن نسمح لأنفسنا بعقود أخرى من الوفرة على حساب فقراء الأرض. (ص 12، 14)

بيد أن الكاتبة لا تكتفي بالحوارات التي تجريها، بل تقوم بجهد بحثي، تمثَّل في جمع مادة وافية عن حياة كلِّ شخصية من الشخصيات التي تُحاورها، ظروف نشأتها، المكونات الاجتماعية، ودوافع التحول نحو العمل الروحي. وهذه المقدمة البحثية المسهبة قبل كلِّ حوار ضرورية جدًّا لأنها تقدم للقارئ جوانب شخصية لا تَرِدُ في الحوار، لكنها أساسية في إلقاء ضوء كافٍ على شخصية المُحاوَر ونضاله.

مسار الحوارات في هذا الكتاب ينبش عميقًا تحت المجرى المعتاد للعمق؛ بل إن الأكثر تميزًا هو أن مسار الحوارات كلها يتوضع على المستوى ذاته من العمق، بحيث لا يمكن المفاضلة فيما بينها. فالمحاوِرة تمكنت، في ذكاء شديد، من اختيار النقاط المحورية في حواراتها مع كلِّ شخصية على حدة، ومن إبراز الجانب الذي تحقَّق فيه نضالُ هذه الشخصية. فهي، في حين تناقش الدالاي لاما في جوهر ممارسته الروحية وارتباطها بالتزامه الاجتماعي والسياسي مبدأ اللاعنف، تحكي مع المناضل الفلسطيني مبارك عوض عن رؤيته للاحتلال الإسرائيلي، بينما تتحدث مع المغنية الأمريكية جوان بيز عن أثر الفن في نضالها ضد العنف.

تناقش حوارات كتاب على خطى غاندي، بلا مواربة ولا التفاف، أفكارًا وسياسات خطيرة هزت العالم، غيرت اتجاهاته، وتركت آثارها السلبية على سكان هذا الكوكب، على بيئتهم، حياتهم، مرضهم، وموتهم. إنها الحروب، القنابل النووية، سباق التسلح، الأسمدة الكيميائية، الاستعباد، الفقر، الجوع، الظلم، الاضطهاد، عمالة الأطفال، وغيرها من إساءات البشر بعضهم لبعض – كل ذلك يحضر في مقابل وعي أناس آخرين يطالبون بسياسة اللاعنف في مواجهة عنف العالم، جنونه، وغفلته.

يجمع بين سلسلة الحوارات الموجودة في الكتاب نسيجٌ مشتركٌ حيك من خيط واحد، تُمسِكُ به المحاوِرة بقوة ليمتد بينها وبين أبطال كتابها الذين تصفهم قائلة:

إن الرجال والمرأة الذين حاورتُهم في هذا الكتاب بعضٌ من أبطالي ومن أوليائي الشخصيين لأنهم يجسِّدون المُثل التي تبدو لي الأكثر ضرورة في عالمنا. […] إنهم يخبروننا أيضًا بأن قلبنا يعرف من الآن ما الحق، وبأن عصرًا مضطربًا كالذي نعيشه اليوم هو نداء للإصغاء بانتباه أكبر لهذا "الصوت الخافت" الداخلي والسلوك بمقتضاه. (ص 14-15)

تؤكد مجمل الحوارات أن مشكلات هذا العالم لا ينفصل بعضها عن بعض أبدًا وأننا، بإصرارنا على ممارسة هذا الفصل، نزيد من حدة الأزمة، فيزداد الفقر والتلوث، الجوع والمرض، حيث لا يمكن للعالم أن يتغير من دون أن يُستوعَب أنه لا يوجد بلدٌ في إمكانه أن يعيش معزولاً عن غيره من البلدان؛ وبالتالي، فمن الطبيعي أن تتكل كل دولة، بشكل أو بآخر، على غيرها في العديد من احتياجاتها. هنا لا تكمن الحاجة على المستوى الاقتصادي فقط؛ إذ إن نظرة شمولية تكشف عن أكثر من مفهوم للاحتياج، بما يفرض، بالتالي، التفكير مرارًا قبل إيقاع أيِّ أذًى بالآخر، لأن هذا الأذى سيرتد مع الوقت على فاعله. والأمثلة على ذلك كثيرة في الكتاب، سواء كانت سياسية، مثل حرب أمريكا في ڤيتنام أو حربها على العراق، أم اقتصادية، مثل معرفتنا أن اليابان التي تُعتبَر "معجزة آسيا الاقتصادية" تتكل في احتياجاتها الغذائية على الاستيراد بنسبة 70%. فهل يمكن إذن فصل مشكلات العالم بعضها عن بعض؟!

هناك أيضًا المصالحة بين شقَّي العالم: المادي والروحي. وليس المقصود هنا بكلمة "روحي" غير الجانب القيمي السلوكي من الإنسان، لا الجانب العقائدي، حيث إن القيم العليا هي التي ستؤدي حتمًا إلى شيوع الرحمة والمودة، تقبُّل الآخر، التفكير فيه، فالعمل من أجله، ثم الوصول إلى تخفيف جزء ضئيل من معاناة البشر.

