الإنسان الحديث والمدينة – ديمتري أڤييرينوس

الإنسان الحديث والمدينة

خواطر مقتضبة في تشخيص أزمة الإنسان المدني*

ديمتري أڤييرينوس**

إلى يوسف عبه جي

يرى أفلاطون بأن المدينة تنشأ أصلاً من عجز الفرد عن الاكتفاء بنفسه في سد حاجاته المتنامية، فيجتمع في مكان واحد عدد من الشركاء المتعاونين يشكِّلون مجتمعًا يُطلَق عليه اسم "مدينة" polis ويجري فيه الأخذ والعطاء، بحيث يعتقد كلٌّ منهم أن التبادل يعود عليه بالنفع. بذلك يعزو أفلاطون نشأة المدينة إلى ضرورة تلبية حاجات الإنسان المادية والمعنوية، مع كل ما يتفرع عنها. ومنه، إذا سلمنا بصحة كلام أفلاطون، كانت المدينة بنت الحاجة إليها.

بيد أن اجتماع الإنسان إلى الإنسان ليس مجرد ضم كمٍّ إلى كم. لذا ظلت المدينة، تاريخيًّا، مكان التفاعل وموضع اللقاء بالآخر. فهي، إذن، أول فضاء حر يتيح للإنسان التحقق بالبعد الاجتماعي الكامن فيه، بما يميِّزه من كائنات الطبيعة إجمالاً ومن التجمع البشري بمعناه الفج خصوصًا. فمع تمايُز الإنسان عن الطبيعة وعن العشيرة الضيقة، ومع انقطاعه، إلى حدٍّ ما، عن التماس المباشر مع البيئة الطبيعية، حاول أن يفتش عن تعويض مادي ونفسي في تماس من نوع جديد مع أنداده من البشر: تماس تفاعلي يؤدي، من ناحية، إلى نموه وتعزيز خصوصيته كشخص شرع في التفرُّد، وإلى إيجاد وعي إنساني جديد يتجاوز الأشخاص بما هم أشخاص، من ناحية أخرى. هذا ما يُسمى "الحضارة" (وضدها في السياق العربي "البداوة") أو "المدنية" civilization – عكس اللاتمايز والانكفاء على الجماعة الضيقة، القَبَلية أو العشائرية.

في المجتمع الجديد، تفتحت ملَكة معرفية جديدة نَمَتْ في الإنسان الفرد مع تمايزه عن الطبيعة، ألا وهي العقل: العقل يغذي الخبرة الإنسانية، يُنضِجُها، ويدفع بها إلى العودة إلى الطبيعة في مآل اكتمالها، غنيةً بخبرة "عمودية"، إذا جاز التعبير، بالإضافة إلى الخبرة "الأفقية" السابقة. في البداية، كان الإنسان متماهيًا identified مع الطبيعة، غائبًا فيها؛ ومع الخبرة العقلية الجديدة، بات في وسع الإنسان أن ينفصل عن الطبيعة – مرحليًّا – ليكتشف ما يتعداها، أي ليكتشف في نفسه بُعدًا كليًّا يتجاوزه كفرد، ويتجاوز الطبيعة أيضًا، ويوحِّد فيما بينهما في آن معًا.

لذا كانت هندسة المدن القديمة تجعل للمدينة مركزًا ومحيطًا، وتعتمد المربع أساسًا لها، من حيث إن شكل المدينة المربع – بما أنها كانت ترمز، من أحد الوجوه، إلى تحضُّر الرُّحَّل من الشعوب – يرمز إلى الثبات والرسوخ والتعيُّن، في مقابل خيام الرُّحَّل أو مخيماتهم الدائرية التي ترمز إلى الحركة وعدم التمايز. وبحسب علم النفس التحليلي، تشكِّل المدينة أحد رموز "الأم" في مظهريها: الحامي والمعيِّن؛ وهي من نَسَق المبدأ المؤنث. المدينة، بحسب كارل يونگ أيضًا، رمز إلى الكلِّية Totality والتكامل الداخلي: دخول البطل المدينة، في الأساطير والقصص والأحلام، وبلوغه مركزها المتمثل بالحَرَم الديني (الهيكل أو المَقْدِس) يشير إلى التكامل الداخلي وتحقُّق قوى النفس الإنسانية بممكناتها كافة ("سيرورة التفردن" individuation process).

وحتى على الصعيد الاجتماعي، كانت أبعاد المجتمع بأسره – بفئاته كافة – تتكامل في المدينة: المقدس، الذي يضمن نقل الثقافة والقيم؛ السلطة، بفرعيها المدني والعسكري؛ والسوق باستطالاته الحِرَفية. ذلك أن المدينة كانت تُبنى قديمًا بحيث يعكس مخططُها البنية الباطنية المثلثة للإنسان، القلب (أو الروح) والنفس والجسم: القلب يقع في المركز من الكائن الإنساني، ويرمز إليه الهيكل؛ ومنه تتفرع الشرايين (الشوارع) التي تغذي بالدم الأعضاء النبيلة (المدارس والمكتبات = العقل) وما تبقى من المدينة: الهيئة الحاكمة التي ترمز إلى النفس، والأسواق، بحوانيتها وحماماتها ومختلف نشاطاتها الاقتصادية، التي ترمز إلى سائر أطراف البدن ووظائفه؛ أما أبواب المدينة، التي غالبًا ما كانت سبعة، فكانت ترمز إلى حواس الإنسان الخمس الكثيفة والحاستين اللطيفتين (الحدس والعقل) أو، كوسمولوجيًّا، إلى الكواكب الخمسة والنيِّرين (الشمس والقمر).

وجودُ المدينة، في حدِّ ذاته، مفارقة، من حيث هي تؤدي إلى انقطاع الإنسان جزئيًّا عن محيطه الطبيعي وعشيرته، لكنها تعوِّض هذا النقص باللقاء مع الآخر المختلف:

1. المدينة، في مرحلة أولى، مكان يؤمُّه الإنسان قابلاً أن يفقد شيئًا من هويته العشائرية الجماعية ليتفرد؛

2. والمدينة، في مرحلة ثانية، مكان تفاعل الأفراد لإبداع "حضارة" تتخطاهم وتعكس "كلِّيتهم" (وليس مجموعهم الحسابي وحسب)؛

3. والمدينة، في مرحلة ثالثة، إذ تتطور، تصبح المكان المنفتح على العالم ككل، المكان الشبيه بالميناء الذي تتحرك فيه البضائع والثقافات في حرية تامة – مكان التفاعل العالمي الشامل.

لكلِّ ما سبق، اتصفت المدينة تاريخيًّا بصفات حافِظة، كأن تكون ملجأ الناس أيام الحرب؛ وبالتالي، كان يكفي لاحتلال أراضي بلد ما الاستيلاءُ على المدينة (من هنا أهمية حصار المدن في التاريخ).

* * *

أما اليوم، فقد اختفى هذا المعيار لأن الأسباب الرئيسية لنشأة المدينة قد انعدمت. حتى التجارة، مع حَوْسَبتها المتزايدة، بات في إمكانها الاستغناء عن المدينة – فما بالك بالبُعد الثقافي-الحضاري؟! الساحة العامة – الأغورا agora (ونموذجها المصغر سوق عكاظ في مكة قبل الإسلام) –، حيث يبلغ التفاعل الثقافي والتبادل التجاري أوْجَه، لم يعد لها من معنى مع تطور وسائل الإعلام وانتشارها الأفقي (الإنترنت أوضح مثال على ذلك). وبذلك قد لا تكون مدن العالم الكبرى اليوم سوى "واجهة" خارجية تقنِّع وجه الاستهلاك القبيح. حتى في الحرب الحديثة، لم تعد المدينة ذلك المكان الإستراتيجي الذي كانتْه في الماضي (ليست للمدن الحديثة أسوار ولا تحصينات).

لقد زال المفهوم القديم للمدينة، لكن الناس ما برحوا يَفِدُون على المدن ويتكتَّلون فيها؛ لا بل إن مصير البشرية ككل أمسى "مدنيًّا" – على الأقل في الأفق المنظور. وبذلك زالت الحاجة إلى المدينة، وحلَّتْ محلَّها الرغبة في المدينة (من هنا الهجرة الكثيفة من الريف إليها).

واليوم، لم يعد للمدن مراكز (كما في أمريكا الشمالية بوجه خاص)، مما أدى إلى أزمة هوية – وهذا ليس لأسباب عمرانية أو اقتصادية صرف. لقد أضحت المدن الكبرى محيطًا بلا مركز (مما يعكس غياب شعور الإنسان بمركزه الداخلي)، ولم يعد لمركز المدينة من مدلول إلا المدلول "الجمالي" وحسب. صار الناس في المدن الكبرى يعيشون في المحيط، غائبين عن مركزهم، تسحقهم المسافات الاجتماعية والجغرافية.

واليوم أيضًا – وهذه مفارقة أخرى – زال مفهوم المدينة نفسه، على الرغم من توسع المدن توسعًا سرطانيًّا، وذلك لأن المدينة أمست مكان العزلة والتجمُّع، لا مكان اللقاء والاجتماع (التمييز بين "التجمع" و"الاجتماع" للفيلسوف ندره اليازجي). ومع الإمعان في هذه السيرورة، سيصير الإنسان المدني، في مستقبل ليس ببعيد، – مع علمه آنيًّا بما يحصل في بقاع أخرى من العالم من أحداث وحوادث، – كيانًا منقطعًا عن العالم، معرفيًّا وإنسانيًّا، ومعزولاً وجدانيًّا.

تقوم فكرة المدينة أساسًا على كونها مكان المعرفة والأسرار، مكان الزوايا والخبايا والاشتباك الحياتي المذهل. لكن تبنِّي فكرة التطور، بمعنى التقدم الخطِّي المتواصل إلى الأمام، انعكس على تخطيط المدن، فظهر بعد الثورة الصناعية مفهوم المدينة الحديثة، "المُعَقْلنة" rationalized، الشاقولية، وتوحدت معايير البناء، متحررة و"محرِّرة" من كل خصوصية ثقافية. وهذا المفهوم "الشاقولي" للمدينة، إذا جاز التعبير، مع كل ما وفَّره من أسباب الرفاهية ومع الرواج الذي لاقاه، لم تؤخذ عواقبُه بالحسبان إلا بعد فوات الأوان. لقد أخذ المنظِّرين له الحماس؛ وهم، في رغبتهم المحمومة في "خدمة" المجتمع، وجدوا أن الأصلح له هو تجزئة حياة الناس إلى قطاعات أو "حجرات" (من "الحَجْر")، فأوجدوا أماكن للعمل، وأخرى للسكن، وأخرى للترفيه، وأخرى للاستهلاك (وهذا بالطبع ناجم في الأساس عن تصوُّر للعالم كأجزاء منفصلة، وعن تصور الإنسان كمجرد حزمة دوافع كمية). هناك قطاع للنوم: المناطق السكنية؛ قطاع للعمل: المكتب والمصنع؛ قطاع للاستهلاك: السوپرماركت والمول؛ قطاع للتسلية: مركز المدينة الافتراضي (وبذلك تغيرت وظيفة هذا الأخير من مكان التفاعل الثقافي إلى مكان "الترويح عن النفس")؛ وتصل بين هذه القطاعات طُرُق عريضة لكسب الوقت.

اختفت "الحارة" القديمة، بكل مظاهر اشتباك الحياة فيها وبكل أسرارها، وحلت محلها أماكن مسطحة، لا هوية لها، تتعالى فيها أعمدة إسمنتية لا تنطوي على أي سر – وفي ظن أولئك المنظِّرين أن هذا كله يؤدي إلى السعادة رأسًا! (لقد تبيَّن أن العكس هو الصحيح؛ فمن الآثار السلبية نفسيًّا للحياة في المدينة: الأمراض النفسية، من قلق وحَصْر وإنهاك عصبي، نتيجة العمل الشاق والضجيج المستمرين، ناهيك عن التلوث القاتل، لا يعوضها تماسٌ مرمِّم مع الطبيعة؛ وهذا كله بالطبع يترجَم إلى ارتفاع طردي في نِسَبِ الإجرام وجنوح الأحداث.) غير أنهم نسوا الحياة، تجاهلوها، وأغفلوا أن المكان تعبير عن الثقافة. تعقيد الحياة، في اشتباك مظاهر تحولاتها، اختُزل إلى تعقيد شبكات الاتصال والمعلومات وإلى تعقيد العلاقات الهرمية في الاقتصاد والسياسة.

* * *

لقد كان "ملعونو الأرض" (ماركس) يحلمون في المدينة بعالم يصيرون فيه ملوكًا. فبمَ يحلم أبناؤهم اليوم؟ الواقع أن "الثورة" الوحيدة التي يتشوق هؤلاء إلى إعلانها هي ثورة الاستهلاك!

فهل لنا اليوم أن نبدع مفهومًا جديدًا، أصيلاً، لحياتنا في المدينة؟


* صياغة نهائية لمداخلة ألقِيَتْ ضمن ندوة حول المدينة عقدتها "الجمعية الكونية السورية" في أواسط التسعينيات.

** كاتب ومترجم؛ محرِّر في مجلة معابر: www.maaber.org.

نظرات في مفهوم الثقافة – ديمتري أڤييرينوس

نظرات في مفهوم الثقافة*

ديمتري أڤييرينوس**

يحظى مصطلح ثقافة ومشتقاته باهتمام متزايد في عصرنا. فكثيرًا ما نسمع في وسائل الإعلام كلمات من نحو: "المثقفون"، "إشعاع ثقافي"، "مثقف طليعي"، "دور المثقف الثوري"، "ثقافة شعبية"، "ثقافة عالِمة"، إلخ؛ وكذلك شعارات من نحو: "الثقافة هي الحاجة العليا للمجتمع"، "الثقافة غذاء العقل"، إلخ. فهل تساءلنا جديًّا عن معنى هذه العبارات؟!

كلمة "ثقافة"، بالعربية، هي المصدر من فعل ثَقِفَ أو ثَقُفَ، وهي تحتمل معنيين: إما الحذق والخفة والظرف في الفهم والحديث، وإما تهذيب الشخصية الإنسانية وتأديبها والمضي بها إلى أعلى درجات الكمال – والمعنى الثاني، بالطبع، هو الذي اخترت أن يكون موضوع حديثي اليوم.

أما كلمة culture، بالفرنسية أو بالإنكليزية، فهي مشتقة من المصدر اللاتيني cultura، وتعني "فن الزراعة والعناية بالنباتات". (لعل هذا الأصل اللساني للكلمة يشير إلى أن بدايات الثقافة مرتبطة باستقرار الإنسان البدائي في قرى ونشوء المجتمع الزراعي.) كلنا يعلم أنه توجد على كرتنا الأرضية أعداد لا حصر لها من النباتات التي تنمو، من دون معونة الإنسان، وفقًا لسيرورات طبيعية؛ وكلنا يعلم أيضًا أنه تجري في الطبيعة سيرورات خَلْق من أبدع ما يكون: أشجار باسقة، زهور رقيقة، نباتات متسلقة، نباتات زاحفة، ليس لجمالها الخارق أي دخل بالجهود التي يبذلها الإنسان.

أما الزراعة، في مقابل نمو النباتات الطبيعي، فتعني تكريس مجهود أو اهتمام لتطور النبتة المزروعة. لذا يتضمن عمل المُزارع – أي مُزارع – القيام بكل ما من شأنه أن يشجع عملية التطور تلك، بما يرافقها من إزهار وإثمار وإيناع، ويكفل الحفاظ على النبتة في صحة طيبة. وتتضمن الزراعة عددًا من العمليات: علينا، أولاً، أن نحرث الأرض، ثم أن نغذيها بأن نُمِدَّها بالعناصر الضرورية؛ ثم علينا أن نرويها، كما علينا أن نقتلع منها الأعشاب الضارة اقتلاعًا مستمرًّا. والمجهود الذي نقوم به يجب ألا يكون عشوائيًّا أو مزاجيًّا، بل منظم ودقيق. لكن هذه العمليات جميعًا، من حرث وتسميد وري إلخ، لن تجدي نفعًا إذا خَلَتِ التربة من بذرة أو جذر، من بصلة أو غرسة، أي إذا لم تتضمن عنصرًا من عناصر الطبيعة، أولاً وآخرًا.

الإنسان، إذن، عاجز عن خلق بذرة أو تصنيع غرسة. بوسعه طبعًا أن يُصالِب بين أجناس مختلفة من النوع نفسه، فيحصل بالتلقيح المتصالب على ثمار مختلفة في شكلها ومذاقها وخصائصها؛ أو أن يُجري تطعيمًا، كأنْ يغرس طُعمًا من شجرة مثمرة في شجرة مثمرة أخرى (الحمضيات مثلاً)، وأن يقوم بعمليات أخرى كثيرة. لكن جميع هذه التجارب تحتاج إلى مواد من إنتاج ذلك المعمل المعقد الشاسع الذي ندعوه الطبيعة.

لذا، مهما بدا لنا عمل المُزارع أصيلاً وعبقريًّا، فهو لا يفعل أكثر من مدِّ يد العون إلى سيرورة طبيعية. للنبتة طبيعتها الخاصة: فهي تنمو بمقتضى قوانين محددة، بحسب سيرورة متضمنة في برنامجها الجيني: لا يمكن لنا أن نحصل على بلوطة من حبة قمح، ولا على تينة من بذرة كرز؛ إذ إن كلاً منهما ينمو بحسب السيرورة التي تنطوي عليها البذرة. انظروا إلى بذرة التين ما أصغرها! إنها تكاد ألا تُرى بالعين المجردة، لكنها تحوي إمكانية أن تصبح شجرة ضخمة تستظل بها جحافل من الناس. هذه القدرة الكامنة توجد في كل بذرة، ويقتصر دور المُزارع على مساعدة هذه القدرة الطبيعية على التفتح، وذلك بدراستها ومحاولة تفهُّم سيرورات عملها.

كثيرًا ما تدور نقاشات – عقيمة في الغالب! – حول الأهمية النسبية لكلٍّ من "الطبع" و"التطبع": هناك مَن ينادي بترك الطبيعة تعمل بمطلق الحرية؛ وهناك أيضًا مَن يعتقد بضرورة تطبيق قوى خارجية "تطبِّع" القوى الداخلية وتحل محلها. الزراعة تعني إمكانية وجود قوى خارجية يمكن لها أن تلعب دورًا في عملية إفصاح القوى والعوامل الكامنة عن ذاتها (فلو لم يكن الأمر كذلك لما احتاج المُزارع إلى بذل أي مجهود)؛ لكن كونَ بعض العمليات يتضمن وجود عامل مساعد يشير إلى أن عوامل البيئة والقوى الخارجية تأتلف مع الإمكانية الداخلية؛ وعلى هذا الائتلاف يتوقف نمو النبتة وتفتُّحها. أما التدخل البشري القسري فتكون نتائجه كارثية في الغالب. يروي الحكيم الصيني منشيوس القصة التالية، أنقلها لكم من غير تعليق:

كان في مملكة سونگ رجل عجوز عَجول زرع حقله وأخذ يترقب نمو الأشتال فيه بفارغ الصبر. غير أن الأشتال واصلت نموها الطبيعي وخيبتْ أمل الرجل. وذات يوم، خطر بباله أن يسحب الأشتال إلى أعلى حتى يسرِّع في نموها. أنهى الرجل سَحْب الأشتال كلها، ثم عاد إلى بيته منهوك القوى وقال لذويه: "تعبت كثيرًا من سَحْب الأشتال طوال اليوم، لكن تعبي لم يذهب سدى، إذ أمست اليوم أطول منها بالأمس." ولما سمع ابنه هذا الخبر ذهب إلى الحقل مسرورًا، فرأى الأشتال آخذة في الذبول.

تتجلى الطبيعة من خلال تناغم الداخل والخارج، الباطن والظاهر، في عملية تطورية متصلة الأسباب والنتائج. فمهما تكن الدرجة التي يبلغها التطور في تجليات الحياة، يُعَدُّ الباطن والظاهر خطان متوازيان يتفاعلان تفاعلاً متواصلاً، ويتوقف النمو على طبيعة هذا التفاعل. فالقوى الخارجية، على سبيل المثال، يمكن لها إما أن تثبط القوى الداخلية وإما أن تنشطها.

* * *

يعتقد علماء النفس السلوكيون behaviorists بوجود إمكانية لإشراط conditioning الفرد، بحيث يتصرف بحسب المطلوب منه. ويقوم اعتقادهم هذا على إمكانية تطويع الحيوان: فهُم يُشرطون الحيوانات بمعاقبتها عندما تمتنع عن تنفيذ ما يتوقع منها مروضوها وبمكافأتها عندما تطيعهم. ويتم ترويض حيوانات السيرك على هذا النحو: فالفيل، بجثته الضخمة ووزنه الهائل، يصعب عليه أن يقف على قائمة واحدة؛ لكنه يُساط ويقدَّم له الموز وسائر أنواع المكافآت لينفذ هذا التطويع المخالف لطبيعته. بالطريقة ذاتها، يُجبَر المساجين في معسكرات الاعتقال على الكلام والتصرف وفقًا لرغبة السلطات. ومنه، يتوهم السلوكيون أن بوسعهم، باستعمال قوى خارجية، تطويع البشر على التصرف بحسب ما يُملى عليهم.

