مذهب الباطن في الإسلام – رونيه گينون

مذهب الباطن في الإسلام

التصوُّف: ملامح عامة*

guenon_05_1925

رونيه گينون**

لعل العقيدة الإسلامية، من بين العقائد النقلية جميعًا، أوضحها اختصاصًا بقسمين متمايزين ومتكاملين، تصح تسميتُهما بمذهب الظاهر exotérisme ومذهب الباطن ésotérisme. وهذان القسمان هما، على حدِّ الاصطلاح العربي، الشريعة (حرفيًّا: "الطريق العريض"[1])، وهي مشتركة بين عامة الناس [العوام][2]، والحقيقة، وهي ما يختص به صفوةُ القوم [الخواص]، لا بمقتضى قرار اعتباطي نوعًا ما، بل بحُكْم طبيعة الأشياء نفسها، من حيث إن جميع الناس لا يتصفون بالقابلية أو بـ"المؤهلات" المطلوبة لبلوغ معرفتها. وهما كثيرًا ما يشبَّهان، تعبيرًا عن طابعهما "الظاهري" و"الباطني"، بـ"القشر" و"اللب"، أو حتى بمحيط الدائرة ومركزها. فالشريعة تتضمن كل ما تُطلَق عليه بلغة الغرب صفةُ "ديني" بحصر المعنى، وبالأخص ذلك الجانب الاجتماعي والشرعي الذي يندرج، في الإسلام، في الدين جملةً. ولنقل إن الشريعة هي، قبل كل شيء، قاعدة للعمل، في حين أن الحقيقة معرفة خالصة – على أن يُفهَم من ذلك تمام الفهم أن هذه المعرفة هي التي تضفي على الشريعة معناها السامي والعميق، بل هي علَّة وجودها الحقيقية، بحيث إن منزلتها من الشريعة منزلة المبدأ حقًّا، مثلما أن المركز هو من محيط الدائرة مبدؤها، على الرغم من أن الوعي بذلك ليس من نصيب عموم المشتركين في المنقول.

لكن هذا ليس كل شيء: يصح كذلك قولنا بأن مذهب الباطن لا يتضمن الحقيقة وحسب، بل يتضمن الوسائل المخصصة للوصول إليها أيضًا؛ ومجموع هذه الوسائل هو ما يُسمَّى الطريقة، أي "النهج" أو "الدرب" الذي يقود من الشريعة إلى الحقيقة. فإذا عدنا إلى الصورة الرمزية لمحيط الدائرة، يمثَّل للطريقة بالشعاع [نصف القطر] الذاهب منها إلى المركز؛ وعندئذٍ يستبين لنا ما يلي: كل نقطة من نقاط محيط الدائرة يقابلها شعاع، والأشعة جميعًا – وهي أيضًا ذات عدد كبير غير معيَّن – تؤدي بالمثل إلى المركز. ويصح قولنا إن عدد هذه الأشعة بعدد الطرق الملائمة للكائنات "الواقعة" عند مختلف نقاط محيط الدائرة، وذلك بحسب تنوع طبائعهم الشخصية؛ لذا يقال إن "الطرق إلى الله كنفوس بني آدم". بذا فإن "الطرق" عديدة، واختلافها فيما بينها يكون أشد كلما كان النظر إليها أقرب إلى نقطة انطلاقها على المحيط؛ لكن الغاية واحدة، لأنه ليس ثمة إلا مركز واحد وحقيقة واحدة. وبقول أدق، تُمَّحى الاختلافات الابتدائية بامِّحاء "الإنِّية" (من "أنا")، أي لدى بلوغ مراتب الوجود العليا، حيث تفنى صفات العبد أو الخلق (الفناء)، التي ليست إلا قيودًا فحسب، ولا تبقى إلا الصفات الإلهية (البقاء)، فيتصف الكائن بها في "فرديته" أو "ذاته".