يضم الكتاب كلمة توطئة لرامتشاندرا غاندي، حفيد المهاتما غاندي، يقول فيها:

إنني لواثق من أن المهاتما غاندي، لو كان حيًّا، لبارك العمل الجبار الذي أنجزه الرجال والنساء الأفذاذ الذين حاورتْهم كاثرين إنغرام في هذا الكتاب. (ص 7)

كما يضم الكتاب ثمانية حوارات مع الشخصيات التالية، على التسلسل: قداسة الدالاي لاما، الزعيم الروحي والسياسي للتيبت، مبارك عوض، المناضل اللاعنفي الفلسطيني، جوان بيز، مغنية أمريكية، الراهب البوذي الڤيتنامي تيك نات هَنْه، سيزار تشاڤيز، أول رجل في تاريخ الولايات المتحدة يؤلِّف نقابة للعمال الزراعيين، أهنگمگي تودور آريارتْنِه، مناضل من شري لانكا مسئول عن جمعية تهتم لتنفيذ برامج تخص التربية والصحة والزراعة، الأخ ديڤيد شتايندل راست، الراهب "المسكوني"؛ وآخر الحوارات كان مع أسقف جنوب أفريقيا دزموند توتو.

إن ما ينبغي قوله بشأن هذه الحوارات أن أصحابها قد كرسوا حياتهم لهدف نبيل، صاغوا عمرهم كله في سبيل تحقيقه، من دون أي تردد أو خشية رفض اجتماعي أو سياسي، بل في تحدٍّ وإصرار تام على الاستمرار، على الرغم من كل المكابدات التي تعرضوا لها، وعلى الرغم من أن بعضهم كان مدرِكًا أن نهاية المسار لن تكون نتائجها على يديه وفي زمنه، كما تقول جوان بيز: "[…] لا أعتقد بأني سأرى، خلال حياتي، نتائج كل المعارك التي خضناها […]" (ص 112)؛ وهذا أيضًا ما يوافق عليه الراهب البوذي تيك نات هَنْه حين يقول: "إذا كانت السعادة موجودة هنا حقًّا فسيكون لنا مستقبل" (ص 157)؛ وفي عبارة أخرى: إن مسيرة عملنا فقط هي التي تَعِدُنا بالوصول إلى نتائج.

ملفتٌ في هذا الكتاب الجهدُ الملموسُ الذي قام به المترجم أديب الخوري، سواء على مستوى الترجمة أم في تذييله الكتاب بخاتمة كتبها حول رؤيته لمفهوم اللاعنف وتلامُسه مع الواقع العربي. يقول:

انسحبت أمريكا من ڤيتنام مهزومة، لكنها تمارس اليوم عنفًا لا يقل شراسةً عن عنفها في ڤيتنام، إنْ لم يفقْه، في العراق وأفغانستان، وفي أماكن أخرى أيضًا.
[…] يبدو، إذن، أن "أولي الأمر" في "البلد الأعظم" لم يتعلَّموا شيئًا من درس ڤيتنام […]. فالذين يموتون في أركان العالم الأربعة ليسوا أولادهم، بينما تستمر خزائنهم وأهراؤهم بالامتلاء!
هل يعني هذا أن جهود جوان بيز، وكل مَن ناضل معها، وكل مَن يجاهد اليوم، وكل الملايين التي تظاهرت في عشرات مدن العالم في يوم واحد عشية الحرب على العراق، قد ذهبت عبثًا وأدراج الرياح؟ (ص 280-281)

يحكي أديب الخوري عن كارثة السلاح النووي الذي يسبب تخزينُه مباشرةً إنضاب الموارد الرئيسية للأرض، كما يتناول المخاطر الاجتماعية والأخلاقية للهندسة الوراثية والاستنساخ، ثم يختم كلمته بفكرة "الفداء"، حيث فضيلة التخلي والتنازل، ولو عن وجبة طعام واحدة، قادرة على فعل الكثير، ليس على مستوى الجوع المادي وحسب، بل في منح الروح الانعتاق أيضًا.

هذا الكتاب هو الإصدار الورقي الثالث لدار "معابر للنشر"، بعد إصدارها كتابين متميزين هما: قاموس اللاعنف لجان-ماري مولِّر (بالتعاون مع "الهيئة اللبنانية للحقوق المدنية") والتأمل للحكيم الهندي كريشنامورتي. هذا وقد عُرِفَتْ معابر في العالم العربي عبر الموقع الثقافي الإلكتروني www.maaber.org، الذي يتميز بوجود مكتبة هامة، وبحرصه أيضًا على نشر القضايا التي تتصل مباشرة بجوهر الإنسان وتوازُن علاقته مع الكون.


[*] كاثرين إنغرام، على خطى غاندي: حوارات مع مناضلين روحيين اجتماعيين، بترجمة أديب الخوري ومراجعة ديمتري أڤييرينوس، معابر للنشر، دمشق، 2008.