ولهذا السبب أيضًا، كثيرًا ما يُظَن، عندما يأتي ذكر الثقافة، بأنها مسألة فَرْض قوالب معينة على الناس – قَوْلَبَتهم – ليس إلا. يمكن لنا، على سبيل المثال، أن نتعلم كيفية التصرف، كيفية التحدث بأسلوب أو بلهجة معينين، ارتداء ثيابنا بحسب الموضة الدارجة في المجتمع، إلخ. إن الطريقة التي تتم التربية وفقًا لها، والتقاليد التي يجد المرء نفسه، منذ ولادته، محاطًا بها، والتعليم الذي يلقِّن الطفل ماذا يفكر وكيف يفكر – هذه العوامل جميعًا تشكل جانبًا من "الثقافة" المزعومة. وبالمثل، فإن التراث – وهو خلاصة التفكير الجمعي للأجيال السابقة – يُفرَض فرضًا على الذين "ينتمون" إليه، فيدخلون في قالبه.

على نحو مماثل، يلعب كلٌّ من التاريخ والعرق واللغة والدين والمناخ الاجتماعي دوره في تكوين أسس شخصية الفرد. وهكذا يتلون تعبير "ثقافة" – عندما يُستعمَل بالمعنى الجمعي – بصبغة إقليمية، قطرية، قَبَلية، دينية، طائفية، متعصبة ومتزمتة غالبًا. من هذا المنطلق، نجد "الثقافة الإسلامية" و"الثقافة المسيحية"، "الثقافة العربية" و"الثقافة الغربية"، إلخ. لقد أضحت الثقافة عامل تفتيت وتجزئة، وكأن مهمة كل ثقافة باتت "منافسة" الثقافات الأخرى! إن كل أمة أو جماعة بشرية تخشى فقدان ثقافتها أو "طمسها" أو "غزوها" لأن كل فرد من أفراد هذه الأمة أو الجماعة يماهي بين هذه الثقافة وبين الأفكار الجمعية التي كونتها "عشيرته" وطريقتهم في السلوك. فالثقافة، لدى كل جماعة بشرية، هي الوسيلة الجماعية للبحث عن الأمان – أكانت هذه الجماعة دينية، عرقية، إقليمية، أو قومية. والفرد نفسه مشروط كذلك من الخارج، لأن ما دعوناه "ثقافة" ما هو إلا مسألة عادات وأذواق مكتسَبة وتقيُّد بقواعد معينة للسلوك.

* * *

يقيم المجتمع، في كل حضارة، أطُرًا ومقاييس (= قوالب) غير قابلة للتبديل؛ وكل مَن يراعي هذه الأطُر والمقاييس، كل مَن يدخل في هذه القوالب، يرتقي على الصعيد الاجتماعي ويُعَد، بنظر الناس، "مثقفًا". قد تكون لحضارة أخرى عادات مختلفة وأساليب ومناهج تربوية (= قوالب) أخرى؛ ومع ذلك، يَعدُّ المجتمع اكتساب هذا "الورنيش" ثقافةً! قد تتضمن كلمة "ثقافة" قدرة المرء على القيام بعدد من الأمور، كأن يكون صاحب ذوق أدبي أو موسيقي، أو يكون متكلمًا بارعًا، فيلمع في المناقشات والمناظرات – ولا همَّ فيما بعد إذا ربط "ثقافته" بمصلحة فردية (أي بـ"الأنا" ego) أو بمنفعة اجتماعية. إنما يجب ألا يغيب عن بالنا أن المصلحة أو المنفعة الضيقة، بما أنها تختلف من شخص لآخر ومن فئة اجتماعية لأخرى، فإن الثقافة، إذا فهمناها على هذا النحو، تعدم أية قاعدة فعل.

* * *

لا يمتُّ عنوان هذا الحديث إلى "التثقف" بأية صلة، لأن التثقف، في الواقع، أمر لا وجود له! فعندما "نتثقف"، أو بتعبير آخر، عندما نزيد من "مركزية الأنا" egocentricity لدينا، لا تكون ثمة ثقافة-زراعة حق، مهما كانت القدرات والمواهب التي ننمِّيها فينا ذات شأن. الثقافة-الزراعة الحقيقية فعل داخلي، بناء باطني للإنسان، يرمي إلى تهذيب شخصيته، كما جاء في بداية الحديث، وإلى ربطه، من خلال كل عمل يقوم به وكل فكرة يفكر فيها وكل شعور يشعر به، بالعالم كله. في وسعنا أن نطبِّق قوى خارجية مختلفة، لكن هذا لا يُعَدُّ ثقافة-زراعة إلا بقدر ما يفيد في نمو النبتة، أي في بث الحركة في العمل الداخلي. ويؤسفني أن أقول إن مَن لم يمعن النظر بعدُ في فكرة انتماء ما ندعوه الـ"أنا" إلى طبيعة الإنسان الحق أو عدم انتمائه لن يتمكن من أن يصبح إنسانًا مثقفًا، لا اليوم ولا في أي يوم!

إن رغبتنا في التثقف – أقول الرغبة ولا أقول الإرادة – غالبًا ما تكون شكلاً من أشكال الأنانية. هي رغبة ليس في التفوق على عامة الناس وحسب، بل ورغبة في نيل منزلة رفيعة بين المتفوقين منهم! إنها تتحول إلى طموح إلى المجد والتميز وإلى إيجاد هوية متفوقة. (جدير بالذكر أن "الطموح" و"الطمع" يشيران إلى دافع واحد، إلى آلية فكرية واحدة، وإنْ يكن على مستويين مختلفين.) وتكون الثقافات الدينية والقومية إلخ بمثابة المعبَر إلى بلوغ تلك المنزلة المنشودة.

* * *

أضحت حاجة "البحث عن هوية" أحد المفاهيم الأوسع انتشارًا في أيامنا هذه، لأنه يؤلمنا أن نكون بلا هوية، أن نكون "لاأحد"‍‍ nobody! فمنذ طفولتنا المبكرة نُشرَط – بل نُبرمَج – على تعلُّم كيف نصبح "أحدًا" somebody! لذا نجد معظم فئات المجتمع تُنشئ أبناءها على تحقيق أهدافها ومطامحها (= مطامعها). وهكذا يقتصر دور الأبناء على تلبية طموح الآباء وأحلام المجتمع ورغباته. نقرأ، بهذا الصدد، في النبي لجبران:

إن أولادكم ليسوا بأولادكم.
إنهم أبناء وبنات توق الحياة إلى ذاتها.
بكم يأتون إلى الحياة، لكنْ ليس منكم […].
لكم أن تمنحوهم محبتكم، ولكن دون أفكاركم،
فلهم أفكارهم. […]
ولكم أن تجتهدوا لتكونوا مثلهم، لكن لا تسعوا أن تجعلوهم مثلكم.
فالحياة لا تعود القهقرى، ولا هي تتمهل عند الأمس.

إن زرع مطامح (= مطامع) الآباء في نفوس البنين يجرِّد التربية من مضمونها الأخلاقي والروحي. فهي إذ ذاك، إذا اقترنت بالعلم، تشير إلى بلوغ هدف اجتماعي وتولِّي منصب مرموق: يجب أن أصبح طبيبًا، مهندسًا، محاميًا، "مسؤولاً" (كذا!) – وإلا فلن أكون نفسي حقًّا. لذا أضحت الثقافة الحقيقية عملة نادرة في مجتمعنا وفي سائر المجتمعات.

* * *

أود هنا، وقد أتيت على ذكر التربية، أن أتوسع قليلاً في مفهومها – بقدر ما يسمح به الوقت المخصص للحديث – لأنها، برأيي، تهدف إلى تحقيق غاية نبيلة وسامية، هي إفصاح صميمي وجوهري عن غاية وجود الإنسان نفسه. فالتربية الحقيقية هي سيرورة تعليم الإنسان معنى وجوده والغاية منه. وليس من معنى لوجود الإنسان وغاية إلا بتحقيق المعرفة والمحبة: تتجلى المعرفة في تعليم الإنسان بأنه قد وُجد في هذا العالم ليعرف وبأن عليه، بالتالي، أن يصرف حياته مفتشًا عن حقيقة وجوده؛ وتتجلى المحبة في تعليم الإنسان بأن وجوده مرتبط بغاية أخلاقية أصيلة فيه، سامية غاية السمو، تتلخص في سعيه إلى تحقيق الحرية والطمأنينة والسلام، التي تتجسد بأنصع صورها في الخدمة والتضحية والعمل في سبيل سعادة الإنسانية جمعاء. الإنسان موجود في المجتمع، مع الآخرين، لأن الإنسان "المجرد" أو "المعزول" غير موجود؛ فوجوده مع الآخرين يشير إلى التضامن والمشاركة والتعاطف، لا إلى الانقسام والمنافسة والتناحر.

هكذا تكون التربية السوية – والثقافة جزء منها – وسيلة لتحقيق إنسانية الإنسان. لكن التربية في عالم تكنولوجي وإيديولوجي منقسم على ذاته تهدف إلى إشباع نَهَم الإنسان في مجتمع فاسد، إلى إشباع غروره وعنجهيته، وتشير إلى "تربية" شهواته ونزواته من خلال تحصيل المعرفة. ففي حقل العلم، مثلاً، يتعلم الإنسان السعي في اكتساب المعلومات للتزوُّد بمعرفة تقنية، لكنْ دون ربط هذه المعرفة بغاية إنسانية رفيعة. ولعل التعلق بالقومية أو الإقليمية أو الدين، والعمل على توطيد هذا التعلق، أمسى غاية من غايات العلم في شكله الحديث. وجليٌّ أن الإيديولوجيات السائدة لا تدعو الإنسان إلى تحصيل العلم والثقافة إلا لمنافسة الإيديولوجيات الأخرى. لذا يندر أن نعثر على إنسان يتعلم أو يتثقف ليزداد رقيًّا في سلَّم المعرفة والمحبة، أو لأن واجبه الإنساني السامي يستدعي ضرورة المعرفة لأنها وثيقة الارتباط بمعنى وجوده.

ومنه، نرى أن كل ثقافة مقيدة بإيديولوجيا معينة، أو بأية فكرة لا تُعنى بصقل باطن الإنسان ولا تكرِّس المعرفة كوسيلة للتحرُّر وللسمو بإنسانية الإنسان، تؤدي حتمًا إلى النزاع والحروب. إن ربط الثقافة بالإيديولوجيا مسعى مغلوط من أساسه، لكنه، بكل أسف، واقعي: فالواقع يشير إلى أن الثقافة تتضمن، في مفهومها الواقعي الممارَس، فكرة التجزئة والنزاع.

* * *

نحن، إذن، نعبِّر عن "هويتنا" بالانفصال عن الآخرين، بالإصرار على خصائصنا "الفريدة"، بعَزْونا إلى أنفسنا مميزات خاصة، وبالتمسك بثوابنا الخاص. وهكذا، كلما أصررنا على أهمية هوية ما، ازددنا انفصالاً عن بقية الناس: يحاول كلٌّ منا أن يحس بأهميته كفرد، بأنه "أنا"، وأن يُبقي على هذا الإحساس ويحافظ عليه بكل قواه، فيقول: "أنا كذا وكذا…" مع ذلك، تبقى هذه الهوية وهمية، لأنها مجرد صورة من صنع الـ"أنا" نفسها. فواقع أن الإنسان، عندما يشعر بأنيَّته (الفردية أو الجمعية) وقد تقلَّصتْ، لسبب من الأسباب، وانتُقِص من أهميتها، يصاب بالذعر وبالقلق، ويناضل بكل قوته ليعيد إلى الـ"أنا" حجمَها المتوهَّم. يشير كل ما سبق إلى أن الاحتفاظ بهوية ما ثابتة من المحال.

الثقافة، إذن، عاجزة عن تحقيق ما ليس موجودًا أصلاً. فهذه الهوية الزائفة، هذا الإحساس الوهمي بـ"الأنا"، هذا الشعور الزائف بالانفصال، ما هو إلا نتاج للإشراطات المطبقة علينا بفعل التربية المشوهة التي تُعَدُّ الثقافةُ – للأسف – جزءًا منها، كما سلف. ومن هنا تنجم معاناة البشرية، شقاؤها المزمن: الإنسان هو الكائن الوحيد الذي يمارس العنف ويتعمد الوصول به إلى أقصى درجات القسوة وقَهْر الآخرين؛ إنه الكائن الوحيد الذي يحفر قبره بيديه وبأظافره؛ إنه وحده الذي يبني من جهة، ليهدم ما بناه من جهة ثانية؛ وحده الذي يدمر الطبيعة ويستنفد مواردها؛ وحده الذي يستقتل للوصول إلى السلطة والنفوذ ويطلب، في جشع لا يعرف الحدود، أشياء تافهة ليس في حاجة إليها. هذه الرغبة في النفوذ، هذا الجشع، هذه القسوة، تنجم جميعًا عن أفكاره الخاصة التي يروق له أن يدعوها "ثقافة"! ومع ذلك، فهو يأبى إلا أن يتشبث بهذه الأفكار، وكأن حياته نفسها متوقفة على الاستمرار في اعتناقها! هل تعلمون كيف يصيد بعضُ قبائل الزنوج القرود؟

أتذكر – منفعلاً – أنني، وأنا بعدُ طفل، شاهدت عند أحد رفقائي – وكانت عنده آلة عرض سينمائية للأطفال – فيلمًا قصيرًا إلى حدِّ السذاجة، فيلمًا لا تزال صورُه مرتسمة في مخيِّلتي وتستدعي فيَّ ذلك الانفعال الأول إلى اليوم. على ملاءة سرير بيضاء، مثبَّتة بدبابيس على حائط غرفته، رأينا صورًا متراقصة لكيفية اصطياد الزنوج للقرود: يقوم الزنوج بربط قرعة مجوفة إلى نخلة جوز هند، ثم يتوارون بعد أن يلقوا في قاعها بحفنة من حبات الفول السوداني. وما هي إلا هنيهات حتى يظهر القرد، فيحشر يده في عنق القرعة الضيق جدًّا ويقبض على حبات الفول. لكن عنق القرعة أضيق من أن يسمح له بسحب يده منها وهي قابضة على الحبات. فيشد القرد ويشد، ويزعق جزعًا، لكن من غير جدوى. فما قَبَضَ عليه، متوسمًا فيه الغذاء، هو الذي يستبقيه أسيرًا! ثم ما يلبث الزنوج أن يعودوا، فيوثقون الحيوان المسكين ويكسرون القرعة لتخليص قبضته العالقة. وإلى اليوم، لا أزال أتساءل: ما الذي يمنع القرد من فتح قبضته المغلقة على حبات الفول والإفلات من الفخ المنصوب له؟ بربكم، ألسنا نفعل عين ما يفعله القرد عندما نتشبث بركام من الأفكار والمفاهيم والمعتقدات الضيقة التي تغذي فينا وهم الثقافة والمعرفة، بينما لا تفعل هذه في الواقع غير إبقاء عقولنا مأسورة، حبيسة جدران صماء وأفق ضيق؟!

(أدعوكم، بهذا الصدد، إلى قراءة رواية ميخائيل نعيمه اليوم الأخير، حيث نقرأ كيف صرف أستاذ جامعي كبير الساعات الـ24 المتبقية من حياته بعد أن جاءه في منتصف الليل هاتفٌ خاطبَه قائلاً: "قُمْ ودِّعْ اليوم الأخير!")

* * *

يقول أرنولد توينبي: "إن التقدم الذي ندعوه حضارة ليس إلا تطورًا في التكنولوجيا والعلم والتحكم بمصادر الطاقة." هذا "التقدم" المزعوم، إذن، ليس ارتقاءً في سلَّم الفضيلة والأخلاق، لأن الفضيلة والأخلاق لا تنمو مترافقةً مع الشعور بالانفصال عن الآخرين، ولا مع الرغبة في أن نكون "أحدًا"! لنعد إلى مثال البذرة: إنها لا تنمو بفضل عناية المُزارع، بل بفضل طاقة الحياة الكامنة فيها، فتهبنا شموخ السنديان ورقَّة البنفسج. لكن المُزارع إذا أتلف البذرة لن تنمو أبدًا؛ على النحو نفسه، لن ينمو الإنسان إذا احتفظ بصورة "الأنا" الوهمية هويةً وتمسَّك بها وتشبث، أي إذا حاول "زراعة" ما هو غير موجود أصلاً!

الثقافة الحقيقية هي ما يساعد على تجاوز "الأنا"، أو بالأدق، على إدراك وهمها، بحيث تنكسر قوقعتها، فتتسع وتتسع لتشمل الكون بأسره. لقد كتب المفكر الثيوصوفي جيناراجاداشا يقول:

الإنسان المثقف ليس كذلك بفضل نشأته ومحتده، لكن بفضله هو. هكذا يمكن لنا أن نصادف أناسًا لم ينالوا إلا حظًّا يسيرًا من الثقافة والتعليم، لكنهم صقلوا في أنفسهم وجهات نظر تعبِّر عن ثقافة رفيعة، لأن وجهة النظر التي يتبناها المثقف الحقيقي هي مركز ليس هو بذاته، بل هو "أنا" أوسع بما لا يقاس.

الثقافة الزائفة، إذن، تتضمن كوننا مشروطين بإحساسنا الوهمي بالانفصال والتفرُّد؛ إنها كل ما يسعى إلى توطيد إحساسنا بـ"الأنا".

* * *

يتوهم الإنسان أن ذكاءه وقدراته ملك له. لهذا يلتذ كل رجل، كل امرأة، كل طفل، – عن وعي منهم أو عن غير وعي، – بحالة الرضا الذاتي. نحن نحاول دومًا إرضاء أنفسنا بالإحساس بثوابنا؛ وبالطبع، كلما وجدنا تقصيرًا لدى الآخرين، نصير – مباشرةً – أشد إحساسًا بتفوقنا عليهم. وإلى هذا مردُّ استعدادنا الدائم للنقد؛ ولهذا يلذ لنا كشف عيوب الآخرين: إذ إننا عندما نرى ذواتنا خالية من هذه العيوب، يزداد إحساسنا بالتفوق؛ ولهذا نرى "القشة" في عين قريبنا، بينما نعمى عن رؤية "الخشبة" في عيننا، كما يقول المسيح. إن وعينا لحسناتنا وثواباتنا أكبر حجر عثرة أمام تفتُّح الثقافة الحقيقية.

* * *

بذا، ليست الثقافة الحقيقية توطيدًا لإحساسنا بالأنا وبالتفرُّد، بل إدراك نافذ لوهم صورة "الأنا" واستئصال لها من الجذور؛ الأمر الذي يستدعي يقظة كلِّية دائمة. فإذا انعدمت اليقظة، تغيب الثقافة الحقيقية، لتسود "ثقافة الأنا"! محال أن نحصل على حديقة جميلة غنَّاء إذا اكتفينا فقط باقتلاع عشبة طفيلية من حين لآخر؛ إذ يجب علينا ألا نكف عن تكريس انتباهنا بكامله، يقظتنا، وكل ما أوتينا من قدرة، لتحقيق هذه الغاية. بالمثل، يجب علينا أن نولي اجتثاث "الأنا" من أعماقنا اهتمامنا كله، في كل لحظة من لحظات حياتنا اليومية. فكلما تقلصت حدود "الأنا"، ازداد عمق شعور الإنسان بالطبيعة، بروعة الأصوات والألوان، بطيبة الإنسان، بالنظام وبالتناغم، بالصحة النسبية للأفكار المعروضة أمامه أو بغلطها النسبي، بخصال الآخرين، وبالانفتاح على الكون والحياة، حيثما تجلَّت.

لقد عجز الإنسان عن اكتشاف مغزى وجوده لأنه كرس صورة "الأنا" هويةً له؛ ومع هذا العجز، فقد علاقته المباشرة مع الطبيعة، ففقدت نظرته إلى الأشياء المحيطة به بساطتها وصفاءها، واختل توازنه الداخلي، فراح يبحث عن مخرج، في محاولة منه لاستعادة حالة التوازن تلك – فكانت الثقافة بالمفهوم الرائج هي البديل، بكل ما تتضمن من علم وفلسفة وفن وتراث وتكنولوجيا إلخ. وبذلك تشكَّل لدى الإنسان ميلٌ إلى تنمية قدراته الذهنية، فبات يُكثِر من القراءة، ولا يدع حفلة موسيقية أو معرضًا فنيًّا يفوته؛ صار يسرد آراء الآخرين في الفلسفة والعلم والفن، متهافتًا على قشورها، متناسيًا الجمال الذي يحيط به! يروي تراث بوذية زنْ القصة التالية، أنقلها لكم هي الأخرى من غير تعليق:

كان التلميذ دائم الشكوى لمعلِّمه: "أنت تحجب عني سرَّ الزنْ الأعظم." وما كان ليتقبل نفي المعلم ذلك. ذات يوم، بينما كان المعلم والتلميذ سائرين في نزهة على التلال، صدح طائر يشدو. قال المعلم: "هل سمعت ذلك الطائر يشدو؟" "نعم"، أجاب التلميذ. "طيب، أنت تعلم الآن أني لم أحجب عنك شيئًا." "نعم"، أجاب التلميذ.