يُصطلَح بالعربية على تسمية مذهب الباطن عمومًا – منظورًا إليه على هذا النحو بوصفه يتضمن الطريقة والحقيقة، أي بما هو الوسائل والغاية جميعًا – بـالتصوف، الذي لا يؤديه [بالفرنسية] إلا مصطلح "مُسارَرة" initiation تأدية دقيقة (ستكون لنا عودة إلى هذه النقطة لاحقًا). لقد نحت أهل الغرب كلمة "صوفية" çûfisme [أو soufisme] للدلالة على مذهب الباطن في الإسلام تخصيصًا (في حين يجوز لكلمة "تصوف" أن تنطبق على كلِّ عقيدة باطنية ésotérique أو مُسارَرية initiatique، أيًّا كان الشكل النقلي الذي تنتمي إليه)؛ لكن هذه الكلمة، عدا عن كونها تسمية اتفاقية مبتذلة تمامًا، تبدي سيئةً مؤسفةً بعض الشيء: إذ إن آخرها isme يوحي إيحاءً يكاد أن يكون حتميًّا بفكرة مذهب خاص بـ"مدرسة" بعينها، في حين أنه لا شيء من ذلك في الواقع وأن "المدارس" ليست هنا سوى طُرُق، أي – اختصارًا – مناهج متنوعة، من غير أن يكون ثَمَّ في حقيقة الأمر أي اختلاف عقيدي، وذلك لأن "التوحيد واحد"، كما يقال.

أما فيما يخص اشتقاقات هذه التسميات فمصدرها قطعًا كلمة صوفي. لكن بخصوص هذه الكلمة لا بدَّ بدايةً من إيراد الملاحظة التالية: لا يحق لأحدهم أبدًا أن يدَّعي أنه "صوفي"، اللهم إلا عن جهل مطبق، لأنه بذلك يبرهن أنه ليس كذلك حقًّا، من حيث إن هذه الصفة بالضرورة "سر" بين الصوفي المتحقق وبين الله؛ يجوز للمرء فقط أن يصف نفسه بأنه "متصوف"، وهو مصطلح ينطبق على كلِّ داخل في سلك التصوف، مهما تكن الدرجة التي بلغها منه. أما الصوفي، بالمعنى الحق لهذه الكلمة، فهو فقط مَن بلغ أعلى الدرجات.

لقد عَزَتِ المزاعمُ إلى كلمة "صوفي" نفسها أصولاً بالغة التنوع؛ لكنْ أغلب الظن أن هذه المسألة متعذرة الحل من وجهة النظر التي يؤخذ بها في أغلب الأحيان. لذا نسارع إلى القول بأن لهذه الكلمة من الأصول المفترَضة، التي لا يفوق أيٌّ منها الأصولَ الأخرى أو يقل عنها جوازًا، أكثر من أن يكون لها حقيقةً أصلٌ بعينه؛ إنما ينبغي، في الحقيقة، أن يُرى فيها بالحري تسميةٌ رمزيةٌ صرف أو، إنْ شئت، أثرُ ضرب من "الجفر" chiffre، لا حاجة له، بما هو كذلك، إلى اشتقاق لساني حصرًا، ولاسيما أن هذه الحالة ليست إلى ذلك فريدة من نوعها؛ إذ إن بالوسع إيجاد حالات أخرى مشابهة في منقولات أخرى. أما "الاشتقاقات" المزعومة فليست في حقيقة الأمر إلا نظائر صوتية تُقابلها فضلاً عن ذلك فعلاً، وذلك تبعًا لقوانين رمزيةٍ بعينها، صلاتٌ بين أفكار شتى أتت كذا لتتجمع تجمعًا عَرَضيًّا نوعًا ما حول الكلمة التي نحن بصددها.

لكنْ هنا، بالنظر إلى خاصية اللسان العربي (وهي إلى ذلك خاصية يشترك فيها مع اللسان العبري)، لا بدَّ من استنباط المعنى الأول والأساس من الأعداد: ما هو في الواقع جدير بالملاحظة على وجه الخصوص هو أننا بجمعنا القيم العددية للحروف التي تتألف منها كلمة صوفي نجد أن مجموعها يساوي مجموع القيم العددية لحروف "الحكمه الإلهيه"[3]. الصوفي الحق، إذن، هو المتحقق بهذه الحكمة أو هو، بعبارة أخرى، "العارف بالله"، لأن الله لا يُعرَف إلا بذاته – وتلكم هي فعلاً الدرجة العليا و"التامة" في معرفة الحقيقة[4].

بوسعنا أن نستخلص من كل ما تقدَّم بضع نتائج هامة: أولاها أن "الصوفية" ليست بتاتًا شيئًا "مضافًا" إلى عقيدة الإسلام، شيئًا لعله أتى والتحق بها فيما بعد ومن خارج، بل هي بالعكس قسم أساسي منها، بما أن هذه العقيدة تصير من دونها واضحة النقص، بل حتى ناقصة من "أعلاها"، أي من حيث مبدؤها نفسه. إن الافتراض المجاني تمامًا بوجود أصل أعجمي للتصوف (يوناني أو فارسي أو هندي) يناقضه مناقضةً صريحةً كونُ وسائل التعبير التي يختص بها مذهبُ الباطن في الإسلام وثيقة الصلة بتكوين اللسان العربي نفسه؛ وإذا كانت ثمة بلا مراء تشابهات مع عقائد من الرتبة نفسها موجودة في أماكن أخرى، فتعليل ذلك تعليل طبيعي تمامًا من غير ما حاجة للُّجوء إلى "اقتباسات" افتراضية، لأنه بما أن الحقيقة واحدة فإن جميع العقائد النقلية متماثلة بالضرورة من حيث جوهرُها، مهما يكن تنوع الصور التي تكتسي بها. إلى ذلك، فيما يخص مسألة الأصول هذه، سيان إنْ تكن كلمة صوفي نفسها ومشتقاتها (تصوف، متصوف) وُجدت في اللغة منذ البداية أو لم تظهر إلا في فترة متأخرة نوعًا ما، وهو موضوع جدل كبير دائر بين المؤرخين؛ فقد يكون أن الأمر وُجِدَ فعلاً قبل الكلمة الدالة عليه، إما بتسمية أخرى وإما من غير أن يستشعر القومُ حاجةً إلى إطلاق تسمية عليه.

على كل حال – وهذا يجب أن يكفي للبتِّ في المسألة بنظر كل مَن لا ينظر فيها "من خارج" وحسب –، يشير المنقول صراحة إلى أن مذهب الباطن، شأنه شأن مذهب الظاهر، يصدر مباشرة من تعليم النبي [محمد] نفسه، حيث إن لكل طريقة أصيلة ونظامية في الواقع سلسلة إسناد لانتقال البركة ترتقي في النهاية دومًا إليه عبر عدد متفاوت الكبر من [المشايخ] الوسطاء. وحتى إذا اتفق لاحقًا لبعض الطرق أن "تقتبس" فعليًّا – والأصح منه قولُنا "تطوِّع" – بضعة تفاصيل من مناهجها الخاصة (مع أن بالإمكان فعلاً، هاهنا أيضًا، تعليل التشابهات تعليلاً سليمًا بحيازة المعارف نفسها، بالأخص فيما يتعلق بـ"علم الأنفاس" بفروعه المختلفة)، ليس لهذا إلا أهمية جد ثانوية ولا يؤثر على الجوهر في شيء. فالحقيقة هي أن "الصوفية" عربية عروبة القرآن نفسه الذي تستمد منه مبادئها المباشرة؛ بيد أن إيجاد هذه المبادئ يقتضي أن يُفهَم القرآنُ ويؤوَّل تبعًا للحقائق التي تكوِّن معناه العميق، وليس بمجرد التدبُّرات اللغوية والمنطقية والكلامية التي يتبعها علماء الظاهر ("علماء الرسوم"، كما يسميهم الصوفية) أو فقهاء الشريعة الذين لا تشمل صلاحية كفاءتهم إلا مجال الظاهر. فنحن هنا بالفعل بصدد مجالين مختلفين اختلافًا بينًا، ولهذا لا يمكن أبدًا لأي تناقض أو خلاف فعلي أن ينشب بينهما؛ ذلك أن من الواضح، إلى ذلك، أنه لا تجوز من أي وجه المقابلةُ بين مذهب الظاهر ومذهب الباطن، بما أن المذهب الثاني، على العكس، يتخذ من الأول قاعدته ونقطة استناده الضرورية، وأن كلاً منهما ليس في الحقيقة سوى أحد جانبَي أو وجهَي العقيدة الواحدة ذاتها.