الثقافة الحقيقية، إذن، فعل وعي، ولا قيمة فيها للقشور أو للطلاء الخارجي. إنها ثمرة تربية طبيعية سليمة وتعمُّق في فهم سلَّم القيم الأزلية التي ليست من خَلْق الإنسان: فالفطنة كلها، والجمال كله، والكمال كله في الطبيعة؛ والإنسان جزء لا يتجزأ من الطبيعة، وما يتحلى به من فطنة أو مواهب ما هو إلا وسيلة للإفصاح عن الحقيقة التي تعتمل في أعماقه وتُعَدُّ جميع قوانين الكون كذلك إفصاحًا عنها. إن روائع العالم الحقيقية ليست ثمرة جهود الإنسان، بل هي في الطبيعة نفسها: فلننظر إلى روعة التعايش بين الحشرات والنباتات، إلى هجرات الطيور، إلى الزهرة التي تيمِّم وجهها شطر الشمس، إلى مودة الدلفين، وإلى ظاهرات طبيعية أخرى لا حصر لها، لندرك عظمة عجائب الطبيعة والمعجزات التي تجترحها كل لحظة. أمام ذلك كله، ليست "فتوح" العلم التي يتشدق بها الإنسان إلا ضربًا من لهو الأطفال و"مخدرات معنوية"، على حدِّ تعبير ميخائيل نعيمه، إنْ خدرت شعوره بسموه ونبل رسالته حينًا فلن تخدره إلى الأبد!

* * *

عندما يقر الإنسان بضرورة تخلِّيه عن "الأنا"، عن الصورة الزائفة التي يرسمها عن نفسه، عندما يطلق يده من إسار "حبات الفول"، يصير بإمكانه أن يتحد بكمال يفوق أبعد شطحات مخيِّلته. إذ ذاك فقط يكون الإنسان مثقفًا، لأنه يجعل من نفسه تربة صالحة لـ"الكلمة-البذرة". وعندما يكتشف أنه في الحق واحد مع الكل في الكل، مع الوجود كله، مع القدرة التي تتجلى في روائع الكون، بما فيها نفسه، مع الروح السرمدي الذي منه، به، فيه، وإليه كلُّ شيء – إذ ذاك، بفعل وعيه الكوني، بفعل المحبة التي تصهره في بوتقتها، يبلغ مرتبة الروح. هذا وليس في قاموس الروح كلمة "أنا" أو كلمة "آخر": فالروح لا تعترف إلا بالوجود الكلِّي الذي يتجلى في أشكال لا حصر لها – هذا ما تؤكد عليه الحكمة الخالدة، على اختلاف ظهوراتها التاريخية.

نعم، أيها الإخوة والأخوات، لن يتأتى لنا أن نعي غاية وجودنا ونحققها ما لم نقتلع من أنفسنا كل ما من شأنه أن يوطد إحساسنا بـ"الأنا". لن نكون مثقفين حقيقيين إلا إذا جعلنا من عقولنا وقلوبنا – بل من عقلنا وقلبنا، لأننا واحد في الجوهر – حديقة نزرع فيها من زهور العالم أجملها؛ حديقة يمتزج فيها جوهرنا العميق بجوهر الأشياء كلها، في ألق من نور وفيض من المحبة.


* صياغة نهائية لحديث شبه مرتجَل ألقِيَ في أحد اجتماعات حلقة "الرسالة"، دمشق، 1987.

** كاتب ومترجم؛ محرِّر في مجلة معابر: www.maaber.org.

البحث عن التاريخ والمعنى في الدين (ميرتشيا إلياده) – أحمد تموز

البحث عن التاريخ والمعنى

في الدين

فينومينولوجيا الظاهرة الدينية بحسب ميرتشيا إليادِه

أحمد تموز*

صدر عن "المنظمة العربية للترجمة" – التي لم يعوِّدنا الطاهر لبيب، مديرها العام، إلا على ترجمات ممتازة لكتب ممتازة من التراث الفكري العالمي، الكلاسيكي والمعاصر، – كتابُ ميرتشيا إليادِه البحث عن التاريخ والمعنى في الدين، بترجمة وتقديم سعود المولى[1].

histoire_sens_religion

وميرتشيا إليادِه (1907-1986) هو عالم أديان روماني عصامي كبير، ابتدأ روائيًّا[2]، ثم عزف عن كتابة الرواية لينصرف بكليته إلى دراسة الظاهرة الدينية، في بُعديها الجمعي والفردي، فصرف مدة في الهند دارسًا طُرُق اليوگا عن كثب[3]، ثم غادر فرنسا (التي حصل على جنسيتها وطور فيها نظرياته وتمكن من منهجيته البحثية) إلى الولايات المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية، باحثًا وأستاذًا في جامعة شيكاگو، حيث قدَّم إسهاماته الحاسمة في تطور علوم الأديان وتاريخها. وقد دعا إليادِه، عبر مؤلفاته الكثيرة، إلى "مذهب إنساني جديد" وإلى "نهضة جديدة" في تاريخ الأديان تأخذ في الحسبان ثقافة الإنسان الشاملة التي هي ثقافة الإنسان العالمي.

ويرى المترجم أنه بقدر ما كانت ممتعة ومثيرة، علميًّا وثقافيًّا، ترجمةُ هذا الكتاب فهي ممتعة ومثيرة، علميًّا وثقافيًّا، قراءتُه وكذلك النقاشُ معه وحوله. فنصوص إليادِه هي مما يغري بهذا وتلك، وهي من "السهل الممتنع" الذي يتطلب جهدًا وتدقيقًا وتركيزًا؛ إذ يقدم فيها المؤلف مادة غزيرة تفتح شهية القارئ المهتم للظاهرة الدينية، بل ونَهَمه أيضًا. وعلى الباحث والمهتم كليهما ركوب مركب البحث والتقصي طلبًا للاستزادة والتعمق إن أمكن. فالقراءة هنا، كما الترجمة، هي كدح وجهد. ذلك أن متابعة أفكار إليادِه ونظرياته وموضوعاته ودراساته الكثيرة والغنية تستوجب إحاطة موسوعية بالأديان – حاضرها وغابرها – وتستلزم معرفة صحيحة بمحاولات الدراسات المقارنة في تاريخ الأديان وفروعها وفي الفلسفات والمذاهب، كما وفي الفينومينولوجيا والأنثروپولوجيا وعلم النفس وفقه اللغة. وهذه المعرفة هي مما سوف يسعى إلى اكتسابه قارئ هذا الكتاب إذا ما استجاب لدعوة المؤلف إياه إلى عدم التوقف عند أفكاره وإلى استكمال البحث والكدح لتحصيل المزيد من المعرفة والفهم.

ميرتشيا إليادِه

لقد ترجم مترجمون (سوريون) عدة لميرتشيا إليادِه[4]، حتى "صار اسمُه علمًا في بلادنا"، كما يقول المترجم، يستشهد به علماء الاجتماع والأنثروپولوجيون؛ إلا أنه لم يصل بعدُ إلى فئة الطلاب والدارسين والمتعلمين من العصاميين الذين كان إليادِه أنموذجًا فذًّا لهم في حياته وأعماله التي تركها لنا. لذا يحاول المترجم إيصال "رسالة" إليادِه إلى مَن يهمه أمر الأديان في العالم العربي اليوم من خلال تقديمه للكتاب، متبعًا في ذلك أساليب القدماء (من نحو عبد الرحمن بدوي) في التقديم والتصدير، حيث يبدأ بالتعريف بالكاتب وأعماله، ثم يعرض لعلوم الأديان المقارنة ومنزلة ميرتشيا إليادِه منها، متناولاً أهم ما جاء به من أفكار وثيمات في علم الأديان وتاريخها، لكي ينتهي بكلمة حول هذه الترجمة والترجمات التي نُشِرتْ له حتى الآن.

أما المقارنات التي يعقدها د. المولى والاستنتاجات والإسقاطات التي يسوقها حول الإسلام والمسيحية في شرقنا العربي فهي، في رأينا، مما لا يحتمله تصدير كتاب مترجَم، بل يفضَّل أن يكون بحثًا مفردًا مستقلاً يتحمل صاحبه المسؤولية عنه فيما يرتئيه في دراسته الشخصية للأديان الحية.

يستعمل إليادِه مصطلح "تاريخ الأديان المقارن" للتعريف بفرعه المعرفي الجديد وبمنهجيته في العمل؛ وهو تعريف يشمل الميدان الذي كان يغطيه ما كان يُعرف بالألمانية باسم "الدراسة الشاملة للعلم العام بالأديان" أو ما بات يُعرَف اليوم، بحسب الجامعات، بـ"الدراسة العامة للأديان" أو "علم الأديان" أو "تاريخ الأديان" وما إلى ذلك. وقد وقف الكثيرون من مؤرخي الأديان موقفًا معارضًا مما يُسمَّى "التاريخ المقارن للأديان"، معتبرين أنه ليس "تأريخًا" historiography بالمعنى الدقيق للكلمة، بل ينتمي إلى مجال اللاهوت والفلسفة أكثر منه إلى العلم الصحيح. أما إليادِه فقد استنكر من جانبه ما أسماه بـ"الاختزالية التاريخاوية" historicist reductionism لدى المؤرخين الذين ينكرون على الظواهر الدينية معناها وغاياتها الأصلية ومقاصدها. وقد اعتبر إليادِه أن "تاريخ الأديان"، بالمعنى العلمي المعاصر، ابتدأ مع العالم الألماني ماكس موللر الذي كانت له الريادة في هذا الحقل، خصوصًا أنه كان أول مَن شدَّد على ضرورة أن يكون الفرع المعرفي الجديد وصفيًّا وموضوعيًّا وعلميًّا ومجردًا من أي اعتبار معياري أو قيمي ذي صلة بلاهوت الأديان وفلسفتها.

من جهة أخرى، اهتم إليادِه بزاوية النظر الجديدة التي قدَّمها "علم نفس الأعماق" depth psychology لفهم الظاهرة الدينية. وقد قارن في مؤلَّفه بين إسهامات كلٍّ من فرويد (التحليل النفسي) ويونگ (علم النفس التحليلي) في فهم الدين، مفضلاً الثاني ومعتبرًا الأول "شخصية انتقالية" لا يزال فكرُها عالقًا بالقرن التاسع عشر، بكل ما به وله من منهجيات ونزعات وضعية positivist وعلموية scientistic وعقلانية rationalistic مفرطة وإسقاطات سلبية حول تطور الأديان، ومن اختزالية reductionism تقدِّم في تفسير الرمزية الدينية تفسيرات بدائية وسطحية (جنسية بحتة في حالة فرويد).

ميرتشيا إلياده في حديث مع كارل يونگ في أثناء أحد لقاءات إيرانوس السنوية التي كانت تجمع خيرة العلماء للتباحث في الظاهرة الدينية

ينطلق إليادِه، كغيره من مؤرخي الأديان، من مبدأ ينظر إلى الدين باعتباره يقوم على افتراض وجود تجربة دينية أو "اختبار روحي" يخوضه ويعيشه "الإنسان الديني" Homo religiosus. وسواء كانت التجربة اختبارًا للمقدس/الحرام أم للقوة القاهرة العلية القادرة، فإنها تشكل القوام الذي تتكون منه كل ظاهرة دينية. وبحسب تعبير إليادِه، فإن أفضل أنواع الامتياز والفخر التي ينالها مؤرخ الأديان هو بالضبط الجهد الذي يبذله في فك شيفرة لغز واقعة دينية مشروطة بلحظتها التاريخية وبالنمط الثقافي المميِّز لعصرها وفي فهم الوضع الوجودي الذي جعلها ممكنة الوقوع.

ولقد دافع إليادِه عن النظرية القائلة بأن الفكر الديني يرتكز عمومًا على ذلك التمييز القاطع بين "مقدس/حرام" sacred وبين "دنيوي/دهري" profane. ذلك أن المقدس عنده هو تجلِّي الإله، الذي هو مناط الحقيقة والقيمة والمعنى، في حين أن الأشياء الأخرى كلها لا تكون حقيقية أو ذات قيمة إلا من خلال مشاركتها "في" المقدس أو "معه". بذا يتمحور فهم إليادِه للدين حول مفهومه عن "تجلِّي المقدس" وظهوراته الكشفية التي يرى أنها هي التي تضفي على العالم الدنيوي قصدًا ومعنًى ومبنًى (بنية)، وذلك بإقامتها لـ"نظام مقدس" sacred order ينتظم نشاطات الحياة الإنسانية كافة.

ويشير المترجم إلى أن من الثيمات التي تتكرر عند إليادِه في دراسته للأسطورة مقولة "محور العالم" axis mundi أو "المركز الكوني" cosmic center؛ وهي مقولة ملازمة بالضرورة للتقسيم إلى مقدس ودنيوي. فالمقدس يتصف بالقيمة كلها، ولا يتوصل العالم إلى أن يكون ذا معنى وقصد إلا من خلال اختبار تجليات المقدس أو ظهوراته الكشفية، الجمعية والفردية. غير أن "الإله الأكبر" المحتجب، فيما يتعدى هذه التجليات والظهورات، هو ثيمة أساسية عنده أيضًا[5].

ويقول المترجم إنه حاول في هذه الترجمة أن يستفيد من تراث علم الأديان المقارن وتاريخ الأديان وظاهراته، كما تبلور على يد إليادِه، دون أن يغفل ما له علاقة بالتراث الإسلامي، أكان لجهة دقة المصطلح والتعبير وانطباقه على ما هو مألوف في ثقافتنا أم لجهة إعادة فتح الباب أمام تطوير علم الأديان المقارن الذي كان قد استهله العلماء المسلمون الأوائل، من أمثال الشهرستاني في كتابه الشهير الملل والنحل. وقد استفاد أيضًا من أعمال وكتابات زملاء له كانوا سباقين إلى مقاربات عربية مستقلة ونقدية.

من أعمال إليادِه أيضًا، بالإضافة إلى عمله الشامل تاريخ الأفكار والمعتقدات الدينية (في ثلاثة مجلدات)، المترجَم ترجمة رديئة إلى العربية، دراسته المرجعية البديعة عن الشمنية وتقنيات الوجد الصوفي القديمة (1951)، وكذلك دراسته عن الأساطير والأحلام والأسرار (1957)، اللتين نأمل أن يترجمهما د. المولى قريبًا. أما آخر أعماله فهو إشرافه على تحرير موسوعة الدين الضخمة الصادرة عن جامعة شيكاگو، فضلاً عن قاموس الأديان (1990)، وهو درة صغيرة وضعها بالاشتراك مع تلميذه المرموق يُوان پ. كوليانو ونُشِرتْ بعد وفاته.


* كاتب سوري مهتم بفلسفة الدين والتصوف؛ يكتب في مجلة معابر: www.maaber.org.

[1] ميرتشيا إليادِه، البحث عن التاريخ والمعنى في الدين، بترجمة وتقديم سعود المولى، المنظمة العربية للترجمة، بيروت، 2007، 410 ص.

[2] رواياته ثلاث: الليلة البنگالية – مايتريي (1933)، الهوليگان (1935)، منتصف الليل في سرامپور (1939).

[3] نشر إليادِه حصيلة بحثه أولاً في كتابين: اليوگا: مقالة في أصول التصوف الهندي (1936) وتقنيات اليوگا (1948)، جمع بينهما لاحقًا في كتاب شامل صار مرجعًا للباحثين في الموضوع: اليوگا: خلود وحرية (1954).

[4] أول مَن اهتم لنقل ميرتشيا إليادِه إلى العربية هو الأستاذ نهاد خياطة: أسطورة العود الأبدي (1949)، دار طلاس، دمشق، طب 1: 1987؛ المقدس والدنيوي: رمزية الطقس والأسطورة (1956)، دار العربي، دمشق، طب 1: 1987؛ مظاهر الأسطورة (1963)، دار كنعان، دمشق، طب 1: 1991.

[5] من الثيمات الأساسية الأخرى في فكر إليادِه ثيمة "الزمن البدئي" الذي تهدف الأساطير والشعائر إلى "تحيينه" actualize في الزمن التاريخي. ستكون لنا عودة إلى الموضوع في قراءة مستقلة لكتابيه أسطورة العود الأبدي والمقدس والدنيوي.

ينبوع الطاقة الروحية 1 من 2 – ديمتري أڤييرينوس

ينبوع الطاقة الروحية

1 من 2

ديمتري أڤييرينوس

المدرِّسة 1: ما هو شعورك وأنت ترقص؟
بيلي: لا أدري. أحس نوعًا من الارتياح.
أحس أولاً بالتيبس نوعًا ما، لكني حالما
أنطلق… فكأني عندئذ أنسى كل شيء.
و… كأني أختفي. كأني أختفي. كأني
أحس تغيرًا في جسمي كله. ثم تسري
هذه النار في جسمي. أكون حاضرًا فقط.
أطير كالعصفور. مثل الكهرباء… أجل،
مثل الكهرباء.
[1]

كيف لِمَن شاهد بيلي إليوت، فيلم ستيڤن دَلْدري الساحر، أن ينسى صورة ذلك الصبي الموهوب، الملهَم، ذي القدمين المجنحتين، يكاد أن يطير، محمولاً على طاقة هائلة تتدفق من داخله في يُسْر عجيب وتذلِّل على طريق تفتُّح موهبته، واحدًا بعد الآخر، كل عراقيل وسط اجتماعي متخلف يعتبر رقص الباليه "تخنثًا" والملاكمة "رجولة"!

غير أن هناك العديد من الناس ينتظرون أن يأتي أحدهم و"يلهمهم"، يأخذ بيدهم ويقول لهم ما يفعلون وكيف يفعلونه، – وإلا فهم يظلون على قلق و/أو عطالة. ولا نقول هنا إن اللقاء بأناس ملهَمين وملهمين يجب ألا يؤخذ على محمل الجد؛ إنما انتظار مجيء "الإلهام" من الخارج هو ما يؤخذ على أولئك الناس، لأن هذا الموقف السلبي ينطوي، من جهة، على قلة ثقة في موارد الحياة ودروسها المتواصلة، وعلى استخفاف بالقدرات الهائلة الكامنة في الإنسان، من جهة ثانية.

هناك ينبوع دائم من النور الطاقة والإلهام في متناول كل إنسان، ينبوع لا ينضب أبدًا. وهذا الينبوع الذي لا يتناقص دفقُه، لا مع الزمن ولا مع تقادُم السن، بل على العكس يزداد جريانُه حريةً وغزارةً بمجرد أن نتعلم إزالة السدود من مجراه (والأفضل: عدم وضع سدود أصلاً!)، – ينبوع الطاقة والإلهام هذا موجود فينا. على كلٍّ منا أن يكتشف في نفسه هذا الينبوع، هذا الانبجاس الأبدي، وإلا صرنا متكلين على الآخرين لتحفيزنا أو قيادتنا – حتى إن بعضهم يتكل في حياته النفسية على شخص بعينه، فيود أن يكون دومًا في صحبته؛ لكنه، مهما فعل، لا يصبح بذلك أفضل من ذي قبل أو، في أحسن الأحوال، لا يكون التغير فيه ملموسًا.

أين ترانا نكتشف ينبوعًا لا ينضب من الحيوية والإلهام إنْ لم نكتشفه في أنفسنا؟! ألسنا مع أنفسنا دومًا؟ وهل في مقدور المرء أن يهرب من نفسه؟! هذا الينبوع موجود، حاضر هنا – إنما يجب علينا أن نتعلم استمداد ما يكمن فيه من نور وطاقة وإلهام.

* * *

سُئل علاَّمة بوذي: "مَن هو البوذا؟" فأجاب: "الوعي اليقظ…" البوذا ليس الشخص التاريخي (سدهرتا گوتاما) بالضرورة، كما أنه ليس روحًا تحيا في عالم قصيٍّ، محلقة في "وعي كوني" متعال. البوذا حاضر هنا، وهو "أقرب إليه [الإنسان] من حبل الوريد"[2]، بالتعبير القرآني البديع. كلمة "بوذا" Buddha تعني حرفيًّا "مَن حقَّق الإشراق" (من كلمة بودهي buddhi السنسكريتية التي تفيد هذا المعنى)؛ أي أنه "المستنير"، مَن استيقظ وعيُه كاملاً على ينبوع الإلهام والطاقة. إنه، بالمصطلح المسيحي، "المسيح الحي فينا" الذي حرك بولس الرسول ليقول: "ما أنا أحيا بعدُ، بل المسيح يحيا فيَّ."[3] حين سألت سيدةٌ متزمتة المرشدَ الصوفي حضرة عناية خان: "هل تؤمن، مثلنا، بأن المسيح سيعود في آخر الزمان؟"، أجابها: "وهل ذهب يومًا حتى يعود؟!" هذا المسيح في الداخل سُمِّي في التصوف المسيحي بـ"المشير الحكيم الأوحد". وهذه الحقيقة، إذا لم تؤخذ على محمل حصري، حقيقة مطلقة تنسحب على كل إنسان، لأن "الوعي اليقظ"، بالقوة أو بالفعل، هو صاحب المشورة الأوحد في حياتنا. فلننظر الآن إلى الأمر بمزيد من التأني.

مورد الإلهام في كل مكان: كأنْ أشعر بأني ملهَم حين أكون في الطبيعة، حين أسير في البرية أو بين أشجار غابة مثلاً – صحيح؛ لكني لا أشعر بهذا الإلهام فعلاً إلا يوم يكون وعيي منفتحًا، حساسًا، مستقبلاً في حضرة الأشجار والأزهار البرية، حين يكون مصغيًا إلى لغة جوهرها الباطن، وليس إلى مادتها الظاهرة وحسب. فإذا اتفق لي، في يوم آخر، أن أكون مهمومًا أو قلقًا، ينعدم إلهام الأشجار والزهور في نظري. بعضهم لا يرى من الأشجار، مثلاً، غير الحطب! بالمثل، حين يتكلم مرشد أو مُحاضر ملهَم، قد تسري فينا عدوى إلهامه، شريطة أن نكون حساسين، مستقبلين لما يقول، وبالأخص لما لا يقول؛ وبعبارة أخرى، شريطة أن يكون وعينا منفتحًا.

ما هو الفارق بين حال الاستقبال وبين عدمه؟ يتطلب الاستقبال أن يكون الوعي (أو منطقة معينة منه على الأقل) منفتحًا على نحو ما؛ وإذ ذاك يبدو أنه يستمد الإلهام والحكمة في كل مكان ومن كل شيء. أما إذا لم يكن الوعي منفتحًا، فمهما تكلم المرشد أو المُحاضر وقال من الأشياء الملهمة، لن يكون لكلامه أيُّ وقْع علينا ولن يحرِّك فينا ساكنًا. إذا ظن الناس أن الكلام صادر عن شخص متفتح روحيًّا، قد يقولون: "ما أصحَّ ما يقول، أنا موافق عليه!"، ثم لا يلبثون أن "يحرِّفوا الكَلِمَ عن مواضعه" ويطوِّعوه بحيث يتلاءم وآراءَهم وأفكارَهم المسبقة. هذا ما حدث – وما انفك يحدث – في جميع الأديان والمذاهب الروحية والفلسفات العالية. كلنا لا يرى ولا يسمع ولا يفهم إلا ما تعوَّد رؤيته وسماعه وفهمه. إذا لم تبلغ حدة وعينا درجة معينة يستطيع عندها أن يستقبل الإلهام فلن نتلقى أي إلهام يأتينا من الخارج.

* * *

نحن جميعًا، من حين لآخر، مستقبلون لشيء ما – وهذا أمر جيد: نتلقى الإلهام من السير في مكان جميل، من التماس مع إنسان ناضج روحيًّا، من التفكر في حقيقة عميقة تَردُ في كتاب قيِّم، من الجلوس هنيهات في مكان حرام جميل غنيٍّ بالطاقة؛ لكن إلهامنا في هذه الحالات إلهام مؤقت، سريع الزوال. ثم إننا يجب ألا نكثر من الجلوس في "أماكن العبادة"، لأننا سرعان ما ندمنه نفسيًّا إدماننا على التبغ والمسكرات، بحيث يغدو في نظرنا مألوفًا، فيتلاشى "سحرُه" بعد مدة. أما إذا كنا منفتحين، لا على أشياء بعينها، لا على اللحظات التي نقضيها في معبد أو غابة، ولا على كلام شخص بعينه، – إذا كنا في حال انفتاح على السر، فهذا استيقاظ لوعينا لا يحول ولا يزول. قد تتفاوت درجة الانفتاح من شخص لآخر ومن سنٍّ لآخر، لكنْ مهما تكن درجة يقظة الوعي فإن الطاقة تسري. قد نصرف هذه الطاقة، لكنْ بما أنها تسري من تلقاء ذاتها فإنها تتجدد تجددًا مستمرًّا. فلنستمع إلى ج. كريشنامورتي:

لدى غالبيتنا القليل جدًّا من الطاقة؛ ونحن نصرفها في النزاع، في الصراع. نبدِّدها بطُرُق شتى – لا نبددها جنسيًّا وحسب، بل إن جزءًا كبيرًا منها يُهدَر في تناقضنا وفي تجزئة نفوسنا التي تجلب النزاع. والنزاع في الحاصل هو هدر كبير للطاقة. "الڤولتاج" يتناقص. وليست الطاقة الفيزيائية فقط ضرورية، بل الطاقة النفسية أيضًا، مترافقةً مع ذهن يكون عظيم الجلاء، منطقيًّا، سليمًا، غير ملتو، ومع قلب خال من أي شعور كان، من أي انفعال، لكنه مترع بفيض من المحبة والرحمة. وهذا كله يعطي حدةً وشغفًا عظيمين. وأنت في حاجة إلى ذلك، وإلا فلن تستطيع أن تقلع في رحلتك إلى ذاك الشيء الذي يُسمَّى التأمل. تستطيع أن تجلس متربعًا، وتتنفس، وتفعل أشياء عجيبة، لكنك لن تبلغه أبدًا.

نحن نصرف الكثير من الطاقة في أمور تافهة شتى: النزاع، بالطبع، هَدْر للطاقة؛ ولكن إلى جانب النزاع، هناك مَلاهٍ وتَسالٍ عديدة تنهك قوانا: التوافه التي نتفوه بها، الوقائع اليومية الطارئة التي تأسر أذهاننا، ثرثرتنا الذهنية التي لا تتوقف، وهلم جرًّا. إذا فحصنا عن حياتنا اليومية مخلصين، لا بدَّ لنا من رؤية هَدْر الطاقة هذا: الرغبات الصغيرة (كأنْ يطمح المرء إلى تبوأ منصب ما)، أو السعي في نيل التقدير والامتنان، أو ربما الرغبة في لفت نظر أحدهم/إحداهن، الاهتمام لنيل المزيد من الاعتراف بإنجازاتنا، إلخ – وما أكثر الأشياء السطحية التي تستقطب انتباهنا! هذا كله طاقة مهدورة. النزاع، إذن، يستهلك مقدارًا هائلاً من الطاقة؛ وكذلك الاحتكاكات الطفيفة حتى: سوء الفهم، الامتعاض، التعصب للرأي، القلق، المخاوف، الهموم، إلخ. هذا النوع من الطاقة (إذا جاز لنا أن نعتبره "طاقة" أصلاً!) لا يمت إلى الروح بصِلة، لأنه مولِّد لما نتواضع على تسميته بالشقاء؛ إذ إنه يحُول بيننا وبين تذوُّق شيء من السلام والطمأنينة والسعادة. أما الطاقة الروحية فهي، على العكس، تجلب مواهب الروح، حسَّ التناغم، العطف على الآخرين، النقاء، الجمال، الحكمة…

فكيف يمكن لطاقة من طبيعة روحية غير محدودة، لا تزال خبيئة، كامنة، أن تنبجس وتسري سريانًا حرًّا؟ ربما كان علينا أن نبدأ بالتملص من قبضة الجسم وإحساساته. نحن نحسب أن الذهن المشدود إلى المخ هو نحن، فنتماهى معه identify with it. ألا يجدر بنا أن نتساءل إنْ كان الأمر كذلك فعلاً؟ إن هذا الذهن الأدنى (الفكر، وهو غير العقل) هو الذي يحثنا على الاستزادة، على الصراع، فيزرع فينا الخوف. لماذا؟ لأنه يقوم على الذاكرات، على الخواطر الماضية، على الأفكار المسبقة، على الرضوض النفسية المؤلمة التي نخاف أن تتكرر. أما حين تنفد هذه الذاكرات العقيمة والأحكام المسبقة فتتم ولادة جديدة. كل طفل وليد فهو بريء وفاتن لأن الذهن المشدود إلى المخ ليس عبئًا عليه بعد. هذا الذهن ليس قطعًا ينبوع الطاقة الروحية الحق، بل قد يصبح، في أحسن الأحوال، مركَبة vehicle متقنة من مركَباتها؛ غير أنه حاليًّا يستقطب انتباهنا حتى التماهي معه. فهل نستطيع عن التماهي معه فكاكًا؟

تحذِّرنا السيدة بلاڤاتسكيا من أن إشباع النزوات الحسية، وحتى الذهنية، يقود، لا محالة، إلى فقدان القدرة على التمييز. النزوة الحسية غالبًا ما يعزِّزها الذهنُ الأدنى بأن يهيئ سُبُل إشباعها. ففي لحظة الالتذاذ الحسي يتدخل الذهن قائلاً: "أريد المزيد، لا أريد لغيري أن ينال نصيبًا أكبر من نصيبي!" أو حين نطلب الشكر والامتنان على عطاء، نحس بجرح إذا لم يقدِّر الآخرون ما نفعل. فهل نستطيع، على سبيل التمرين، أن نعيش مدة ما من غير أن يشكر بعضُنا بعضًا ونرى ما يحدث؟ ثم لماذا لا نعتبر العطاء فعلاً طبيعيًّا تلقائيًّا؟ لماذا نقتات بما يقول الآخرون عنا؟ لماذا نحرص دومًا على اعترافهم بجدارتنا؟

حسب المرء أن يولي هذه اللحظات من التفكر شيئًا من الانتباه حتى يتبين له في سهولة فراغُ إشباع الرغبة الأرعن من أي محتوى ذي بال. لكنه، عندما يتراخى انتباهُه، سرعان ما "ترجع حليمة لعادتها القديمة"! حس التمييز (بالسنسكريتية: ڤيڤيكا viveka) هو الفحص الدائم عن محتوى أذهاننا وفرز الزائف فيه من الحقيقي نسبيًّا؛ إنه الوضوح الداخلي فيما يتعلق برغباتنا وانفعالاتنا وملذاتنا الحسية ومتعنا الذهنية، وبالتالي، فهم مؤدى العلاقات والعبارات والخبرات من كل نوع.

* * *

في مستهل أوپنشاد إيشا آيةٌ تقول إن "هذا" – أي عالم التجلِّي، الطبيعة، كل ما يتحرك ولا يتحرك، الصخور، الأرض، الجوامد، ما هو غير حي في الظاهر، كما وكل ما يبدو حيًّا ومتحركًا، أنتم، نحن، البعوضة والفيل، كل شيء، – هذا الكون كله مقام قدرة إلهية، طاقة روحية، حاضرة في كل مكان، من غير حدود. وتضيف الأوپنشاد: "اختبرْ بتعفف" – أي لا تندفع للاستيلاء على الأشياء، ماديًّا أو ذهنيًّا؛ فأنت لا تملكها، بل هي مقام "ذاك" الآخر، الحقيقة المطلقة. فلا نكوننَّ جشعين أو نفعيين، كثيرًا أو قليلاً، وبذا يمكن لنا أن نتماسَّ وهذه الطاقة اللانهائية. ومع أن أغلب الناس في عالمنا المعاصر قد لا يستسيغون هذه النصيحة لأنها، على حدِّ زعمهم، تقيد "حريتهم"، لا مناص من وجود خصلة التعفف هذه في السلوك. لقد كتبت السيدة بلاڤاتسكيا:

التأمل، العفة، التزام الواجبات الأخلاقية، الخواطر الحميدة، الأعمال الصالحة، الكلام الطيب، كما وحسن النية حيال الجميع ونكران الذات، هي الوسائل الأنجع لتحصيل العلم والاستعداد لقبول الحكمة الأسمى.

لا يجوز للمرء تجاهُل الحياة الأخلاقية إذا كان يتوق إلى إيجاد هذه الطاقة اللانهائية، منبع كل إلهام. فالحياة اللاأخلاقية هي التعبير عن الذهن المشدود إلى المخ، هي الوعي السطحي للأنيَّة الظاهرة ego، بذاكراتها ومعرفتها ورغباتها وملاهيها، بصلفها ومخاوفها وأمانيها. لذا فعلى حسِّ الأنية (بالسنسكريتية: أهمكارا ahamkāra) أن يتراجع ويُخلي الساحة لشَساعة الحياة. وبحسب كريشنامورتي، لا تأمُّل ثمة من دون "استقامة" rectitude. فلنستعمل الكلمة التي نستحبُّها: التعفف، الاستقامة، الحياة الأخلاقية، الانضباط، ضبط النفس، إلخ – فالكلمة الدالة غير مهمة، بل مدلولها.

لماذا تصر كل مدرسة روحية جديرة بهذا الاسم على التزام الأخلاق؟ – ولا نقصد هنا الأخلاق الاتباعية أو الأعراف السائدة، لأن أخلاقيات شعب بعينه، في عصر أو مجتمع بعينه، قد لا تكون "أخلاقية" فعلاً، بل مجرد "تسوية" تلائم مصلحة وقتية. ما يعنينا هنا هو الأخلاق الحقيقية. فما هو الأخلاقي حقًّا؟ الأخلاقي حقًّا هو ما يمت بصلة إلى وحدة الحياة، إلى اختبار عدم الفصل بين أشكال الحياة جميعًا. تعليم الـراجا يوگا rāja-yoga ("يوگا الملوك") يعتبر الأخلاق أساس التأمل السليم، ولهذا السبب يوصي باتباع ياما yama ونياما niyama (النواهي والأوامر الأخلاقية) قبل الدنو من مجال التأمل. كذلك فإن الدرب المثمَّن إلى الخلاص من الألم في البوذية يقتضي اتباع "العيش السوي"، أي اتباع وسائل الارتزاق الصحيحة التي لا تضر الآخرين، وكذلك "التفكير السوي" و"الكلام السوي" إلخ. وما عظة المعلم الناصري الكبرى على الجبل[4]، التي نفذت إلى قلب المهاتما گاندهي مباشرة[5]، غير زبدة الأخلاق الحقيقية فيما يتعدى الثقافات والأزمنة.

وإذن، فمن غير مراقبة النفس والتزام السلوك الأخلاقي المستقيم، يغدو بلوغُ الطبيعة الروحية العميقة ضربًا من المحال. إذا ظننَّا، على غرار كثيرين، أن التأمل منفصل عن الحياة اليومية فإن مآلنا الإخفاق لا محالة. فهؤلاء يتعاطون "التأمل" عشرين دقيقة صباحًا، ومثلها مساءً، يكررون ألفاظًا بعينها لتهدئة الذهن فينة، ثم يعودون إلى حالهم المزرية بقية الوقت. لكن التأمل الحق هو التماس مع ينبوع الطاقة العميق الكامن في طبيعتنا الروحية. فهل يتاح لنا مثل هذا التماس إذا بقينا أسرى شخصيتنا الظاهرة؟

لا بدَّ لنا من أن نتذكر أن الحياة اللاأخلاقية، السطحية، للذهن المشدود إلى المخ هي علة اضطرابات نفسية لا حصر لها. فلا ننشغلنَّ بهذه العلة المزمنة – علة "الأنية" – لأن من شأن "الأنا" أن تتسلَّل من كل ثغرة في التماسك الداخلي وأن تكدِّر صَفْوَ كل شيء. حين تصادف مرشدًا حقيقيًّا، على سبيل المثال، يعتمل فيها نزاع قتَّال، ترمز إليه شخصيتا كلٍّ من يهوذا الإسخريوطي وديڤدتَّا (التلميذ الذي تآمر على البوذا). بذا فإن الأنية تحوِّل كل شيء إلى مشكلة وتختلق خلافًا حيث لا خلاف، بل مجرد اختلاف. إذا ظللنا على إصرارنا على إهمال هذا الأمر، وشئنا في الوقت نفسه تحقيق السلام والصمت عبر التأمل، فإننا في الواقع نطلب المحال. الأنية والصمت الداخلي كفرسَي رهان، لا يلتقيان. ومنه فمن دون الأخلاق، ثمرة الصمت الداخلي، يستحيل التأمل، أي سلوك السبيل إلى هذه الطاقة العميقة المتجددة.

نسوق مثالاً على ذلك مقطعًا من حوارية مأخوذة من فيلم لقاءات مع رجال أفذاذ للمخرج پيتر بروك (1979)، عن سيرة ذاتية بالعنوان ذاته للمعلِّم الروحي القفقاسي جورج إيڤانوڤتش گورجييف، جاء فيها:

الشيخ الفقير الهندي: گوگو… گوگو… لقد كدحتَ وتألمتَ سنوات طوال، لكنك لم تعرف قط كيف تشتغل على جعل رغبة فكرك تصير رغبة قلبك.
الأمير لوبوڤدسكي:
مَن أنت؟! كيف تعرفني إلى هذا الحد؟!
الشيخ الفقير الهندي: أية أهمية لِمَن أكون أو ما أكون! ألعل الفضول هو علة إخفاق حياتك الكبرى؟ هل هو من القوة بحيث لا تزال تريد أن أشرح لك مَن أنا وكيف أعرفك؟
الأمير لوبوڤدسكي:
… أجل، يا أبتِ، أنت على حق. لقد شهدتُ عجائب كثيرة وسعيتُ في تعليلها، لكن هذا لم يقدني إلى فهم حقيقي. أجل، أنا خاو… لقد فات الأوان… ليست بي رغبة فعلية في الحصول على جواب عن هذا السؤال… أرجوك، صادقًا، أن تغفر لي.
الشيخ الفقير الهندي: لعل الأوان لم يفت بعد. إذا شعرت، بكيانك كله، أنك خاو حقًّا، عندئذ أنصح لك أن تحاول كرَّة أخرى. وسوف أساعدك، على شرط واحد: أن تموت واعيًا عن الحياة التي عشتَها حتى الآن، وأن تمضي إلى المكان الذي سأدلك عليه.

* * *

في عالمنا المعاصر النفعي، آلت فكرة التعفف أو ضبط النفس إلى الإهمال. لكننا إذا فعلنا دومًا على غرار ما يفعل العالم من حولنا، فنحن ضالون روحيًّا لا محالة. علينا، بالطبع، أن نكتشف المقصود من "ضبط النفس". ضبط النفس ليس قطعًا قهرَها أو قمعَها. إن كل جهد ينحو نحو تجاوُز الأنية الظاهرة إلى الإنسان المتحقق يستثير حتمًا مقاومة، لأن مجرد وجود قرار واع بمعرفة النفس يعاكس "الثقالة" la pesanteur (في اصطلاح سيمون ڤايل) الأصلية الملازمة لكل حركة طبيعية. إن الذاكرات تشتمل أيضًا، في بُعدها اللاواعي الجمعي (ك.گ. يونگ)، على ذاكرة الطبيعة الموروثة فينا، بكل ما فيها من غرائز عمياء ("عمياء" بمعنى أنها آليات لا تنقاد لسيطرة الأنية) مافتئت الطبيعة تلبيها منذ تشكُّل أول خلية حية حتى اليوم. لذا فإن كل جهد مبذول لقهرها والتحرر من سطوتها يجابَه بمقاومة مساوية له ومعاكسة في الاتجاه.

هي ذي حوارية ثانية من فيلم لقاءات مع رجال أفذاذ يخاطب فيها الشيخُ متقدِّمُ الدير گورجييف الذي وصل إلى الدير بعد مكابدة عناء طويل:

الشيخ المتقدم: لقد وجدتَ مكانك، يا بني. لقد جئتنا كالحَمَل، لكن لا تنسَ أن فيك ذئبًا أيضًا. أصغ: هل ستكون قادرًا على السماح لهاتين القوتين المتضادتين أن تتعايشا فيك؟ أصغ إليَّ جيدًا، فهذا لن يحصل من تلقاء ذاته. ولا يكفي المرء أن يتفكر فيه، أن يحلم به، أن ينتظر. فالذئب، في أية لحظة، قد ينقض على الحمل ويفترسه. […]

من هنا فإن السيطرة على النفس من قبيل الوهم لأن حيل النفس اللاواعية أدهى بكثير من ذكائنا الذهني. لذا لا يجدي على المدى الطويل قهرُ النفس على فعل شيء، – حيث كلما كان القهر أقوى كان ضغط المقاومة أشد والإخفاق أكثر إحباطًا، – ويجدي "استئناس" الأنية بقبول وجودها وعقد صداقة حميمة معها.