ثم لا مناص لنا من لفت النظر إلى أن مذهب الباطن في الإسلام، على العكس من رأي شديد الشيوع حاليًّا بين أهل الغرب، لا يمت بصلة إلى "السرَّانية" mysticisme – وكل ما بينَّاه حتى الآن لممَّا ييسِّر فهم أسباب ذلك. فالسرَّانية، أولاً، تبدو في الواقع شيئًا تختص به المسيحية حصرًا، ولا يمكن ادعاء الوقوع في غيرها على مكافئات دقيقة نوعًا ما إلا من جراء مقارنات باطلة؛ وأغلب الظن أن بعض التشابهات الخارجية في استعمال بعض العبارات هي في الأصل من هذا اللبس، لكنما لا يجوز لها أن تبررها بتاتًا مع وجود اختلافات من حيث الجوهر كلِّه. فالسرَّانية برمَّتها تنتمي، بالتعريف حتى، إلى المجال الديني، وهي، بالتالي، من صلاحية مذهب الظاهر حصرًا؛ ناهيكم أن الغاية التي ترمي إليها هي جزمًا من أبعد ما يكون عن رتبة المعرفة الخالصة. من ناحية أخرى، فإن "السرَّاني" le mystique لا يختص بمنهج، من حيث إن موقفه موقف "منفعل" passif ويقتصر بالنتيجة على تلقي ما يطرأ عليه "عفوًا"، إذا صح القول، ومن غير أية مبادرة [فاعلة] من جانبه؛ وبالتالي، فإنه من المحال أن توجد "طريقة" سرَّانية، لا بل إن مثل هذا الأمر لا يُعقَل لأنه عمقيًّا من قبيل التناقض. علاوة على ذلك، فإن السرَّاني، بحُكْم كونه منعزلاً دومًا، وذلك من جراء الخاصية "المنفعلة" لـ"تحقُّقه"، لا شيخ له، أي لا "مرشد روحيًّا" (الأمر الذي لا يمت بالطبع بصلة إلى مفهوم "مرشد الضمير" directeur de conscience بالمعنى الديني مطلقًا)، ولا سلسلة تنتقل إليه عبرها "لطيفة روحانية" influence spirituelle (نحن نستعمل هذه العبارة لتأدية معنى كلمة بركة العربية بأدق ما يمكن)، حيث ثاني هذين الأمرين [حصول البركة] هو النتيجة الفورية للأول [وجود الشيخ]. ذلك أن انتقال "اللطيفة الروحانية" انتقالاً نظاميًّا هو ما تتسم به "المُسارَرة" أصلاً، بل هو حتى عمادها الأساس، وهذا ما يبرِّر استعمالنا هذه الكلمة أعلاه ترجمةً لكلمة "تصوف". فمذهب الباطن [التصوف] الإسلامي، مثله إلى ذلك كمثل كل مذهب باطن حق، ذو خاصية "مُسارَرية"، ولا يجوز أن يكون شيئًا غير ذلك؛ وحتى من غير التوغل في مسألة اختلاف الغايات – وهو اختلاف ناجم إلى ذلك من اختلاف المجال نفسه الذي يرجع إليه كل منهما – يجوز لنا القول إن "الطريق السرَّاني" و"الطريق الصوفي" متنافرين جذريًّا، وذلك بحُكْم خصائص كلٍّ منهما[5]. وهل لنا، برهانًا على ذلك، أن نضيف أن العربية تعدم كلمة تصح بها ترجمةُ كلمة mysticisme ترجمة تقريبية حتى، وذلك من فرط ما تمثل الفكرةُ التي تعبِّر عنها هذه الكلمة شيئًا غريبًا كل الغرابة عن المنقول الإسلامي؟

إنما العقيدة الصوفية من حيث جوهرُها، عقيدة ميتافيزيقية بحتة، بالمعنى الحقيقي والأصلي لهذه الكلمة؛ لكنها في الإسلام، كما في الأشكال النقلية الأخرى، تشتمل بالإضافة إلى ذلك، بمثابة تطبيقات مباشرة نوعًا ما على سائر المجالات العَرَضية contingents، على جملة معقدة كاملة من "العلوم النقلية" sciences traditionnelles؛ وهذه العلوم، بمقتضى تعلقها بالمبادئ الميتافيزيقية التي تتوقف عليها وتُشتق منها اشتقاقًا تامًّا، وبحُكْم استمدادها من هذا الارتباط، ومن "التوضيعات" transpositions التي يتيحها، قيمتَها الحقيقية كلها، إنما تشكل بذلك، وإنْ يكُ على مرتبة ثانوية وتابعة للأولى، جزءًا لا يتجزأ من العقيدة نفسها، وليست البتة إضافات مفتعلة نوعًا ما أو نافلة. ثمة هاهنا شيء يبدو مستعصيًا بصفة خاصة على أفهام أهل الغرب، أغلب الظن لأنهم يعدمون عندهم أية نقطة مقارنة بهذا الخصوص. غير أن مثل هذه العلوم وُجِدَ في الغرب، في العصور القديمة وفي العصر الوسيط، لكن هذه أمور يتناساها المُحدَثون كل التناسي، فيجهلون طبيعتها الحق وكثيرًا ما لا يتصورون وجودها حتى؛ وخصوصًا منهم الذين يلتبس عليهم مذهب الباطن بالسرَّانية، لا يدرون ما يمكن أن يكون عليه دور هذه العلوم ومنزلتها، من حيث إن هذه العلوم تمثل بالطبع معارف هي من أبعد ما يكون عن انشغالات السرَّاني، مما يجعل إدراجها في "الصوفية" بنظرهم من قبيل اللغز المبهم.

كذا هو علم العدد والحروف [حساب الجُمَّل] الذي أشرنا أعلاه إلى مثال عليه تأويلاً لكلمة "صوفي" والذي لا نقع عليه في صورة مشابهة إلا في القبالة العبرية بالنظر إلى التقارب اللصيق بين اللسانين اللذين يفيدان للتعبير عن هذين المنقولين الباطنيين [التصوف الإسلامي والتصوف الإسرائيلي]، وهما لسانان يمكن لهذا العلم وحده أن يتيح فهمهما العميق حتى. كذا هي أيضًا سائر العلوم "الكوسمولوجية" [= الكونية] الداخلة جزئيًّا تحت باب ما يشار إليه باسم "الهرمسية"؛ ولا مندوحة لنا من الإشارة بهذا الصدد إلى أن الخيمياء alchimie لا يفهمها بمعنى "مادي" بحت إلا الجهلة الذين ليست الرمزية symbolisme عندهم إلا حرفًا ميتًا، أولئك بالذات الذين نعتَهم خيميائيو العصر الوسيط الحقيقيون بوصمة "النافخين" و"حارقي الفحم" والذين كانوا الرواد الأصلاء للكيمياء الحديثة، حتى إذا لم يكن لهذه أن تتشرف كثيرًا بمثل هذا الأصل! بالمثل، فإن علم النجوم astrologie – وهو علم كوسمولوجي آخر – هو في الواقع شيء مختلف كل الاختلاف عن "فن التكهُّن" أو "العلم الظنِّي" الذي لا يريد المُحدَثون أن يروا فيه غير ذلك؛ ذلك أن هذا العلم يتصل قبل كل شيء بمعرفة "القوانين الدورية" التي تؤدي دورًا هامًّا في العقائد النقلية كافة.

هناك، إلى ذلك، توافق معيَّن بين جميع هذه العلوم التي هي، من وجهة نظر معينة، وبحُكْم أنها تنبثق أصلاً من المبادئ نفسها، أشبه بالتمثيلات المختلفة للشيء الواحد نفسه: بذا فإن علم النجوم والخيمياء وحتى علم الحروف ليست، إذا جاز القول، إلا ترجمة للحقائق نفسها إلى اللغات الخاصة بمختلف رُتَب الحقيقة، يجمع بينها قانون القياس الكلِّي analogie universelle الذي هو من كلِّ توافق رمزي أسُّه وأساسُه؛ وبمقتضى هذا القياس بالذات تجد هذه العلوم، عبر توضيع مناسب، تطبيقاتها في مجال "العالم الصغير" وفي مجال "العالم الكبير" على حدٍّ سواء، وذلك لأن سيرورة المُسارَرة تستعيد السيرورة الكوسمولوجية نفسها في أطوارها كافة[6].