من هنا لا توصي الحكمة أبدًا بإرغام النفس على القيام بأي أمر أو بتبكيتها على كسل أو تقصير. فليبدأ المرء بالحري، كما ينصح گورجييف، باختيار هدف صغير جدًّا يعاكس عادةً من العادات المستحكمة فيه، وليوجِّه نحوه طاقته، في رفق وانتباه، وليكرِّس في سبيله كلَّ ما بوسعه، حتى إذا أفلح في بلوغه تذوَّق شيئًا من فعل الإرادة الحقيقية – صفة الإنسان – وخرج عن تأثير الآليات الطبيعية وتكرارية استجاباتها الغريزية. وبالتمرس على هذه العملية، تتحول الطاقة المختزَنة من هذا الجهد إلى "طبيعة ثانية" تحيِّد ضغط الطبيعة الأولى الموروثة من غير أن تستثير فيها مقاومة تُذكَر. الفرس البرية الأصيلة صعبة المراس في البداية، لكنها حين تُستأنَس تصير رفيقة مخلصة لصاحبها، تستجيب لأقل أوامره وتتفانى في خدمته. النفس هي هذه الفرس.

* * *

الانتباه! – كلمة تُجمِع عليها تعاليمُ الحكمة كلها، قديمها وحديثها. ينمو الانتباه من خلال مراقبة هادئة لكل ما يجري، داخليًّا وخارجيًّا. وليس المقصود هنا المراقبة المحمومة للنفس، بحيث تصير وحدها محلَّ الانتباه، لأن هذا يؤدي إلى حالة من الانكفاء المتشنج. يجب علينا ألا نفقد قدرتنا على الاسترخاء والارتياح والفرح والتناغم. ومنه فإن الأسلوب الأسلم هو الاكتفاء بالرصد العام، للداخل والخارج في آنٍ معًا. فالطبيعة البشرية ليست قابلة للدرس بالنظر إلى النفس مواجهةً وحسب، وإنما بالنظر إلى الطبيعة البشرية بعامة أيضًا. يمكن للمرء أن يتعلم الكثير من رصد الآخرين في العلاقة، شريطة أن يرصد رصدًا غير شخصي، رصدًا موضوعيًّا، لا بأن يقول، مثلاً: "انظروا إلى فلان، إنه غيور!"، بل برؤية آلية الغيرة كيف تعمل فيه؛ فإذا كانت تعمل على هذا النحو في فلان من الناس فقد تعمل فيَّ على النحو نفسه أيضًا. قد لا تكون الغيرة ظاهرة فيَّ مؤقتًا، لكنها في موقف آخر، أو في تجسد آخر، مادام حسُّ الأنية طاغيًا، ستظهر حتمًا. إن الأهواء والطباع الشخصية كلها ليست إلا فروعًا من شجرة واحدة هي حس الأنية. فقد لا أكون اليوم جشعًا لأنه اتفق لي أن أكون في وضع ميسور، كل ما أرغب فيه متاح لي؛ لكني حالما تنقلب بي الحالُ حتى يُبرز جشعي ناجذيه! لذلك، حين نرصد الآخرين، لا يجوز أن نشير إليهم بالإصبع، بل أن نتعلم منهم ما يمكن أن يحدث لنا نحن أيضًا، أن نتعلم كيفيةَ عمل الذهن وسهولةَ خداع المرء نفسَه. وفي الوقت نفسه، هناك الرصد الهادئ لنور الشمس، للظلال، للعشب، لكل ما هو خارجي وداخلي. فالرصد يشحذ حدَّة الذهن، يبقيه متيقظًا.

* * *

الإصغاء كذلك هام جدًّا، لأنه الوسيلة إلى انفتاح الذهن وإفراغه من محتواه. الأصح هنا من قولنا: "أصغي إلى الموسيقى" – والإصغاء إلى الموسيقى سهل نسبيًّا – هو تعلُّم محض الإصغاء: فن الإصغاء إلى كل شيء – إلى الحياة السارية في الشجرة، إلى كلام الآخرين وإلى المسكوت عنه فيه خصوصًا. فالانتباه يتضمن الإصغاء التام. في مدرسة فيثاغورث في كروتونا، كان المريد المستجد يتعلم، طوال مرحلة تحضيرية تصل مدتها إلى خمس سنوات، لَجْمَ لسانه تمامًا، فيصبح من "المستمعين" akousmatikoi، يحرَّم عليه النقاشُ ورؤيةُ المعلم ومخاطبته مواجهةً، فلا يجاز له الاستماعُ إليه إلا من وراء ستارة، ويؤمَر بالتفكر فيما يصغي إليه وما يتلقاه منه ومن المريدين الناضجين من تعليم[6]. وكان مثل هذا التقليد متبَعًا في المذهب اللاثنوي (ڤيدنتا Vedanta) الهندي أيضًا. ذلك أن الإصغاء التام يُفرغ الذهن من محتواه. والإصغاء في انتباه هو الإصغاء إلى أعماق النفس؛ وهذه يجب الإصغاء إليها لا بالعقل وحسب، بل بالقلب والعقل جميعًا: فهذا التزاوج السرَّاني بينهما في الإصغاء التام هو الذي يمكِّننا من حدس المصدر الذي يأتي منه الكلام ومن معرفة صحة التحقق الروحي للمتكلِّم.

نسوق، بهذا الصدد، حوارية ثالثة من لقاءات مع رجال أفذاذ بين گورجييف والپروفسور سكريدلوف، من جهة، وإخوة من أخوية "سارمُنگ" العالمية، من جهة ثانية:

الأب جيوڤاني: الإيمان لا يوهَب للإنسان. فهو ليس ثمرة الفكر. الإيمان يولد من المعرفة المباشرة. على سبيل المثال، إذا توسل إليَّ أخي نفسه أن أعطيه عُشر فهمي لما استطعت. ذلك أنه يعدم المعرفة والخبرة اللتين اكتسبتُهما إبان حياتي. فكأنك تريد أن تُشبع أحدهم خبزًا بالنظر وحسب!
أحد الإخوة:
ثمة قانون: "خاصية ما يُفهم تتوقف على خاصية المتكلم".
الأب جيوڤاني: في أخويتنا أخَوان: أحدهما يدعى الأخ عقل، ويدعى الآخر الأخ سيز. وهما، مرة أو مرتين كلَّ سنة، يجيئان لزيارتنا، ومجيئهما دومًا حدث عظيم.
أخ آخر:
عندما يتكلم الأخ سيز تخال إنك تسمع شدو طيور الجنة. أما كلام الأخ عقل فهو يكاد أن يكون عكس ذلك: إنه يتلعثم، ولا تتميز كلماتِه. لكنْ بمقدار قوة الانطباع الذي يخلِّفه الأخ سيز فإنه سرعان ما يتلاشى ولا يبقى منه شيء. أما الأخ عقل فهو يكاد لا يترك انطباعًا، لكن ما يقوله يخترق القلب وينحفر فيه.
أخ ثالث:
وهكذا استنتجنا أن مواعظ الأخ سيز مصدرها فكره ولا تؤثر سوى في فكرنا، في حين أن مواعظ الأخ عقل مصدرها كيانه وتؤثر في كياننا.
الأب جيوڤاني: الفكر والمعرفة شيئان متباينان جذريًّا. لذا على المرء أن يطلب المعرفة. فهذه وحدها تقود إلى الله ربِّنا.

في أوپنشاد بريهادارَنيَكا، في أثناء سرد قصة، تُطرح أسئلةٌ من نوع: "كيف يمكن اكتشاف الحق المستتر، الذات الأبطن من كلِّ شيء، الآتمن؟" ويجيب الحكيم المرشد: "يوعى الآتمن Ātman من خلال النظر والسماع والتفكر والتأمل." باتِّباع هذا التعليم في الحياة، في تؤدة ورفق، يأتي الصمت من الداخل. وإذ ذاك قد يتفق للمرء أن يتحدث مع صديق، لكنه يحيا من الداخل في صمت مستتب. ومع المراس، يصير استتباب فترات الصمت أيسر وأكثر طبيعية وتلقائية، ويعكس صمتُ اللسان صمتَ الذهن الأدنى المشدود إلى المخ. إنه الصمت عن الذات المنفصلة، الصمت المحض الذي يُدعى أحيانًا في الأدبيات الروحية بـ"الصمت الأكبر".

* * *

التفكر في مسائل الحياة العميقة جزء من العمل الذي يفضي إلى التأمل. فالمسائل العميقة ذات خاصية كلِّية، والنظر فيها وتدبُّر معانيها يضفي على الذهن صفة مختلفة. لكن معظمنا، حين يهتم لمشكلة جماعية، أو حتى لقضية عالمية، غالبًا ما يفعل ذلك من منظار شخصي وحسب. هناك فارق كبير بين سؤالي: "كيف يمكن لي أن أخلص من الشقاء والأسى؟" وبين سؤالي: "ما السبيل إلى الخلاص من الألم؟" إذا كان ثمة سبيل إلى الخلاص فهو سبيل لجميع الناس؛ ولهذا يجب على مقاربتنا للمسألة أن تكون تفكرًا حقيقيًّا فيها، لا مجرد تفتيش عن مخرج "شخصي" ضيق.

حين أتت امرأة شابة إلى البوذا ضارعةً أن يعيد الحياة إلى ابنها الميت، قال لها: "جيئيني بحفنة من بذور الخردل من منزل لم يمت فيه أحد." وبعد بحث مُضْن، عادت إليه خالية الوفاض. لا، لم يكن البوذا عديم الإحساس، بل كان يشير عليها بالنظر إلى المشكلة من منظار كلِّي، لا من منظارها هي، لا بوصفها "مشكلتها" هي فقط. مشكلة الموت هي مشكلة الافتراق عمَّن نتعلق بهم، أو بالأدق، عن صورتنا عنهم، وهي مشكلة عالمية. فإذا خبرنا الحياة في يقظة أعمق وأشمل، في حساسية ووضوح داخلي أكبر، تمتعنا بغنى داخلي أوفر، بطاقة وبإلهام لا ينضبان، لأن هذين من خواص الذهن المتجدد دائمًا. التجدد الداخلي شيء خارق! وحين يتجدد الذهن يمتلئ بالحيوية ويتصف تلقائيًّا بالفضيلة والطيبة والرحمة.

فلا نكتفينَّ من الأفكار بقشورها الخارجية، لأن الفكرة العالية تحتمل التعمق حتى تخوم الصمت، حتى الاستغراق التأملي. كثير من الناس يطالبون بـ"تعلُّم" التأمل؛ ولعل بينهم أناسًا متعطشين فعلاً إلى الحياة الروحية. ولكن ما المقصود بـ"التأمل" فعلاً؟ وهل يمكن "تعليمه" أو "تعلُّمه"؟

هذا ما سنحاول أن نتلمسه في جزء ثان من هذا المقال[7].


[1] Tutor 1: What does it feel like when you’re dancing?
Billy:
Don’t know. Sorta feels good. Sorta stiff and that, but once I get going… then I like, forget everything. And… sorta disappear. Sorta disappear. Like I feel a change in my whole body. And I’ve got this fire in my body. I’m just there. Flyin’ like a bird. Like electricity… Yeah, like electricity.
From Billy Elliot (2000), by Stephen Daldry

[2] القرآن الكريم، سورة ق 16.

[3] رسالة القديس بولس إلى الغلاطيين 2: 20.

[4] راجعْها في إنجيل متى 5-7.

[5] راجع: قصة تجاربي مع الحقيقة (سيرة المهاتما غاندي بقلمه)، بترجمة منير البعلبكي، بيروت، طب 7: 2007، ص 89.

[6] راجع: أكرم أنطاكي، "أبيات فيثاغوراس الذهبية"، معابر، الإصدار الثاني: http://www.maaber.org/second_issue/spiritual_traditions_1.htm.

[7] راجع الجزء الثاني، سماوات: http://samawat.org/articles/source_of_spiritual_energy_2_dna.

عمل بلا نهاية – ديمتري أڤييرينوس

عمـل بلا نهـاية

ديمتري أڤييرينوس

منزلة الوسيلة من الغاية كمنزلة البذرة من الشجرة.
المهاتما گاندهي

الفعل الذي يحولنا كبشر، الذي يجلب التجديد، الافتداء،
التحول، – سمِّه ما شئت –، مثل هذا الفعل لا يتأسس
على فكرة. إنه فعل بصرف النظر عن تتابع الثواب والعقاب.
مثل هذا الفعل فعل لازمني، لأن الذهن، الذي هو السيرورة
الزمنية، السيرورة الحسابية، السيرورة التجزيئية،
العازلة، لا يتدخل فيه.

ج. كريشنامورتي

ما برح العمل في حياة الإنسان مشكلة. ما برح واحدنا غير قادر على العمل في بساطة، وبالتالي، على حسم مشكلة العمل. كل فعل يقوم به يستغرق فكره، أهواءه، وذهنه. وبما أن هذه متداخلة في ساحة وعيه، فإن العمل يتضمن مسألة الصواب والخطأ، مسألة النتائج الطيبة والنتائج السيئة، ومسألة الغايات والوسائل. وعندما يعيد واحدنا النظر فيما فعل، ينتابه أحيانًا شعور بالندم على أخطاء ارتكبها؛ لكنه في أغلب الأحيان يهنئ نفسه، واجدًا الأعذار والمسوغات تارة، ملقيًا بالمسؤولية أو التبعات على الآخرين أو على "الظروف" تارة أخرى.

ذاكرة الأفعال الماضية تستحضر خواطر وانفعالات عديدة. فكأن لدى كلٍّ منا، في رأسه، مقبرة سرية يحرص عليها، فيوقظ أمواته، بين الفينة والفينة، من سباتهم، يُسِرُّ إليهم بمكنونات صدره، وينتزع منهم كلمات هي أصداء لرغباته، قبل أن يعود ويُلحِدهم من جديد! هناك، بين أشباح الماضي، نعيش جلَّ تلك الفسحة التي ندعوها "العمر".

والإنسان ينظر أيضًا إلى الأمام. إنه يخلع العمل على المستقبل، متخيلاً نفسه قائلاً أو فاعلاً أشياء معينة، متغلبًا على الآخرين، فائزًا بالنجاح، مصححًا الأمور أو جاعلاً إياها مريحة له. وهذا التصور للعمل في مخيِّلته ينطوي هو الآخر على حركة ذهنية معقدة: فقد يغشاه خوف من العواقب المحتملة لاتخاذ مسار معين في العمل؛ أو قد يحدوه أمل وترقُّب؛ أو قد يتناوب هذان الشعوران. وبما أن المرء آمِل حينًا، خائف أحيانًا، ليس ثمة عمل بسيط بساطة الحياة. فما يظنه نتائج طيبة أو سيئة يتوقف على خواطره وانفعالاته: عندما يكون احتمال تلبية رغباته واردًا فإن النتيجة "طيبة"، وإذا خاب أمله فإن النتيجة "سيئة". النتيجة، إذن، مرتبطة بالنوازع في الداخل، بالأمزجة العابرة العديدة، بالرغبات، وبأماني التحقُّق الذاتي. ومنه، فإن العمل يتداخل مع كل ما يحتدم في دخيلة النفس؛ فلا يمكن للعمل الخارجي أن ينفصل عن الشروط الذهنية والانفعالية الداخلية.

* * *

المجتمع البشري معقد؛ والعمل يعني التماشي مع ذلك التعقيد. هناك قوى لا عدَّ لها فاعلة في البيئة المحيطة بنا: التوجُّه الطائفي أو العقائدي لمجتمع معين، التقاليد والأعراف الاجتماعية السائدة، نوعية التربية التي يتم تلقينها للأفراد، الضغوط الأسرية، وهلم جرا. وهذه القوى ليست منسجمة أو متناغمة: فهي تتنازع الفرد في اتجاهات مختلفة وتضغط عليه من زوايا عديدة. والعمل يعني الاستجابة الآنية وسط هذه القوى كلها.

الفعل الصادر عن أحد الأفراد يحرض ردَّات فعل من البيئة ومن المجتمع البشري المحيط به؛ وقد تكون ردَّات الفعل، من وجهة نظره، مواتية أو غير مواتية. ومنه، يكاد التوقع المسبق لردَّات الفعل على عمل معين أن يكون متعذرًا. ومجال الفعل هو سيرورة عمل الفرد المحرِّض أفعالاً من العالم الخارجي، كما أنه سيرورة هذه القوى الفاعلة في المجتمع والمتطلبة استجابات من الفرد. ولأننا نحيا في عالم معقد، مترابط، متشابك (كما بات يعي ذلك العديد من العلماء والإيكولوجيين واختصاصيي البيئة)، ليس ثمة فعل ليس في الواقع تفاعلاً.

هناك دومًا تفاعُل، حتى مع عناصر الكون غير البشرية، لأن عملنا يولد عواقب محتمة تؤثر في الخارج، كما بتنا نتبيَّن ذلك الآن. إننا، على سبيل المثال، ندمر أشجار غابات العالم – رئة الأرض – بسرعة مخيفة، وأغلب الناس ليسوا على دراية مباشرة بعواقب ذلك؛ نسبة ثاني أكسيد الكربون في الجو تتزايد، بينما تتناقص كمية الأكسجين، بحيث سوف يصل بنا الأمر قريبًا إلى عسر في التنفس؛ إلخ.

لسنا على ترابُط مع البيئة الطبيعية وحسب، بل ومع البيئة البشرية كذلك، مع الخواطر والانفعالات، ومع "جو" العالم بأسره. لذا فإن الفرد كثيرًا ما يجد نفسه مكرَهًا على اتخاذ توجُّه بعينه بتأثير الجو النفسي المحيط به، بسُحُب الخواطر والمشاعر السابحة حواليه، بـ"الهالة" الوطنية أو القومية، إذا جاز التعبير، أو بالمناخ الطائفي الذي يطوِّقه. فلئن كان الناس، في ألمانيا النازية مثلاً، قد قبلوا الانصباب في قالب جعل بعضهم يفعلون – طوعًا – أمورًا فظيعة، هذا ليس لأنهم كانوا مختلفين عني وعنك، بل لأن الجو السائد في بلادهم آنذاك كان يؤثر فيهم سلبًا ويدفعهم في هذا الاتجاه.

من المهم، والحالة هذه، أن ندرك بأننا نحيا في حقل معقد من العلاقات المتعددة الأبعاد – أو من السببية المتعددة multiple causality، إذا جاز القول، – لأن الحياة شبكة متواشجة من العلاقات. ومع أننا لا ندرك بحواسنا قسطًا كبيرًا من هذه العلاقات، فإن بوسعنا، إذا حرصنا قليلاً على الرصد والاستشعار، أن نتأكد أن مثل هذه العلاقات موجود فعلاً. وبما أننا جزء من تلك الشبكة الكلِّية من العلاقات المتبادلة – انفعاليًّا، فكريًّا، وعلى المستوى الحواسي أو الجسماني – فإننا لا نستطيع أن نبقى منعزلين، مهما فعلنا.

هناك وقائع معينة مثيرة للاهتمام سلَّطتْ عليها الضوءَ الأبحاثُ العلمية الجارية حاليًّا. يقال، على سبيل المثال، إننا، على كوننا نظن أننا "نملك" أبداننا وأن البدن عبارة عن واحدة قياسية، فإنه في الواقع عبارة عن مستوطنات من الكائنات الحية المجهرية غير المرئية، بحيث إن من حقنا أن نتساءل جديًّا عما إذا كان بدننا "لنا" أصلاً، أم أنه في الواقع تكتُّل من مستوطنات كائنات أخرى! وهذا يبين طبيعة العلاقات التي نحيا فيها من دون أن نعيها. لكن ثمة أمرًا واحدًا لا ريب فيه، وهو أن العزلة مستحيلة لأننا جزء لا يتجزأ من شبكة متواشجة.

والقعود عن العمل أيضًا من المُحال، لأن هناك حركة وتغيرًا مستمرَين في شبكة العلاقات. إننا قد نتذهَّن حالة البقاء "على حدة"، أو الهرب، أو التغير، لكن إمكانية السكون أو الانعزال غير واردة أصلاً. فما نتخيله هربًا إلى السكون هو في الواقع نوع مختلف من الفعل متولد عن الخوف وعن الرغبة في تجنُّب شيء ما خارجنا أو داخلنا؛ وهذه الرغبة في الهرب تجعلنا ننكفئ على أنفسنا ونزعم أننا نستطيع أن نتنحى جانبًا. لكن الفعل الناجم عن الخوف أو عدم الأمان ليس قعودًا عن العمل. هنا نتذكَّر الآية الشهيرة في الـبهگڤدگيتا:

ولا حتى لبرهة قصيرة يمكن لأحدهم أن يلبث قاعدًا عن العمل؛ كل واحد منقاد حتمًا للعمل بفعل الخواص المتولدة عن الطبيعة.

* * *

أذهاننا نتاج لمؤثرات لا عدَّ لها… هناك أولاً تأثير البيئة: الذهن يتغير بحسب ما إذا كنا في بيئة صعبة أو أخرى سهلة. فالذين يعيشون في أرض خصبة قد يميلون إلى الكسل: حسبهم أن ينثروا البذار بلا اكتراث فينمو المحصول من تلقاء ذاته.