ولا مناص، إلى ذلك، لكي يُتحصَّل على وعي تام بهذه الترابُطات كلِّها، من بلوغ مرتبة عالية جدًّا من مراتب التصوف، وهي مرتبة تسمَّى مرتبة الكبريت الأحمر[7]؛ والواصل إلى هذه المرتبة يستطيع، عبر العلم المسمَّى سيمياء (وهي كلمة لا يجوز أن تلتبس بالكيمياء)، وبإجرائه تحويلات معينة على الحروف والأعداد، أن يؤثر على الكائنات والأشياء التي توافق هذه الحروف والأعداد في النظام الكوني. وما الجفر – وهو، بحسب المأثور، علم يعود بأصله إلى سيدنا الإمام علي نفسه – غير تطبيق لهذه العلوم بعينها على التنبؤ بأحداث المستقبل؛ وهذا التطبيق، الذي تتدخل فيه بالطبيعة "القوانين الدورية" التي ألمحنا إليها لتوِّنا، علم يلبي، لمَن يفهمه حق فهمه ويعلم تأويله (لأن ثمة هاهنا ضربًا من "الكتابة السرية" cryptographie، الأمر الذي ليس إلى ذلك أعجب في الحقيقة من تدوين رموز علم الجبر)، كل ما يلبيه العلم المضبوط والرياضي من شروط الصرامة العلمية. وبالوسع إيراد العديد من "العلوم النقلية" الأخرى التي ربما بدا بعضها أغرب حتى في أعين الذين لم يتعودوا هذه الأمور؛ لكننا يجب أن نكتفي بما أوردنا، إذ لا نقدر أن نتوسع في الأمر أكثر من غير أن نتخطى إطار هذا العرض، حيث يضطرنا المقام إلى التزام العموميات.

أخيرًا، لا بدَّ لنا من إضافة ملحوظة أخيرة بالغة الأهمية لفهم الخاصية الحقيقية للعقيدة الصوفية حق فهمها، ألا وهي أن هذه العقيدة ليست بتاتًا قضية "تبحُّر" ولا يصح تعلمُّها مطلقًا بمطالعة الكتب على غرار تحصيل المعلومات العادية و"الدنيوية" profanes. ذلك أن كتابات أكبر المشايخ نفسها لا تفيد إلا "حوامل" supports للتفكر وحسب؛ فالمرء لا يصير متصوفًا البتة لمجرد أنه قرأها، وهي تبقى أصلاً مستغلقة غالبًا على أفهام مَن ليسوا "مؤهلين" كل الأهلية. فبالفعل، لا بدَّ، قبل كل شيء، من الاتصاف باستعداد أو قابلية فطرية معينة ليس بمقدور أي جهد أن يقوم مقامها؛ ولا بدَّ بعدئذٍ من الانتساب إلى سلسلة نظامية، لأن نقل "اللطيفة الروحانية" الذي يُتحصَّل عليه عبر هذا الانتساب هو، كما أسلفنا، الشرط اللازم الذي لا تتم مُسارَرة من دونه البتة، وإنْ يكُ على أولى الدرجات. وهذا النقل، إذ يُكتَسب اكتسابًا لا يزول، يجب أن يكون منطلَقًا لعمل محض باطني، لا يمكن للوسائل الخارجية بأسرها أن تكون له أكثر من عون وسند، لكنهما يبقيان ضروريين مادام يجب أن تؤخذ بالحسبان طبيعةُ الكائن البشري كما هو بالفعل؛ فبهذا العمل الباطني وحده يستطيع الكائن أن يرتقي من درجة إلى درجة، إذا كان ذلك بمستطاعه، حتى ذروة مراتب التصوف، حتى مرتبة "الهوية المطلقة" lʼIdentité Suprême، وهو مقام مطلق الديمومة وغير مشروط، يتعالى عن قيود كل وجود عَرَضي زائل – مقام الصوفي الحق.

المترجم عن الفرنسية: ديمتري أڤييرينوس


* Cahiers du Sud, 1947, pp. 153-154 ; repris dans René Guénon, Aperçus sur l’ésotérisme islamique et le Taoïsme, Gallimard, 1973, pp. 13-28.

** فيلسوف فرنسي (1886-1951)، ولد في بلوا (فرنسا) وتوفي بالقاهرة. شُغف بالروحانيات منذ حداثة سنِّه، فدفعه الفضول إلى اختبار معظم مدارسها الحديثة، حتى اهتدى أخيرًا إلى تصور متكامل عن وحدة المأثورات "الدينية" الأصيلة في العالم قاطبة، بوصفها تعبيرات متنوعة متفرعة عن "منقول قديم" Tradition Primordiale واحد، فاطمأن إليه وراح، بالتوازي مع حياة باطنية غنية، يكتب فيه المقالات والكتب والرسائل، مؤسِّسًا بذلك لمذهب "نقلي" traditionnaliste مازال أثرُه ساري المفعول حتى يومنا هذا. من مؤلفاته الكثيرة الهامة: الإنسان ومآله بحسب الڤيدنتا، أزمة العالم الحديث، رمزية الصليب، الثالوث الأكبر، لمحات عن المُسارَرة. (المحرِّر)