هناك أيضًا عوامل البيئة البشرية: موروثنا العرقي يَسِمُ أذهاننا باستعدادات وبميول معينة. هناك، على سبيل المثال، التصنيف العريض المطروح (المبالغ فيه قطعًا) القائل بأن الإنسان الغربي ميال بطبعه إلى الموضوعية objectivity، في حين أن ذهن الشرقي أميَل إلى الذاتية subjectivity. لكن الخصائص العرقية، تأثير التعليم، نمط التربية الذي يُنشِئ عليه الوالدان أبناءهما، التأثير المبكر للمدرسين، إلخ – هذه العوامل كلها تسهم بقسطها في تشكيل الذهن. يقال إن الطفل في سنيه الأولى، حتى قبل أن يتعلم الكلام، يكون قد تشرَّب أنماطًا متنوعة من المواقف والسلوك. فالوالدان الحريصان حرصًا مَرَضيًّا على أن يصير طفلهما "ناجحًا" يلقِّنانه – وهو بعدُ أصغر من أن يتكلم أو يقرأ – كيف يصير تنافسيًّا. ومنه فإننا، على غير علم منا، مشروطون، مقيَّدون، منذ حداثة سنينا.

إلى جانب كل ما تقدَّم، فإن تجاربنا السابقة، المصاعب التي قاسيناها، الملذات التي تمتعنا بها وردَّات فعلنا عليها، رغباتنا وخيباتنا، إلخ، تؤثر في الذهن تأثيرًا لا ينقطع. فهي، وغيرها من العوامل النابعة من الذهن نفسه، تلون الذهن وتوجهه: "لون الماء من لون الإناء"، كما يقول ابن عربي. كلما قال واحدنا، على غير تمعُّن، "هذا عقلي"، "هذا أنا"، "هكذا أشعر"، فهو لا يعي أن شعوره ليس بالضرورة شعوره فعلاً، بل هو ما تشكَّل في ذهنه، أو بالأدق، ما تقولب ذهنُه على الشعور به من خلال مؤثرات شتى، ليست حميدة كلها. الذهن نتاج العديد من العوامل التي تشكِّله، تقلِّصه، وربما تختزله إلى جملة إشراطات قاتلة. ونحن، إذ لا نعي هذا الخطر، نتصرف ونحاول أن نحرز نتائج – نصنِّفها إلى "طيبة" أو "سيئة" – من شأنها أن تستجلب سلسلة من العواقب الأخرى غير المتوقعة، وذلك لأننا نحيا في حقل من السببية المتعددة.

بذا فإن النتيجة هي عاقبة عملية تشكيل أو قولبة (هي غالبًا مشوِّهة) يتعرض لها الذهن؛ وهي أيضًا نتاج ماضيه: الهدف يُخلَع على المستقبل، لكن مصدره هو ماض سحيق غير مَوْعي. إننا، ونحن نفكر وحدنا، نمارس تمييزًا واختيارًا في الحاضر قد لا يكون هو الأصلح لنا. (لقد كان على حق من قال إن الآلهة إذا شاءت أن تقتص من أحدهم فإنها تستجيب لصلواته!) فعندما يسعى أحدهم لاستجلاب "خير"، قد يكون هذا من قبيل الحمق المحض ومجلبة لمآس لا تنتهي. إن الأشياء التي يسعى إليها الناس قد تبدو في الظاهر خيرة، لكنها في الواقع تُنتِج غير ما يتوقعون، وربما عكس ما يشتهون. فكما قال أفلاطون في الجمهورية، يفكِّر الجميع ويتصرف من وجهة نظر ما يعتبره خيرًا (حتى عندما يقترف أحدهم جريمة ويؤذي بعض الناس فإنه يظن أنه يجلب خيرًا على نفسه!). والنتيجة ما هي إلا استجابة لأوهام الذهن أو لقصوره عن الإحاطة بأبعاد القضية التي يتناولها كافة.

المجتمع والفرد، على ما رأينا، لا يني الواحد منهما يفعل في الآخر ويردُّ عليه الفعل. ومنه فإن ما يظنه الفرد هدفه، الغاية التي يرمي إليها، هو في الواقع ما تَبرمَج عليه ذهنُه. هناك علماء نفس ومفكرون آخرون باتوا يؤكدون على أهمية إعمال الخيار. لكن الذهن الذي شُكِّل وبُرمِج على أن يكون ما هو عليه غير قادر في الواقع على إعمال أي خيار بتاتًا. فما نظنه "خيارًا" هو شيء معيَّن سلفًا؛ إنه نتاج الشرط الحالي للذهن وللمؤثرات التي تعرَّض لها في الماضي. إن شخصًا يرمي إلى هدف بعينه يتخيل أن ذهنه يتصف بالجلاء؛ لكن هدفه، في الواقع، هو هدف المجتمع الذي يعيش فيه: اليهودي، المسيحي، المسلم، الهندوسي، البوذي، الشيوعي، كل امرئ، ضمن حدوده الضيقة، يظن أن لديه هدفًا واضحًا، لكن ذلك الهدف المفترَض، في جملة "طموحاته" و"أطماعه" (مترادفتان = رغباته)، هي جزء من "برنامجه" الذهني ليس إلا.

فما الذي يجعل النفس البشرية بهذا الاكتظاظ بالأهداف؟ – سياسية، دينية، اقتصادية، اجتماعية، شخصية، أسرية، إلخ. ألم ننشأ على الاعتقاد المشروط بأن لا مناص لنا من اتخاذ أهداف لحياتنا ومن السعي إلى بلوغها؟ لعل المجتمع الذي نوجده بمجموعنا هو الذي جعلنا نظن بأن هذا جزء أساسي من الحياة، لا تكتمل من دونه. والغايات التي نسعى في تحقيقها قد تكون مجرد نتاج للتجربة الفردية والجماعية التي قد تكون مفجعة في خيبتها. والإنسان، إذ يحصد ما يظنه عِبَر التجربة ودروسها، – الذكريات، البغض، الأحكام الاعتباطية، الرضوض النفسية، إلخ، – يولد في نفسه دوافع تحضُّه على بلوغ "غايات" محددة.

في جملة هذه الدوافع لا توجد الأفكار المتشكِّلة من جراء المؤثرات والانفعالات وردَّات الفعل المختلفة وحسب، بل والمواقف المجيَّرة لحساب المنفعة الشخصية والدافع البدائي للبقاء الذي فُطِرَ عليه الدماغ. ذلكم هو ميراثنا "الحيواني" الذي يتخذ أشكالاً معقدة عديدة في المجتمع الحديث، بما يسوِّغ طروحات الدارونية الاجتماعية. إن ما نظنه دافعًا طيبًا ليس، في الأعمِّ الأغلب، أكثر من طريقة مواربة للخلع (= الإسقاط) الذاتي self-projection. جميع الدوافع، بما أنها متناقضة، دوافع شخصية، – يحاول كلٌّ منها إنجاز شيء لمنفعته الخاصة، لمنفعة أسرته، أو فئته، أو طائفته، إلخ، – ومن شأنها أن تولِّد التوتر والنزاع.

* * *

عندما نعيش تسوقنا الدوافع وحسب لا نحصد إلا الإرهاق. فحيثما وُجِدَ طموح، رغبة في الإنجاز، هدف ينبغي بلوغه، نجد الإنهاك المتواصل. عندئذ يتبلَّد الذهن، يتثلم، إذا جاز التعبير، ويصير أقل حساسية. يقال إن أنسجة الدماغ نفسها تتدهور من جراء الإنهاك؛ وتحميل هذا الجهاز البديع الحساس بالذاكرات، بالمعلومات العقيمة، وبالانفعالات السلبية من شأنه أن يسرِّع في عملية التدهور هذه.

والذي يحدث، في أغلب الأحيان، أنه كلما اشتدت الرغبة في بلوغ غاية ما واستأثرت بالطاقة النفسية الإجمالية للفرد، تناقَص جلاء الذهن وحساسيته. عندما يوظِّف الفرد طاقته كلها في محاولة الحصول على ما يشتهيه فإنه لا يعبأ بأي شيء آخر ولا يلحظه في الأصل حتى. فـ"العلماء" الذين يقومون بأبحاث علمية متقدمة غالبًا ما يكونون غير مبالين بمجال توظيف المعرفة الحاصلة وبكيفية استعمالها لاحقًا. قد تكون النتيجة قنبلة نووية تقتل ملايين الناس، لكن مثل هذا "العالِم"، – والعلم المعرفي منه براء! – المسئول عن وضع هذه المعرفة موضوع التطبيق خدمةً لإجرام دولة منظَّم، لا يبالي بنتائج عمله. المواد الكيميائية قد تدمِّر الأرض، لكن هذا الأمر لا يخص مخترعها.

روى لنا صديق كبير تابع تحصيلاً علميًّا في البرمجة المتقدمة في الولايات المتحدة أنه تلقى عرضًا مغريًا جدًّا للعمل لصالح البحرية الأمريكية، لكنه رفض بدافع أخلاقي محض. في المقابل، عندما سأل هذا الصديق زميلاً له مهندسًا عمل لصالح الجيش الأمريكي في ڤيتنام عما ساقه إلى قبول هذا العمل، كان جواب هذا الأخير بالحرف الواحد: "إنه عمل كأي عمل آخر…" "It’s a kind of a job"!

كذلك لا يبالي الباحثون بتعذيب ملايين الحيوانات في التجارب "العلمية" التي يقومون بها. بل إن بعضهم لا يتورع عن التصريح بأن الحيوانات لا مشاعر لها! – مع أنه حسب المرء أن يراقبها، فيشعر بفرحها عندما تستقبله، بالوفاء والعطف اللذين تبديانهما، لكي يدرك بأن شعورها يفوق شعور الكثيرين من البشر ووفاءهم!

يتذكر كاتب هذه السطور سني الدراسة الأولى في كلية الطب، حيث كان الطلاب في مختبر الفسيولوجيا يلقَّنون كيفية تخريب الجهاز العصبي المركزي (الدماغ والنخاع الشوكي) للضفدع باستعمال إبرة خاصة، يلي ذلك شق قفصه الصدري وربط قلبه، بعد تحريره من الشغاف، بمقياس تذبذب oscillograph، لكي يروا بأمِّ أعينهم تأثير مادة الأستيل كولين المبطئ للنظم القلبي. وهكذا كانت الآلاف المؤلفة من تلك البرمائيات المسكينة تباد كل عام للتوصل إلى نتائج معروفة سلفًا – هذا عن الضفادع؛ أما مأساة الأرانب في مختبر الفارماكولوجيا فلها قصة أخرى!

المتعصب الطائفي، الإيديولوجي المتزمِّت، السياسي الوصولي، وغيرهم من فئات الناس، لا يقلون عن سابقيهم جورًا وقصر نظر. فعندما ننبهر بهدف ما، ويستبد بنا هاجس الوصول إليه، لا نولي انتباهنا لأي شيء آخر، فنفقد حساسيتنا وقوة ملاحظتنا وشعورنا بالأشياء وجلاء تفكيرنا.

* * *

عندما يكون الدافع قويًّا والرغبة شديدة، تصير النتيجة من الأهمية بحيث إن وسيلة الإنجاز لا تعود مهمة. هكذا جرى قتل ملايين الناس في سبيل بلوغ المجتمع "الشيوعي" الذي زعم المنظِّرون له أنهم يعملون لوضع حدٍّ لاستغلال الإنسان للإنسان! وهكذا شُرِّد مئات ألوف الفلسطينيين من ديارهم حلاً لمشكلة اضطهاد اليهود في أوروبا. إن احترام الحياة ينتفي عندما تكون النتيجة من الأهمية بما يجعل البشر والحيوانات والأشجار والجبال تصير مجرد "أشياء". لم يتورع رَشْ لمبو، اليميني الأمريكي المتطرف، عن القول، في معرض تعليقه على ضرورة حماية غابات الأرض: "الشجرة الجيدة كرسي أجلس عليه!" فالمستقبل، كما يخلعه الذهن، يتطاول بعيدًا، وكل شيء في الحاضر يضحى به في سبيل مستقبل متخيَّل.

عندما تكون النتيجة كلية الأهمية تنفصل الوسيلة عن غايتها. لقد صار الناس يشنون الحرب لإحلال السلام! فهل من شيء يفوق ذلك عبثية ولامعقولية؟! يستمر سباق التسلح (على الرغم من انتهاء "الحرب الباردة") ويتواصل تصنيع أحدث الأسلحة، بينما يتكلم الناس على السلام! ونحن الأفراد نقوم بالشيء نفسه، لكنْ على صعيد شخصي: نقاتل من أجل "تسوية" مشكلة ما. على النحو نفسه، قد يلجأ الأب أو الأم إلى معاقبة الطفل أو تخويفه من أجل مصلحته ومصلحة الجميع؛ لكن الخوف يقهر الطفل، يجعله ينكفئ على نفسه، ويغرس في لاوعيه المخاوف والبغضاء. ذلكم هو النظام المعتمَد في العديد من المؤسسات "التربوية"، في البيوت، وفي كل مكان. والأديان، هي الأخرى، تُشرِط الذهن حتى "تحرِّره"، تحرِّم عليه نعمة الشك المعرفي بحجة "التسليم" للإله! يتكلمون على "آخرة" فيها خلاص ونجاة ونعيم مقيم، ويوضع فيها حدٌّ لكدح الحياة الدنيا؛ لكن الذهن يجب أن يتعطل تمامًا في الدنيا أولاً – يصير أعمى – قبل أن "يتنعم" في الآخرة!

لقد أمست عبثية الفصل بين الغايات والوسائل وعدم أخلاقيته تصفع صفعًا: "محور الشر"، "عدالة بلا نهاية"، "الضربات العسكرية الجراحية"، "الجدار الواقي"، إلخ – كلها تسميات مدروسة تستهدف تقسية القلب بـ"تطبيع" الإجرام. فكيف يمكن للقاسية قلوبهم أن يصنعوا السلام؟! وإذا أجرى الناس تجارب مريعة على الحيوانات وصارت قلوبهم من حجر، أية فائدة يمكن للإنسانية أن ترتجي من ذلك في المآل الأخير؟!

الغاية هي الوسيلة، والنتيجة متضمَّنة في السبب، ولا يجوز الفصل بينهما. لذا فإن الـبهگڤدگيتا – كتاب الحكمة الهندية الخالد – يعلِّم بأن على المرء ألا يهتم للغاية أو للنتيجة:

شأنك أن تهتم للعمل وحده، وليس أبدًا لثماره. فلا تكوننَّ ثمرةُ العمل هي دافعَك إليه، ولا تتعلق كذلك بالقعود عن العمل.

المسألة الهامة هي كيفية إيلاء انتباهنا للعمل، وليس للغاية الواجب بلوغها؛ إذ إن الغاية غير موجودة في الواقع أصلاً. المستقبل غير موجود أبدًا بالفعل لأنه مجرد تصوُّر أو صورة مخلوعة من الذهن، وعندما نكون زمنيًّا في المستقبل فإننا في الواقع نكون في الحاضر. بعبارة أخرى، فإن الأهداف والغايات والنتائج هي من بنات مخيِّلتنا وتنتمي، بالتالي، إلى عالم غير واقعي؛ إنها خلع لبعض مضامين الذهن على شاشة المستقبل. وحدها طبيعة العمل، أخلاقيَّته (نبل دوافعه)، خاصيته، التناغم فيه أو خلوُّه من التناغم، هي الواقع الملموس. لذا فمن الأهمية بمكان أن ندرك بأن الحاضر وحده حقيقي، وبأن كل ما عداه من بنات مخيِّلتنا الشاردة.

فقط من خلال الانتباه المتأني للعمل – ولما ستكون عليه الغاية – يمكن لنا أن نفهم شرط الذهن وطبيعة الدافع (إن كان ظاهرًا ومعقولاً أو دافعًا لاواعيًا حاذقًا). عندئذ يتبين لنا أن الدافع ليس أكثر من خلع ذاتي، أيًّا كان الشكل الذي يتخذه. الرغبة في البقاء، في الأمان، في اللذة، في الإنجاز، كلها نابع من تدخُّل حسِّ الأنية ego (أهمكارا ahamkāra في حكمة الڤيدنتا الهندية) في العمل: من دون تلك الذات الصغرى، ينتفي كلا الدافع والسعي إلى نتيجة في المستقبل. لذا وحدها يجب أن تراعى خاصيةُ العمل في الحاضر، في "الآن".

جاء في الـطاو ته كنگ – كتاب الحكمة الطاوية الصينية: "تناقَصْ، تناقَصْ، واصِل التناقص." وهذا يشير إلى إنقاص المعرفة، التخفيف من تراكم التجارب التي تثقل على الذهن، – وبعبارة أخرى، القيام بما أوصى به ميخائيل نعيمه: "بدأت أتعلم يوم نسيت كل ما تعلمت." كرشنا يقول شيئًا مشابهًا في تصريحه الشهير: "العمل هو من أجل تطهير الذهن، وليس من أجل بلوغ هدف." إن جلاء الذهن لا يمكن له أن يتحقق ما لم يُولَ الانتباهُ كله للحاضر.

* * *

من مشكلاتنا أننا نظن أن انعدام الدافع يعني غياب العمل. نحسب أن العمل لا يتم إلا بوجود حافز على القيام بشيء، على بلوغ غاية أو تحقيق إنجاز. غير أن كريشنامورتي يقول: "في بلوغ الغاية موت." لكننا نتمسك بحركة معينة في الفكر والذهن: فهذه وحدها تمنحنا الشعور بأننا ننجز شيئًا ما.

غير أن العمل الحقيقي قد يكون من طبيعة مختلفة كل الاختلاف. فإذا تسنى لنا أن نرصد أن الدافع والخيار يتكونان فينا، وأن مصدرهما صرَّة الذاكرات والتجارب الماضية التي أطلقنا عليها اسم "أنا"، نجد أن المشكلة تكمن هاهنا، لا في أي مكان آخر. إذ ذاك يتحقق الجلاء في الداخل، ويزول التشويش المعتمل في الذهن، فيتحرر من الضغوط والمؤثرات والإشراطات المختلفة. وعندئذ يصير العمل الحقيقي ميسورًا.

عندما تبث زهرة أريجها، فهذا ليس "عملاً" بالمعنى العادي للكلمة، لأن هذه العملية محض تعبير عن جوهر الزهرة: هو عمل من نسق مختلف، يجمِّل حياة العابرين. وبالمثل، فإن من شأن الذهن المتحرر من كل دافع أو غرض، – الذهن الذي لا يسعى إلى نتيجة، بل يولي انتباهه كلَّه للحاضر؛ – من شأن ذهن كهذا ومن طبيعته أن يطلق في الفضاء المحيط به أريج لاأنيَّته.

ليس للإنسان المستنير من "دافع" بالمعنى العادي للمصطلح. قد يعلِّم أو لا يعلِّم؛ قد يتكلم أو يلزم الصمت؛ كيانه بحدِّ ذاته عمل، وذلك العمل بركة تطال كل شيء حي. إنه كالشمس: تشرق بنورها وحرارتها، والكل يحيا بها وينمو. وهو يفعل ذلك بمجرد أن يكون نفسه.

هناك، إذن، عمل فاعل عندما يتحرر الذهن من الرغبة في الأهداف. لكنه عمل مختلف تمامًا عن كل ما عهدناه، عمل ليس مختلفًا عن الوجود being؛ وذاك الوجود وجود عاقل. عندما تنعدم المطامح والأهداف، يسود العقل الأرفع وجلاء الفكر ساحة الوعي. بهذا المعنى يصير الوجود هو العقل، وكل عمل يتم يكون عملاً عاقلاً.

العمل الحقيقي، الفعل الذي ليس مجرد ردة فعل، هو تجلٍّ مباشر للكيان الداخلي. فحيثما يكون الفكر طاهرًا، حاضرًا في "الآن"، لا هدف له ولا غرض، فإن العمل لا بدَّ أن يكون عاقلاً ونبيلاً.

هو عمل لا نهاية له…

فكر في هذه الأمور 1 من 27 – ج. كريشنامورتي

۱

دور التربية*

ج. كريشنامورتي

ج. كريشنامورتي

أتساءل فيما إذا سألنا أنفسنا يومًا عن معنى التربية. لماذا نذهب إلى المدرسة، لماذا نتعلم مواد متنوعة، لماذا نجتاز امتحانات ونتنافس فيما بيننا على درجات أفضل؟ ماذا تعني هذه التربية المزعومة، وما هو أساسها؟ هذه حقًّا مسألة هامة للغاية، ليس للطلاب وحسب، بل وللأهل والمدرسين أيضًا، ولكل مَن يحب هذه الأرض. لماذا نحتمل كل هذه المشقة في سبيل التعليم؟ هل نفعل لمجرد النجاح في بعض الامتحانات والحصول على وظيفة؟ أم أن دور التربية هو تأهيلنا، مادمنا في ريعان الصبا، لفهم سيرورة الحياة بأسرها؟ إن الحصول على وظيفة وكسب العيش أمر ضروري – ولكن هل ذلك كل شيء؟ هل نتربى من أجل ذلك فقط؟ الحياة ليست قطعًا مجرد وظيفة أو صنعة؛ الحياة شيء خارق الاتساع والعمق؛ إنها سرٌّ عظيم، مجال شاسع، نؤدي فيه دورنا كبشر. فإذا كنا نستعد لمجرد كسب العيش، سيفوتنا معنى الحياة ككل؛ وفهم الحياة أهم بكثير جدًّا من مجرد الاستعداد للامتحانات لنصير بارعين جدًّا في الرياضيات أو الفيزياء أو ما شئتم.