[1] الشريعة: "الظاهر المستقيم من المذاهب"، بحسب القاموس المحيط. (المحرِّر)

[2] ما بين معقوفتين […] من تدخل المترجم لبيان المقصود. (المحرِّر)

[3] وفقًا لحساب الجُمَّل، الحكمه الإلهيه = (1 + 30 + 8 + 20 + 40 + 5) + (1 + 30 + 1 + 30 + 5 + 10 + 5) = صوفي = 90 + 6 + 80 + 10 = 186. (المحرِّر)

[4] في كتاب في التصوف موضوع بالعربية، لكنه ذو ميول حديثة للغاية، عنَّ لمؤلف سوري، بلغ إلى ذلك من قلة معرفته بنا أنه حسبنا "مستشرقًا"، أن يوجِّه إلينا نقدًا غريبًا في بابه نوعًا ما: فهو، إذ قرأ – لا ندري كيف – "الصوفية" بدلاً من صوفي (العدد الخاص من Cahiers du Sud للعام 1935 حول الإسلام والغرب)، خُيِّل إليه أن حسابنا مغلوط؛ ولما أراد من بعدُ أن يتولى الحساب على طريقته، توصل بفضل عدة أغلاط في القيم العددية للحروف إلى إيجاد (وهذه المرة كمكافئ لـ"الصوفي" [بأل التعريف]، وهو غلط أيضًا) الحكيم الإلهي [= (1 + 30 + 8 + 20 + 10 + 40) + (1 + 30 + 1 + 30 + 5 + 10) = 186]، من غير أن ينتبه، فضلاً عن ذلك، إلى أن لهاتين الكلمتين، بما أن الياء الواحدة تساوي هاءين، المجموع العددي نفسه لكلمتَي الحكمه الإلهيه بالضبط! نحن على علم بأن تعليم المدارس الحالي بات يجهل استعمال الأبجد ولم يعد يستعمل إلا تسلسل الحروف النحوي الصرف [أ، ب، ت، ث، إلخ]، لكن مثل هذا الجهل عند شخص يتنطح لمعالجة هذه المسائل لمما يتخطى الحدود المسموح بها… مهما يكن من أمر، فإن "الحكيم الإلهي" و"الحكمه الإلهيه" كليهما ينطوي على المعنى نفسه في حقيقة الأمر؛ بيد أن لأولى هاتين العبارتين خاصية غير مألوفة بعض الشيء، في حين أن الثانية – تلك التي أشرنا إليها نحن – على العكس نقلية تمامًا.

[5] لا نرى من جانبنا أي حرج في اعتماد مصطلح سرَّانية (باليونانية: mustikismos، وأصلها من mustêrion، "سر"، ومن mustês، "مُسارَر") للدلالة على ما يميز التصوف عن تديُّن عامة المسلمين، على أن يتضمن هذا المصطلح المعنى الذي قصده به، مثلاً، "العارفون بالله" من الآباء الشرقيين الأوائل ومن سار على نهجهم في الغرب، مثل الصوفي الألماني الكبير يوهَنْ (الأستاذ) إكْهَرْت (1260-1327)؛ إذ إن هؤلاء استعملوه حصرًا للدلالة على كل ما يتصل بمعرفة "الأسرار" mustêria (اللاهوتي الروسي ڤلاديمر لوسكي، مثلاً، لا يتردد في استعمال عبارة "الإلهيات السرَّانية" mustikê theologia). لكن تفصيل هذا الرأي يحتاج إلى إفراد بحث خاص ليس هاهنا مجاله. (المحرِّر)

[6] مثلما أن المبدأ يتجلَّى "نزولاً"، في سيرورة الفيض الكوني عن الواحد، عبر مراتب الوجود كافة، من المرتبة العليا إلى المرتبة الدنيا (من نقطة الدائرة إلى محيطها)، كذلك يستعيد المُسارَر في معراجه الصوفي "صعودًا" – كون العالم الصغير صورة مختصرة عن العالم الكبير – مراتب الوجود كافة، من الدنيا إلى المبدأ (من محيط الدائرة إلى نقطتها). (المحرِّر)

[7] "الكبريت الأحمر" من ألقاب الشيخ الأكبر محيي الدين بن عربي. (المحرِّر)