إذن، سواء كنا مدرسين أم طلابًا، أليس من المهم أن نسأل أنفسنا لماذا نربي الآخرين أو نتربى؟ وماذا تعني الحياة؟ أليست الحياة شيئًا خارقًا؟ الطيور، الأزهار، الأشجار المزدهرة، السماوات، النجوم، الأنهار وما تحويه من أسماك – هذه الأشياء كلها هي الحياة. والحياة هي الفقراء والأغنياء؛ الحياة هي المعارك المستمرة بين الجماعات والأجناس والأمم؛ الحياة هي التأمل؛ الحياة هي ما نسميه الدين، كما أنها تشمل أيضًا تلك الأشياء الدقيقة الخفية للذهن – الحسد، الطموح، الأهواء، المخاوف، الإنجازات، القلق. هذه كلها وأكثر منها بكثير هي الحياة. لكننا عمومًا نستعد لفهم زاوية واحدة صغيرة منها فقط. نجتاز بعض الامتحانات، فنجد وظيفة، ثم نتزوج، وننجب أطفالاً، ومن ثَمَّ نصير أكثر فأكثر أشبه بالآلات. نظل خائفين، قلقين، مرعوبين من الحياة. إذن، هل دور التربية أن تساعدنا على فهم سيرورة الحياة بأسرها، أم مجرد تأهيلنا على مهنة، على أفضل وظيفة يمكن لنا أن نحصل عليها؟

ماذا سيحدث لنا جميعًا عندما ننمو لنصير رجالاً ونساء؟ هل سألتم أنفسكم يومًا ماذا ستفعلون عندما تكبرون؟ على الأرجح ستتزوجون، وقبل أن تعرفوا أين أنتم، ستجدون أنفسكم آباءً وأمهات؛ وعندئذ ستتقيدون بوظيفة ما، أو بالمطبخ، حيث ستذوون تدريجيًّا. أهذا ما ستكون عليه حياتكم أنتم؟ هل سألتم أنفسكم يومًا هذا السؤال؟ ألا يجب عليكم أن تسألوه؟ إذا كانت أسرتك ثرية فقد تضمن لنفسك سلفًا منصبًا جيدًا نوعًا ما، أو قد يدبِّر لك أبوك وظيفة مريحة، أو قد تصاهر أسرة غنية؛ لكنك هناك أيضًا ستتعفن وتفسد. أتدركون ذلك؟

بالتأكيد، لا معنى للتربية بتاتًا ما لم تساعدكم على فهم مدى الحياة الشاسع، بكل دقائقها، بجمالها الخارق، بأحزانها وأفراحها. قد تنالون شهادات، وقد يكون اسمكم مسبوقًا بسلسلة من الألقاب، فتتصيدون وظيفة مرموقة – لكن ماذا بعد؟ ما فائدة هذا كله إذا صار ذهنكم من جراء ذلك بليدًا، خاملاً، غبيًّا؟ وإذن، ألا يجدر بكم، مادمتم في ريعان الصبا، أن تبحثوا لتكتشفوا ما هو جوهر الحياة؟ ثم أليس دور التربية الحقيقي أن ينمي فيكم الذكاء الذي سيحاول أن يجد الإجابة عن هذه المسائل كلها؟ هل تعلمون ما هو الذكاء؟ إنه قطعًا القدرة على التفكير الحر، من غير خوف، من غير صيغة جاهزة، بحيث تبدأ بالاكتشاف بنفسك ما هو حقيقي، ما هو صحيح؛ لكنك إذا كنت خائفًا فلن تكون ذكيًّا أبدًا. إن أي شكل من أشكال الطموح، روحانيًّا كان أم دنيويًّا، يولد القلق والخوف؛ لذا فإن الطموح لا يساعد على إيجاد ذهن واضح، بسيط، مباشر، ومن ثَمَّ ذكي.

حقًّا إنه من المهم للغاية، كما تعلمون، أن تحيوا، مادمتم في ريعان الصبا، في بيئة لا خوف فيها. فأغلبنا، كلما تقدم بنا العمر، نصير خائفين: نخاف من العيش، من فقدان الوظيفة، نخاف من التقاليد، نخاف مما قد يقوله الجيران أو الزوجة أو الزوج، نخاف من الموت. أغلبنا لديه خوف بشكل ما أو بآخر؛ وحيثما يوجد الخوف لا يوجد ذكاء. أفليس من الممكن لنا جميعًا، مادمنا في ريعان الصبا، أن نكون في بيئة لا خوف فيها، بل بالأحرى في جوٍّ من الحرية – الحرية، لا مجرد حرية أن نفعل ما يحلو لنا، بل حرية فهم سيرورة الحياة بأسرها؟ الحياة حقًّا جميلة جدًّا، وهي ليست هذا الشيء القبيح الذي صنعناه نحن بها؛ ولا يمكن لك أن تقدِّر غناها، عمقها، فتنتها الخارقة، إلا عندما تثور على كل شيء – على الدين المنظم، على التقاليد، على المجتمع الحالي العفن – بحيث تكتشف بنفسك أنت، كإنسان، ما هو حقيقي. لا أن تُقلِّد، بل أن تكتشف – تلك هي التربية، أليست كذلك؟ من السهل جدًّا أن تمتثل لما يأمرك به مجتمعك أو والداك ومدرسوك. هذه طريقة آمنة وسهلة للعيش؛ لكن هذه ليست الحياة، لأن فيها خوف، تحلُّل، موت. الحياة هي أن تكتشف بنفسك ما هو حقيقي، وتراك لا تستطيع أن تفعل هذا إلا عندما توجد حرية، عندما توجد ثورة داخلية مستمرة، في داخلك.

لكنكم لا تشجَّعون على فعل هذا؛ لا أحد يقول لكم أن تتساءلوا، أن تكتشفوا بأنفسكم ما هو الله، لأنكم إذا اتفق لكم أن تتمردوا صرتم خطرًا على كل ما هو زائف. أهلكم والمجتمع يريدونكم أن تعيشوا عيشة آمنة، وأنتم أيضًا تريدون عيشة آمنة. والعيشة الآمنة تعني عمومًا أن تعيشوا مقلِّدين، ومن ثَمَّ في خوف. دور التربية قطعًا هو مساعدة كلٍّ منا أن يعيش في حرية ومن غير خوف، أليس هذا دورها؟ وإيجاد جوٍّ لا خوف فيه يتطلب قدرًا كبيرًا من التفكر من جانبكم، كما ومن جانب المعلم أو المربي.

أتعرفون ماذا يعني هذا – أي شيء خارق هو إيجاد جوٍّ لا خوف فيه؟ ويجب علينا أن نوجِد مثل هذا الجو، لأننا نرى أن العالم مشتبك في حروب لا تنتهي؛ إنه عالم يقوده رجال سياسة يسعون دومًا إلى النفوذ؛ إنه عالم من المحامين ورجال الشرطة والجنود، عالم من الرجال والنساء الطموحين، كلهم يطلب المنصب ويتقاتل للحصول عليه. ثم هناك القديسون المزعومون، الـگورو [المعلمون] الدينيون مع أتباعهم؛ وهم أيضًا يطلبون النفوذ والمنصب، سواء في هذه الدنيا أو في الآخرة. إنه عالم مجنون، مشوش تمامًا، يحارب فيه الشيوعيُّ الرأسمالي، ويقاوم الاشتراكيُّ كليهما، وكل واحد يعادي أحدًا آخر، كادحًا للوصول إلى مكان آمن أو منصب نافذ أو رخاء. العالم تمزِّقه معتقدات متنازعة، تمييزات طائفية وطبقية، انقسامات قومية، وسائر أشكال الحماقة والقسوة – وهذا هو العالم الذي تُربَون على التكيف معه. إنكم تشجَّعون على التكيف ضمن إطار هذا المجتمع الكارثي؛ أهلكم يريدونكم أن تفعلوا ذلك، وأنتم أيضًا تريدون التكيف معه.

والآن، هل دور التربية هو مجرد مساعدتكم على الامتثال لقالب هذا النظام الاجتماعي العفن، أم هو منحكم الحرية – الحرية المطلقة لتنموا وتخلقوا مجتمعًا مختلفًا، عالمًا جديدًا؟ نحن نريد نيل هذه الحرية، ليس في المستقبل، بل الآن – وإلا فقد ندمَّر جميعًا. لا بدَّ لنا فورًا من إيجاد جوٍّ من الحرية، بحيث يمكن لكم أن تحيوا وتكتشفوا بأنفسكم ما هو حقيقي، بحيث تصبحون أذكياء، بحيث تستطيعون مواجهة العالم وفهمه، وليس مجرد الامتثال له، بحيث تكونون داخليًّا، عمقيًّا، نفسيًّا، في ثورة دائمة؛ لأن أولئك الثائرين دومًا وحدهم يكتشفون ما هو حقيقي، وليس المرء الذي يمتثل أو يتبع تقليدًا ما. فقط حين تكون دائم الاستفسار، دائم الرصد، دائم التعلم، تراك تجد الحقيقة أو الله أو المحبة؛ لكنك لا تستطيع الاستفسار والرصد والتعلم، لا تستطيع أن تكون واعيًا وعيًا عميقًا، إذا كنت خائفًا. لذا فإن دور التربية، قطعًا، هو استئصال الخوف – داخليًّا وخارجيًّا على حدٍّ سواء –، هذا الخوف الذي يدمِّر الفكر الإنساني والعلاقة الإنسانية والمحبة.

سؤال: إذا ثار جميع الأفراد، ألا ترى أن ذلك قد يؤدي إلى تفشي الفوضى في العالم؟

كريشنامورتي: أصغوا إلى السؤال أولاً، لأن من المهم جدًّا فهم السؤال، لا مجرد انتظار إجابة. السؤال هو: إذا ثار جميع الأفراد، ألا يؤدى ذلك إلى حدوث فوضى في العالم؟ ولكن هل نظام المجتمع الحالي كامل أصلاً بحيث تنجم الفوضى إذا ثار جميع الناس عليه؟ أليست هناك فوضى الآن؟ هل كل شيء جميل، غير فاسد؟ هل يعيش الجميع حياة سعيدة، ممتلئة، غنية؟ أليس الإنسان معاديًا للإنسان؟ أليس هناك طموح وتنافُس لا يرحم؟ إذن فالعالم أصلاً في فوضى – ذلك أول شيء لا بدَّ من إدراكه. لا تأخذوا قضية أن هذا المجتمع مجتمع منظَّم كقضية مسلَّم بها؛ لا تنبهروا بالكلمات. فسواء هنا أو في أوروبا، في أمريكا أو في روسيا، العالم داخل في طور انحطاط. فإذا كنتم ترون هذا الانحطاط فأمامكم تحدٍّ: والتحدي أمامكم هو أن تجدوا طريقة لحلِّ هذه المشكلة العاجلة. وكيفية استجابتكم لهذا التحدي هامة، أليست كذلك؟ إذا استجبتَ للتحدي كهندوسي أو كبوذي، كمسيحي أو كشيوعي، تكون استجابتك عندئذ محدودة للغاية – وهى مثل عدمها. تستطيع الاستجابة استجابة تامة وملائمة فقط عندما لا يكون فيك خوف، فقط عندما لا تفكر كهندوسي، كشيوعي أو رأسمالي، بل كإنسان كلِّي يحاول أن يحل هذه المشكلة؛ وأنت لا تستطيع حلها ما لم تكن أنت نفسك في ثورة على الوضع كله، على الجشع الطَّموح الذي يقوم عليه هذا المجتمع. عندما تكون أنت نفسك غير طموح، غير جشع، وغير متمسك بأمانك الشخصي، عندئذ فقط تستطيع أن تستجيب للتحدي وتخلق عالمًا جديدًا.

سؤال: الثورة، التعلم، المحبة – هل هذه ثلاث سيرورات منفصلة أم أنها تتم في آنٍ واحد؟

كريشنامورتي: بالطبع ليست ثلاث سيرورات منفصلة؛ إنها سيرورة متكاملة. من المهم، كما ترون، اكتشاف ما يعنيه السؤال. هذا السؤال قائم على التنظير، لا على الخبرة؛ إنه مجرد سؤال لفظي، عقلي، ومن ثَمَّ فلا يصلح. إنسان لا يعرف الخوف، ثائر حقًّا، مجاهد لاكتشاف ما يعنيه التعلم والمحبة – إنسان كهذا لا يسأل إنْ كانت سيرورة واحدة أو ثلاث سيرورات. إننا حاذقون جدًّا في استعمال الكلمات، ونظن أننا بمجرد تقديم تفسيرات نكون قد حللنا المشكلة.

هل تعرفون ما يعنيه التعلم؟ عندما تتعلمون حقًّا، فأنتم تتعلمون طوال حياتكم، ولا يوجد أستاذ خاص بعينه تتعلمون منه. إذ ذاك تتعلمون من كل شيء – من ورقة شجر ميتة، من طائر يحلق، من رائحة، من دمعة، من الأغنياء والفقراء، من الباكين، من ابتسامة امرأة، من غطرسة رجل. إنكم تتعلمون من كل شيء، ومن ثَمَّ ليس هناك مرشد، ولا فيلسوف، ولا گورو [معلم روحي]. الحياة نفسها تغدو معلِّمكم، وأنتم في حال تعلُّم دائم.

سؤال: صحيح أن المجتمع الحالي قائم على الجشع والطموح؛ ولكن إذا لم يكن عندنا طموح ألن نضمحل؟

كريشنامورتي: هذا سؤال هام للغاية حقًّا، وهو يحتاج إلى انتباه كبير.

هل تعرفون ما هو الانتباه؟ فلنكتشف معًا. في غرفة الصف، حين تحدق خارج النافذة أو تشد شعر أحدهم، يأمرك المدرس أن تنتبه. ماذا يعني هذا؟ هذا يعني أنك لست مهتمًّا بما تدرس، فيرغمك المدرس على الانتباه – وهذا ليس انتباهًا بتاتًا. الانتباه يأتي عندما تكون مهتمًّا بشيء ما اهتمامًا عميقًا، لأنك عندئذ تحب اكتشاف كل شيء عنه؛ عندئذ يكون ذهنك كله، كيانك كله، حاضرًا. بالمثل، فإنك لحظة تدرك أن هذا السؤال – إذا انعدم طموحنا ألن نضمحل؟ – سؤال هام للغاية حقًّا، تراك تهتم وتريد اكتشاف حقيقة الأمر.

والآن، أليس الإنسان الطَّموح مدمرًا نفسه؟ ذلك أول شيء لا بدَّ من اكتشافه، وليس السؤال عما إذا كان الطموح صوابًا أم خطأ. أنظر حواليك، لاحظ جميع الناس الطموحين. ماذا يحدث عندما تكون طَموحًا؟ تفكِّر في نفسك فقط، أليس كذلك؟ تكون عديم الرأفة، تنحِّي غيرك من الناس لأنك تسعى في تحقيق طموحك، تسعى في أن تصير شخصًا مهمًّا، فتوجِد بذلك في المجتمع النزاع بين الناجحين وبين المتخلِّفين عن الركب، فتنشب معركة دائمة بينك وبين الآخرين الساعين هم أيضًا في الحصول على ما تريد. فهل هذا النزاع منتج لحياة مبدعة؟ هل تفهم، أم أن هذا أصعب من أن تفهمه؟

هل تكون طَموحًا حين تحب أن تفعل شيئًا من أجل ذاته؟ حين تفعل شيئًا بكيانك كله، لا لأنك تبتغي الوصول إلى منصب ما، ولا لتحقق مزيدًا من الربح، أو نتائج أعظم، بل ببساطة لأنك تحب أن تفعله – في ذلك، لا وجود للطموح، أليس كذلك؟ في ذلك، لا وجود للتنافس: فأنت لا تصارع أحدًا على المركز الأول. ألا ينبغي للتربية أن تساعدك على اكتشاف ما تحب حقًّا أن تفعله، بحيث إنك، من بداية حياتك إلى نهايتها، تعمل على شيء تشعر أنه يستحق العناء وله بنظرك مغزى عميق؟ – وإلا فستكون بائسًا بقية عمرك. فما لم تكن تعرف ما تريد فعله حقًّا، يسقط ذهنك في رتابة بحتة ليس فيها إلا الضجر والاضمحلال والموت. لذلك فمن المهم للغاية أن تكتشفوا، مادمتم في ريعان صباكم، ما هو الشيء الذي تحبون حقًّا أن تفعلوه؛ وهذا هو السبيل الأوحد إلى خلق مجتمع جديد.

سؤال: في الهند، كما في معظم البلدان الأخرى، تخضع التربية لرقابة الحكومة. فهل من الممكن، في ظل ظروف كهذه، تنفيذ تجربة من النوع الذي تصفه؟

كريشنامورتي: إذا لم تكن هناك مساعدة من الحكومة، ترى هل من الممكن لمدرسة من هذا النوع أن تنجو؟ ذاك ما يسأله هذا السيد. إنه يرى أن كل شيء في العالم بأسره يصير أكثر فأكثر خضوعًا لرقابة الحكومات، رجال السياسة، أو الناس من ذوي النفوذ الذين يريدون تشكيل أذهاننا وقلوبنا، يريدوننا أن نفكر بطريقة معينة. الميل السائد، سواء في روسيا أو في أي بلد آخر، هو نحو الرقابة الحكومية على التربية؛ وهذا السيد يسأل عما إذا كان ممكنًا لمدرسة من النوع الذي أتكلم عليه أن تنشأ من دون دعم حكومي.

الآن، ماذا تقول أنت؟ أتدري، إذا اعتقدتَ أن شيئًا ما مهم، أنه يستحق العناء حقًّا، فإنك ستنذر له قلبك، بصرف النظر عن الحكومات وأحكام المجتمع – وعندئذ سوف ينجح. لكن أغلبنا لا ينذرون قلوبهم لأي شيء، ولهذا نطرح هذا النوع من الأسئلة. إذا كنا – أنت وأنا – نشعر شعورًا حيويًّا أن عالمًا جديدًا يمكن له أن يوجد، عندما يكون كل واحد منا في حالة ثورة تامة، داخليًّا ونفسيًّا وروحيًّا، – إذ ذاك سننذر قلوبنا وأذهاننا وأجسامنا في سبيل إنشاء مدرسة ليس فيها شيء يسمَّى الخوف، بكل منطوياته.

سيدي، إن أي شيء ثوري حقًّا يخلقه قلة يرون ما هو حقيقي وينذرون أنفسهم للحياة وفقًا لتلك الحقيقة. لكن اكتشاف ما هو حقيقي يتطلب التحرر من التقليد، ما يعني التحرر من المخاوف كلها.


* J. Krishnamurti, This Matter of Culture, Victor Gollancz Ltd, London, 1974, pp. 9-15.

الشيطان رمز إلى حرية الإنسان – فراس السواح

الشيطان رمز

إلى حرية الإنسان*

الفلسفة حكمة شخص بعينه أما الدين فهو حكمة شعب بأكمله / الأديان كلها متساوية ولا وجود لأديان حقيقية وأخرى زائفة

فراس السواح

يرى المفكر السوري فراس السواح أن الفلسفة تتلخص في كونها "حكمة" شخص بعينه، وهي برأيه نابعة من تكوين نفسي فردي وتربية ومحيط اجتماعي ووسط فكري؛ في حين يرى أن الدين هو حكمة شعب وثقافة بكاملها، تعاونت على صياغتها مغامرات فكرية وخبرات روحية كابدَها عدد كبير من الأفراد والأجيال المتتابعة.

فراس السواح

ويعتبر السواح أن ظاهرة الأديان، التي أسس لها أفراد مميزون وطبعوها بطابعهم، هي ظاهرة حديثة نسبيًّا في تاريخ "دين الإنسان"، لا تعود بتاريخها إلى ما قبل أواسط الألف الأول ق م، عندما ظهر زرادشت في فارس وبوذا في الهند، مشيرًا إلى أن الأديان كلها تقف على قدم المساواة، وتتمتع بدرجة واحدة من المشروعية، حيث لا وجود لأديان "حقيقية" وأخرى "زائفة"، ولا لأديان "بدائية" وأخرى "متطورة".

ح.س.

حسن سلمان: شهدتْ مسيرتك الفكرية منعطفَين أساسيين تنقَّلتَ خلالهما بين الفلسفة ودراسة الأسطورة وتاريخ الأديان، لتستقر في النهاية على المحور الثاني. فما الذي دفعك في البداية إلى دراسة الفلسفة؟ ثم ما سبب لجوئك فيما بعد إلى دراسة الأسطورة والدين؟

فراس السواح: يولد الإنسان ومعه دافع طبيعي إلى التساؤل. هذا الدافع يخبو لدى معظم الناس تحت ضغط الشروط المادية للحياة اليومية، بينما يبقى متأججًا لدى القلة. وأنا من هذه "القلة" التي بقيت أمينة على التساؤل، حتى بعدما رأت أن الأسئلة الكبرى لا جواب عنها، وتحوَّل لديها السؤال إلى ما يشبه الجواب!

ومَن يبقى "أمينًا على السؤال" يبحثْ حوله عن "المتسائلين" من أمثاله، لعله يجد لديهم ما يُعينه على حيرته العقلية والروحية. وهذا ما دفعني في سنوات الفتوة الأولى إلى دراسة الفلسفة، بعد أن تبيَّن لي أن الفيلسوف لا يجيب عن أسئلة متفرقة منعزلة، وإنما عن عدد من الأسئلة الأساسية التي تقود الإجابة عنها إلى تشكيل نظرة كلِّية إلى العالم والإنسان والحياة.

على أني ما لبثت أن ضقت ذرعًا باختلاف الفلسفات وتعارُضها، وتبيَّن لي أن تاريخ الفلسفة قد ترك لنا من الفلسفات عددًا مساويًا لعدد مَن ظهر من الفلاسفة، وأن كل فلسفة تدَّعي لنفسها امتلاك الحقيقة وتهدم ما بنتْه الفلسفات السابقة، وأن كل فيلسوف يعمل على تفنيد مَن سبقوه ليقع بعد ذلك ضحية تفنيد مَن يأتون بعده!

وفي اختصار، فقد تركتْني دراسة الفلسفة في حيرة لا تقل عن حيرتي قبل دراستها، وتلاشى حلمي بفلسفة إنسانية متسقة، تعمل عقول البشر على بنائها في تعاوُن وتناغُم وتجاوُز مبدع، بحيث يكمل كل جيل من حيث انتهى الجيل السابق – وهو حلم مغرق في الرومانسية على كل حال! خيبة الأمل هذه هي التي دفعتْني في اتجاه دراسة تاريخ الأديان.

ح.س.: في السياق ذاته، تقول في أحد الحوارات معك: "الفلسفة هي نتاج فكري لشخص بعينه، سواء كان ديكارت أم كانط أم هيگل أم ابن رشد؛ أما الدين فيمثل حكمة ثقافة بأكملها. فإذا أردنا فهم الإنسان علينا أن نفهم أدبياته الدينية قبل أدبياته الفلسفية." حبذا توضيحك هذه الفكرة.

ف.س.: الدين والفلسفة صنوان من حيث إثارتُهما للأسئلة الأساسية وادعاؤهما تقديم أجوبة نهائية عنها. ولكن ما يميز الدين عن الفلسفة هو أن الفلسفة حكمة شخص بعينه، تحكم نظرتَه شروط ذاتية خاصة، من تكوين نفسي فردي وتربية ومحيط اجتماعي ووسط فكري وما إلى ذلك. أما الدين فهو حكمة شعب وثقافة بكاملها، تعاونتْ على صياغتها مغامرات فكرية وخبرات روحية كابدَها عدد كبير من الأفراد والأجيال المتتابعة.

الدين، من حيث نشأتُه وأصلُه، لا ينطلق من أفكار شخص بعينه في زمان أو مكان محدد. فديانات العالم القديم – مصرية وسورية ورافدينية ويونانية إلخ – لا "مؤسِّس" لها؛ وسؤالك لشخص ما من ذلك العصر عن "البدايات" الأولى لديانته، أو عن عهد "مؤسِّس" تلك الديانة، قد يبدو له بلا معنى، لأن ديانته موجودة منذ البدايات الأولى لظهور الإنسان. وينطبق هذا على العديد من الديانات القديمة التي لا تزال حية إلى اليوم، مثل الهندوسية في الهند والشنتوية في اليابان. فالهندوسي اليوم، مهما أعمل تفكيرَه وتأمل في الماضي، لا يستطيع أن يحدد تاريخًا ما لظهور الهندوسية كديانة تامة التكوين أو أن يعزو تأسيسها إلى شخص بعينه.

إن ظاهرة الأديان التي أسَّس لها أفراد مميزون وطبعوها بطابعهم هي ظاهرة حديثة نسبيًّا في تاريخ دين الإنسان، ولا تعود بتاريخها إلى ما قبل أواسط الألفية الأولى قبل الميلاد، عندما ظهر زرادشت في فارس وبوذا في الهند. ومع ذلك، فإن بوذا أو زرادشت، لو بُعِثَ حيًّا بيننا اليوم، لَما استطاع التعرف إلى تعاليمه الأولى في الديانة المنسوبة إليه! فلقد تعاونت بعدهما عقول أتباعهما على إغناء الموروث القديم وتطويره والإضافة إليه. وتبدو حركية الدين في شكل أوضح عندما ينتقل إلى خارج بيئته الأصلية التي ولد فيها: فبوذية شري لنكا اليوم هي غير بوذية الصين، وهذه غيرها في كوريا أو اليابان.

هذه الخاصية الحركية للدين تنسحب أيضًا على ما اصطُلِح على تسميته بـ"أديان الوحي" أو "الأديان السماوية": فكتاب التوراة يشف عن مستويات متراكِبة من الخبرة الدينية، بحيث نرى أن دين إبراهيم هو غير دين موسى، ودين عصر القضاة مختلف عن دين عصر الملوك؛ وهذا ينطبق على دين ما قبل السبي [البابلي] ودين ما بعده. وفي النهاية، نجد أن يهودية اليوم لا تقوم على أسُس توراتية بقدر قيامها على أسُس تلمودية. فإذا انتقلنا إلى المسيحية، وجدنا أنها مدينة لتعاليم بولس الرسول أكثر منها لتعاليم يسوع الأصلية. كما عبَّر الدين الإسلامي عن حركية لا تقل عن غيره من الأديان، وذلك من خلال المذاهب الفقهية ومدارس علم الكلام والصيغ المتنوعة للطوائف والمذاهب الإسلامية والطرق الصوفية.

وهذا يقودني إلى القول بأن النص المقدس لا يتحكم في مسيرة الفكر اللاحق عليه بقدر ما يقع هو نفسه تحت سلطة ذلك الفكر، من خلال تفسيره وتأويله وفرض معاني جديدة عليه نابعة من سياق التطور التاريخي. ففي حين يبقى النص قابعًا وراء ستارة من القداسة السكونية، فإن الواقع يتجاوزه من خلال فكر دينامي يعلن عدم الإذعان له.

ح.س.: يرى بعضهم أن كتابك مغامرة العقل الأولى[1]، الذي يُعتبَر أحد نماذج نقد الفكر الديني، يكمِّل بشكل أو بآخر ما قام له المفكر صادق جلال العظم في كتابه نقد الفكر الديني[2]. فما رأيك في ذلك؟

ف.س.: تمتعت كلمة "نقد" في الثقافة العربية بتاريخ طويل من السمعة السيئة! وهي تعني اليوم، في أذهان الكثيرين، إظهار الجوانب السلبية للظاهرة المدروسة انطلاقًا من حكم مسبق عليها. أما من حيث الأصل، فإنها تعني الدراسة الموضوعية للظاهرة من أجل تبيين ما لها وما عليها.

كتاب صادق جلال العظم ينطبق عليه المعنى الأول للكلمة: فهو ينطلق أصلاً من موقف مُعادٍ للدين. أما أنا فأنطلق من موقف متعاطف مع الدين، موقف مَن يود فهم الظاهرة الدينية، لا إطلاق حكم قيمة عليها. وأنا في ذلك أستعمل منهجًا فينومينولوجيًّا [ظاهراتيًّا] يقوم على الوصف الموضوعي دون التوصل إلى أحكام. وقد كان كتابي مغامرة العقل الأولى بمثابة الخطوة الأولى في هذا المنهج الذي لم أحِدْ عنه فيما بعد، وبلغ حدَّ النضج في كتابي دين الإنسان[3].

ح.س.: ما الفرق بين الأسطورة والدين؟ وأيهما سبق الآخر؟ وكيف يتبادلان التأثير؟

ف.س.: إن النظرة الفاحصة إلى تاريخ أديان الإنسان تكشف لنا عن بنية موحدة للدين، أنَّى التقينا به كظاهرة ثقافية رائدة ومتى. وهذه البنية تقوم على عدد من المكونات الأساسية التي لا نستطيع التعرف إلى هذه البنية من دونها، وهي: المعتقد والطقس والأسطورة.

يتألف المعتقد من عدد من الأفكار الواضحة والمباشرة، تعمل على رسم صورة ذهنية لعالم المقدسات، وتوضح الصلة بينه وبين عالم الإنسان. وغالبًا ما تصاغ هذه المعتقدات في شكل صلوات وتراتيل.

ولكن الأفكار وحدها لا تصنع دينًا إلا عندما تدفعنا إلى سلوك وفعل، فننتقل من التأمل إلى الحركة، من التفكير في العوالم القدسية إلى اتخاذ مواقف عملية منها، فنتقرب منها أو نسترضيها، نسخِّر قواها لمصلحتنا أو ندرأ غضبها عنا – وهذا هو الطقس. فإذا كان المعتقد حالة ذهنية فإن الطقس هو حالة فعل من شأنها إحداث رابطة: فمن خلال الطقس نقتحم على المقدس "حرمته"، إذا صحَّ التعبير، ونفتح قنوات اتصال معه.

أما الأسطورة فهي، من حيث الشكل، قصة تحكُمُها مبادئ السرد القصصي، من حوادث وحبكة درامية وعقدة وشخصيات وما إليها، وغالبًا ما تجري صياغتها في قالب شعري يساعد على ترتيلها في المناسبات الطقسية وتداوُلها شفاهًا. أما من حيث مضمونُها، فإنها تُعنى برسم صورة للآلهة، توضح شخصياتها ووظائفها ومهماتها وعلائقها بعضها مع بعض ومع عالم الإنسان ومع الطبيعة. فالأسطورة، والحال هذه، تعمل في خدمة الدين وتعمل على توضيح عقائده عن طريق السرد القصصي.

ح.س.: يرى بعضهم صعوبة في التمييز بين مصطلح "الأسطورة" وبين مصطلحات أخرى، مثل "الملحمة" و"الخرافة". فما هو برأيك معيار التفرقة بين هذه المصطلحات؟

ف.س.: هنالك عدة أجناس أدبية شبيهة بالأسطورة، منها الخرافة والحكاية البطولية والحكاية الشعبية والملحمة وحكايات الجن… ولعل الوقت يطول بنا إذا حاولت في هذا المجال الضيق تقديم تعريف بهذه الأجناس؛ لذا سوف أكتفي بإيراد المعيار الأساسي الذي نستطيع من خلاله التمييز بين الأسطورة وغيرها، وهو معيار القداسة.

فالأسطورة حكاية مقدسة ذات مضمون عميق يشف عن معانٍ ذات صلة بالكون والوجود وحياة الإنسان. ويؤمن أتباع كل دين بصدق الأحداث التي تقصُّها أساطيره وبصحة ما تحاول تقديمه لهم من مضامين. فالأسطورة ترتبط بنظام ديني معين وتتشابك مع معتقدات ذلك النظام وطقوسه؛ وهي تفقد مقومات وجودها كلها إذا انهار ذلك النظام الديني الذي تنتمي إليه، فتتحول إلى حكاية دنيوية تنتمي إلى نوع آخر من الأنواع الأدبية الشبيهة بالأسطورة.

ح.س.: تكلمت في كتابك دين الإنسان على مسألة وحدة الخبرة الدينية. والسؤال هو: ما الفرق بين هذا الرأي وبين ما ذهب إليه فلاسفة الصوفية من القول بـ"وحدة الأديان"؟

ف.س.: في كتاب دين الإنسان حاولت، انطلاقًا من مقاربة ظاهراتية [فينومينولوجية]، البحث عما هو مشترك وعام بين أديان الإنسانية عبر تاريخها، مبتدئًا من أبعد مرحلة في التاريخ أمكن لنا عندها تبيُّن وجود حياة روحية للإنسان، وهي مرحلة إنسان نياندرتال Homo sapiens nianderthalensis، وذلك من أجل الكشف عن البنية الجوهرية للدين والتوصل إلى تعريف جامع له تنضوي تحته الأديان كلها، من أكثرها بساطة إلى أكثرها تركيبًا وتعقيدًا.

وقد توصلت إلى نتيجة مفادها أن الأديان كلها تقف على قدم المساواة، وتتمتع بدرجة واحدة من المشروعية، حيث لا وجود لأديان "حقيقية" وأخرى "زائفة"، ولا لأديان "بدائية" وأخرى "متطورة". ذلك أن المفهوم الحديث للتطور، الذي سيطر على الفكر الحديث منذ أواسط القرن التاسع عشر، لا ينطبق على حياة الإنسان الروحية والعاطفية.

قد يكون المنكاش الحجري أكثر بدائيةً من المحراث المعدني، وهذا بدوره أكثر بدائيةً من الجرار الحديث، وقد يكون السهم الذي يُطلَق من أنبوبة النفخ أكثر بدائيةً من السهم الذي يُطلَق من القوس، وهذا بدوره أكثر بدائيةً من البندقية الحديثة؛ ولكن مَن يستطيع القول بأن الأديان المتأخرة، التي يمتلئ تاريخها بالتعصب والاضطهاد وملاحقة الهراطقة والحروب الشاملة، هي "أكثر تطورًا" من الأديان "البدائية" التي تتسم بالتسامح مع جميع المعتقدات؟!

فراس السواح

أما عن الصوفية التي أشرتَ إليها في سؤالك، باعتبارها نموذجًا لوحدة الأديان، فإنها – لعمري – كذلك! فالصوفي، سواء كان تاويًّا أو هندوسيًّا أو بوذيًّا أو يهوديًّا أو مسيحيًّا أو مسلمًا، قد اخترق بخبرته الروحية المباشرة الأطُرَ الشكلانية للدين المؤسساتي كلها، وأقام في الحقيقة التي تشترك فيها الأديان كلها.

ح.س.: تشير في كتابك الأسطورة والمعنى[4] إلى وجود نزعة توحيدية واضحة في أديان الشرق القديم، التي يقوم معتقدها على الإيمان بإله واحد أعلى خَلَقَ بقية الآلهة. لكنك تقول في عدة محاضرات ألقيتَها: "إما أن تكون كلُّ الديانات سماويةً أو تكون وضعيةً كلُّها." هل يعني ذلك أنك تساوي بين المعتقدات السماوية والمعتقدات الوثنية؟! وما هو الأساس الذي تعتمده في ذلك؟

ف.س.: لا يوجد في أية ديانة توحيدية مفهوم عن إله منفرد يشغل وحده الحيز الماورائي للوجود. فالإله الخالق، عندما أظهر العالم إلى الوجود وقرر الدخول في تاريخه، خلق مع البشر على الأرض كائنات أخرى في السماء، هي الرهط الذي يحيط به وينفذ أوامره ويكون بمثابة الصلة بينه وبين العالم المادي وكائناته، وجعل لكلٍّ من هذه "الملائكة" مهمة ووظيفة.

هذا التصور القائم لعالم الألوهية هو الذي تقوم عليه الديانات التي ندعوها بـ"الوثنية" أيضًا. فالإله الأزلي القديم، عندما قرر خلق العالم، خلق في الوقت نفسه مجموعةً من الآلهة الأصغر ومنَحَها القوة والسلطان على مظاهر الكون المتنوعة.

إن الإله المتربع على سدة الكون في المعتقدات الوثنية يمثل جوهر الألوهية المطلقة؛ أما بقية الآلهة "المخلوقة" فمنه تستمد الوجود والقدرة: إنها أشبه بالشرارات المنبعثة من جذوة نار أزلية متقدة. وهذا، في رأيي، يجعل الحدَّ الفاصل بين معتقد "التوحيد" ومعتقد "الشرك" على غير ما نشتهي من الوضوح!

أما فيما يتعلق بالشق الثاني من السؤال فأقول: إذا كان الوحي حقيقة قائمة بين الله والناس، فلماذا كان على الله أن ينتظر حتى هذا الوقت المتأخر من تاريخ البشرية لكي يعلن عن نفسه من خلال ثلاثة أديان يحتكر كلٌّ منها لنفسه معرفة الله الحق؟! إذا كان الوحي حقيقة، فقد كان هذا الوحي متصلاً دون انقطاع، والبشر جميعًا عرفوا الله عبر تاريخهم الديني – كل ثقافة بما يتناسب ووضعها في سياق الارتقاء الثقافي.

في هذا الموضوع يقول محيي الدين بن عربي في كتابه فصوص الحكم إن كل المعبودات التي توجَّه إليها البشر، في كل زمان ومكان، لم تكن في واقع الحال غير "مَجالٍ" لأسماء الله، وإن التوجه إليها بالعبادة لم يكن إلا طريقًا إلى معرفة الله الحق، لأن الله قال في كتابه العزيز: "وقضى ربُّك ألا تعبدوا إلاَّ إيَّاه" [سورة الإسراء 23]، ولم يقل "وأمَرَ ربك ألا تعبدوا إلا إياه". فكل "عبادة"، والحال هذه، لغير الله مآلُها في النهاية إليه: "فإن للحق في كل معبود وجهًا يعرفه مَن يعرفه ويجهله مَن يجهله. فما عُبد غيرُ الله في كل معبود" [ابن عربي، الفصوص]. هذا ما أعنيه بقولي بأن الأديان كلها إما أن تكون سماوية أو أن تكون وضعية.

ح.س.: في كتابك الرحمن والشيطان[5]، ثمة مفهوم ملتبس عن الحرية التي تقول إنها "الأمانة" التي حملها الإنسان، في حين أبَتِ السماوات والأرض والجبال حَمْلَها [سورة الأحزاب 72]؛ ثم تقول في موضع آخر إن الشيطان هو "رمز الحرية في الإنسان"، وهو الذي يعطيها المعنى. كيف تحدد العلاقة بين أقانيم ثالوث الرحمن والشيطان والإنسان؟

ف.س.: يقوم الوجود على تناقُض الأضداد وتعاوُنها. كل شيء يُنتج نقيضَه ويتعاون معه على إنتاج حالة تكامُل وتوازُن واستقرار: النور يقابل الظلام، والجاف يقابل الرطب، والحرارة تقابل البرودة، والحركة تقابل السكون، والسماء تقابل الأرض، والذكر يقابل الأنثى، وهكذا دواليك إلى ما لا نهاية.

وعلى المستوى الأخلاقي، فإن الخير يقابل الشر. وكما هي الحال في جميع المتعارضات، فإنه لا خير بلا شر، والعكس صحيح، لأن كلاً منهما يعمل على إظهار الآخر. وقد قام الفكر الديني الثنوي، الذي تمثل له الغنوصية والزرادشتية والمانوية، بتجسيد النوازع الخيرة والنوازع الشريرة في النفس الإنسانية في إلهين: واحد يحض على الخير وآخر يوسوس بالشر؛ وعلى الإنسان أن يستعمل حريته من أجل الاختيار في سلوكه بين الطريقين. فهو الكائن الحر الوحيد، الكائن الذي لا توجِّهه الغرائز الطبيعية وحدها، وإنما ضمير يعي وجود الخير والشر في العالم.

وقد سارت الديانات التوحيدية بعد ذلك على النهج نفسه، لكنها استبدلت بشخصية إله الشر شخصيةَ الشيطان أو إبليس. وهذا معنى قولي إن الشيطان هو رمز إلى حرية الإنسان، لأنه من دون الشيطان لا يوجد خيار، ومن دون الخيار لا توجد حرية، ومن دون الحرية يتحول الإنسان إلى كائن "طبيعاني" غير عاقل، شأنه شأن بقية كائنات الأرض.

التقاه: حسن سلمان


* عن موقع الأوان: http://www.alawan.org.

[1] راجع: فراس السواح، مغامرة العقل الأولى: دراسة في الأسطورة، طب 1: دمشق، 1978.

[2] راجع: صادق جلال العظم، نقد الفكر الديني، طب 7: دار الطليعة، بيروت، 1994.

[3] راجع: فراس السواح، دين الإنسان: بحث في ماهية الدين ومنشأ الدافع الديني، طب 1: دمشق، 1994.

[4] راجع: فراس السواح، الأسطورة والمعنى: دراسات في الميثولوجيا والديانات المشرقية، طب 1: دمشق، 1997.

[5] راجع: فراس السواح، الرحمن والشيطان: الثنوية الكونية ولاهوت التاريخ في الديانات المشرقية، طب 1: دمشق، 2000؛ راجع كذلك سماوات: http://samawat.org/book_reviews/merciful_satan_sawah_dna.